البطل

في ذلك اليوم، مضت ساعات الصباح الأولى، دون أن يجِدَّ جديد؛ فالمكتب هو المكتب، والحُجرة هي الحجرة، والأوراق تملأ الأركانَ والأدراج، وتُطِل من الدواليب، وفناجينُ القهوة رائحة غادية، والسجائر تُستخرج خِلسةً؛ حتى لا يَعزم أحدٌ على أحد. وخمسة موظفين في حجرة، والوجوه كالعادة مُقطَّبة؛ مقطَّبة وهي تتصفح الجرائد وتغلقها، ومُقطبة وهي تُحدِّق في السقف، وعابسة وهي تطلب الشاي وتَلعن طعمه، ومغمومةٌ وهي تنحني على الأوراق وتعبَث بها، وتَقضي العمر تدفق وتؤجل وتكتب.

لم يَجدَّ جديدٌ في ذلك الصباح، مع أن الحرب قامت، والطائراتِ بدأت تُغِير، وكل شيء؛ كل إنسان يخوض تَجرِبة الحياة والموت، والعالم لا ينام، صاحيًا يَرقب الشرق وهو يُدمدِم ويتحرر، والمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، وصبحي جاد هو الذي على يَميني، والغازي أبو بكر على يساري.

غير أنه قبل الظهر بقليل، جاءني الساعي وقال: تليفون.

وتليفون مِن أجلي كان يعني شيئًا مِن اثنين: إما عبد الخالق فاضي في مكتبه، في وزارة الشئون، ويريد أن يصبِّح عليَّ، أو كارثةً حدثَت في بيتنا، ورأت العائلةُ أن تتصل بي على عجَل، وفي كل مرة يطلبني التليفون أقول: كارثة، وفي كل مرة أجد المتحدث هو عبد الخالق.

وهذه المرة أيضًا قلت: عبد الخالق؟ صباح الخير.

وإذا بصوتٍ غريب يقول: لأ، أنا أحمد.

– أحمد مين؟

قلتُها وأنا أخمن مَن عساه يكون، فالأحمدات الذين أعرفهم لا يتجاوزون ثلاثة، وإذا به يقول: أنا أحمد عمر.

ولم يكن هذا الأحمد مِن بين الثلاثة، فرنَّ اسمه في أذني رنينَ الاسم الغريب، الذي لم تتعود على سماعه، وخجلتُ أن أستقصي أكثر؛ فلا بد أنه يعرفني ويتوقع مني أني لا بد أعرفه. ورحت أسأله كما يحدث في أمثالِ هذه الأحوال عن الصحَّة والمِزاج والعائلة؛ حتى أظفر مِن رُدوده بخيطٍ يقودني إلى معرفته، دون أن أُحرِجه أو أُحرج نفسي!

ورغم أنه مضى يُجاوبني بنفس الكلمات، التي تعوَّد الناس قولها ردًّا على أسئلةٍ كأسئلتي، إلا أني دهشت؛ فصوتُه كان مملوءًا بالانفعال يكاد يَلهث، وكان يستعجل السؤالَ والإجابة، كأنما هناك شيءٍ يؤرِّقه ويود الإفضاءَ به إليَّ، وسمعتُ منه كلمات عن «مصر الجديدة» و«كتيبتنا» و«المعسكر» ولكني لم أفهم. وسألَني مرةً إن كنتُ حقًّا أذكره، ومع ذلك لم أعرفه إلا حين سألني عن أخي محمد وصحته؛ إذ أيقنتُ أنه لا بد أحمد عمر، ابن جارنا عم عمر؛ أحمد صديق أخي الأصغر الحميم.

واندفَعتُ أرحِّب به وأحيِّيه، وقد بدَت صورتُه أمامي واضحة كلَّ الوضوح، فرغم أن عم عمر كهلٌ نحيف، إلا أن ابنه أحمد هذا شابٌّ ضخم، وإذا عرَف الإنسانُ أن سِنَّه عِشرون عامًا فقط بدا له ضخمًا جدًّا؛ فجسدُه عريض شاهق، وذقنه خصيب غزير، شعره أسود متين كذقون الرجال الكبار، ومع هذا فقد كان من ذلك الصِّنف من الشبان، الذين يخجلون من مواجهة مُحدِّثهم، فلا ينظرون في وجهه أبدًا، وتجده إذا تكلم يتعثَّر في كلماته، فلا تخرج من فمه جملةٌ كاملة، وأحيانًا يقول الكلمةَ ويظنُّها نكتة وينفجر ضاحكًا، وحين يُدرك أن أحدًا لا يُشاركه الضحك، يَصطبِغ وجهُه بلون الدم، ورغم كل شيء فالناس لا بد أن تقول بعدما يذهب: والله باين عليه ابن حلال، طيب.

وكانت صِلَتي به محدودة، وكل ما أعرفه عنه أنه كان في مدرسة التجارة المتوسطة، أو الصنايع لستُ أدري، وأخذ الدبلومَ أو لم يأخذه، ثم دخل الجيش حسب قانون التجنيد الإجباري.

وأغرَبُ شيء أنك تُحِس دائمًا، أنه مَلآن ولدَيه آلافُ الأشياء التي يوَدُّ قولها، غير أنه نادرًا ما يُفصِح عن نفسه، وإذا تكلم فلا يقول شيئًا من عنده، إنما يعبث بكلماتِ غيره، فتقول له مثلًا: إزيك انت؟ فيرد عليك ويقول: الزاكِتَّه! ويضحك ويخجل، ويحمرُّ وجهه، كان لا يخاطبني إلا «بحضرتك»؛ على اعتبار أني الأخُ الأكبر لصديقه، وأحيانًا كانت تُفلِت من لسانه كلمةٌ تستحق التأمُّل، وإذا تأملها الإنسان أدرَك أنه ليس بسيطًا كما يبدو، وأنَّ له أعماقًا.

وكان إذا جاء لزيارتنا وفُتح له الباب، خفض رأسه وسأل عن أخي، فإذا كان موجودًا، دَلَف إلى حيث يكون مُطرِقَ الرأس، لا يرفع بصره ولا يتلفَّت، وكنت أحيانًا ألقاه فأحادثه وأحس به شهمًا خَدومًا؛ لو قلت له: ارمِ نفسك في البحر مثلًا، لذهَب ورمى نفسه في البحر فعلًا، ثم عاد إليك في ثاني يومٍ مُبتلَّ الملابس، يقطر الماءُ من شعره، ويقطر الخجلُ من وجهه ويُتهتِه ويقول: أمَّا الميَّة كانت ساقعة بشكل!

يقولها قاصدًا بها أن يَلومك ويُؤنِّبك، وهذا كل ما في استطاعة أحمد أن يؤنِّب به أحدًا!

ولم نكن أصدقاءَ بالمعنى المفهوم؛ كنت أراه كل ستة أشهر أو كل سنة، وكنتُ لا أراه على حالةٍ واحدةٍ أبدًا؛ ففي كل مرة لا بد أن يكون قد حدَث له أو حدث فيه تَغيير؛ فهو في لقاءٍ طالب، وفي لقاءٍ آخر متخرج، وفي ثالثٍ ساخطٌ يبحث عن عمل، ومرةً أراه صغيرًا لم تَنبت له لحية، وأفاجأ به في المرة التالية وقد فرَعَني طولًا! جاء مرةً لزيارتنا بملابس الجيش، وفوجئنا به حقًّا، وأذكر أننا يومها سلَخْناه عبثًا وتريقة، نقول له: يا دفعة، ونضحك على شعره القصير، الذي قصَّه كما تقضي التعليمات، ونسأله: لِم ربَّى شاربه هكذا؟ فيقول: ح اعمل ايه؟ ما دام مفيش تعليمات تحدد طول الشنب، أربيه كده إياك يعوض عن شعري!

ويَمضي يُحدثنا بطريقته المتلعثمة، ويسخر من نفسه ومن زملائه، ومن «اليمك» والطوابير المبكِّرة والبروجي والنظافة، والشاويش الذي يُدرِّبهم، ولسانه الذي لا يكاد يرى مُتعلمًا من أمثال أحمد حتى يَنهال عليه، والتكدير والتزويغ، وتصاريح الأربع والعشرين ساعة، وكيف «يبلف» الضابط حتى يأخذها، ويضحك، بجسده الضخم كله ومن قلبه، ثم يكف عن سخريته وضحكه فجأة، ويتنحنَح لِيُشعِرنا أنه ينوي قول شيء جاد، يتنحنح ويقول: إنما صحتي كويسة!

وأذكر أنه في زيارةٍ أخرى، قال لي: إنه أخذ النمرة النهائية في التنشين، وسألتُه وأنا أسخر من العبقريَّة التي هبَطَت عليه فجأة عن السر في نبوغه، فمضى يشرح لي نظريته؛ فقد وجد أنهم يُعلمون النيشان في الجيش على علاماتٍ ثابتة، ثم يمتحنونهم على علاماتٍ متحركة؛ ولهذا فمن أول لحظة كان ينشن على العلامة الثابتة كأنها ستتحرك فجأة، وبهذه الطريقة كان يَضرِب بسرعة ويُصيب، وبلغ به الحماسُ مَداه، وبلغَت بي السخريةُ مَداها، وهو يؤكد لي أن الطريقة، التي يُعلمون بها الجيش غيرُ مُجْدية، وأن أهم شيء في الدنيا، هو أن يتعود الإنسانُ أن ينشن على هدفٍ متحرِّك.

هذا كله أمرٌ معقول.

أما غير المعقول فهو ما حدَث؛ فلماذا يكلمني أحمد في التليفون؟

صحيحٌ أني فوجئت به، ولكني أقول الحقَّ فَرِحت، وأحسستُ أني افتقدتُه طويلًا؛ فهناك أناس يَفتقدهم المرء، يفتقد القيم؛ فالشرف في ذهن الواحد منا مرتبط بإنسان، والإخلاص بإنسانٍ آخر، والحنان والمحبة بثالث، وأحمد عمر هذا كان يَرتبط في ذهني — ولستُ أدري لماذا — بشيءٍ يمَس من قريبٍ أو بعيد روحَ شعبنا؛ الشعب الضخم الخَجول، الذي لا يُسعِده شيء مثلما يسعده أن يسخَر من نفسَه وأخطائه.

ولم أسأله لماذا هو في مصر الجديدة؛ فقد خمَّنتُ أن كتيبتَه، لا بد معسكِرة هناك، تَحمي شمال القاهرة؛ إذ كان الجيشُ يستعد للدفاع عن العاصمة. أما الشيء الذي حيَّرني فعلًا، فقد كان لهجته اللهجة المتدفقة المملوءة بالانفعال، وصوته المحشوُّ بضحكاتٍ موفورةِ الصحة، لا كحة فيها ولا بلغم.

وعجبت.

وسألته كيف يكلمني، وهل عندهم في المعسكر تليفون؟

وأجابني: احنا معسكرين قريب من هنا، وجنبي بقَّال. ياه! داحنا شفنا العجب؛ دي حرب بجد والله العظيم! والطيارات والمدافع؛ تك تم، تك تم … تصور حضرتك ما غيرتش الشراب بقالي ست أيام لما بقى شربات! سامع الطيارات؟

وكنت حقيقةً أسمع ضجةً خافتة بعيدة، وكنت أعرف أن طائرات العدو، تُركِّز ضرباتها على تلك المنطقة «مصر الجديدة» ليل نهار!

وانتباني شيءٌ يُشبِه الخِزْي، وأنا أدرك أنَّ أحمد في الميدان، وأنا في المكتب، وسِلكٌ طويل يَفصل بين القِتال الرهيب الدائر هناك، والمصلحةِ التي أنا فيها ورُوتينها ودرَجاتها وعلاواتها …

واندفعتُ أبثُّه كلَّ حماسي وسخطي، وأشجعه.

وقلتُ له وأنا أدرك أنه لا يُريد مني خدمة: كلنا معاك، عايز حاجة؟ أي خدمة؟ قول. محمد بيسلم عليك.

ولدهشتي أجابني: مش عايز حاجة أبدًا، سلم لي عليه كثير، على فكرة أنا معايا مَدفع اهه، أضرب لك طلقة؟

ولعِلْمي أنه خجول ومن الصعب عليه أن يَطلب مني شيئًا إن كان يريد، عُدتُ ألحُّ وأسأله عما يريد، وإذا به يَنفي بشدة أنه في حاجةٍ إلى شيء، وسألتُه إن كان يريد مِن عائلته ملابس فقال: سلِّم لي عليهم.

– بس؟

– بس.

– مش عايز فلوس، هدوم، أي حاجة؟

– أبدًا أبدًا.

وازداد عجبي، ومضى هو يقول: اسكت! مش امبارح الله يخرب بيوتهم ضرَبوا المعسكر بتاعنا؟!

وكان يقولها ببساطة دفعَتْني لأن أسأله بنفس البساطة: وعملت ايه؟ مت؟

وضج التليفون بضحكته وقال: أبدًا، خمِّناهم؛ قبل ما يضربوا المعسكَر سيبناه، وعلى فكرة حَصلِت حاجة هايلة دلوقت.

وإذا كان لبعض الناس كلمات مختارة، ﻓ «هايلة»، كانت كلمة أحمد عمر المفضَّلة، كل شيء يَحكي عنه لا بد أنه هايل! وعُدتُ أُلح وأستدرجه، وأنا متأكدٌ أنه لا بد قد طلَبني لأنه يريد شيئًا، ولكنه قهقهَ وقال: أبدًا، عاوز حضرتك كويس. كويسة دي؟ بس على فكرة حصلت حاجة هايلة خالص.

– إيه؟ حصل ايه؟

فقال: مش وقَّعْت طيارة؟

فقلت: إيه؟! طيارة ورق؟

فقال: لأ، بجد؛ طيارة فرنساوي، كانت فايتة قدامنا، قلت للقائد: أضرب يا فندم؟ ورحت ضارب قام جناحها انكسر ومالت ووطت، فالقائد زعق وقال لي: خلص عليها يا أحمد، خلص عليها! خلصت عليها، وتصور، تصور وقعِت.

واستمر يضحك ويقول: سلم لي علي محمد، لما ييجي قول له: إن أحمد وقع طيارة، أنا عارف إن هو مش ح يصدق زي عوايده، إنما والله العظيم وقَّعتها أهه، محروقة في الرملة هناك، أضرب لك طلقة؟

وأخذت أضحك أنا الآخر؛ فأيامَها كانت مودةً أن يقول كلُّ واحد: إنه أسقط طائرة، فما بالك وأحمد يُخبرني بنفس اللهجة، التي كان يُعلق بها أحيانًا على أشكال بنات الجيران، يخبرني أنه أسقط طائرة!

وحتى وأنا أرى صورته في الجرائد في اليوم التالي أُكذِّب نظري، وأعود أتمعَّن في صورته، وأسمع صبحي جاد وهو يُحدِّق في الصفحة ويقول: أمَّا ولد! دا شارب من لبن أمه صحيح! ده باين عليه زي الوحش يهد الدنيا، شوف بيبص ازاي؟ الواحد سنه ٣٥ سنة وما يعرفش يوقع ناموسة! وده يوقع طيارة بحالها! ويوقعها لوحده!

حتى وأنا أسمع هذا كله وأراه، كنت أتأمل أحمد الذي في خيالي، ولا أكاد أصدق.

لحظةَ أن كنتُ أ كلمه، كان كلُّ همي أن أعرف الخدمة التي يريدها لأستطيع القيام بها، وأحس أني بهذا أساهم بنصيبٍ ما في المعركة، فقلت: أمال …

وترددتُ؛ فقد خجلت، ولكني استطردتُ: أمَّال بتكلمني ليه؟

وما كادت الجملة تُغادر فمي، حتى أدركتُ أني قلتُ شيئًا سخيفًا.

وأسرعتُ أتكلم وأمسح أثرها من الحديث، كما يمسح الإنسان كلمةً كتبَها خطأً، أسرعت أقول: قول يا أحمد، عايز ايه؟ صحيح عايز ايه؟ أنا أخوك مفيش داعي للكسوف، قول لي عايز ايه؟

وسمعتُ صمتًا في التليفون، وأدركتُ مدى الخجل الذي كان يَعتريه، وطرَقَت أذني كلمة: أصل … وأعقَبَها صمتٌ قصير، أدركتُ أن أحمد لا بد يعَضُّ شَفتَه السفلى خجلًا؛ فتلك كانت عادته، وخمَّنتُ أنه سينطلق بعدها كالمِدفع ويتكلم؛ فكما كان خَجلُه يجعله يتعثر في أول الحديث، فكذلك كان يجعله ينطلق بسرعةٍ في آخره، قال: إنت عارف؟ إدوني ساعة أجازة بعد الحكاية دي، وأنا معرفشي نمرة إلا نمرة حضرتك، قلت اكلم حضرتك، دي حاجة هايلة قوي، مش كده؟ تصور! طيارة تقع، أنا أوقعها، أنا أوقعها؟! أنا مش مصدق، بيتهيأ لي انها وقعت من نفسها، ولَّا يمكن حد تاني وقعها! سلم لي على محمد كتير.

ثم تلَجْلج كمَن لا يعرف كيف يُنهي الحديث، وسمعت نحنحةً خفيفة، فعرَفتُ حينئذٍ أنه يَنوي أن يدخل في الجد، وجاءني صوته: إنما صحتي كويسة، أنا متشكر قوي قوي قوي.

وكانت آخر مراحل خجله أن يضحك، وكأنه لا يطمئن إلى الغلافين السابقين، فيلف كلامه بغلافٍ ضاحك ثالث.

وحين وضعتُ السماعة كنت لا أزال غيرَ مصدق، أن أحمد طلبني فقط من أجل أن يخبرني بهذا «الشيء الهايل»، وكانت السماعة لا تزال تضحك؛ ضحكة دسمة موفورة الصحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤