تمهيد
إن الجدول الدوري هو بمنزلة حجر رشيد الطبيعة ويُعتبَر بالنسبة إلى غير الخبراء مجرد مربعات مرقمة عددها مائة أو أكثر، في كلٍّ منها حرف أو اثنان، تنتظم في نمط متناسق ولكنه فريد وغير متماثل. أما بالنسبة إلى الكيميائيين فإن الجدول الدوري يكشف عن الأسس المنظمة لعلم الكيمياء، وعلى المستوى الأساسي تدخل الكيمياء كلها في إطار الجدول الدوري.
هذا لا يعني بالطبع أن نعرف كل ما في الكيمياء بوضوح من خلال الجدول الدوري، فالحقيقة بعيدة كلَّ البعد عن هذا المعنى، ولكن بنية الجدول الدوري تعكس البنية الإلكترونية للعناصر، ومن ثَمَّ خواصها وسلوكياتها الكيميائية، ولعل من الأنسب أن نقول إن الكيمياء كلها تبدأ من الجدول الدوري.
لعل الجدول الدوري هو من أكثر تصنيفات المعرفة التي توصَّلَ إليها الإنسان حتى الآن إحكامًا وقيمةً، وما يفعله الجدول الدوري للمادة هو ما يفعله جدولُ العصور الجيولوجية للزمن الكوني، وتاريخه هو قصةُ فتوحاتِ الإنسان الكبرى في عالمه الصغير.
لعل الجدول الدوري للعناصر من أكثر الرموز شهرةً في العلوم، ولقد صار هذا الجدول نموذجنا الذي نستعين به في معرفة كيف تترتَّب الذرات والجزيئات لتكوين المادة كما نعرفها، وكيف ينتظم العالَمُ في أدق مستوياته. عبر التاريخ تغيَّر الجدول الدوري؛ إذ أُضيفت إليه العناصر المكتشَفة حديثًا، كما تبيَّن بطلان وجود عناصر أخرى؛ فإما تمَّ تعديلها وإما حُذِفت نهائيًّا، وبهذه الطريقة يعمل الجدول الدوري كمخزنٍ لتاريخ الكيمياء وقالبٍ للتطورات الحالية، وأساسٍ لمستقبل العلوم الكيميائية … وخريطةٍ للَّبِنَات الأساسية للعالَم.
ما إن علمت بذلك الجدول حتى رأيت لأول وهلة مزيجًا من الحقائق المختلطة، يندرج في خط واحد ونظام واحد، وقد بَدَتْ أمام عيني جميعُ خلائط ووصفات الكيمياء غير العضوية وما كنتُ أجده فيها من «عشوائية» — حين كنتُ تلميذًا — قد توافقَتْ وانتظمَتْ في نظام واحد، وكأنني أرى أمامي دَغَلًا تختلط فيه الأشجار بلا نظام، وقد تحوَّل فجأةً إلى حديقة هولندية!
الشيء المهم في هذا الجدول الدوري ما فيه من بساطة ومألوفية، فضلًا عن مكانته الجوهرية بحقٍّ في المجال العلمي، وتتضح بساطته من الاستشهادات السابق ذكرها. يبدو أن الجدول الدوري يجسِّد المكونات الأساسية للمواد كلها، كما أنه مألوف لمعظم الناس؛ فجميع الناس تقريبًا الذين يعرفون شيئًا أوليًّا عن الكيمياء يمكنهم تذكُّر وجود الجدول الدوري، حتى لو نسوا كل الأشياء الأخرى التي تعلَّموها عن الكيمياء. والجدول الدوري مألوف ومعروف تقريبًا بنفس درجةِ معرفةِ الصيغة الكيميائية للماء، ولقد صار أيقونةً ثقافية حقيقية يستخدمها الفنَّانون والمعلنون، وبطبيعة الحال العلماء من جميع فروع العلم.
في الوقت نفسه يُعَدُّ الجدول الدوري أكثر من مجرد أداةٍ لتعليم الكيمياء وتعلُّمها، ويعكس النظامَ الطبيعي للأشياء في العالم، بل في الكون كله أيضًا على حدِّ علمنا. يتكوَّن الجدول الدوري من مجموعاتٍ من العناصر مرتَّبةٍ في أعمدة رأسية، فإذا كان أحد الكيميائيين أو حتى أحد طلبة الكيمياء يعرف خصائص عنصرٍ ما محدَّد في أي مجموعة، مثل الصوديوم، فستكون لديه فكرة جيدة عن خواص العناصر الواقعة في نفس المجموعة، مثل البوتاسيوم والروبيديوم والسيزيوم.
وعلى مستوًى أساسي أكثر، أدَّى النظام الكامن في الجدول الدوري إلى معرفة عميقة بتركيب الذرة، وإلى الفكرة القائلة بأن الإلكترونات تدور بالضرورة حول نواة الذرة في أغلفة خاصة ومدارات محدَّدة، وهذه الترتيبات للإلكترونات تعمل بدورها على إكساب الجدول الدوري معناه المنطقي؛ فهي تفسِّر بصورة عامة السببَ وراء كون عناصر الصوديوم والبوتاسيوم والروبيديوم وغيرها تندرج في نفس المجموعة في المقام الأول. لكن الأهم من هذا أن معرفة البنية الذرية التي توصَّلَ إليها العلماءُ في البداية، عند محاولتهم تعلُّم الجدول الدوري، قد تمَّ تطبيقها في مجالاتٍ علمية أخرى، وقد أسهمت هذه المعرفة في نشوء نظرية الكمِّ أولًا، ثم نشوء ذلك العلم القريب منها والأكثر نضجًا؛ وهو ميكانيكا الكم، الذي هو نوع من المعرفة لا يزال يُنظَر إليه باعتباره النظريةَ الأساسية للفيزياء التي يمكنها أن تفسِّر سلوكَ جميع المواد، بل جميع صور الإشعاع أيضًا، مثل الضوء المرئي والأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية.
وخلافًا لمعظم الاكتشافات العلمية التي تحقَّقت في القرن التاسع عشر، لم تتسبَّب المكتشفات التي تحقَّقت في القرنين العشرين والحادي والعشرين في تقويض الجدول الدوري، بل عملت الاكتشافات التي ظهرت في الفيزياء الحديثة بصفة خاصة على تنقية الجدول الدوري وتنسيق بعض الأشياء غير السليمة المتبقية فيه، ولكن بقيت صورته العامة وصلاحيته الشاملة سليمةً، كدليل آخَر على رسوخ هذه المنظومة العلمية وعمقها.
قبل دراسة الجدول الدوري سوف نُلقِي نظرة على محتوياته؛ أَلَا وهي العناصر، ثم نُلقِي نظرة سريعة على الجدول الدوري الحديث وبعض أشكاله المختلفة، قبل أن ننظر في تاريخه وكيف توصَّلنا إلى مستوى معرفتنا الحالية، وذلك ابتداءً من الفصل الثالث.