نظرة سريعة على الجدول الدوري الحديث
الجدول الدوري الحديث
كما تنال حالاتُ التناظر الكيميائي بين عناصر في نفس المجموعة اهتمامًا كبيرًا في مجال الطب؛ فمثلًا: يقع عنصر البيريليوم على قمة المجموعة ٢ من الجدول الدوري وفوق المغنسيوم، ونظرًا للتشابه بين هذين العنصرين يمكن أن يحل البيريليوم محل عنصر المغنسيوم الذي يُعَدُّ ضروريًّا للبشر، وهذا السلوك يُعزَى إليه أحد الطرق الجديدة التي يكون البيريليوم من خلالها سامًّا للبشر. وبالمثل يقع عنصر الكادميوم مباشَرةً أسفل الزنك في الجدول الدوري؛ ونتيجةً لهذا يمكن أن يحل الكادميوم السام محلَّ الزنك في عديدٍ من الإنزيمات الحيوية، كما توجد أوجه تشابُه بين عناصر تقع في مواضع متجاورة في صفوف الجدول الدوري؛ فمثلًا يقع البلاتين إلى جوار الذهب، ولطالما كان معروفًا أن هناك مركبًا غير عضوي من البلاتين يُسمَّى «سيسبلاتين» يمكن أن يعالِج صورًا مختلفة من السرطان؛ ونتيجةً لهذا استُحدِثت عقاقير كثيرة جُعِلت فيها ذراتُ الذهب لتكون بديلًا عن البلاتين، ونتجت عن هذا بعض العقاقير الجديدة الناجحة.
وكمثال أخير للآثار الطبية الناتجة عن ترتيب العناصر ومواضعها في الجدول الدوري، نجد الروبيديوم الذي يقع مباشَرةً أسفل البوتاسيوم في المجموعة ١ من الجدول، وكما في الحالات السابق ذكرها يمكن أن تحاكي ذراتُ الروبيديوم ذراتِ البوتاسيوم؛ ومن ثَمَّ يمكن أن تُمتَص بسهولة — مثل البوتاسيوم — لتدخل جسم الإنسان، ويتم استغلال هذا السلوك في تقنيات الفحص؛ إذ ينجذب الروبيديوم إلى السرطانات لا سيما التي تحدث في المخ.
يتكوَّن الجدول الدوري التقليدي من صفوف وأعمدة، ويمكن ملاحظة توجُّهاتٍ وعلاقاتٍ معينة بين العناصر أفقيًّا ومن أعلى لأسفل؛ إذ يمثِّل كلُّ صف أفقي دورةً واحدة من الجدول، وعند عبور إحدى الدورات يمر المرء من معادن مثل البوتاسيوم والكالسيوم، إلى اليسار خلال فلزات انتقالية مثل الحديد والكوبالت والنيكل، ثم يمر ببعض العناصر شبه الفلزية كالجرمانيوم، وبعدها بعض اللافلزات مثل الزرنيخ والسلينيوم والبروم في الجانب الأيمن من الجدول. وبصفةٍ عامة نجد تدرُّجًا لطيفًا في الخصائص الكيميائية والفيزيائية كلما عبرنا إحدى الدورات، ولكن توجد استثناءات كثيرة لهذه القاعدة العامة؛ مما يجعل دراسة الكيمياء حقلًا يثير الخيال ويزخر بأمور كثيرة غير متوقَّعة.
الفلزات نفسها يمكن أن تتفاوت من جوامد فيها ليونة ولا بريق لها مثل الصوديوم والبوتاسيوم، إلى مواد صلبة ولامعة كالكروم والبلاتين والحديد؛ وأما اللافلزات من الناحية الأخرى، فتميل لأن تكون جوامد أو غازات مثل الكربون والأكسجين (على التوالي). وفيما يتعلق بمظهرها، يكون من الصعب أحيانًا التمييز بين الفلزات الجامدة واللافلزات الجامدة، وقد يبدو للشخص العادي غير الخبير لا فلز جامدٌ ولامع أكثرَ فلزيةً من فلز ليِّن كالصوديوم. ويتكرَّر التوجُّه الدوري من الفلزات إلى اللافلزات مع كل دورة، حتى إذا اكتظَّتْ الصفوف بما فيها، فإنها تكوِّن أعمدة أو مجموعات من عناصر متشابهة، وتميل العناصر ضمن المجموعة الواحدة للتشارُك في العديد من الخواص الفيزيائية والكيميائية المهمة، وإن كانت توجد بعض الاستثناءات.
أنماط الجدول الدوري
لقد تمَّ إعداد ما يربو عن الألف من الجداول الدورية، وطُبِعت أو نُشِرت — مؤخرًا — على الإنترنت، فما طبيعة علاقاتها جميعًا؟ وهل ثمة جدول دوري مثالي؟ هذان سؤالان سيجري بحثهما في هذا الكتاب؛ إذ يمكن بهذا أن نعرف الكثير من الأمور المثيرة للاهتمام في العلم المعاصر.
ولكن ما هي العناصر التي تشغل الجدول الدوري؟ فلْنَعُدْ أدراجنا إلى الجدول الدوري عمومًا، ونختار النسق المألوف المتوسط الطول لمزيدً من الإيضاح لهذا الجدول الذي هو بمنزلة شبكة ذات بُعْدين؛ فكيف اكتُشِفت العناصر؟ وكيف تبدو؟ وما وجه اختلافها كلما اتجهنا لأسفل أحد أعمدة الجدول الدوري أو عبر دورة أفقية؟
المجموعات النموذجية للعناصر في الجدول الدوري
إلى أقصى يسار الجدول نجد المجموعة ١ تحتوي عناصر مثل فلزات الصوديوم والبوتاسيوم والروبيديوم، وهي مواد لينة ومتفاعلة بدرجة غير عادية، فهي لا تشبه تمامًا ما نعتبره عادةً فلزات، مثل الحديد والنحاس والكروم والذهب والفضة. وفلزاتُ المجموعة ١ شديدةُ التفاعل لدرجة أن مجرد وضع قطعة صغيرة من أيٍّ منها في الماء النقي يسبِّب تفاعلًا نَشِطًا يُنتِج غاز الهيدروجين، ويخلِّف وراءه سائلًا قلويًّا عديم اللون. تتضمن عناصر المجموعة ٢ المغنسيوم والكالسيوم والباريوم، وتميل لأن تكون أقل تفاعلًا ونشاطًا من عناصر المجموعة ١ في معظم النواحي.
افتُقِدت أوجُهٌ قيِّمة عديدة من كيميائية هذه العناصر في الجدول الحديث بسبب الطريقة التي فُصِلت بها عن المتن الرئيسي للجدول، وإن كانت مزايا هذا النظام الأخير ترجِّح أوجهَ النقص فيه. إلى اليمين من الفلزات الانتقالية في الجدول ذي النمط المتوسط الطول، تقع كتلة أخرى من العناصر التمثيلية بدءًا من المجموعة ١٣، وانتهاءً بالمجموعة ١٨، وتستقر الغازات النبيلة (الخاملة) في أقصى يمين الجدول.
في بعض الأحيان لا تكون الخواص التي تتشارك فيها إحدى المجموعات واضحة على الفور، وهذا ينطبق على المجموعة ١٤، التي تتكوَّن من الكربون والسيليكون والجرمانيوم والقصدير والرصاص، فهنا نلاحظ اختلافًا كبيرًا كلما اتجهنا لأسفل المجموعة؛ فالكربون، الذي يقع على رأس المجموعة، عنصرٌ صلب لا فلزي يوجد في ثلاثة أشكال بنيوية مختلفة تمامًا (الماس والجرافيت والفحم بأنواعه)، وهو يشكِّل أساس جميع الأنظمة والأجهزة الحية. العنصر التالي الذي يقع أسفل منه وهو السيليكون، شبه فلز، وما يثير الاهتمام أنه يشكِّل أساس الحياة الاصطناعية، أو الذكاء الاصطناعي على أقل تقدير؛ إذ يوجد في قلب جميع الحواسب الآلية. والعنصر التالي أسفله، وهو الجرمانيوم، اكتُشِف في وقت تالٍ، وهو شبه فلز تنبَّأ بوجوده مندليف، وتبيَّن فيما بعدُ أن فيه الكثيرَ من الخواص التي تَوقَّعَها ذلك العالم الروسي. وإذا تحركنا للأسفل، إلى عنصرَيِ القصدير والرصاص، نجدهما فلزَّيْن معروفين من قديم الزمان. وعلى الرغم من هذا التباين الشاسع فيما بين عناصر المجموعة ١٤، فيما يتعلق بسلوكها الفلزي أو اللافلزي، فإنها تتشابه في معنًى كيميائي مهم؛ وهو أنها جميعًا تُظهِر قوةَ ارتباطٍ قصوى، أو ما يُسمَّى بالتكافؤ، مقدارها أربعة.
ولو انتقلنا إلى المجموعة ١٧ لوجدنا الفرق الظاهر بين العناصر أكثر جلاءً، فعنصرَا الفلور والكلور اللذان يترأَّسان المجموعة كلاهما غازٌ سامٌّ. والعنصر التالي البروم، هو أحد العنصرين المعروفين الوحيدين اللذين يوجدان في صورة سائلة في درجة حرارة الغرفة، (والعنصر الآخَر هو فلز الزئبق). ثم لو تحركنا لأسفل المجموعة لَوجدنا اليود، وهو عنصر جامد ذو لون بنفسجي ضارب للسواد، ولو طلبنا من كيميائي مبتدئ أن يضع هذه العناصر في مجموعة واحدة طبقًا لمظهرها، فمن غير المرجَّح أن يصنِّف تلك العناصر معًا (أي الفلور والكلور والبروم واليود)، وهذه حالة يمكن أن يفيد فيها التمييز الدقيق بين ما هو قابل للملاحظة وما هو تجريدي في مفهوم العنصر؛ إذ يكمن التشابُه الذي بينها أساسًا في طبيعة العناصر التجريدية، وليست العناصر كمواد يمكن عزلها وملاحظتها.
مع استمرارنا في التحرك إلى أقصى اليمين، نجد مجموعةً من العناصر جديرةً بالملاحظة، هي الغازات النبيلة، وجميعها تم عزله قبيل القرن العشرين مباشَرةً أو في مستهله. وخاصيتها الرئيسية — بشكل قد يبدو متناقضًا ظاهريًّا، على الأقل حين عُزِلت لأول مرة — كانت تتمثَّل في أنها تفتقر إلى الخواص الكيميائية. وهذه العناصر الخاملة، التي تتضمن الهيليوم والنيون والأرجون والكريبتون، لم تكن مذكورةً ضمن الجداول الدورية القديمة؛ إذ لم تكن معروفةً وقتئذٍ، ولم يكن العلماء يتوقَّعون وجودها، وحين اكتُشِفت، فرَضَ وجودُها تحديًا كبيرًا للمنظومة الدورية للعناصر! ولكن تمَّ حل المشكلة في النهاية بنجاح، وذلك بمدِّ الجدول ليشمل الآن مجموعةً جديدة، تُسمَّى المجموعة ١٨.
القانون الدوري
وهذا الكلام عن القانون الدوري يثير بعض القضايا المثيرة للاهتمام، أولها أن صفة الدورية بين العناصر ليست ثابتة ولا دقيقة؛ ففي النمط المتوسط الطول من الجدول الدوري، المستخدَم بصفة عامة، تجد في الصف الأول عنصرين اثنين فقط، بينما يحتوي كلٌّ من الصفين الثاني والثالث على ثمانية، والصفين الرابع والخامس على ١٨ وهكذا. وهذا يعني دورية متغايرة تتكون من ٢، و٨، و٨، و١٨، إلخ، بما يختلف تمامًا عن نوع الدورية التي نجدها في أيام الأسبوع أو الأنغام في سلم موسيقي؛ ففي هاتين الحالتين الأخيرتين يكون طول الدورة ثابتًا، مثل أيام الأسبوع السبعة وعدد الأنغام في سلم موسيقي غربي.
ولكن فيما بين العناصر، لا يقتصر الأمر على تفاوت طول الدورة، بل إن صفة الدورية ليست دقيقة؛ فالعناصر الواقعة ضمن أي عمود من الجدول الدوري لا تكون تكرارات دقيقة بعضها لبعض. وفي هذا الصدد لا تختلف صفة دوريتها عمَّا يتصف به السلم الموسيقي؛ إذ يعود المرء إلى نغمة يدل عليها نفس الحرف، الذي يبدو صوتيًّا مثل النغمة الأصلية، ولكنها بالتأكيد ليست مطابقةً لها؛ إذ يكون أعلى بمقدار جواب (أوكتاف) واحد.
هذا الطولُ المتغاير لدورات العناصر والطبيعةُ التقريبية لتكرارها جعلا بعض علماء الكيمياء يهجرون لفظ قانون فيما يتعلَّق بصفة الدورية الكيميائية؛ فقد لا تبدو الدورة الكيميائية في شكل قانون مثل معظم قوانين الفيزياء، ولكن يمكن أن يجادل المرء قائلًا إن التشابه الدوري في الخواص الكيميائية يقدِّم مثالًا لقانون كيميائي نمطي، تقريبي ومعقد، ولكنه لا يزال في الأساس يُبدِي سلوكًا يشبه القانون.
ولعل هذا هو المقام المناسب لكي نناقش بعض النقاط الأخرى المتعلقة بعلم المصطلحات، فما وجه الاختلاف بين مصطلحَيِ «الجدول الدوري»، و«المنظومة الدورية»؟ إن مصطلح المنظومة الدورية (أو النظام الدوري) هو أكثر عموميةً من الآخَر؛ فالمنظومة الدورية هي الفكرة الأكثر تجريديةً التي تؤكِّد على وجود علاقة أساسية فيما بين العناصر. وحين يكون المرء في معرض إبراز المنظومة الدورية، يمكنه أن يختار نسقًا ثلاثي الأبعاد، أو شكلًا دائريًّا، أو أي عدد من الجداول المختلفة ذوات البُعْدين، وبالطبع، فإن لفظ «جدول» يفرض بالتحديد تمثيلًا ذا بُعْدين. وهكذا، فعلى الرغم من أن لفظ (أو مصطلح) الجدول الدوري هو الأكثر شهرةً من بين الألفاظ الثلاثة: «القانون، والمنظومة، والجدول»، فإنه في الحقيقة أكثرها حصريةً وأضيقها نطاقًا.
العناصر المتفاعلة وترتيب العناصر
إن الكثير مما هو معروف عن العناصر قد عرَفه العلماء من طريقة تفاعُلها مع عناصر أخرى، ومن خواص ارتباطها. والفلزات الواقعة في الجانب الأيسر من الجدول الدوري التقليدي هي الأضداد التكامُلية للَّافلزات، التي تميل لأن تقع تجاه الجانب الأيمن، وسبب هذا — بالمصطلحات الحديثة — أن الفلزات تكوِّن أيونات موجبة عن طريق فقدان الإلكترونات، بينما تكتسب اللافلزاتُ الإلكتروناتِ لتكوِّن أيوناتٍ سالبةً، وهذه الأيونات المتضادة في شحناتها تتَّحِد معًا لتكوِّن أملاحًا متعادلة الشحنة مثل كلوريد الصوديوم أو بروميد الكالسيوم. وهناك المزيد من الأوجه التكاملية للفلزات واللافلزات؛ إذ تذوب أكسيدات أو هيدروكسيدات الفلزات في الماء لتكوِّن قواعد، بينما تذوب أكسيدات أو هيدروكسيدات اللافلزات في الماء لتكوِّن أحماضًا، ويتفاعل الحمض والقاعدة معًا في تفاعل «تعادلي» لتكوين ملح وماء، وهكذا نجد القواعد والأحماض — تمامًا مثل الفلزات واللافلزات التي تتكوَّن منها — متضادة أيضًا ولكنها متكاملة.
للأحماض والقواعد ارتباطٌ بأصول الجدول الدوري؛ إذ إنها برزت بوضوح في مفهوم الأوزان المكافئة، الذي استُخدِم في البداية في ترتيب العناصر وتنسيقها، فالوزن المكافئ لأي فلز معين، على سبيل المثال، قد تم الحصول عليه أصلًا من كمية الفلز التي تتفاعل مع كمية محدَّدة من حمض قياسي وقع عليه الاختيار. وقد تم تقسيم مصطلح «الوزن المكافئ» بالتبعية ليدل على الكمية الخاصة بعنصرٍ ما التي تتفاعل مع كمية قياسية من الأكسجين. ومن الناحية التاريخية كان ترتيب العناصر عبر الدورات يتجدَّد بالوزن المكافئ، ثم بعد ذلك بالوزن الذري، وفي نهاية الأمر بالعدد الذري (المشروح فيما يلي).
وقد بدأ علماء الكيمياء في عقد مقارنات كميَّة فيما بين كميات الأحماض والقواعد التي تتفاعل معًا، وهذا الإجراء تم بسطه بعدها ليشمل التفاعلات بين الأحماض والفلزات، وهذا أتاح لعلماء الكيمياء أن يرتِّبوا الفلزات على أساس عددي تبعًا لأوزانها المكافئة، التي هي بالتحديد — كما ذُكِر توًّا — كمية الفلز التي تتَّحِد مع كمية محددة من الحمض.
وقد تم لأول مرة التوصُّل إلى الأوزان الذرية، باعتبارها تختلف عن الأوزان المكافئة، في مستهل القرن التاسع عشر على يد جون دالتون، الذي استدل عليها على نحوٍ غير مباشِر من قياسات لكتل عناصر تتَّحِد معًا. ولكن كان ثمة تعقيداتٌ في هذه الطريقة التي تبدو بسيطة، أجبرَتْ دالتون على أن يضع افتراضات للصيغ الكيميائية للمركبات التي تحوم حولها التساؤلاتُ، وكان مفتاح تلك التساؤلات هو تكافؤ العنصر، أو قدرته الارتباطية؛ فعلى سبيل المثال: ترتبط ذرة أحادية التكافؤ مع ذرات الأكسجين بنسبة ١ : ١، بينما ترتبط ذرة ثنائية التكافؤ مثل الأكسجين بنسبة ٢ : ١، وهكذا.
أحيانًا يُعتبَر الوزن المكافئ كما ذُكِر أعلاه مفهومًا تجريبيًّا صرفًا؛ إذ لا يبدو أنه يعتمد على ما إذا كان المرء يؤمن بوجود الذرات أم لا. وعقب خروج الأوزان الذرية إلى النور، حاول الكثيرون من علماء الكيمياء، الذين شعروا بعدم الارتياح حيال فكرة الذرات، أن يعودوا إلى المفهوم السابق؛ أي للأوزان المكافئة، واعتقدوا أن الأوزان المكافئة ستكون مستنِدةً إلى التجربة العملية على نحوٍ خالص؛ ومن ثَمَّ أكثر أهليةً للثقة. ولكن كانت آمالهم أوهامًا؛ إذ ارتكزتِ الأوزانُ المكافئة أيضًا على افتراض صِيغ كيميائية معينة للمركبات، وتلك الصيغ هي أفكار نظرية.
وعلى مدى العديد من الأعوام، كان ثمة قدرٌ كبير من البلبلة الناتجة عن حرية الاختيار؛ ومن ثَمَّ الاستخدام المتبادل لأيٍّ من الوزن المكافئ أو الوزن الذري، ولقد افترض دالتون نفسه أن الماء يتكون من ذرة واحدة من الهيدروجين متحدة مع ذرة واحدة من الأكسجين، ولكن تخمينه عن تكافؤ الأكسجين تبيَّن أنه تخمين خاطئ. وقد استخدم مؤلفون كثيرون مصطلحَي «الوزن المكافئ» و«الوزن الذري» بالتبادل، مما زاد من حالة الارتباك. ولم تتحدَّد العلاقة الحقيقية بين الوزن المكافئ والوزن الذري والتكافؤ بوضوحٍ قبل عام ١٨٦٠، الذي عُقِد فيه أول مؤتمر علمي كبير في مدينة كارلسروه بألمانيا، وأدَّى هذا التوضيحُ والإقرار العام للأوزان الذرية المؤكدة، إلى تمهيد الطريق للاكتشاف المستقل للمنظومة الدورية على يد ستة أشخاص في دول مختلفة، افترضوا أنماطًا من الجدول الدوري، وكانت ناجحة بدرجات متفاوِتة، وكلٌّ منهم وضع العناصر بصفة عامة مرتَّبة على أساس تزايُد الوزن الذري.
كان ثالث مفاهيم ترتيب العناصر، كما ذكرنا آنفًا، وأحدثها هو العدد الذري، فما إن تمت معرفة مفهوم العدد الذري، حتى أزاح الوزنَ الذري باعتباره المبدأ المرتَّب للعناصر، فلم يَعُدِ الأمر يعتمد على تجميع الأوزان بأي حال؛ إذ يمكن الكشف عن العدد الذري بطريقة مجهرية بسيطة من خلال بنية الذرات لأي عنصر. ويتم التوصُّل إلى العدد الذري للعنصر عن طريق عدد البروتونات؛ أي وحدات الشحنة الموجبة، في نواة أيٍّ من ذراته، وهكذا فإن كل عنصر في الجدول الدوري به بروتون أَزْيد من العنصر السابق عليه، ونظرًا لأن عدد النيوترونات في النواة يميل أيضًا للزيادة كلما تنقَّلْنا خلال الجدول الدوري، فهذا يجعل العدد الذري والوزن الذري متناظرين تقريبًا، ولكن العدد الذري هو الذي يُستعمَل لتحديد هوية أي عنصر بعينه. بتعبير آخَر: إن ذرات أي عنصر معين دائمًا ما يكون لديها نفس عدد البروتونات، ولكن يمكن أن تختلف في عدد النيوترونات التي تحتوي عليها، وهي صفة تنتج عنها ظاهرةُ النظائرية، وتُسمَّى تلك الأنواع المختلفة ﺑ «النظائر».
الطرق المختلفة لتمثيل المنظومة الدورية
تُعتبَر المنظومة الدورية الحديثة ناجحة بشكل لافت في ترتيب العناصر وتنظيمها على أساس العدد الذري، بطريقة تجعلها تندرج في مجموعات طبيعية. ولكن هذه المنظومة يمكن تمثيلها بأكثر من طريقة، وهكذا توجد صور وأنماط كثيرة من الجدول الدوري، وبعضها صُمِّم لاستخدامات مختلفة؛ فبينما قد يفضِّل عالِمٌ كيميائي صورةً تُلقِي الضوء على تفاعلية العناصر، قد يرغب مهندسٌ كهربائي أن يركِّز على التشابُهات والأنماط في قابلية تلك العناصر للتوصيل الكهربائي.
تُعتبَر الكيفية التي تظهر بها المنظومة الدورية أمرًا مدهشًا، ولا سيما أنه يثير مخيلة العامة، ويجذب اهتمامهم. ومنذ العهد الذي ظهرت فيه أوائل الجداول الدورية على يد كلٍّ من نيولاندز وَلوثار ماير وَمندليف، بُذِلت محاولات كثيرة للحصول على الجدول الدوري «النهائي». وفي حقيقة الأمر، قُدِّر عدد النُّسَخ المختلفة التي نُشِرت من الجدول الدوري في خلال مائة عام بعد صدور جدول مندليف الشهير في عام ١٨٦٩؛ بما يقرب من ٧٠٠ نسخة، وتشمل جميعَ أنواع الأشكال والبدائل، مثل الجداول الثلاثية الأبعاد، والأشكال الحلزونية، والدوائر المتراكزة، والأشكال اللولبية، والأشكال المتعرجة، والجداول المتدرجة، وجداول صور المرآة … وهكذا. وحتى اليوم تُنشَر المقالات بانتظام، ومفادُها إظهارُ أشكالٍ جديدة ومحسنة من المنظومة الدورية.
الشيء الجوهري في كل هذه المحاولات هو القانون الدوري نفسه، الذي يوجد بصورة واحدة فحسب، ولا شيء من ذلك الكم من صور الجدول الدوري يغيِّر هذا الوجه من المنظومة الدورية. ويؤكد كيميائيون كثيرون أن كيفيةَ تمثيل هذا القانون شكليًّا غيرُ مهمة، ما دام أنه تم الوفاء بمتطلبات أساسية معينة. ومع ذلك، من وجهة نظر فلسفية، لا يزال من الملائم أن نضع في اعتبارنا أكثرَ صورِ تمثيل العناصر أساسيةً، أو ما يُسمَّى بالصورة «النهائية» للمنظومة الدورية، لا سيما أن هذا الأمر له علاقة بالتساؤل عمَّا إذا كان من الواجب النظر إلى القانون الدوري بطريقة واقعية، أم باعتباره شيئًا من العُرْف. وقد يبدو الجواب المعتاد بأن هذا التمثيل هو مجرد شيء من العُرْف، متعارِضًا مع الفكرة الواقعية القائلة بأنه قد يكون ثمة واقعٌ في هذا الأمر، فيما يتعلَّق بالنقاط التي يحدث عندها التكرارُ في خواص العناصر في أي جدول دوري.
التغييرات الحديثة في الجدول الدوري
كما خضعت أيضًا الصورة القياسية للجدول الدوري لبعض التغييرات الطفيفة فيما يتعلَّق بالعنصرين اللذين يبدأ بهما الصفان الثالث والرابع من العناصر الانتقالية؛ فبينما تُظهِر الجداول الدورية السابقة هذين العنصرين تحت اسمَي اللانثانوم (٥٧) والأكتينيوم (٨٩)، فإن الدلائل والتحاليل الأكثر حداثةً وضعَتْ عنصرين آخَرين هما اللوتيشيوم (٧١) واللورنسيوم (١٠٣) في موضعيهما السابقين (انظر الفصل العاشر). ومن المثير للاهتمام أيضًا أن نلاحظ أنه حتى بعض الجداول الدورية السابقة التي وُضِعت على أساس الخواص العيانية قد تنبَّأَتْ بهذه التغييرات.
تلك أمثلة لمواضع الغموض الموجودة فيما قد نسمِّيه تصنيفًا ثانويًّا، ذاك التصنيف الذي ليس في نفس درجة الوضوح التي يتصف بها التصنيف الأوَّلي، أو الترتيب المتتابع للعناصر. ومن الناحية الكيميائية الكلاسيكية يتم شرح التصنيف الثانوي بالنظر إلى التشابهات الكيميائية بين العناصر المختلفة في مجموعةٍ ما، وأما من الناحية الكيميائية الحديثة فيتم شرح التصنيف الثانوي باستخدام مفهوم التوزيع الإلكتروني. وسواء أخذنا بالأسلوب الكيميائي الكلاسيكي أم بأسلوب أكثر فيزيائيةً على أساس التوزيع الإلكتروني، فإن التصنيف الثانوي من هذا النوع يُعَدُّ أكثرَ غموضًا وضعفًا من التصنيف الأوَّلي، ولا يمكن اعتباره قاطعًا. وتُعتبَر الطريقة التي يجري التعامُل بها مع التصنيف الثانوي، كما هو موجود هنا، مثالًا حديثًا للتوتر الحادث بين استخدام الخواص الكيميائية أو الخواص الفيزيائية للتصنيف. إنَّ وَضْع عنصر ما بدقة ضمن مجموعة الجدول الدوري يمكن أن يتفاوت حسبما إذا كنَّا سنركِّز أكثر على التوزيع الإلكتروني (وهي خاصية فيزيائية)، أم على خواصه الكيميائية. وفي الواقع، الكثير من المجادلات الحديثة عن وضع الهيليوم في المنظومة الدورية تحوم حول الأهمية النسبية التي يجب إيلاؤها لهذين الأسلوبين (انظر الفصل العاشر).
في السنوات الأخيرة زاد عدد العناصر حتى تجاوز المائة بكثير؛ وهذا نتيجة لتخليق عناصر اصطناعية. وفي وقت تأليفي هذا الكتابَ ظهرتْ دلائلُ تفيد بإضافة عنصرين جديدين، هما ١١٧ و١١٨، ويتميزان بعدم الاستقرار لدرجة كبيرة تجعل من المتعذر إنتاجُ أي قدرٍ منهما سوى ذرات قليلة في أي وقت من الأوقات. ومع ذلك تم استحداث تقنيات كيميائية عبقرية تتيح لنا فحص الخواص الكيميائية لتلك العناصر التي تُسمَّى «العناصر الفائقة الثقل»، كما تسمح لنا بأن نتحقَّق ممَّا إذا كانت توقُّعاتنا بشأن الخواص الكيميائية تَصدُق على تلك العناصر بذراتها الكبيرة جدًّا أم لا. وإذا نظرنا إلى هذا الأمر بطريقة فلسفية أكثر، نقول إن إنتاج هذه العناصر يتيح لنا أن نتبيَّن ما إذا كان القانون الدوري قانونًا بلا استثناء، من نوعية قانون الجاذبية لنيوتن، أو ما إذا كان من المحتمل حدوث انحرافات عن التكرارات المتوقَّعة في الخواص الكيميائية بمجرد الوصول إلى الأعداد الذرية العالية نسبيًّا. لم تحدث أي مفاجآت حتى الآن، ولكن لم يتم التوصُّل إلى جوابٍ شافٍ عن التساؤل عمَّا إذا كانت بعض تلك العناصر الفائقة الثقل تمتلك الخواصَّ الكيميائية المتوقَّعة أم لا، وثمة عقدةٌ مهمة تنشأ في هذه الجزئية من الجدول الدوري، وهي تزايُد أهميةِ الآثار المرتبطة بنظرية النسبية (انظر ما يلي)، فهذه الآثار تؤدِّي إلى توزيعات إلكترونية غير متوقَّعة من بعض الذرات، وقد تنتج عنها خواص كيميائية غير متوقَّعة بنفس القدر.
فهم المنظومة الدورية
كان لِمَا تحقَّق من تطورات في علم الفيزياء أثرٌ عميق في الطريقة التي يتم بها الآن فهمُ المنظومة الدورية، والنظريتان المهمتان في الفيزياء الحديثة هما النظرية النسبية لأينشتاين وميكانيكا الكم.
أُولى هاتين النظريتين كان لها تأثيرٌ محدود على فهمنا للمنظومة الدورية، ولكنها صارت أكثر أهميةً على نحو متزايد في الحسابات الدقيقة التي تجري على الذرات والجزيئات، وتنشأ الحاجةُ إلى أن نضع النسبية في اعتبارنا كلما تحرَّكت أشياء، أو جسيماتٌ ما، بسرعات تقارِب سرعةَ الضوء، فالإلكتروناتُ الداخلية للذرات، لا سيما التي توجد في الذرات الأكثر ثقلًا في المنظومة الدورية، يمكن بسهولة أن تصل إلى تلك السرعات؛ سرعات النظرية النسبية. وقد يكون من المستحيل إجراءُ حسابٍ دقيق، لا سيما إذا كانت الذرة ثقيلةً، دون إدخال التصحيحات اللازمة التي تراعي النظرية النسبية، وفضلًا عن هذا فإن الكثير من الخواص المادية للعناصر، مثل اللون المميز للذهب أو سيولة فلز الزئبق، يُفضَّل تفسيرها علميًّا باعتبارها من الآثار المتعلِّقة بالنظرية النسبية، نتيجةً للحركة الدورانية السريعة لإلكترونات الغلاف الذري الداخلي.
إلا أن النظرية الثانية للفيزياء الحديثة هي التي لعبت، إلى حد بعيد، الدورَ الأكثر أهميةً ضمن محاولات فهم المنظومة الدورية نظريًّا. وُلِدت نظرية الكم في الواقع في عام ١٩٠٠، وبدأ تطبيقها على الذرات على يد العالم الفيزيائي الدنماركي نيلز بور، الذي تتَبَّعَ الفكرةَ القائلة بأن التشابهات بين العناصر يمكن تفسيرها بأن لديها أعدادًا متساويةً من إلكترونات الغلاف الذري الخارجي، وإن تلك الفكرة بعينها عن وجود عدد معين من الإلكترونات في غلاف إلكتروني ذري تُعَدُّ في الأساس مفهومًا شبيهًا بنظرية الكم؛ إذ يُفترَض أن الإلكترونات لديها وحدات كمية (أو «عبوات») من الطاقة، وتبعًا لأعداد تلك «العبوات» من الكم التي لدى تلك الإلكترونات، فإنها تقع في غلافٍ ذريٍّ ما، أو غيره، وهي تدور حول نواة الذرة (انظر الفصل السابع).
وإثر إدخال بور نظريةَ الكم في دراسة الذرة، لم يلبث الكثيرون غيره من العلماء أن طوَّروا نظريتَه حتى تمخَّضت عن نظرية الكم القديمة نظريةٌ جديدةٌ سُمِّيَت «ميكانيكا الكم» (انظر الفصل الثامن)، وبمقتضى الوصف التفسيري الجديد تُعتبَر الإلكترونات — بدرجة كبيرة — من الموجات كما تُعتبَر من الجسيمات، والأغرب من هذا — في هذه النظرية — هي الفكرة الجديدة القائلة بأن الإلكترونات لم تَعُدْ تتبع مسارات دائرية محدودة حول النواة تُسمَّى مدارات، ولكن الوصف الجديد يغيِّر هذا المفهوم ليتحدَّث عن سُحْب إلكترونية تحيط بالنواة، وتشغل ما يُعرَف بالمدارات. وأحدث ما قُدِّم لتفسير المنظومة الدورية يتعلَّق بعدد الإلكترونات التي تشغل كلًّا من تلك المدارات، ويعتمد هذا التفسير الجديد على ترتيب الإلكترونات، أو ما يُسمَّى «التوزيع الإلكتروني» للذرة، الذي يتضح بحسب ما يتم احتلاله بالإلكترونات من مدارات تلك الذرة.
وهنا يبرز تساؤلٌ يثير الاهتمام حول ماهية العلاقة بين الكيمياء والفيزياء الذرية الحديثة، وتحديدًا ميكانيكا الكم. وجهةُ النظر القوية السائدة في أغلب الكتب الأكاديمية هي أن الكيمياء ليست سوى فيزياء «متعمقة»، وأن كل الظواهر الكيميائية، ولا سيما المنظومة الدورية، يمكن تطويرها بناءً على ميكانيكا الكم، ولكن توجد بعض المشكلات في وجهة النظر هذه سنضعها في الاعتبار؛ فعلى سبيل المثال: يَفترِض البعض أن التفسير الميكانيكي الكمي للمنظومة الدورية لا يزال بعيدًا عن الكمال، وهذا مهم لأن كتب الكيمياء، لا سيما الكتب المعنِيَّة بالتدريس، تميل لأن تعطي انطباعًا بأن تفسيرنا الحالي للمنظومة الدورية كاملٌ في الأساس، والواقع يقول غير هذا كما سنوضِّح فيما بعدُ.
يُعتبَر الجدول الدوري واحدًا من أكثر الأفكار قيمةً وتوحيدًا للآراء في العلم الحديث بكامله، وهو في هذا ربما يشبه نظرية داروين عن النشوء والارتقاء بالانتقاء الطبيعي. فبعد مسيرة من التطوُّر والارتقاء على مدى ١٥٠ عامًا تقريبًا من خلال جهود أشخاص عديدين، يبقى الجدول الدوري في قلب دراسة الكيمياء، وهذا يرجع في معظمه إلى أنه يتميَّز بفائدة عملية هائلة في إصدار توقُّعات بشأن كل ضروب الخواص الكيميائية والفيزيائية للعناصر واحتمالات تكوين الروابط؛ فبدلًا من أن يضطر الكيميائي الحديث أو طالب الكيمياء إلى تعلُّم خواص ١٠٠ أو أكثر من العناصر، يمكنه إصدار توقُّعات فعَّالة من خلال معرفة خواص عناصر نموذجية في كلٍّ من المجموعات الثماني الرئيسية، ومجموعات العناصر الانتقالية والعناصر الأرضية النادرة.
الآن وقد تم إرساء بعض الأسس الموضوعية وتعريف بعض المصطلحات الأساسية، سوف نبدأ في سَرْد قصة تَطَوُّر المنظومة الدورية الحديثة، بدءًا من مولدها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.