مندليف: العبقري الروسي
إنه ديمتري إيفانوفيتش مندليف، أشهر عالم روسي في العصر الحديث؛ فهو لم يكتشف فحسب المنظومةَ الدورية، بل أدرك أيضًا أن تلك المنظومة تشير إلى قانون عميق للطبيعة هو القانون الدوري. كما أمضى العديد من السنين محاوِلًا استنتاج ما يترتب على هذا القانون بشكل كامل، لا سيما عن طريق التنبؤ بوجود الكثير من العناصر الجديدة وبخواصها. وفضلًا عن هذا، فقد صحَّحَ الأوزانَ الذرية لبعض العناصر المعروفة بالفعل، ونجح في تغيير مواضع بعض العناصر الأخرى في الجدول الدوري.
ولكن لعل أهم شيء فعله مندليف في هذا الصدد أنه جعل الجدول الدوري مرتبطًا باسمه، وذلك بأن واصَلَ دراسته وتطويره خلال مراحل عديدة من حياته، على الرغم من أنه عمل في عدد من المجالات الأخرى الشديدة التشعُّب والتبايُن. وعلى النقيض من هذا، فإن أغلب مَن سبقوه أو عاصروه أخفقوا في متابعة اكتشافاتهم بعد بدايتها؛ ونتيجةً لهذا، ارتبَطَ اسم مندليف بالجدول الدوري برباط لا ينفصم، مثلما ترتبط نظريةُ النشوء والارتقاء عن طريق الانتقاء الطبيعي باسم داروين، ومثلما ترتبط النظرية النسبية باسم أينشتاين. ونظرًا لأهمية مندليف البالغة في قصة الجدول الدوري، سوف نخصِّص هذا الفصل بكامله لعرض جهده العلمي، فضلًا عن مراحل تطوُّره الأولى.
حين كان مندليف صبيًّا صغيرًا، أُصِيب والده، الذي كان يمتلك مصنعًا للزجاج، بالعمى ولم يلبث أن مات بعدها، تاركًا وراءه أربعة عشر من الأبناء، أصغرهم ديمتري، الذي تولَّتْ أمه الحنون تربيتَه، وكانت تحبه حبًّا جمًّا، فأصَرَّتْ على إتاحة أفضل تعليم ممكن له، ودفَعَها إصرارها هذا إلى قطع مسافات تصل إلى مئات الأميال مع ابنها الشاب في محاولةٍ فاشلةٍ ويائسة لإلحاقه بالدراسة بجامعة موسكو، وكان سبب رفض الجامعة، على ما يبدو، هو أصله السيبيري، كما كانت الجامعة لا تسمح بالدراسة فيها إلا للروس الأوروبيين. لم يفتَّ هذا في عضد والدة مندليف، فنجحتْ أخيرًا في إلحاقه بالدراسة في المعهد البيداجوجي الرئيسي بمدينة سانت بطرسبورج؛ حيث بدأ في دراسة علوم الكيمياء والفيزياء والأحياء والبيداجوجيا (علم أصول التدريس والتربية) بطبيعة الحال، وكان لهذا العلم الأخير تأثيرٌ واضح في اكتشافه فيما بعدُ للمنظومة الدورية. ولكن ما أثار الحزنَ في نفسه أن والدته تُوفِّيت بعد إلحاقه بالمعهد بوقت قصير، فلم يجد مناصًا من أن يعيل نفسه بنفسه.
بعد أن أنهى مندليف تعليمَه الجامعي، أمضى بعض الوقت في فرنسا، ثم في ألمانيا؛ حيث التحق رسميًّا بالعمل في معمل روبرت بنسن، بالرغم من أنه كان يفضِّل المكوثَ في بيته وإجراء تجاربه الخاصة على الغازات. وكانت تلك الفترة التي قضاها مندليف في ألمانيا هي التي حضر أثناءها مؤتمر كارلسروه في عام ١٨٦٠، ليس لأنه كان كيميائيًّا بارزًا، ولكن في الأساس لأنه وجد نفسه في المكان والزمان المناسبين. وعلى الرغم من أن مندليف سرعان ما أدرك قيمةَ أفكارِ كانيزارو، كما فعل لوثار ماير في هذا المؤتمر، فإن تحوُّلَ مندليف إلى استخدام الأوزان الذرية، أسوةً بكانيزارو، يبدو أنه استغرَقَ وقتًا أطول ممَّا فعل لوثار ماير.
وفي عام ١٨٦١، أخذ مندليف يبدو واعدًا ومبشرًا بأمل حقيقي، حين نشر كتابًا دراسيًّا عن الكيمياء العضوية؛ ممَّا أهَّلَه للفوز بجائزة دوميدوف المرموقة في روسيا. وفي عام ١٨٦٥ دافَعَ عن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه عن التفاعُل بين الكحول والماء، وبدأ في إعداد كتاب عن الكيمياء غير العضوية بُغْيةَ أن يحسِّن مستوى تدريس الكيمياء. وفي أول أجزاء كتابه الجديد، عالَجَ العناصرَ الأكثر شيوعًا دون ترتيب معين. وبحلول عام ١٨٦٨ كان قد أكمل هذا الجزء وشرع يفكِّر في كيفية انتقاله للعناصر الأخرى في جزء ثانٍ.
الاكتشاف الفعلي
على الرغم من أن مندليف ظل يفكر في العناصر وأوزانها الذرية وتصنيفها على مدار نحو عشر سنوات، فإنه لم يصل إلى لحظة الاستنارة، أو لنَقُلْ: «يوم الاستنارة»، إلا في يوم ١٧ فبراير ١٨٦٩؛ ففي هذا اليوم، ألغى رحلتَه المقرَّرة لزيارة مصنعٍ للجبن، باعتباره مستشارًا علميًّا، وصمَّمَ على العمل جديًّا للتوصُّل إلى ما صار أشهر بنات أفكاره؛ أَلَا وهو الجدول الدوري.
كان أول ما فعله أن كتب قائمةً برموز ثمانية عناصر، رتَّبَها في صفين، على ظهر تذكرة الدعوة إلى مصنع الجبن، على النحو التالي:
Cs | Rb | K | Na |
Cd | Zn | Mg | Be |
ثم كتب مجموعة، أكبر قليلًا، تتألف من ١٦ عنصرًا كما يلي:
I | Br | Cl | F | ||||
Ag | Cu | Cs | Rb | K | Na | ||
Cd | Zn | Ba | Sr | Ca | Mg |
وبحلول مساء نفس اليوم، كان مندليف قد كتب مسوَّدةً شملتْ جدولًا دوريًّا بكامله، تضمَّن ٦٣ عنصرًا معروفًا، وفضلًا عن هذا تضمَّن العديد من المواضع الشاغرة لعناصر لم تكن قد عُرِفت بعدُ، بل تتضمَّن أيضًا حتى الأوزان الذرية التي تنبَّأ بها لبعض هذه العناصر. طُبِعت مائتا نسخة من الجدول الأول هذا وأُرسِلت إلى الكيميائيين في أنحاء أوروبا. وفي يوم ٦ مارس من نفس العام تمَّ الإعلان عن هذا الاكتشاف من قِبَل أحد زملاء مندليف في اجتماعٍ للجمعية الكيميائية الروسية. وفي غضون شهر واحد نُشِرت عنه مقالة في مجلة هذه الجمعية التي كانت حديثة التأسيس وقتئذٍ، كما نُشِرت مقالة أخرى أطول في ألمانيا.
يَزْعم الكثير من الكتب الشائعة والبرامج الوثائقية عن مندليف أنه توصَّل إلى جدوله الدوري هذا في أثناء حلم له، أو بينما كان يضع بطاقات لكلٍّ من العناصر أمامه ويرتبها كأنه يلعب لعبة سوليتير. وهذه الرواية الثانية تُعَدُّ الآن من الروايات التي اختلقها بعض رواة سيرة حياة مندليف كالمؤرخ العلمي مايكل جوردين.
لنَعُدِ الآن إلى أسلوب مندليف العلمي؛ إذ يبدو أنه اختلف كثيرًا عن منافسه لوثار ماير في كونه لم يؤمن بوحدة المادة كلها، وبالمثل لم يكن يدعم فرضية براوت عن الطبيعة المركبة لجميع العناصر. كما حرص مندليف على أن ينأى بنفسه عن فكرة ثلاثيات العناصر؛ فعلى سبيل المثال: اقترَحَ وضع عنصر الفلور في مجموعة واحدة مع الكلور والبروم واليود، حتى إن كان هذا سيترتب عليه تجاوُز مفهوم الثلاثية لتشكيل مجموعة تتألَّف من أربعة عناصر على الأقل.
وبينما ركَّز لوثار ماير على المبادئ الفيزيائية، وبالأساس على الخواص الفيزيائية للعناصر، كان مندليف يَأْلَف خواصها الكيميائية. من ناحية أخرى، حين تعين على مندليف أن يحدد أهم معيار لتصنيف العناصر، أصرَّ على أن ترتيب العناصر بحسب أوزانها الذرية لا يحتمل أي استثناءات. وبطبيعة الحال، أدرك كثير من السابقين على مندليف، مثل دو شانكورتوا ونيولاندز وأودلنج ولوثار ماير، أهميةَ ترتيبِ العناصر على أساس الوزن الذري ولكن بدرجات متفاوتة. إلا أن مندليف وصل أيضًا إلى فهم فلسفي أعمق للأوزان الذرية ولطبيعة العناصر، مما أتاح له أن ينتقل إلى منطقة مجهولة فيما يتعلَّق بعناصر لم تزل مجهولة.
طبيعة العناصر
حين أحدث أنطوان لافوازييه ثورةً في الكيمياء في أواخر القرن السابع عشر، كان أحدَ إسهاماته تركيزُ الاهتمام على العنصر كمادة بسيطة؛ أيِ العنصر في صورة معزولة، وكان الهدف من هذا أن يحسِّن علم الكيمياء بتخليصه مما يحمله من أعباء ميتافيزيقية زائدة، وكانت بالفعل خطوة كبيرة للأمام؛ فصار الآن يتعيَّن اعتبار العنصر أساسًا الخطوةَ النهائية في فصل مكونات أي مركب، فهل قصد لافوازييه أن ينحِّي جانبًا المعنى الأكثر تجريديةً وفلسفيةً للعنصر؟ هذه نقطة نقاش ونظر، ولكن من المؤكد أن هذا المعنى بدأ يتراجع وراء معنى العنصر الذي يمكن فصله.
ومع ذلك، لم ينسَ علماء الكيمياء المعنى الأكثرَ تجريديةً للعنصر تمامًا. كان مندليف أحد أولئك الذين لم يفهموا هذا المعنى فحسب، بل أخذوا على عاتقهم أن يُعلوا من شأنه. في واقع الأمر، صرَّح مندليف مرارًا وتكرارًا أن المنظومة الدورية تُعَدُّ في الأساس تصنيفًا لهذا المعنى الأكثر تجريديةً للفظ «العنصر»، وليس بالضرورة العنصر الأكثر ماديةً الذي يمكن فصله.
السبب الذي دعاني إلى إثارة هذه القضية هو أن مندليف حين تسلَّح بهذه الفكرة، استطاع أن يحظى بوجهة نظر أعمق من الكيميائيين الذين حصروا أنفسهم في العناصر التي في صورة معزولة؛ فهذا الأمر منح مندليف احتمالية أن يذهب إلى ما وراء المظاهر السطحية، فإذا لم يظهر على عنصر معين أنه ملائم داخل مجموعة معينة، فبإمكان مندليف أن يعوِّل على المعنى الأكثر عمقًا للفظ «العنصر»؛ ومن ثَمَّ فبإمكانه إلى حدٍّ ما أن يتجاهل الخواص الظاهرية للعنصر كمادة معزولة أو بسيطة.
تنبُّؤات مندليف
أحد الانتصارات الكبرى التي أحرزها مندليف — وربما أكثر ما يُذكَر به — هو تنبُّؤه الصحيح بوجود عدد من العناصر الجديدة. وإضافةً إلى هذا، فقد صحَّح الأوزانَ الذرية لبعض العناصر، فضلًا عن ترحيل عناصر أخرى إلى مواضع جديدة داخل الجدول الدوري. وكما أشرتُ في القسم السابق، فإن بُعْد نظره هذا قد يكون نتيجةً لتمتُّعه بفهم فلسفي لطبيعة العناصر يفوق منافسيه؛ فعن طريق التركيز على المفهوم الأكثر تجريديةً للعناصر، تمكَّنَ مندليف من التغلب على العقبات الظاهرة التي نشأت عن اتخاذ خواص العناصر المعزولة كقيمة ظاهرية.
لقد تمسَّك مندليف بمعياره الخاص بالترتيب بحسب تزايد الوزن الذري، وقرَّرَ بشكل متكرِّر أن هذا المبدأ لا يحتمل أي استثناءات. كانت فكرته فيما يتعلَّق بالتيلوريوم واليود — إلى حدٍّ ما — تتمثَّل في أن الوزن الذري لأحد هذين العنصرين أو كلَيْهما كان قد تَحدَّد على نحوٍ غير صحيح، وأن البحث العلمي في المستقبل سوف يكشف عن أنه، حتى على أساس الترتيب بالوزن الذري، يجب أن يُوضَع التيلوريوم قبل اليود. وفيما يختصُّ بهذه النقطة، كما حدث في حالات كثيرة مرَّتْ دون الانتباه إليها، نقول إن مندليف كان مخطئًا.
ففي الوقت الذي تَقدَّم فيه مندليف بباكورة أنظمته الدورية، كان من المعتقد أن الوزنين الذريين للتيلوريوم واليود هما ١٢٨ و١٢٧ على الترتيب. وكان اعتقاد مندليف بأن الوزن الذري هو المبدأ الترتيبي الأساسي للعناصر يعني أنه ليس لديه خيار سوى أن يشك في دقة هاتين القيمتين؛ ذلك لأنه كان من الواضح، فيما يتعلَّق بأوجه التشابه الكيميائي، أنه من الواجب أن يُوضَع التيلوريوم جنبًا إلى جنب مع عناصر المجموعة ٦، واليود مع عناصر المجموعة ٧، أو بتعبير آخَر، أن هذين العنصرين يجب عكسهما. واستمر مندليف في التساؤل عن موثوقية هذين الوزنين الذريين حتى نهاية حياته.
في بداية الأمر، كان مندليف يشك في صحة الوزن الذري للتيلوريوم، بينما يؤمن أن وزن اليود صحيح بالضرورة، وبدأ مندليف يضع التيلوريوم باعتبار أن وزنه الذري ١٢٥ في بعض جداوله الدورية التالية، بل إنه في وقتٍ ما زعم أن القيمة التي شاع ذكرها، وهي ١٢٨، حُدِّدت على أساس تجارب أُجرِيت على خليط من التيلوريوم وعنصر جديد أطلق عليه اسم «إيكا-تيلوريوم». وهذه المزاعم حفَّزت كيميائيًّا تشيكيًّا يُدعَى بوهوسلاف براونر لأنْ يبدأ سلسلةً من التجارب في مستهلِّ ثمانينيات القرن التاسع عشر، تهدف إلى إعادة تحديد الوزن الذري للتيلوريوم. وبحلول عام ١٨٨٣ صرَّحَ بأن القيمة التي تخص التيلوريوم يجب أن تكون ١٢٥، وأُرسِلت إلى مندليف برقية من مشاركين آخَرين كانوا حاضرين للاجتماع الذي أدلى فيه براونر بهذا التصريح. وفي عام ١٨٨٩ حصل براونر على نتائج جديدة تزيد على ما يبدو من أرجحية النتيجة السابقة بأن الوزن الذري للتيلوريوم = ١٢٥.
ولكن في عام ١٨٩٥ تغيَّرَ كل شيء؛ إذ بدأ براونر نفسه يعلن عن قيمة جديدة للتيلوريوم كانت أكبر من القيمة التي تخص اليود، وهكذا عادت الأمور إلى نقطة البداية الأولى. كان ردُّ فعل مندليف حينئذٍ أن بدأ يرتاب في دقة الوزن الذري المتَّفَق عليه لليود بدلًا من التيلوريوم؛ ففي هذه المرة طلب إعادةَ تقييمٍ للوزن الذري لليود، آملًا أن يَثبُت أن قيمته أكبر. بل إن مندليف في بعض جداوله الدورية التالية وضع التيلوريوم واليود باعتبار أن كلَيْهما وزنه الذري ١٢٧، ولم تُحَلَّ هذه المشكلة إلى أن أظهر بحثٌ أجراه هنري موزلي في عامَيْ ١٩١٣ و١٩١٤ أن العناصر يجب أن تُرتَّب بحسب العدد الذري وليس الوزن الذري، فإذا كان الوزن الذري للتيلوريوم أعلى من الوزن الذري لليود، فإن عدده الذري أقل؛ ولهذا وجب أن يُوضَع قبل اليود بما يتفق تمامًا مع سلوكه الكيميائي.
وفي خريف عام ١٨٧٠، بدأ مندليف يتفكَّر في وجود عنصر ثالث يقع أسفل البورون في الجدول، وحدَّد الأحجام الذرية للعناصر الثلاثة كما يلي:
إيكا-بورون | إيكا-ألومنيوم | إيكا-سيليكون |
١٥ | ١١٫٥ | ١٣ |
وفي عام ١٨٧١ تنبَّأ بأوزانها الذرية كما يلي:
إيكا-بورون | إيكا-ألومنيوم | إيكا-سيليكون |
٤٤ | ٦٨ | ٧٢ |
وأعطى مجموعة تفصيلية من التنبؤات عن خواص كيميائية وفيزيائية مختلفة للعناصر الثلاثة كلها.
الخاصية | إيكا-سيليكون تُنبِّئَ به عام ١٨٧١ | الجرمانيوم المُكتشَف عام ١٨٨٦ |
---|---|---|
الكتلة الذرية النسبية | ٧٢ | ٧٢٫٣٢ |
الثقل النوعي | ٥٫٥ | ٥٫٤٧ |
الحرارة النوعية | ٠٫٠٧٣ | ٠٫٠٧٦ |
الحجم الذري | ١٣سم٣ | ١٣٫٢٢سم٣ |
اللون | رمادي داكن | رمادي فاتح |
الثقل النوعي لثاني الأكسيد | ٤٫٧ | ٤٫٧٠٣ |
نقطة غليان رباعي الكلوريد | ١٠٠ سليزية | ٨٦ سليزية |
الثقل النوعي لرباعي الكلوريد | ١٫٩ | ١٫٨٨٧ |
نقطة غليان رباعي الإيثيل المشتق | ١٦٠ سليزية | ١٦٠ سليزية |
تنبؤات مندليف التي لم تُصِب
العنصر كما سمَّاه مندليف | وزنه الذري الذي تنبَّأ به | وزنه الذري المحدَّد بعد اكتشافه (إن وُجِد) | اسمه بعد اكتشافه (إن وُجِد) |
---|---|---|---|
الكورونيوم | ٠٫٤ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
الإيثر | ٠٫١٧ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
إيكا-بورون | ٤٤ | ٤٤٫٦ | السكانديوم |
إيكا-سيريوم | ٥٤ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
إيكا-ألومنيوم | ٦٨ | ٦٩٫٢ | الجاليوم |
إيكا-سيليكون | ٧٢ | ٧٢ | الجرمانيوم |
إيكا-منجنيز | ١٠٠ | ٩٩ | التكنيشيوم (١٩٣٩) |
إيكا-موليبدينوم | ١٤٠ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
إيكا-نيوبيوم | ١٤٦ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
إيكا-كادميوم | ١٥٥ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
إيكا-يود | ١٧٠ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
إيكا-سيزيوم | ١٧٥ | لم يُكتشَف | لم يُكتشَف |
تري-منجنيز | ١٩٠ | ١٨٦ | الرينيوم (١٩٢٥) |
دفي-تيلوريوم | ٢١٢ | ٢١٠ | البولونيوم (١٨٩٨) |
دفي-سيزيوم | ٢٢٠ | ٢٢٣ | الفرنسيوم (١٩٣٩) |
إيكا-تانتالوم | ٢٣٥ | ٢٣١ | البروتاكتينيوم (١٩١٧) |
فضلًا عن هذا، أثارت تنبؤات مندليف التي لم تُصِب قضيةً فلسفية أخرى؛ فعلى مدى زمن طويل، تجادَلَ مؤرخو العلوم وفلاسفتها فيما إذا كانت التنبؤات الناجحة التي أُعلِن عنها في مسار التطورات العلمية، يجب اعتبارها في مرتبة أعلى أم أقل من الاستيعاب الناجح للمعطيات المعروفة بالفعل. بالطبع لا مراء في حقيقة أن التنبؤات الناجحة تعطي تأثيرًا نفسيًّا أكبر؛ إذ تكاد تدل ضمنيًّا على أن رجل العلم الذي نحن بصدده يمكنه أن يتنبَّأ بالمستقبل. ولكن الاستيعاب أو التفسير الناجح للمعطيات المعروفة سلفًا هو عملٌ فذٌّ كذلك، لا سيما وأنه غالبًا ما يتاح المزيد من المعلومات المعروفة سلفًا لإدخالها ضمن نظرية علمية جديدة. وكان هذا بصفة خاصة هو الحال مع مندليف والجدول الدوري؛ إذ تعيَّن عليه أن ينجح في تحديد مواضع ٦٣ عنصرًا معروفًا ضمن منظومة مترابطة تمامًا.
في زمن اكتشاف الجدول الدوري، لم تكن منظومة منح جوائز نوبل قد تأسَّست بعدُ، ولكن كانت توجد جوائز ومكافآت أخرى، من أهمها «وسام ديفي» الذي تقدِّمه جمعية الكيمياء الملكية في بريطانيا، وسُمِّي بهذا الاسم تبعًا للكيميائي همفري ديفي. وفي عام ١٨٨٢ مُنِح «وسام ديفي» بالمشاركة إلى لوثار ماير ومندليف. وهذا يوحي — على ما يبدو — بأن الكيميائيين مقدمي الجائزة لم يتأثَّروا كثيرًا بتنبُّؤات مندليف الناجحة؛ إذ كانوا راغبين في الاحتفاء بلوثار ماير الذي لم يقدِّم أيَّ تنبؤات. وفضلًا عن هذا، فإن المقالة التفصيلية المصاحبة للجائزة المقدَّمة للوثار ماير ومندليف لم تذكر شيئًا على الإطلاق عن تنبُّؤات مندليف الناجحة. ويبدو على الأرجح أن تلك العصبة من الكيميائيين البريطانيين البارزين لم تتأثَّر نفوسهم بالتأثير النفسي للتنبؤات الناجحة، ولم يضعوها في مرتبة أرقى من قدرة المرء ونجاحه في وضع العناصر المعروفة في مواضعها الصحيحة بالجدول الدوري.
الغازات الخاملة
كان أول ما تم فصله منها هو الأرجون، في عام ١٨٩٤ بكلية لندن الجامعية. وخلافًا للكثير من العناصر التي سبقت مناقشتها، فقد «تآمرت» بعض العوامل وتضافرت لجعل عملية استيعاب هذا العنصر في الجدول مهمة شاقة وعسيرة. ولم تتخذ الغازات الخاملة موضعَها كمجموعة ثامنة بين الهالوجينات والفلزات القلوية إلا بعد مرور ست سنوات.
كانت هناك فجوة أكبر بين الكلور (٣٥٫٥) والبوتاسيوم (٣٩)، ولكن وضع الأرجون فيما بين هذين العنصرين يَنتج عنه حالة انعكاسٍ زوجي مقحمة نوعًا ما؛ إذ يجب أن نتذكر أنه في ذلك الوقت لم تكن توجد حالاتُ انعكاسٍ زوجي لأوضاع العناصر في الجدول سوى حالة واحدة فقط، تشمل عنصرَي التيلوريوم واليود، وكان هذا السلوك يُعتبَر شاذًّا بدرجة كبيرة، وقد استنتج مندليف أن الانعكاس الزوجي للتيلوريوم واليود ناتج عن تقدير خاطئ للوزن الذري للتيلوريوم أو لليود أو ربما لكلا العنصرين.
إلا أن هناك وجهًا آخَر غير عادي لعنصر الأرجون، هو خموله الكيميائي التام؛ بما يعني أن «مركباته» لا يمكن دراستها لسبب بسيط هو أنه لا يكوِّن أيَّ مركبات. وقد زعم بعض الباحثين أن خمول هذا الغاز يعني أنه ليس عنصرًا كيميائيًّا حقيقيًّا، ولو كان هذا الزعم صحيحًا لكان من السهل الخروج من مأزق الحيرة بشأن وضع هذا العنصر في الجدول؛ إذ لن تكون هناك حاجة لوضعه في أي موضع.
ولكن الكثيرين من العلماء الآخرين صمدوا في محاولتهم وضع العنصر في الجدول الدوري؛ إذ كان وضعُ الأرجون ضمن منظومة الجدول الدوري هدفَ الاجتماع العام للجمعية الملكية في عام ١٨٨٥، الذي حضره الرواد من الكيميائيين والفيزيائيين في ذلك الوقت. وقد جادل مكتشِفَا الأرجون؛ رايلي وَرامزي، قائلين إن عنصر الأرجون على الأرجح أحاديُّ الذرة، ولكنهما اعترفا بعدم قدرتهما على تأكيد هذا الأمر، كما أنهما لم يستطيعا التيقُّن من أن هذا الغاز المحيِّر ليس خليطًا، فلو كان خليطًا فلربما كان هذا يعني أن وزنه الذري في الواقع ليس ٤٠. وقدَّمَ ويليام كروكس بعضَ الأدلة التي تدعم دقة تحديد نقطتَيْ غليان وانصهار الأرجون؛ مما يشير إلى أنه عنصر واحد وليس خليطًا. كما أدلى هنري أرمسترونج — وهو من روَّاد الكيمياء — بدَلْوِه قائلًا إن الأرجون ربما يسلك سلوك النيتروجين من حيث إنه يشكِّل جزيئًا خاملًا ثنائيَّ الذرة، على الرغم من أن كلًّا من ذرتَيْه قد تكون شديدة التفاعل.
ثم تدخل فيزيائي يُدعَى آرثر ويليام راكر قائلًا إن الوزن الذري الذي يساوي ٤٠ تقريبًا قد يكون صحيحًا، وإنه لو تعذَّر وضْعُ هذا العنصر ضمن الجدول الدوري، فإن المشكلة تكون في الجدول ذاته. وهذا التعليق يثير الاهتمام؛ لأنه يُظهِر أنه حتى بعد مرور ١٦ عامًا على نشر جدول مندليف الدوري، وبعد إنجازه لتنبُّؤاته الثلاثة الشهيرة، لم يتحقَّق إجماعٌ عام على الصلاحية التامة للمنظومة الدورية.
ومن ثَمَّ كانت النتائج التي توصَّلَ إليها اجتماع الجمعية الملكية غير حاسمة، إلى حدٍّ ما، بشأن مصير عنصر الأرجون الجديد، أو حتى بشأن ما إذا كان يجب اعتباره عنصرًا جديدًا. بل إن مندليف نفسه، الذي لم يحضر هذا الاجتماع، نشر مقالة في مجلة «نيتشر» اللندنية، وفيها استنتج أن الأرجون هو في الواقع ثلاثيُّ الذرة، وأن كل جزيء منه يتكوَّن من ثلاث ذرات من النيتروجين. وقد بُنِي هذا الاستنتاج على حقيقة أن الوزن الذري المفترض، وهو ٤٠، إذا قسمناه على ٣ يكون الناتج ١٣٫٣ تقريبًا، الذي لا يبعد كثيرًا عن الرقم ١٤، وهو الوزن الذري للنيتروجين. وبالإضافة إلى هذا، فإن الأرجون كان قد اكتُشِف من خلال تجارب أُجرِيت على غاز النيتروجين؛ مما جعل فكرة أنه ثلاثي الذرة أكثر قبولًا لديه واستحسانًا.
لقد كان هذا الأمر بالغَ الأهمية له [أيْ لرامزي] كتأكيدٍ لموضع العناصر المكتشَفة حديثًا، ولي أيضًا كتأكيدٍ رائع لقابلية القانون الدوري للتطبيق بصفة عامة.
وبذلك لم تكن الغازات الخاملة مهدِّدةً للجدول الدوري، بل إن اكتشافها وإسكانها بنجاح في هذا الجدول قد ساعَدَ بالأحرى على إبراز ما تتمتَّع به منظومةُ مندليف الدورية من قوةٍ كبيرة وعمومية واسعة.