ميكانيكا الكم
ناقَشَ الفصل السابق تأثيرَ نظرية الكم المبكرة، لا سيما نظرية بور، على شرح الجدول الدوري، وقد تُوِّج هذا الشرح بمساهمة من باولي، وهي إدخاله لعدد كمي رابع، ولمبدأ الاستبعاد الذي يحمل اسمه في الوقت الحاضر. ثم صار من الممكن تفسير السبب في أن كل غلاف حول الذرة يمكن أن يحتوي على عدد معين من الإلكترونات (٢ في الغلاف الأول، و٨ في الغلاف الثاني، و١٨ في الغلاف الثالث … إلخ). فإذا افترضنا النظامَ الصحيح لملء المدارات ضمن هذه الأغلفة، فبإمكاننا حينئذٍ أن نفسر حقيقة أن أطوال الدورات هي في الواقع: ٢، و٨، و٨، و١٨، و١٨ … إلخ. ولكن أي تفسير ذي قيمة للجدول الدوري يجب أن يكون قادرًا على اشتقاق هذه القِيَم المتتابعة من مبادئ أولية، دون افتراض النظام المرصود لملء الدورات.
ومن ثَمَّ كانت نظرية الكم التي أبدعها بور، حتى بعد تعزيزها بإسهامات من باولي، مجرد خطوة نحو نظرية أكثر تقدُّمًا. إن النسخة التي أخرجها بور وباولي تُسمَّى عادةً نظرية الكم، وأحيانًا تُسمَّى نظرية الكم القديمة؛ تمييزًا لها عن التطور التالي الذي حدث في عامَيْ ١٩٢٥ و١٩٢٦، وهو ما صار يُعرَف باسم «ميكانيكا الكم». إن استخدام كلمة «نظرية» للدلالة على النسخة القديمة أمرٌ غير موفَّق إلى حدٍّ ما؛ لأنه يدعم المفهوم الخاطئ الشائع الذي يزعم أن النظرية شيء غامض واهٍ بعض الشيء، وتحتاج لأن تتطوَّر لتصير قانونًا أو شيئًا آخَر أكثر قوةً وصلابةً في عالَم المعرفة.
ولكن النظرية في عالَم العلوم هي كمٌّ معرفي مدعوم بقوة، وإن لم يتم إثباته فقد يكون في مستوًى أرقى من قوانين علمية؛ فقوانين كثيرة مختلفة غالبًا ما ترتدي عباءة نظرية مهيمنة عليها؛ ومن ثَمَّ تُعتبَر ميكانيكا الكم، تلك النظرية الحديثة، «نظريةً» بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معنًى، مثل سابقتها نظرية الكم القديمة التي توصَّل إليها بور، حتى إنْ كانت أكثر عموميةً ونجاحًا.
إلا أن نظرية الكم القديمة تلك لها مثالب عدة، ومنها حقيقة أنها لا يمكنها أن تفسر الارتباط الكيميائي، ولكن كل هذا تغيَّرَ بعد مجيء ميكانيكا الكم؛ ومن ثَمَّ صار ممكنًا الذهاب لأبعد من تلك الفكرة البدائية التي خطرتْ ببال جي إن لويس، والقائلة إن الارتباط الكيميائي ناتجٌ عن مجرد تشارُك الإلكترونات بين ذرتين وأكثر في جزيءٍ ما. فتبعًا لميكانيكا الكم، تسلك الإلكترونات سلوكَ الموجات بقدرِ ما تسلك سلوكَ الجسيمات. وقد استطاع العالِمُ النمساوي إرفين شرودنجر، عن طريق كتابة معادلة موجية لحركة الإلكترونات حول النواة، أن يتقدَّم بخطوة قوية إلى الأمام. وتمثِّل حلولُ معادلة شرودنجر، التي يوجد منها الكثير، حالاتِ الكم الممكنة التي يمكن أن تجد الإلكترونات أنفسها فيها في ذرةٍ ما. وبعد ذلك بقليل، استحدث عالمان فيزيائيان هما هوند وموليكن، كلٌّ منهما على حدة، النظريةَ المدارية الجزيئية التي وُجِد فيها أن الارتباط الكيميائي يحدث نتيجةً لتداخُل بنَّاء وهدَّام بين موجات إلكترونية لكل ذرة في أحد الجزيئات.
ومن ثَمَّ فإن طاقات حالات الكم بالنسبة إلى أي ذرة متعددة الإلكترونات، يمكن حسابها تقريبيًّا من مبادئ أولية، على الرغم من وجود اتفاقٍ جيد للغاية مع قِيَم الطاقة المرصودة. ومع ذلك، ما زال بعضٌ من الجوانب الشاملة من الجدول الدوري غيرَ مشتقٍّ من مبادئ أولية حتى يومنا هذا. ويُعَدُّ نظامُ ملء المدارات الذي ذكرناه آنفًا مثالًا على ذلك.
… إلخ.
لكي نجيب عن هذا السؤال، يلزمنا أن ننقب قليلًا في عمق الفارق بين النظريتين، ولعل أفضل شيء نبدأ به هو مناقشة مختصرة لطبيعة الموجات، فكثيرٌ من الظواهر في علم الفيزياء تبرز في صورة موجات؛ فالضوء ينتقل كموجات ضوئية، والصوت كموجات صوتية. وإذا ألقيت حجرًا في الماء تتكوَّن سلسلة من التموجات أو الموجات المائية التي تترقرق وتتشعَّب في شكل حلقات من النقطة التي دخل الحجر فيها الماء. وهناك ظاهرتان مثيرتان للاهتمام تُصاحِبان هذه الأنواع الثلاثة من الموجات، بل الموجات من أي نوع بالفعل؛ أولى هاتين الظاهرتين أن الموجات تُبدِي تأثيرًا يُسمَّى «الحيود»، الذي يصف الطريقة التي تميل الموجةُ بها للانتشار حين تمر من خلال فتحة ضيقة أو حول عائقٍ ما.
والظاهرة الأخرى أنه إذا وصلتْ موجتان (أو أكثر) معًا إلى حاجزٍ ما، فسيُقال إنهما «داخل الطور»، ويحدثان تأثيرًا يُسمَّى «التداخل البنَّاء» الذي يؤدِّي إلى زيادة إجمالية في الشدة إضافةً إلى شدتَي الموجتين المنفصلتين. وعلى العكس من هذا، إذا وصلتْ موجتان (أو أكثر) إلى حاجزٍ ما بطريقة «خارج الطور»، فإنهما تحدثان تداخلًا هدَّامًا، وتكون نتيجته إنقاص الشدة الموجية أو إبطالها. في بدايات عقد العشرينيات من القرن العشرين، ولأسباب لا مجالَ لذِكْرها هنا، خمَّن بعض العلماء أن الجسيمات المتناهية الصغر كالإلكترونات ربما تسلك سلوكَ الموجات تحت ظروف معينة. وكانت هذه الفكرة باختصار، في اتجاه عكسي منطقي لأبحاث أينشتاين في التأثير الكهروضوئي؛ التي توصَّلَ من خلالها إلى أن موجات الضوء تسلك أيضًا سلوكَ الجسيمات.
ولكي نختبر ما إذا كانت الجسيمات، مثل الإلكترونات، تسلك حقًّا سلوكَ الموجات، صار لزامًا علينا أن نرى ما إذا كانت الإلكترونات قد تُحدِث أيضًا تأثيرَي الحيود والتداخُل كاللذين تُحدِثهما جميع الأنواع الأخرى من الموجات. ومما يثير الدهشة على ما يبدو أن تلك التجارب نجحت وتم إثبات الطبيعة الموجية للإلكترونات بصفة نهائية حاسمة. فضلًا عن هذا، وُجِد أننا إذا سلَّطنا حزمةً من الإلكترونات على بلورة واحدة من النيكل الفلزي، فإنها تُحدِث سلسلةً من الحلقات المتراكزة؛ بمعنى أنه يتكوَّن نمط من الحيود نتيجةً لموجات الإلكترونات التي تنتشر حول البلورة ولا ترتدُّ عنها فحسب.
من هذا المنطلق، تعيَّن أن يُنظَر إلى الإلكترونات وغيرها من الجسيمات الأساسية على أنها تمتلك نوعًا من الطبيعة الفصامية؛ إذ تسلك سلوك الجسيمات والموجات. وبتحديدٍ أكثر، فإن الأخبار القائلة بأن الإلكترونات تسلك سلوكَ الموجات سرعان ما وصلتْ إلى المجتمع الأوسع من الفيزيائيين النظريين، وفيهم إرفين شرودنجر، ذلك الفيزيائي النظري النمساوي الذي شرع في استخدام التقنيات الرياضية التي استُخدِمت كثيرًا لصياغة نماذج للموجات، من أجل وصف سلوك الإلكترون الذي في ذرة الهيدروجين. كان أول افتراضاته أن الإلكترونات تسلك سلوك الموجات، وثانيها أن الطاقة الكامنة في الإلكترون هي نفسها طاقة انجذابه للنواة. وقد حلَّ شرودنجر معادلته بأنْ فَعَل ما يفعله الفيزيائيون الرياضيون دائمًا عند محاولتهم حلَّ معادلات تفاضُلية من هذا النوع؛ إذ يفرضون شروطًا حدِّيَّة.
من الناحية الرياضية، فضلًا عن الناحية الفيزيائية، فإن ما حدث هو أنَّ فرض شروط حديَّة (نقطتا التثبيت في حالة الجيتار الوتري) نتجت عنه مجموعةٌ من الحركات التي تتميَّز بأعداد صحيحة؛ وهذا لا يعدل شيئًا سوى صفة الكَمية، أو الاقتصار على مضاعفاتٍ لأعداد صحيحة بقيمةٍ ما. وعلى سبيل المناظرة، أقول إن شرودنجر حين طبَّق تلك الشروط الحدية الرياضية على معادلته، تَبيَّنَ أن الطاقات التي حسبها للإلكترون كمية، وهو أمر كان بور قد أُجبِر على إدخاله خلسةً إلى معادلاته من البداية. وفي حالة شرودنجر، هناك تحسُّن جوهري يتمثَّل في أنه نجح في اشتقاق صفة الكمية للطاقة بدلًا من مجرد إدخالها بشكل مصطنع؛ وهذه علامة على معالجة أعمق تبرز فيها صفة الكمية كوجه طبيعي للنظرية.
تفترض هذه المعادلة أنه لزامًا علينا أن نهجر المفهوم الشائع بأن أي جسيم (مثل الإلكترون) له موضع وزخم محدَّدان تمامًا. وما تقول به علاقة هايزنبرج هذه هو أننا كلما حدَّدنا بدقة موضعَ الإلكترون، قلَّتْ قدرتنا على تحديد زخمه بدقة، والعكس بالعكس. ويكون الأمر كأن حركة الجسيمات تتخذ طبيعة غامضة أو غير مؤكدة. وفي حين اشتمل نموذج بور على مدارات محددة للإلكترونات تدور حول نواة الذرة مثل مدارات الكواكب، فإن وجهة النظر الجديدة في ميكانيكا الكم تتمثَّل في أننا قد نتوقَّف عن الحديث عن مدارات محدَّدة للإلكترونات. بدلًا من ذلك، تعود النظرية إلى الحديث من منظور الاحتمالات لا اليقين. وعندما يتم الجمع بين هذه النظرة الجديدة والفكرة القائلة بأن الإلكترونات هي موجات، فإن الصورة الناتجة تكون مختلفةً جذريًّا عن نموذج بور.
والآن لنفكِّر في الصورة الأوسع نطاقًا في شأن نظرية الكم وميكانيكا الكم والجدول الدوري. كما رأينا في الفصل السابع، فإن إدخال بور في الأصل للمفهوم الكمي في دراسة البنية الذرية كان قد تم على أساس ذرة الهيدروجين، ولكن في نفس مجموعة أبحاثه الأصلية بدأ في شرح تكوين الجدول الدوري، بافتراض أن طبيعة الكم في الطاقة تحدث أيضًا في كثيرٍ من الذرات المتعددة الإلكترونات. وما تم تبعًا لذلك من إدخالٍ لثلاثة أعداد كمية أخرى، إضافةً إلى العدد الكمي الأول لبور، كان أيضًا بغرض شرحٍ أفضل للجدول الدوري. وحتى قبل دخول بور في خضم مفاهيم الكم، كان رائدُ علم الفيزياء الذرية في زمانه؛ جيه جيه طومسون، قد بدأ بالتأمُّل في ترتيبات الإلكترونات في الذرات المختلفة، تلك الذرات التي تشكِّل الجدول الدوري.
وهكذا عمل الجدول الدوري كأساس اختباري لنظريات الفيزياء الذرية، ولكثير من الجوانب المبكرة لنظرية الكم وميكانيكا الكم التي تبعتها. والموقفُ الحالي اليومَ هو أن الكيمياء، ولا سيما الجدول الدوري، تُعتبَر مُفسَّرة تمامًا من قِبَل ميكانيكا الكم. وحتى لو كان هذا غير صحيح تمامًا، فإن الدور التفسيري الذي تستمر تلك النظريةُ في لعبه لا يمكن إنكاره. ولكن ما يبدو منسيًّا في مناخ الاختزالية السائد هو أن الجدول الدوري أدَّى إلى نشوء الكثير من أوجه ميكانيكا الكم الحديثة وتطوُّرها؛ ومن ثَمَّ فإن مِن قِصَر النظر أن يصرَّ البعض على أن ميكانيكا الكم تفسِّر فقط الجدول الدوري.