كلمة عن كلمة
يُسمى سن ياتسن بأبي الصين.
ويحق لأبناء الصين الحديثة أن يلقبوه بهذا اللقب؛ لأنه في الحق قد ولد الصين ولادة جديدة، فهو أب لها بكل معاني الأبوة الروحية.
ومن فضول القول أن نقول: إن الولادة الروحية هي ولادة فكرة، ولعلها فكرة واحدة تنطوي فيها جميع الأفكار.
وفكرة سن ياتسن التي ولَّد بها الأمة الصينية مولدًا جديدًا هي هذه الكلمة التي جعلناها عنوان الكتاب.
هي: ما أسهل العمل، وما أصعب الفهم.
أو هي في صيغة أخرى من صيغها إن العمل سهل، وأما الصعب فهو فهم ما تعمل.
كانت الصين كلها تقول غير هذا قبل قيام هذا الزعيم بدعوته.
كانت تقول نقيض هذا من طرف إلى طرف، فالصعب عندها هو العمل، والسهل عندها هو الفهم، وما يتبعه من شروح.
وكانت حكمتها الخالدة: ما أسهل الفهم وما أصعب العمل، أو ما أسهل الكلمات وما أصعب الأعمال.
ومن الكلمات ما يلخص حضارة كاملة.
وأصدق ما يكون ذلك على الحضارة الصينية: تلك الحضارة التي قامت على تقديس الأسلاف وتوارث الحكم من أفواههم أحقابًا أحقابًا، وأعقابًا بعد أعقاب.
وقد تلخصت حضارة الصين كلها في طلب المعرفة.
وتلخصت المعرفة كلها عندهم في طلب الدعة، فلا شيء أدل على الحكمة وعلى المعرفة من إعفاء النفس من الجهد الذي لا يجدي، وأي جهد يجدي في عالم لا يتغير ولم يتغير منذ ألوف السنين: حرب بعد حرب، وعرش يسقط وعرش يقوم، وحال تتداولها الأيام على وتيرة واحدة، وشرور معروفة تذهب وتعود، وعمل معروف النتيجة آخر المطاف، ونتيجة الأمس هي نتيجة اليوم ونتيجة الغد، ووراءك الماضي مكشوف للنظر إن كان المستقبل أمامك غير مكشوف.
ولقي أبو الصين العنت الأكبر من تلك الحكمة الموروثة، حكمة الإيمان بصعوبة العمل وقلة جدواه؛ فكلهم يقول إذا لقيهم شارحًا لهم مصائب وطنهم: نحن نفهم ما تفهم يا صاح، نحن نود أن نعمل لو تيسر العمل، ولو كان بالعمل جدوى، ولو كان كل ما هنالك أننا نفهم مصائب هذا الوطن المسكين.
إليك عنا يا صاح: ما أسهل الكلمات وما أصعب الأعمال.
فلما جاهد الرجل جهاده كانت علامة نجاحه الأولي، بل علامة نجاحه الكبرى، أنه وجد من الأعوان أناسًا يؤمنون بسهولة العمل متى فهموا ما ينبغي أن يعملوا، ثم عمل شيئًا ولا شك، وإن لم يعمل كل شيء، ولكن الذي عمله لم يكن إليه سبيل لو ظل الناس يرددون حكمتهم القديمة في الفهم اليسير والعمل العسير.
وأسهب الرجل غاية الإسهاب في الفهم، أسهب غاية الإسهاب، وفصَّل غاية التفصيل، ووهم من يسمعه أو يقرؤه أنه لا يحسن إلا أن يفهم ويعين التفهيم، وأنه غارق في الأحلام، غارق في بحار من الكلام، وهكذا وصفه الذين عاهدوا أنفسهم ليصغرن كل كبير من بعض نواحيه، فعابوه بأنه «حالم» … ولو أنهم بحثوا عن عظمة له أعظم من أحلامه لما وجدوها، بل لو أرادوا أن يتخيلوا عملًا له بغير الحلم لما استطاعوا أن يتخيلوه.
إن سن ياتسن قد بدأ عمله بالدعوة إلى إسقاط أبناء السماء.
فلو لم يكن حالمًا كيف كان يخطر له هذا العمل على بال؟
إن أبناء السماء كانوا يحكمون أربعمائة مليون من النفوس الآدمية، وكان لهم أعوان من الدول الكبرى يأبون أن يسقطوهم؛ لأنهم عاهدوهم على تسليم الغنائم والمزايا، وعلموا أن سقوطهم ضياع لكل غنيمة وكل مزية، فمن كان ينهض لإسقاط هؤلاء فهو يحلم، ولو لم يكن قادرًا على هذا الحلم لما كان قادرًا بعد ذلك على عمل.
وهذه هي عظمة الرجل!
وبهذا يعاب عند الذين يجهلون كيف يعيبون، ولكنهم مع هذا يعيبون؛ لأن العيب سهل، أما العسير حقًّا فهو التعظيم والتقدير!
وسقطت أسرة أبناء السماء في حياة الرجل، فمن شاء أن يقول إنه عامل جد عامل فقد صدق، ولكن العمل والحلم سواء عند القادرين على هذه الأعمال، وعلى هذه الأحلام.
وما استطاع الرجل أن يعمل هذا العمل إلا لأنه استطاع أن يوقع في الأذهان أن العمل سهل متى فهموا ما ينبغي أن يعملوه.
ولعلهم لم يفهموا كل ما أراد، ولم يعملوا كل ما كان ينبغي أن يعملوه، فصح بذلك دعاؤه الأول والأخير. إن الفهم عسير جد عسير.
لقد كان سن ياتسن حالمًا حقًّا، ولو لم يكن حالمًا حقًّا لما كان له عمل في قومه، وفي هذه الصفحات تفسير حلم عظيم؛ لأنه حلم رجل عظيم، استطاع أن يحلم لأمة كاملة حيث لم تستطع قبله أن تحلم لنفسها، وقلما استطاع أحد أن يحلم لأمة كاملة إلا كان له في تاريخها عمل خالد وأثر مقيم.