الصين
لمحة تاريخية
وهذه اللمحة التاريخية التي نقدم بها سيرة زعيم الصين إنما هي إشارة اتجاه من العصور القديمة إلى العصر الذي عاش فيه الزعيم، نرسمها سريعًا بمقدار ما تلزم لتوضيح عمله وإبراز دواعيه، ولا نقصد بها أن نحيط بالتاريخ كله مفصلًا أو مجملًا؛ لأن الإحاطة بتاريخ الصين — ولو بمجرد سرد العناوين الكبيرة — عمل يستغرق المجلدات الطوال.
وأهم إشارة من إشارات الاتجاه أن الصين وحدة وطنية لا نظير لها في العالم، خلافًا لما روجته سياسة الاستعمار في القرن التاسع عشر لتسويغ قسمتها بين الدول الطامعة فيها، فقد كان الساسة المستعمرون يقولون كلما احتجت حكومة من حكومات الصين على اقتطاع جزء منها أن سيادة الأمة الصينية لا وجود لها؛ لأن البلاد التي يطلق عليها اسم الصين إنما هي اصطلاح جغرافي لا يشتمل على سيادة وطنية واحدة.
ولا يصدق هذا القول على الصين الصميمة حتى من الوجهة الجغرافية؛ لأنها في الواقع بلاد ذات وحدة جغرافية بينة وحدود أرضية فاصلة، يكفي أن يخترقها المهاجر ليقال: إنه دخل من بلاد إلى أخرى وإنه يقتحم أرضًا لا تستباح بغير اقتحام.
فمنذ أقدم العصور وجدت الصين الصميمة التي تحيط بها الجبال والسهوب والأنهار، ووجدت فيها الأرض التي تصلح للزراعة والأرض التي تجاورها غير صالحة للزراعة، ولكنها صالحة للمرعى والصيد، يسكنها أهل البداوة الذين يعتمدون على أهل الحضارة ويلازمونهم ملازمة الجوار، وإن كان جوارًا يجور فيه أحد الفريقين على الآخر حينًا بعد حين، حسب تقلب الأحوال بين الخصب والجدب والرواج والكساد.
وأقوى من الوحدة الجغرافية في تكوين الوحدة الوطنية وحدة السلالة القومية، وأقوى من الوحدتين جميعًا وحدة التاريخ المتصل والثقافة المتشابهة، ولم تجتمع هاتان الوحدتان لأمة من الأمم كما اجتمعت لأمة الصين.
وقد أسلفنا أن وحدة التاريخ والثقافة أقوى من وحدة السكن والسلالة؛ لأن اختلاف التاريخ والثقافة قد جعل من السلالة المغولية الواحدة شعوبًا متفرقة يعادي بعضها بعضًا ويتعالى بعضها على بعض تارة بصفات الحضارة وتارة بصفات الفطرة والفروسية.
فالجنس المغولي، الذي أقام في البلاد المخصبة بين غرب الصين وجنوبها، قد شملته ثقافة واحدة منعزلة بين ثقافات الأمم الإنسانية؛ حيث كانت من أمم الشرق والغرب أو أمم الشمال والجنوب، فلا توجد لغة كاللغة الصينية ولا كتابة مثل كتابتها، ولا تشبه هذه اللغة فروعًا من اللغة المغولية الأخرى كاللغة التركية أو لغة القبائل في آسيا الشمالية. فهذه الفروع تتولد فيها الكلمات باللصق والإلحاق، ولكن اللغة الصينية يتوقف فيها معنى الكلمة على ترتيبها في الجملة وعلى اختلاف نغمتها الصوتية، وكتابتها كذلك كتابة رمزية صوتية وليست كغيرها من الكتابات التصويرية أو المقطعية الحرفية.
هذه الوحدة الثقافية تساندها الوحدة التاريخية في عصور بالغة في القدم، فإن تاريخ الصين الصميمة واحد منذ تلك العصور التي يتداخل فيها الزمن المجهول والزمن المعلوم، بل هو واحد قبل أن تصبح أقطار الصين دولة متحدة، فإن وحدة الدولة ووحدة التاريخ شيئان مختلفان، فإذا شمل التاريخ عشرة أقطار ينازع بعضها بعضًا فذلك تاريخ واحد، وإذا توحدت الدولة وتعاقبت عليها ثقافات متعددة فتلك عدة تواريخ.
وقد مضى تاريخ الصين القديمة على وتيرة واحدة بثقافة واحدة، حتى في الطوارئ العارضة على حكومتها حقبة بعد حقبة، فإنها يشبه أن تكون دورة واحدة تتكرر على نسق واحد، فلا يشعر الناس بالغرابة عند قيام دولة وسقوط أخرى؛ لأنها تجري على النحو الذي تعودوه وانتظروه وتوارثوا رواية أخباره حتى كاد أن يتساوى فيها العلماء والجهلاء.
تقوم الدولة حتى ينهكها الترف وسوء الحال في الرعية، فتسقطها ثورة من تلك الرعية أو غارة من أهل البداوة المحيطين بها على تربص الطامع الذي ينتهز الغرة، وهكذا تتعاقب الحكومات الوطنية وغير الوطنية، فما قام به ثائر من الرعية فهو حكم وطني، وما قام به مقتحم من الشمال أو الغرب الجنوبي حيث تحوم القبائل المتربصة فهو حكم أجنبي، وتكررت علامات السقوط حتى أصبحت من العلامات التي يسهل التنبؤ عنها قبل وقوعها، فما استقرت قط حكومة حاربها الأساتذة والفلاحون، وما سقطت قط حكومة أيدها هؤلاء وهؤلاء؛ لأن الأساتذة هم ملاك الدواوين والإدارة في تلك الأقطار الشاسعة، والفلاحين هم الطاعمون المطعمون، فإذا تعطلت الدواوين وتعطلت موارد العيش فلا بقاء لدولة قائمة، وإذا انتظمت الدواوين وطعم الفلاح وأعطى الشعب طعامه، فلا ضير على الدولة القائمة وإن عدا عليها المغير من خارجها، فإنها تدفعه فلا يشق عليها دفعه عن أرض لا عون له فيها.
قام على حكم الصين على هذه الوتيرة نحو عشرين أسرة، من عهد السادة الخمسة إلى عهد أسرة المانشو التي سقطت في سنة ١٩١٢، وقامت على آثارها الجمهورية.
ولكن الصين لم تحكمها دولة واحدة إلا في عهد الأسرة الرابعة وهي أسرة شو، التي تولت الحكم من سنة ١١٢٢ إلى سنة ٢٢٥ قبل الميلاد، ولم تتمكن من توحيدها إلا قبيل سقوطها بزمن وجيز، ومن نقائض التاريخ أن هذا التوحيد قد مهد لسقوط الأسرة من حيث لا تحسب؛ لأنها وزعت نبلاءها على الأطراف ليحكموها ويصدوا غارة المغير عنها، ونجح هذا التوزيع في أيام قوة الدولة وقوة العاهل الأكبر؛ لأنه كان يدعو إليه الولاة كل سنة ليحاسبهم على أعمالهم في ولاياتهم، وكان يخرج للطواف كل خمس سنوات على جميع الولايات، فانتظمت الدولة وكانت هيبتها في نفوس الكبار والصغار زاجرًا للولاة ومهيمنًا على سيرتهم الظاهرة والباطنة في أقصى الأطراف.
فلما ضعفت الحكومة المركزية زادت في ضعفها جرأة الولاة عليها، فوثبت على العرش أسرة جديدة هي أسرة شين، وافتتحت عهدها بالقضاء على نظام الإقطاع، وخطر لعاهلها القوي «شين شيه هوانج تي» أن يستعيض من قوة الولاة في الأطراف بقوة الحجر والقرميد، فبنى حائط الصين المشهور لصد الغارات عنها من الثغرات المفتوحة، وبالغت هذه الأسرة في تعقب البقايا المتخلفة من الماضي حتى أمرت بإحراق الكتب وتحريم النظر فيها، وقيل في وصف سياستها العجيبة أنها أقامت سورًا بين الماضي والمستقبل كما أقامت سورًا على مواقع الأرض بين الصين وجيرانها.
ثم تعاقبت الأسر على هذه الوتيرة، تارة على اتصال وتارة على انفصال تتخلله الثورات وتنقطع فيه علاقة الولايات بالحكومة المركزية، وقد تبقى الأسرة المغلوبة مسيطرة على بعض الولايات والأسرة الجديدة قائمة بالحكم في العاصمة الكبيرة، حتى كانت أسرة «منج» ختام الأسر الوطنية في بكين (١٤٠٣–١٦٤٤) وكانت أسرة المانشو فيها ختام الأسر الأجنبية (١٦٤٤–١٩١٢).
•••
هاتان الأسرتان هما الأسرتان الحديثتان اللتان أدركتا العصر الحديث من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وفي عهديهما اتصل الغرب بالصين ونشأت العلاقات بينها وبين الحضارة الأوروبية، سواء من جانب السياسة أو من جانب الثقافة.
ولكنها على حداثتها تعتبر كل منها نموذجًا لأمثالها من أقدم العصور، قيامها كقيام غيرها من الدول الوطنية أو الدول الغربية التي طرأت على البلاد من الشمال أو من الغرب الجنوبي، منذ ألوف السنين، ومحاسنها كمحاسن تلك الأسر الخالية ومساوئها كمساوئ تلك الأسر، بلا اختلاف بين السابق واللاحق كأنما وقف الزمن عن التقدم والتغير من الأسرة الأولى إلى الأسرة الأخيرة قبل الجمهورية.
وكل ما سجله التاريخ من الوقائع أو الأساطير فقد تكرر في كلتا الأسرتين على قرب العهد بنشأة الثانية منهما أو الأولى، بالقياس إلى الدول التي تقادمت عهودها قبل الميلاد أو بعده ببضعة قرون.
كانت أسرة يوان التي سبقت أسرة منج مغولية من أرض الشمال، فنبتت بذور الثورة عليها في الجنوب، وانتشرت الدعوة المعادية لها على يد جماعة البشنين الأبيض، وهي جماعة سرية تنتحل الصبغة الدينية لمداراة أغراضها السياسية، وكان زعيمها يدعي أن بوذا نفسه عائد إلى الدنيا لاقتلاع جذور الأجنبي الغاصب، وأنه تلقى الوعد بعودته وحيًا من السماء.
ثم جاء الانقلاب على يد «شويوان شانج» ابن الفلاح الذي جعلته الروايات التاريخية بطلًا من أبطال الأمة، وكادت روايات القصص الشعبي أن تجعله شخصًا من شخوص الخرافات، ومن القصص التي يتداولها الشعب عنه أنه كان ملحوظًا بالعناية الإلهية منذ صباه، وأنه كان مدخرًا للملك وهو يرعى الماشية لرجل من أصحاب الضياع والكراع، ومن رعاية الآلهة له أنه أولم لأصحابه وليمة وذبح فيها ثورًا من قطعان مولاه، ثم غرس ذنبه في الأرض وقال لمولاه حين سأله عنه: إنه غاص في الأرض وأراه موضع الذنب المغروس، فلما راح الرجل يجذبه ليظهر بهتان الراعي المختلس ثبت الذنب في موضعه وسمع من باطن الأرض خوار كخوار الثيران.
ويروى عن «شويوان شانج» هذا أنه تنسك وتعلم علوم النساك والحكماء، واطلع من ثم على أسرار جماعة البشنين الأبيض، فقاد ثورتهم وأقام نفسه ملكًا على إقليم «وو» حيث كان يقيم، فزاحمه على الملك ابن صياد وحشد مراكب الصيد لقتاله، ولكن الآلهة لم تخذله فقهر مزاحمه وأحرق مراكبه في موقعة كبيرة على بحيرة «پويانج» إلى جنوب النهر العظيم، ثم انهار ملك العاهل المغولي في بكين بعد حملة «شويوان شانج» عليه.
وليس في تاريخ هذا البطل الوطني من غرابة في خبر من أخباره غير القصص الخرافية.
أما ارتقاء راع ابن فلاح إلى سرير الملك فلم يكن غريبًا قط في مأثورات الصين القديمة والحديثة؛ إذ كانت الثورات على الإجمال من قبل الفلاحين والأساتذة، فإذا اجتمع لابن فلاح علم النساك والحكماء فترشيحه للملك يجري مجرى العادة عندهم في معظم الثورات، ومن حكمة الصين أن الملك تفويض من السماء، فمن ملك فهو مختار السماء وابن السماء ولا يعبده قومه كما يتوهم المتوهم من هذه التسمية، ولكنه ينسب إلى السماء؛ لأنه مختارها لحكم البشر، ولا يزال قائمًا بالأمر ما دام مختارًا من السماء، فإذا سقط فتلك آية السماء على نبذه وإبطال اختياره، ولم يكن نادرًا في الصين أن يرتفع العواهل من حضيض الأرض إلى عروش أبناء السماء.
وجرى على هذه الأسرة ما كان يجري على الأسر الوطنية أو الأجنبية من قبلها، فازدهرت أيامها على عهود الملوك الفرسيين كلها من ذوي الأيد والحكمة، ثم آل الأمر فيها إلى الخصيان والجواري وسماسرة الشهوات، فاستبد بالأمر الخصي «وان شن» في عهد ملكها السادس الذي يناديه بالأستاذ؛ لأنه رباه من طفولته، وكان يأمر الرؤساء والعظماء إذا خاطبوه أن ينادوه باسم الأب الجليل، فطاشت سياسة القصر ووغرت صدور الرعية من الخاصة والعامة، وعاد المغول إلى الطمع في العرش، ومكنهم منه تقلص الدولة وضياع الأقاليم منها واحدًا بعد واحد، واضطرار ملوكها إلى مضاعفة الضرائب لتعويض الخسارة والإنفاق على جيوش الدفاع، فاتفق الفلاحون والأساتذة كرة أخرى على خذلان الدولة القائمة، ولإثبات الدولة في الصين يتفق عليها هؤلاء وهؤلاء.
وطالت المناوشات بين الدولة المدبرة والدولة المقبلة حتى انتهت آخر الأمر بقيام الدولة المانشوية، واستقر لها الحكم شيئًا فشيئًا مع استمرار المقاومة في الجنوب، حيث تشتد المقاومة الوطنية دائمًا؛ لأنه موطن الصين الصميم، ولأنه معقل الحضارة على الدوام لما ورثه من الأسلاف وما يستفيده من معاملة الأمم الأخرى التي لا تني ترسل إليه بالسفن والمتجرين يتزودون من موانئه ويحملون السلع من بلادهم إليه.
واتخذت دولة المانشو خطتين مختلفتين في سياسة الجنوب على الخصوص: سياسة من جهة الثقافة وسياسة من جهة العادات والأخلاق، فاجتهدت في اقتباس الثقافة الجنوبية؛ لأنها لم تستطع أن تنكر مزية الجنوب فيها، وأمرت باستنساخ جميع الكتب النادرة فملأت بها خزائن القصور، وقربت إليها العلماء والمتعلمين للإشراف عليها ومدارستها، وفتحت لهم أبواب الدواوين يرتقون إلى مناصبها بالامتحان جريًا على ألسنة الموروثة من زمن بعيد.
•••
كان إخفاق الدعوة إلى مملكة السلام السماوية نكبة على الصين في ظاهر الأمر؛ لأنها أطالت أجل الأسرة المالكة التي أفسدت البلاد ووقفت وقفة المستيئس العنيد لتحول دون إصلاحها وتبديل أي نظام فيها من النظم العتيقة التي جمدت عليها.
ولكن هذا الإخفاق إنما كان نكبة في الظاهر، نعمة في الواقع؛ لأن الصين إنما كانت في حاجة إلى ثورة يعرف دعاتها ما يعوز البلاد وما يكفل لها السلامة والتقدم، ولم تكن الدعوة إلى مملكة السلام السماوية أهلًا لهذه المهمة الضخمة، بل لعلها كانت نكبة أخرى تخلف النكبة التي ابتليت بها من الأسرة المالكة، وتستدعي بعد ذلك علاجًا أقوى من علاج الجمهور على القديم.
وكأنما ادخر القدر لهذه المهمة ثورة أخرى تدرك الصين ضرورتها بعد يقظة قاسية من فعل الحوادث؛ تفتح عيونها وتلمسها بأيديها مواضع العجز والقصور منها، وتلك هي ثورة «سن ياتسن» الذي لُقب حقًّا بأبي الصين الحديثة.
إن تاريخ هذه الأمة الكبيرة الحافل بالعبر التي تكاد تغني عن عبر التاريخ كله، وأولها عبرة الثقافة المستقلة.
فالثقافة المستقلة قوة ومفخرة، والثقافة المستقلة ضعف ومهانة، وفي التاريخ أمثلة كثيرة على هاتين الحقيقتين، ولكن ليس منها مثال أجسم ولا أجلى من مثاليهما في تاريخ الصين الحديث.
كانت أمة مستقلة الثقافة، وكانت تفخر بهذا الاستقلال، ويحق لها أن تفخر به على من حولها؛ لأنها لم تكن ترى حولها غير الهمجية والبربرية والجلافة والجهالة، وكانت هي قد كشفت الإبرة المغناطيسية والورق والمطبعة والبارود وصناعة الحرير والأنسجة والعملة الورقية، وملأت خزائن الكتب بتصانيف الحكمة والمعرفة وآداب السلوك، وكان كل من يغشاها من الخارج يعزز رأيها ويزيدها احتقارًا لغيرها واغترارًا بمناقبها وفضائلها، ومن جاءها زائرًا من أهل الاطلاع والاستطلاع لم يجد فيها علمًا أرفع من علم بلاده وعاد وهو يعجب بها كما تعجب بنفسها.
وظلت على هذه الثقة بارتقائها، فظلت هذه الثقة قوة لها وحقًّا صحيحًا من حقوقها.
فلما جمدت ثقافتها لاستقلالها بنفسها، وتقدمت ثقافات الأمم الأخرى لتجاوبها وتنازعها وأخذ المتأخرين من المتقدمين فيها، صارت الحال بها إلى نقيضها، وأصابها من تلك الثقة كل سوء تخشاه، وهي لا تعلم مبعثه ومأتاه.
ترفعت عن التعلم من غيرها، وجاءها الرحالون الغربيون من طلاب الغنائم والفرص، فشهدت من أخلاقهم ما لا يشجعها على محاكاتهم والاقتداء بهم: غش وإسفاف وعربدة وتهالك على المنفعة، ورضًى بالدنس طمعًا في الغنيمة، وغلظة تبدو للصيني المهذب على الخصوص؛ لأنه عاش على آداب السلوك وجعلها قوام الأدب كله وشرط الحضارة الأول في كل إنسان على نصيب من الكرامة.
وإلى هنا كانت على حق في اغترارها بثقافتها واستقلالها بعلومها ومعارفها.
ولكنها شهدت إلى جوار ذلك ما يوقظ نائم الكهف لولا أن نوم الغرور أثقل من نوم الكهوف.
شهدت على مقربة منها في الهند شركة تجارية تدك عروش الدول العريقة بسلاح البارود الذي هي كشفته وهي أولى باستخدامه.
وشهدت فئة من سياح البرتغال في أرضها تستخدم المدفع فتهزم به الجموع الكثيفة المتألبة عليها.
وشهدت بعد ذلك معارك لم تغن فيها الشجاعة ولا العدد أمام هذا السلاح.
وكان قليل من هذا كله كافيًا لإقناعها بضرر اكتفائها وقناعتها بما عندها، وإيقاظها للخطر المحدق بها من أقرب الجهات وأبعدها.
ولكن نوم الغرور كما قلنا أثقل من كل نوم، وبخاصة غرور ذوي السلطان الذين لا يقال لهم إلا ما يحبون أن يسمعوه.
فبلغت الحضارة الغربية أوجها وهم غافلون عنها.
ولبث عاهل بكين يؤمن في قرارة نفسه بأنه عاهل العالم كله، وأن ملوك العالم كله أتباع له وعيال عليه، لا يثنيه عن إخضاعهم عنوة إلا أن الأمر مفهوم بالبداهة لا يستحق المشقة ولا يرجى من ورائه غنم جديد.
وإلى نهاية القرن الثامن عشر كان عاهل بكين «شيان لونج» يعتقد ويقول: إن بلاده في غنى عن العالم كله، وإن العالم كله مفتقر إلى بلاده، وكتب إلى جورج الثالث ملك إنجلترا حين خاطبه في تبادل العلاقة التجارية «إن مملكتنا السماوية تحتوي كل شيء في وفر وغزارة ولا تحتاج داخل حدودها إلى مطلب من خارجها، فنحن في غنى عن جلب المصنوعات من البلاد البربرية بديلًا من مصنوعاتنا، ولكن الشاي والفخار من مملكتنا السماوية مطلب لازم للأمم الأور,بية ولكم …»
وكتب إليه جوابًا على خطاب آخر: «إن مملكة جلالتكم في مكان سحيق وراء البحار، ولكنها تدرك واجباتها وتعمل بالقوانين، ولما كنتم من ذلك المكان السحيق تبصرون مجد دولتنا وتعجبون في احترام وتوقير بكمال حكومتنا، فقد أنفذتم إلينا بالكتب والرسائل للنظر فيها، ونحن نرى أنها مملاة بما ينبغي من روح الإعظام والإكرام، ونرغب من أجل هذا في قبول ملتمسكم وإجابة أمانيكم، ونقبل كل ما أرسلتموه من هداياكم، أما رعاياكم الذين تعودوا منذ سنوات أن يتجروا مع مملكتنا فنود أن نقول لكم: إن مملكتنا السماوية تشمل بالإحسان والعطف جميع الأفراد والأمم وتلاحظ رعاياكم بعين السماحة والرأفة، فلا محل إذن لما تطلبه لهم حكومة جلالتكم …»
ولما أراد السفير الإنجليزي اللورد مكارثتي أن يرفع أوراقه بنفسه إلى عاهل بكين في عاصمته، قيل له استكبارًا لوقوف أمثاله في حضرة ابن السماء: إن تسليم الأوراق للوزراء فيه الكفاية، فلما ألح وعاود الإلحاح قيل له: إنه لا يؤذن لمثله بالوصول إلى العاهل إلا إذا سجد أمامه ولمس الأرض بجبهته تحت قدميه، وطالت المفاوضة واستخدمت الرشوة والترضية حتى سعى رجال البلاط في إتمام المقابلة والاكتفاء من السفير بالركوع أمام ابن السماء كما يركع أمام مولاه، وقيد السفير في موكب رفعت عليه الأعلام ونقشت عليها عبارة معناها أنه سفير من ملك أجنبي وفد على ابن السماء لتقديم الجزية ورفع فروض الطاعة إلى سدته السماوية.
وانقضى قرن على هذه المراسلة، وبلاط ابن السماء مُصر على عقيدة «الاكتفاء» مؤمن بأن الصين في غنى عن العالم كله بما تحتويه بين حدودها، فلا يفيدها العالم بثقافة ولا حضارة، ولا تجمل بها غير سياسة واحدة وهي سياسة العزلة والمقاطعة، وبلغ من التشدد في اتباع هذه السياسة أن الذي يعلم أجنبيًّا لغة الصين أو كتابتها كان يعاقب بالموت، وأن الذي يوجد لديه شيء مستورد من الخارج يتعرض لعقاب الخائن المتهم بالمروق.
كان هذا هو الوهم الذي جمدت عليه أمة الصين، ولبث البلاط جامدًا على هذا الوهم بعد أن زالت غشاوته عن أعين المصلحين المخلصين.
كانت الصين في حاجة إلى شعور يناقض هذا الشعور، كانت في حاجة إلى من يعلم أنها محتاجة إلى غيرها في كثير، وأن آفتها من جمودها على حالها واكتفائها بما عندها، وكانت الثورة باسم مملكة السلام السماوية صرخة مريض ولم تكن وصفة طبيب، فلما سكنت خُيل إلى الكثيرين أن المريض ميت بعلته، ولكنه في الواقع كان ينتظر ثورة أخرى تجمع بين صرخة المريض ووصفة الطبيب، وتلك هي ثورة سن ياتسن باسم السيادة القومية، وجاءت هذه الثورة ترياقًا صادقًا؛ لأنها لمست الآفة في مكانها، آفة الاكتفاء يداويها العلم بالحاجة إلى كل شيء من الحضارة الحديثة.
الصدمة
كانت الصين كما تقدم مستريحة إلى كفايتها وعزلتها.
وكانت على خطأ مزدوج في هذه الراحة الموبقة، فلا هي مكتفية ولا هي قادرة على العزلة، ولو أنها شاءت أن تعتزل العالم لم يشأ العالم أن يعتزلها، فهي طالبة مطلوبة من حيث تجهل ما تطلبه وتجهل ما يُطلب منها.
وكل صدمة كانت قمينة بإيقاظها من تلك الغيبوبة السادرة فهي خير وبركة، أيًّا كانت عواقبها، وأيًّا كان الثمن الذي تشتري به تلك اليقظة.
فلم تكن هناك عاقبة أشأم من بقائها على غفلتها والعالم يتقدم من حولها ويتحفز لابتلاعها.
نعم، لم تكن مطامع الدول المستعمرة نفسها أشأم من راحتها ومن غفلتها.
فقد شاء حسن الحظ لهذه الأمة الكبيرة أن المطامع فيها كثيرة متعددة، ولولا ذلك لضاعت في جوف دولة أو دولتين، وتأخرت يقظتها زمنًا بعد القرن التاسع عشر، وربما مضى القرن العشرون وهي ضائعة عاجزة عن الاستقلال بسيادتها.
كانت مطمع الدول القريبة والبعيدة، فعلى مقربة منها اليابان والولايات المتحدة وروسيا القيصرية، وبعيد منها إنجلترا أو فرنسا وسائر الدول التي في غرب القارة الأوروبية، ولكنها كانت قريبة منها بمستعمراتها في آسيا الجنوبية وما جاورها.
وكل هؤلاء كانوا يطمعون فيها.
وهذا الذي أنقذها وجعل الصدمة أنفع لها من الراحة الموبقة والغيبوبة السادرة.
فهي أكبر من أن تلتهمها دولة واحدة، والطامعون فيها أكثر من أن يتفقوا على تقسيمها، وأنفع لهم أن يتفقوا على سلامتها ويقنعوا باستغلال مواردها ما استطاعوا، وهو ما سموه بعد ذلك بالباب المفتوح، وقدروا يومئذ أنه باب مفتوح للدخول وحسب، ولم يقدروا أنه كذلك مفتوح للخروج.
كان من الواجب للصين أن تصطدم بالواقع وقد اصطدمت بالواقع صدمة كبيرة، ولكنها لم تكن أكبر منها ولم يكن شرها أكبر من شرور الكفاية التي كانت مخدوعة بها، أو شرور الراحة التي كانت سادرة فيها.
لم يكن ساسة الصين يجهلون العالم الخارجي أو يجهلون وجود القارات الأخرى، وكثيرًا ما فرق السياح على قصر ابن السماء وحدثوا القوم عن بلادهم وأقوامهم حديثًا يشوق ويعجب، ولكنه لا يهم ولا يزعج، وغاية ما يثيره في النفس أنه كان كالقصص التي يسمعها الأطفال عن الأمم النائية ما كان منها موجودًا حقًّا أو كان من صنع الخيال وأكاذيب الرواة.
وكان أبناء السماء ينهزمون أحيانًا، ولكنهم كانوا ينهزمون أمام أبناء سماء آخرين.
وربما انهزم جيش من جيوشهم في وقعة مع الدول القريبة، فلا ينتهي خبر الهزيمة إلى أقصى البلاد، ولا يقع من نفوس السامعين له إلا كموقع الهزيمة التي يمنى بها الشرطة في كفاح عصابات المجرمين، ثم تنهزم العصابة أو تنجلي هاربة إلى مأمنها، وتجري الأمور بعد ذلك في مجراها القديم.
ويظل ابن السماء ملكًا على كل ما تحت السماء.
ويظل الصينيون أقوى الأمم وأرفعها وأوحدها بوصف الحضارة بين البرابرة والمستوحشين.
ولم تنقطع سفن التجار عن موانئ الصين الجنوبية والشرقية منذ عرف الناس فن الملاحة، فلما وفد على تلك الموانئ تجار الغرب في القرن الثامن عشر وما بعده لم يكن هنالك ما يستغربه القوم: أناس يطرقون الأبواب في طلب القليل من الفتات، فليأخذوا ما طاب لهم صدقة وإحسانًا من سيد العالم، وملك القريب والبعيد من البلاد.
إلى أن كانت حرب الأفيون.
فإذا بالواردين على الأبواب يطلبون بل يأمرون، وإذا بهم يتكلمون بأسماء ملوكهم ويناصون برءوس ملوكهم هؤلاء رأس ابن السماء.
ومن سخرية القدر أن تكون يقظة الصين من حرب الأفيون، وقد كان وشيكًا أن يدخلها في خدر أعمق من خدر الراحة والغرور.
ولم يكن الأفيون في نشأته آفة صينية كما شاع بين الناس إلى الزمن الأخير.
فما كان الصينيون يزرعون شجرته ولا كانوا يستخدمون ثمرتها في غير العلاج.
ولكن التجارة الأوروبية هي التي جلبته إلى بلادهم من البلاد الآسيوية الأخرى، ولم تفطن حكومة الصين لضرره أول الأمر فسمحت ببيعه وحصلت عليه في موانئها ضريبة الدخول إلى ما قبل نهاية القرن الثامن عشر (١٧٩٦)، فتهافت عليه الأغنياء وسرت عدواه إلى الفقراء فأقبلوا عليه وبذلوا فيه ثمن القوت وفضلوه على ضرورات المعيشة، فتنبهت الحكومة بعد فوات الأوان وأمرت بتحريمه ومصادرة المضبوط منه في موانئها أو في داخل بلادها، فعمد التجار إلى تهريبه وضاعفوا ثمنه على تجار البلاد الداخلية وضاعف هؤلاء ثمنه على طلابه، وقيل: إن تجار الموانئ تسلموا من المهربين في سنة واحدة (١٨٣٨) ما قيمته أكثر من أربعة ملايين من الجنيهات، وباعوها بأضعاف هذه القيمة إلى تجار الريف ومدخنيه، وهي ثروة ضخمة إذا لوحظ على الخصوص أن المهربين كانوا يتقاضون الثمن فضة خالصة قبل تسليمه في عرض البحر حيث كانت تجري صفقات البيع والشراء.
وعهدت الحكومة الصينية إلى رئيس من رؤسائها، مشهور بحماسته في حرب هذه الآفة، أن يشرف على شواطئ كانتون ليمنع الوارد منه قبل تهريبه إلى داخل البلاد، وكان الرجل الأمين، واسمه «لين تسي هسو» واليًا قبل ذلك على بعض الأقاليم، فاشتد في تعقب المهربين والمدخنين، وعرف له ربات البيوت اللائي فجعن في أزواجهن وأبنائهن هذا الفضل، فكن يحطن به ليلثمن أهداب ردائه حيث وجدنه، فتابع هذه الشدة في رقابته على الموانئ، ولم يقنع بهذا بل أطلق جواسيسه على مخابئ هذه التجارة الخبيثة حتى جمع منها ذات مرة ما يُساوي مليون جنيه، فأتلفه علانية على مشهد من الأجانب والوطنيين.
ونشط «لين» في بناء المعاقل والمخافر على الشواطئ والتلال، وأرسل إلى القنصل الإنجليزي يطلب منه أن يسلمه خلال ثلاثة أيام كل ما في المستودعات الإنجليزية من الأفيون المخزون، وأن يستكتب التجار وثيقة يتعهدون فيها بالامتناع عن توريد هذه البضاعة؛ وإلا ضرب الحصار على كانتون وأجلى منها كل تاجر لم يوقع على تلك الوثيقة. فلم يقبل القنصل طلبه، وأجاب على هذا الحصار بمظاهرة بحرية على ثغرة النهر الغربي لإغلاقها في وجه السفن التجارية، ثم أعلنت إنجلترا الحرب على الصين والمفاوضات جارية بين الطرفين، فلم تقوَ الجنود الوطنية على مقاومة الأسطول، وأرسل البلاط يطلب الهدنة ويذعن لشروط الصلح بين الطرفين، فانعقدت بينهما معاهدة نانكين (١٨٤٢) التي استولت إنجلترا بموجبها على هونج كونج، وأرغمت الحكومة الصينية على فتح جميع موانئ كانتون للتجارة وتحويل القناصل حق النظر في قضايا رعاياهم بغير استثناء للمهربين وبغير إشارة إلى تحريم تجارة الأفيون، وجوزي الموظف الأمين بعزله وانتداب خلف له ممن يرضى عنهم القناصل والتجار.
وحجة الحكومة الصينية أن الزورق وطني وأنه لم يكن يرفع الراية البريطانية ساعة تفتيشه وحجزه، فاشتركت إنجلترا وفرنسا في إنذار الصين وطالبتا بالمزيد من الحقوق والامتيازات، ومنها إقامة السفراء بالعاصمة واحتلال الأماكن التي تختارها الدولتان على الشاطئ، وهجم الأسطول البريطاني والأسطول الفرنسي معًا على كانتون وتقدما بعد احتلال موانئها إلى تينتسن، وأملى القائدان على الحكومة الصينية شروط المعاهدة التي سُميت باسم تينتسن، وذهب المندوبون المفوضون إلى بكين لتوقيعها وضموا إليهم مندوبين من روسيا والولايات المتحدة، فثارت ثائرة الشعب والموظفين عليهم في الطريق واعتقلوهم رهائن بالعاصمة، واشتعلت النار في بعض الأماكن الأجنبية خلال الصدام بين الجماهير المتظاهرة وجنود الدول، فأرسل القناصل في طلب المدد وتقدمت الجيوش الدولية بعد وصول المدد البحري والبري إلى بكين، فلاذت الأسرة المالكة بالفرار وأمر القواد بتدمير القصر الإمبراطوري المعروف بقصر الصيف.
وكانت فعلة وحشية ضاع من جرائها كثير من التحف والذخائر التي يعد ضياعها خسارة على الإنسانية، ولم يرجعوا حتى أرغموا الحكومة المنهزمة على توقيع معاهدة جديدة والتسليم بامتيازات دولية أخرى غير الامتيازات السابقة، ومنها الترخيص لمن شاء من الأجانب أن يتنقل داخل البلاد تحت حماية دولته، وتبادل السفراء، وفتح ثمانية موانئ لإنجلترا وستة لفرنسا، ونقص الرسوم الجمركية وتأجير شبه جزيرة كولون لإنجلترا، عدا الغرامات الثقيلة والتعويضات المجحفة التي أكرهت الحكومة الصينية على أدائها أقساطًا مقدرة يشرف المندوبون الأجانب على طريقة سدادها.
وزاد الطين بلة أن الروس طالبوا لأنفسهم بحصة من الغنائم؛ لأنهم توسطوا في الصلح وتعديل شروط الاتفاق، فاستولوا على الأقاليم التي تقع إلى شمال نهر التنين الأسود وشرق نهر أسوري، مقابلة للغنائم التجارية التي لم يسهموا فيها.
وأنشئت مصلحة الجمارك على تنظيم جديد فطالبت كل من إنجلترا وفرنسا بخمس الرسوم خالصًا بغير كلفة، وتركتا ثلاثة أخماس الرسوم للحكومة الوطنية مع تكاليف الإدارة والحراسة.
واستمرت المطالبة بالامتيازات الجديدة على أثر كل احتكاك بين الأجانب والوطنيين، وما أكثر أسباب الاحتكاك في هذه الأحوال، بين أجانب متغطرسين يغالون في إذلال الوطنيين اعتمادًا على حماية قناصلهم، وبين وطنيين يشعرون بالغربة والهوان في ديارهم، وقلما كانت تنقضي أيام دون حادث يسميه الأجانب حادث اعتداء وتعصب ويسميه الوطنيون حادث دفاع وكرامة، ثم تكاثرت هذه الحوادث بعد تغلغل المبشرين والمرسلين في الأقاليم الداخلية، ومنهم من يقضي الإنصاف بالاعتراف لهم بالفضل في محاربتهم الصادقة لآفة الأفيون، ومنهم من يقضي الإنصاف أيضًا بملامتهم على حماية الأشرار وطرداء القانون ممن يتهمهم الوطنيون بالمروق وخدمة السياسة الأجنبية، فقد كان المجرم من هؤلاء يعرف مصيره إذا حوسب على جريمته أمام قضاء بلاده فيُظهر التحول إلى المسيحية ويكسب بذلك حق اللياذ بالمعاهد الأجنبية، فلا تمتد إليه يد القضاء في ذلك الملاذ.
وتفاقمت أضرار المعاهدات الجائرة فلم تنحصر في الهوان وسلب السيادة، بل سرت هذه الأضرار إلى ضرورات المعيشة بين الأغنياء والفقراء على السواء؛ لأن الدولة احتاجت إلى مضاعفة الضرائب لسداد الغرامات والتعويضات مع قلة مواردها الجمركية بعد اقتطاع الخُمسيْن منها لإنجلترا وفرنسا، ولأن البضائع الأجنبية تدفقت على أسواق الصين عند الشاطئ وفي الأقاليم القاصية، تباع فيها بالسعر الرخيص لقلة الرسوم التي تؤديها، وتفضل على المصنوعات الوطنية لجودتها وسهولة الحصول عليها، فبارت المصنوعات اليدوية وتعطلت المعامل التي اجتهد أصحابها في إنشائها لمجاراة المعامل الحديثة، وحل الوسيط الأجنبي محل الوسيط الوطني في معاملات التجارة الكبرى، وأطبقت هذه المصائب الاقتصادية على الأمة بعد مصائبها السياسية المتلاحقة فتراءت لها أشباح الخراب في كل مكان.
وتدرجت الدول من امتيازات الموانئ إلى امتيازات المواصلات، فتسابقت إنجلترا وروسيا وفرنسا وألمانيا على انتزاع الامتيازات بمد السكك الحديدية وتحصيل مواردها ضمانًا للقروض اللازمة لمدها، وسهلت دعوى الحملات التأديبية وانتزاع البلاد عقوبة للحكومة الوطنية، فاستولت فرنسا على أقاليم من الجنوب، واستولت اليابان على أقاليم من الشمال واستولت أمريكا على الفيلبين، وصارت الدولة الصينية مقصورة على تلقي الضربات والتسليم بضياع حق بعد حق، واحتمال خسارة بعد خسارة.
ولقد كانت هذه الضربات المتعاقبة تحز في نفوس الأذكياء والعارفين من أهل الصين، ولكن ضربة منها لم تبلغ من الإيلام والإزعاج ما بلغته هزيمة الصين أمام اليابان سنة ١٨٩٥.
فإن الصينيين عاشوا ألوف السنين وهم ينظرون إلى جيرانهم من الشرق نظرة الاحتقار والاستخفاف، فلما انهزمت دولتهم أمام أولئك «الأقزام» المحتقرين، وقيل لهم إنهم لم يتمكنوا من الظفر بجيوش ابن السماء إلا لأنهم تعلموا الصناعة الحديثة من الأساتذة الغربيين، أصبح احتقارهم المفرط للمنتصرين عليهم إعجابًا مفرطًا بالصناعة التي كانت سببًا لهذا الانتصار. وهرعت جموع الطلبة إلى مدارس اليابان وأوروبة وأمريكا يتعلمون فيها سر هذه القوة التي يعنو لها جبين أكبر الأمم وأعرقها في الحضارة والحكمة والسلطان.
وتشعب أنصار النهضة الحديثة شعبتين: إحداهما تحاول الإصلاح بالأداة الحكومية وزعيمها «كانج يووي» وتلميذه «ليانج شي كاو» الذي قاد حركة الترجمة من الآداب الغربية.
والأخرى ثورية يائسة من صلاح الأداة الحكومية مع قيام أسرة المانشو على عرش الصين، وصاحب الرأي الأول والأسبق في هذه الدعوى الثورية هو سن ياتسن بطل هذه السيرة.
ولم تكن الدعوة الأولى — دعوة الإصلاح بالأداة الحكومية — خلوًا من حجتها المعقولة؛ لأن الإمبراطور الفتي كان على رأي أبناء جيله في ضرورة الإصلاح، وكان يطلع على المصنفات المترجمة والصحف المجددة ويؤمن بصواب ما تدعو إليه، وكاشف أترابه من أمراء الدولة ورؤسائها بعزمه على إعلان الدستور وتجربة الحياة النيابية، وكانت الفترة مواتية للشروع في هذه النهضة؛ لأنها وافقت هدنة من عدوان الدول بعد أن تبين لها أن التنافس بينها سيقودها إلى الحرب لا محالة، فأسرعت الولايات المتحدة وبرزت في الميدان هذه المرة باسم السلام والمصلحة الدولية، ووجهت (سنة ١٨٩٩) مذكرة إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا واليابان تقترح فيها تأمين الصين على سيادتها، والاتفاق على احترام هذه السيادة وتطبيق سياسة الباب المفتوح بروح العطف والإنصاف، ونزول الدول عن امتيازاتها الجمركية في مناطق نفوذها، ثم أعلن الوزير هاي سياسة الباب المفتوح على هذا الأساس في السادس من شهر سبتمبر (سنة ١٨٩٩).
إلا أن الدعوة الثورية كذلك لم تكن خلوًا من حجة معقولة بل حجج معقولة متعددة، لم تزل الوقائع تؤيدها وتدحض حجج المعارضين لها، وتثبت لطلاب الإصلاح جميعًا أن باب الصين المفتوح للإصلاح باب واحد، وهو الباب الذي تخرج منه أسرة المانشو إلى غير رجعة.
•••
من مألوفات التاريخ، إذا شاخت الأسر المالكة وحقت عليها كلمة الزوال، أن ينجم منها ملك أو عضو بارز من أعضائها يبطل الحيلة فيها ويدحض كل عذر يتعلل به أنصارها المتعللون للإبقاء عليها.
ويكاد الناظر في سير الملوك أو الأمراء أن يحسب لهم دورًا مرسومًا لا يحيدون عن أدائه؛ لتعجيل سقوط الأسرة وقطع الألسنة التي تماري في عيوبها واستحالة الخلاص منها.
وقد كان من الجائز أن يخلص الحكم للعاهل الشاب المغلوب على أمره (كوانج هسو) فيحاول تجربة الحياة النيابية، ويجتهد في محو عوامل الفساد والانحلال وتشجيع عوامل التقدم والإصلاح، ولكنه لو فعل ذلك لما بلغ منه شيئًا غير تخدير حركة الثورة بضع سنوات، وغير تأخير البناء الذي لا بد أن يؤسس على أنقاض العهد القديم؛ لأن البناء لا يقبل التكملة من طراز يخالف كل المخالفة في التقسيم والتدعيم.
في وسع الأسرة المالكة — عند هذه المرحلة — أن تُخرج منها من يقضي عليها، وليس في وسعها أن تُخرج منها من يدعم بناءها ويطيل بقاءها.
وقد أخرجت أسرة المانشو معول الهدم على أقوى ما يكون في صورة شيطانية إنسية تقوم مقام الوصية على العاهل الشاب، فملكت أزمة الدولة كلها في إبان هذه الكوارث، وكانت هي نفسها كارثة الكوارث التي غطت عليها جميعًا وحولت جهود المفكرين إلى غاية واحدة بدلًا من التفرق بين شتى الغايات: تلك الغاية الواحدة هي إزالة الأسرة المالكة واختتام العهود الملكية جميعًا في أقدم الدول الأسيوية عهدًا بالعروش والتيجان.
كانت الوصية «تزوهسي» جارية ذات حظوة عند العاهل الراحل، وكانت قد أتقنت كل ما تتعلمه الجواري من فنون الرسم والموسيقى والمعارف التقليدية، وزعم الزاعمون أنها كانت تستظهر حكمة كُنفشيوس وقصائد الشعراء المتقدمين، وأنها كانت تنظم شعر الغناء وشعر الأمثال وتساجل فيهما الأدباء والشعراء، فلم يكن لهذه الثقافة كلها من ثمرة غير تمكين غرورها وتشديد ما في نفسها من التعصب على الثقافة الحديثة، وبخاصة حين علمت أنها ثقافة تشل يدها على السطو والتبذير وتضطرها في سياسة القصر والأمة أن تقف عند حد محدود، يسمى بحد الديمقراطية والدستور.
فلم تكد تعلم بميول العاهل الفتى حتى أسرعت إلى حاشيته من حزب الإصلاح، فأبعدتها وأكرهته إكراهًا على إلغاء أوامره التي أعلن بها بعض الحقوق الدستورية، وجعلته يحس الخطر على حياته إذا سولت له نفسه أن يتمرد على سلطانها.
وجاوز الأمر عندها مقت الدستور إلى مقت كل مقترح يأتي من جانب حزب الإصلاح، فوضعت يدها على المال المجموع لإنشاء السفن الحربية التي ظهر من هزائم الصين المتوالية أنها في مسيس الحاجة إليها، فأنفقته كله على تشييد قصر في حديقة واسعة تقضي بها ليالي السمر واللهو ومن بعدها الطوفان!
لو كان لهذه الوصية على عرش الصين دور مرسوم، وكان دورها المرسوم أن تجهز عليه وتفض الأنصار من حوله، لما استطاعت أن تعمل للنجاح في هذا الدور غير ما كانت تعمله وهي تحسب أنها تدعم العرش وتقوي سلطانه وتشل أيدي المتآمرين عليه.
فلم يبق أحد من المفكرين يعتقد إمكان الإصلاح مع بقاء هذا النظام العتيق، وانقلب دعاة الإصلاح من طريق الحكومة القائمة إلى صفوف أعدائها الألداء، ولولا حماية السفارات لأولئك الدعاة حين لاذوا بها لمثلت بهم كما مثلت بغيرهم من أنصار الحياة النيابية وتجديد نظام الحكم ونشر التعليم الحديث.
واتفقت الآراء جميعًا على حصر العلة كلها في الأسرة المتداعية، فلم يبق لها من نصير غير طائفة من غلاة المحافظين، تطوعوا للدفاع عنها سخطًا على عدوان الأجانب لا جهلًا بعيوبها وجرائمها، فكانت حركتهم المشئومة نكبة فوق النكبات المطبقة، وعجلت بسقوط الأسرة من حيث أرادوا لها التماسك والبقاء.
تطوعت بهذه الحركة جماعة «آي هو شوان» أي الملاكمين المستقيمين المتآلفين، هم الذين اشتهروا باسم «اليوكسرز» بين الأوروبيين.
وراحت هذه الطائفة تعرض ألعاب الملاكمة والمسابقة والطعن بالمدى والخناجر وتستهوي بها طلاب الفتوة من الشبان، ثم تتدرج في تلقينهم مقاصدها السرية وهي بعبارتها الدينية «طرد الشياطين المتطفلين»، ثم أخذت شيئًا فشيئًا تجهر بمقاصدها هذه وتهتف علانية بتأييد القصر ولعن الأجانب الشياطين. وادعى أحد زعمائهم أن إله الحرب «كوانج كونج» جاءه في الحلم وأنبأه بفناء الأجانب جميعًا بعد أيام. وادعى زعيم آخر أن التنينات الخمسة الساهرة على مدخل نهر تاكو أنبأته أنه ما من أجنبية تجترئ على الدنو منه إلا غرقت بمن فيها.
وزينت السخافة للوصية الخرقاء أن هذه الحركة كفيلة بقطع دابر الأجانب وطرد بقيتهم من البلاد، ولم تخف ممالأتها لها، بل أرسلت (في العشرين من شهر يونيو سنة ١٩٠٠) إلى السفارات تشهر الحرب على أجانب العالم أجمع، وتنذر السفراء وأتباعهم بمغادرة العاصمة خلال أربع وعشرين ساعة، وزحف الملاكمون بعمائمهم الحمر وسيوفهم المشهورة فاقتحموا معاهد الأجانب وقتلوا من فيها، وضربوا على السفارات حصارًا دام نحو شهرين، ثم وصلت جيوش الدول — أمريكا واليابان وروسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا — فارتفع الحصار وانقلبت الحرب إلى مذبحة وحشية لا تُذكر إلى جانبها وحشية العصابات من الملاكمين وغوغاء الطريق.
أما تلك الخرقاء التي أغرقت عاصمتها في بحر من الدم فقد حملت العاهل الناشئ معها وهربت إلى الغرب مستخفية، ولم تنس صغائرها الأنثوية في تلك المحنة الدامية فلم تبرح العاصمة حتى أغرقت الجارية الأثيرة عند العاهل الصغير؛ لأنها همت باللحاق به خوفًا عليه.
ثم أمليت شروط الصلح فإذا هي تقضي بتسليم زعماء الثورة فسُلموا، وبهدم جميع المعاقل على طريق العاصمة فهُدمت، وبفرض غرامة تبلغ خمسة وستين مليون جنيه، فدُفع منها ما حضر وبقيت أقساطها عبئًا على كواهل الأمة أربعين سنة بعد ذلك التاريخ.
هذا مثال من الفارق بين حركات الشمال وحركات الجنوب في البلاد الصينية، فالغالب على حركات الشمال حيث يضعف أثر الحضارة أنها عصبية جامحة تندفع ولا تدري عاقبة اندفاعها، والغالب على حركات الجنوب حيث طالت آماد الحضارة وتتابعت الصلة بالعالم الخارجي أنها تمهد بالثورة لنظام معلوم.
وقد أنجزت الوصية الخرقاء دورها المرسوم، فقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبطل اللجاج بين طلاب الإنقاذ في بقاء الأسرة أو زوالها، وتمهدت السبل لدعوة الجنوب، فوجد سن ياتسن أسماعًا صاغية لرسالته الكبرى، ولم تمض على هذه الحوادث عشر سنين حتى ذهب آخر عرش لأبناء السماء.
المعتقدات والعادات
على أثر الفتنة التي قام بها الملاكمون — خاصة — راجت في الغرب تهمة التعصب الديني وتذرع بها الساسة لتسويغ حملات التنكيل والانتقام التي كان أولئك الساسة يشفقون من سريان أخبارها بين الأمم الغربية، ويضطرون إلى إثارة الشعور لمداراة أهوالها وفظائعها، فقد كانت أخبار حرب الأفيون تقابل في الغرب بالنفور والاشمئزاز، وتصور النزاع بين الدول والصين في صورة نزاع بين أمة تحمي نفسها من آفة خبيثة وطائفة من التجار الجشعين يكرهونها على فتح أبوابها لتلك الآفة، ولا يبالون بالربح الحرام من أي مصادر تلقفوه، ثم يجدون من ورائهم جيوشًا وأساطيل تخضع الأمة المغلوبة لمآرب أولئك التجار.
فلما تكررت الثورات والمنازعات ألفى المستعمرون أنفسهم في حرج شديد مع أقوامهم، وراحوا يبحثون في حجة تسترهم وتسوغ حملاتهم، فلم تسعفهم حجة في ذلك الوقت غير حجة التعصب الديني، وساعدهم على إشاعة هذه الحجة أن الملاكمين ينتحلون المصطلحات الدينية وأن المصابين من الأجانب كان معظمهم من المرسلين والمبشرين.
إلا أن العارفين بالصين كانوا يستغربون هذه الدعوى ولا يخفى عليهم ما وراءها من التضليل والافتراء؛ لأن التعصب الديني الذي يغري صاحبه باستباحة دماء المخالفين شنشنة لم تعرف عن أهل الصين، ولم يحدث قط في تاريخهم اضطهاد لأصحاب دين من الأديان إلا لباعث من بواعث السياسة؛ إذ كان القوم يدينون بعبادة الأسلاف، وليس من دأب الإنسان أن ينازع أحدًا في أسلافه أو يجبر أحدًا على مشاركته فيهم، وكل عقيدة غير عقيدتهم في أرواح الآباء والأجداد وفي أرواح الآلهة البيتية عامة، فهي من قبيل آداب السلوك التي يُعاب من يهملها كما يُعاب من يهمل التهذيب والمروءة في الأمم الأخرى، ولا يتعدى الأمر ذلك إلى القتل والاضطهاد.
ومن الدلائل البارزة على هذا الخلق في أهل الصين عامة أن زعيمهم الأكبر سن ياتسن كان يدين بالمسيحية، ومثله تلميذه الكبير شيان كاي شيك الذي خلفه زمنًا على قيادة الأمة، وما كان لأهل الصين أن ينظروا إلى الزعيمين بغير نظرة الاحتقار الذي يتعرض له الصابئون المرتدون عن دين آبائهم لو كان التدين عند الصينيين على مثال التدين عند الأمم الأخرى، إنما الدين عند القوم آداب سلوك قبل كل شيء، وقوامه الأول توقير أرواح الأسلاف وأرواح الأرباب الموكلة بأمر البيت، فكل بيت فيه معبده، وكل قبيلة فيها هيكلها، ولكل أن يوقر أسلافه، ولا ضير في ذلك على غيره، فلا موضع بينهم للعداوة والشحناء من أجل العبادة والمعبودات.
ولا يفهم الصيني من إيمانه بالمسيحية أو البوذية أو الإسلام أنه مرق من دين آبائه وأجداده، فإنه ليحافظ على قداستهم بعد إيمانه بتلك الأديان، ولا مانع عنده من التردد على هياكلهم والصلاة أمام أضرحتهم في المواسم العامة أو الخاصة، ولهذا ذهب سن ياتسن إلى ضريح أسرة «منج» ليؤدي صلاة الشكر، ويؤكد عهد الولاء بين يديه، وهكذا كان يفعل الصينيون الذين دانوا بالمسيحية على أيدي المرسلين اليسوعيين في القرن الثامن عشر، فقد رخص لهم أولئك المرسلون في أداء فرائضهم البيتية وفي تسمية الله باسم السماء باللغة الصينية، ولبثوا على ذلك حتى نمى إلى كنيسة روما أن القساوسة يقبلون شعائر الوثنية، فحرمت عليهم قبولها في كنائسهم ومحافلهم، ولكن المسيحيين الصينيين لم يتحولوا عن دينهم ولم يزل منهم من يرتضي الدين الجديد على أنه طريق من طرق شتى إلى الصلاح والاستقامة، وشعارهم في هذا شعار البدوي الذي قال:
كان هذا شأنهم في كل زمن، وكان هذا شأنهم يوم رحل ابن بطوطة إلى بلادهم وروى ما روى عن كاهن منهم أو ساحر «يذكر النبي ﷺ ويقول: لو كنت معه لنصرته، ويذكر الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أحسن الذكر، ويجاري الشيعة في كلامهم عن معاوية ويزيد.»
ويؤمن الصينيون بالإنسان الأول (بان كو) وأنه هو الذي فرق السماء والأرض أول مرة، وقدر للسماء أن تعلو كل يوم عشرة أقدام، وللأرض أن تكثف كل يوم عشرة أقدام، وأن تطول قامته هو كل يوم عشرة أقدام، فلما انقضت عليه ثمانية عشر ألف سنة، أصبحت السماء بهذا الارتفاع وأصبحت الأرض بهذه الكثافة، وسالت الدموع من عيني (بان كو) فجرى النهران الكبيران في الصين، وتنفس فانطلق الهواء، وتكلم فقصف الرعد، ولمح بعينه فومض البرق، ومات فاستحالت عظامه جبالًا واستحالت عيناه شمسًا وقمرًا واستحال شعره نباتًا، وسال شحمه فزخرت منه البحار وفاضت سائر الأنهار.
وإيمانهم بالسماء (تيين) هو في الواقع إيمان بإنسان عظيم، لعله عندهم سلف الأسلاف أجمعين، فهم يكتبون اسمها في صورة رجل يشير بيديه إلى الأعلى، ويذكرونها أحيانًا باسم الإله الرفيع، ولم ينسبوا إليها خلق الدنيا في عقائدهم القديمة، بل تدرجوا في نسبة الخلق إليها حتى ثبتت هذه العقيدة بعد دخول الأديان الكتابية إلى الصين.
والقوم عمليون أرضيون في شعائرهم الدينية قلما يتعمقون بها أو يحلقون في الآفاق العلوية، فإله الأرض «شي» أولى عندهم بالقرابين؛ لأنها تعطي الثمرات وتنطوي فيها الأجساد بعد الممات، ولها في كل قرية أكمة من التراب ترمز إليها، ويتجه إليها الزراع بالقربان والدعاء، ورمزهم القومي التنين هو الوسيط بين الأرض والسماء لاستدرار المطر أيام القحط والجفاف.
أما السماء فصورتها في أخلادهم صورة «السلطة» الحاكمة التي تجري المقادير وتهدي الحاكمين إلى الصراط المستقيم، ولا يعلم مشيئتها أحد غير ذوي الدراية والنجامة، ومن وسائلهم قراءة الغيب المسطور على جلد السلحفاة أو تأمل الطوالع على السوق والأوراق في بعض الأعشاب.
وأقوى عباداتهم كما تقدم هي عبادة الأسلاف، وهذه الناحية مهمة جدًّا في فهم شعور الصيني نحو وطنه، فهو لا يحسب نفسه فردًا في أمة عددها أربعمائة مليون يعيشون اليوم، بل هو فرد من ملايين لا تُحصى منذ القدم، لها حق كحق الأحياء في حاضر الأمة، وتضاف إليها قداسة العبادة بعد الموت، فيمتزج الحاضر والغابر عمرًا للأمة بأسرها، ولا يزال الحديث جزءًا يضاف كل عصر إلى القديم، فلا يخطر على البال أن القديم متروك من أجل هذا، بل هو الذخيرة الباقية التي ترجع إليها خير الذخائر في الزمن الحديث.
ومن هنا يبلغ تقديس الآباء عندهم حدًّا لا يُعرف له نظير في أمة أخرى، ومن دلائل البر بالآباء في ديانتهم أن يقذف الابن بنفسه من أعلى الأكمة المقدسة فدية لأبيه إذا مرض هذا وتعذر شفاؤه، كأن القدر يتقاضاهم روحًا فيهب الابن روحه بدلًا من روح أبيه.
وهم يرجعون بكل خير وكل حالة حميدة إلى الماضي البعيد، فالعصر الذهبي في عُرفهم هو عصر الآباء الأولين، الذين كانوا يعمرون الدنيا في زمن يسوده الناموس الأعظم، فكل ما فيه عدل وحق مستقيم على سنته السواء بغير إفراط ولا تفريط، فمما ينسب إلى الحكيم الأكبر كنفشيوس في الكتاب المعروف باسم «لي يون»؛ أي أطوار الخير أنه قال: «لم أر قط عهد تطبيق الناموس فعلًا أيام الأُسر الثلاث، وإن حسبت أنني أفهم كيف كان، فيوم جرى الناموس مجراه كان كل شيء ملكًا للجميع، وكان التقديم لذوي الكفاية والفضل والمقدرة، وكان صدق النية سجية وآداب الصداقة مرعية، ولم يكن أحد يخص بالمحبة آباءه دون غيرهم أو يخص بالحنان أبناءه دون سائر الأبناء، وكان الرزق مضمونًا للشيوخ الفانين حتى الممات، والعمل مضمونًا للقادر عليه وتكاليف التربية مضمونة للناشئين، وكان الأرامل واليتامى والشيوخ العقماء والعجزة المقعدون موضع العطف حيث كانوا فلا يعوزهم المأوى ولا المؤنة، وكانوا يأبون على أنفسهم أن يتركوا خيرات الطبيعة مهملة غير مثمرة، ولكنهم كانوا كذلك يكرهون تكديس المال وحبسه على أنفسهم، ولم يكن ثقيلًا على طبائعهم أن يعملوا ويكدحوا، ولكنهم لا يعملون ولا يكدحون ليستأثروا وحدهم بخيراتهم، وبهذا يُقضى على الكيد والدسيسة، ويُمتنع ظهور اللصوص والمحتالين وذوي التمرد والخيانة، وتُفتح الأبواب بغير حجاب.»
هذه صورة العصر الذهبي في عهد الناموس كما تصوره الحكيم الأكبر، وها هنا عبرة للباحثين في أطوار الشعوب ليستندوا إلى عاداتها وأمزجتها فيما تقبله وما ترفضه، وفيما يكون بينها وما لا يكون.
فمن هؤلاء الباحثين من كان يحسب أن الأمة التي تقدس القديم هذا التقديس، وتعظم شأن الأسرة هذا التعظيم، محصنة كل التحصين من دعوة المذاهب الاجتماعية المتطرفة ومن كل دعوة تهدم القديم وتنبذ المأثور … فإذا بالأمة الصينية تهدم القديم باسم القديم، وتنكر ما هي فيه إيثارًا للعصر الذهبي الذي تُريد أن ترجع إليه كما وصفه الأسلاف، فمن الباب الذي ظنه الباحثون موصدًا على دعوات التغيير والتبديل كان دخول هذه الدعوات باسم الناموس الخالد الذي لا يقبل التغيير والتبديل! وهكذا تحتال الحوادث حيلتها وتتلمس أطوار التاريخ مناهجها، فيأتي الطارق من جانب الحصن الحصين وهو آمن ما يكون عند الذين يقدرون للأمم مصائرها، فتضحك الأقدار.
وقد اخترنا هنا كلمة الناموس لكلمة «الطاو» الصينية التي يترجمها بعضهم باسم الطريق، وهي في الواقع كلمة لا تفي بمعناها المصطلح عليه كلمة الطريق ولا كلمة الناموس؛ إذ هي أعم من ذلك بكثير؛ لأنها تشمل معنى العناية ومعنى القدر ومعنى المعيار الذي يعطي كل شيء حقه ويرد كل شيء إلى نصابه طبعًا وأصالة في أحوال الناس وأحوال الطبيعة وأحوال الغيب المجهول، فكلمة الناموس أقرب إلى هذا المعنى من كلمة الطريق.
والناموس هذا هو موئل كل عقيدة دينية وكل أدب من آداب السلوك، وهي كما قدمنا لباب الدين كله عند حكماء الصين، بحيث يصح أن يقال: إن السماء نفسها تلتزم آداب السلوك في تصريف المقادير.
والمثل الأعلى للحكيم المهذب أن يوفق بين أخلاقه وأفكاره وبين هذا الناموس الشامل الكامل، وآية هذا التوفيق المعيشة السواء بغير جماح ولا إحجام، أو المعيشة التي تتزن وتعتدل فلا إفراط فيها ولا تفريط، ويكاد حب الاتزان والاعتدال أن يفتنهم فتنة لا اعتدال فيها، ومن فتنته أنهم يسمون الصين كلها المملكة الوسطى (شن كو) ويزعمونها في موضع القسطاس من العالم تمنع جوانبه أن تميل!
ومن عباراتهم السائغة عبارة «المدارس» المائة التي يشيرون بها إلى اختلاف مذاهب الحكماء المقتدى بهم في العلم والأدب، ويريدون بها التحلل من قيود الحجر حيث يستنكر المستنكرون بعض المذاهب ليحصروا الفضل كله في سواه.
والواقع أن غايات هذه المذاهب غاية واحدة، وهي حكمة الاتزان.
وإنما الخلاف كله في التمهيد والتفصيل، فمنهم من يطلب الاتزان بالكف عن الطلب، ومنهم من يطلبه بالمعادلة بين المطالب، ومن حكمائهم المتشائم المعرِض عن الدنيا ومساعيها، ومنهم المتفائل المقبل عليها، وقد كان كنفشيوس نفسه يغني ويحب الغناء ويعتبر الموسيقى من دروس الأخلاق النافعة للعلية والسواد.
ومن حكمائهم من يقول بتغليب الشر على طبيعة الإنسان، ومنهم من يقول بتغليب الخير عليها.
وبعضهم يقول: إن الإنسان يطلب الخير؛ لأنه محروم منه شاعر بما ينطوي عليه من الشرور، ويرد عليه معارضوه متسائلين: كيف يخطر طلب الخير في قلب شرير؟ فيجيب أنصار هذا المذهب بأن طالب الخير إنما يطلبه مضطرًّا غير مختار؛ لأن الشر حالة لا يستقر عليها القرار، ومن تصادم الشرور يشل بعضها بعضًا فيأتي الخير بغير تدبير.
وما من عجب أن تتعدد المذاهب في أمة مضى على حكمائها ألوف السنين، وهم يتدارسون الأخلاق والآداب بين عهود تتعاقب وأحوال تتباين وأقاليم تتباعد المسافات بينها بآلاف الأميال، ولكن العجب حقًّا أن تصطبغ هذه المذاهب بصبغة واحدة لا تخفى على من يلمحها لأول نظرة، وصدق من قال: إن أفكار الصين كمصابيحها تختلف ما تختلف بالألوان والأشكال، ولكنها تحمل طابعًا واحدًا من وراء جميع الألوان والأشكال.
وقد دخلت الصين مذاهب من بلاد قريبة أو بعيدة، فلم تلبث أن اصطبغت بهذه الصبغة وخالفت ما كانت عليه في بلادها الأولى. دخلتها البوذية من الهند فنقلت إليها فكرة الروح الباقية، ولكنها فهمت هذه الروح كما كانت تفهم أرواح الأسلاف غير مقترنة بحالة النعيم أو حالة العذاب، واستباح البوذي الصيني أكل الحيوان ومتاع الحريم، ومن شذ عن هذه الإباحة كان بدعة في شذوذه مخالفًا فيه لأشد المتنطسين من أصحاب المذهب الأصيل، فكان عميد أسرة ليانج في القرن السادس يجاوز تحريم ذبح الحيوان إلى تحريم تصويره على الحرير؛ لأنه يتعرض للقص والتقطيع … ولم تحل هذه الغيرة على الحياة عند هذا البوذي العجيب دون قتل الألوف من جنده وجند أعدائه في حروب الفتح وغارات الانتقام … وأعجب ما فيه أنه كان من القادة الأشداء الصلاب، ولم يكن حالمًا ولا قانعًا كما يسبق إلى الخاطر من تورعه عن المساس بالحيوان حتى في الرسوم.
والذي حدث للبوذية من التطور في عقول الصينيين حدث للمسيحية في العهود الأربعة التي دخلت فيها إلى الصين، وقد دخلتها أربع مرات: مرة مع النسطوريين بين القرن السادس والقرن السابع، ومرة مع رهبان القديس فرنسيس (الفرنسيسكان) في القرن الثالث عشر، ومرة مع اليسوعيين في القرن السادس عشر، ومرة مع الإنجيليين في القرن التاسع عشر، ولهذا يقل عدد المسيحيين الإنجيليين من أهل الصين عن عدد الكاثوليك، فهم أقل من ربع المسيحيين، وعددهم اليوم جميعًا يزيد على أربعة ملايين.
وقد حظي النسطوريون عند أبناء السماء وتقربوا إليهم بمعلوماتهم الرياضية والطبية، ونقشوا صورهم على جدران الكنائس، وظل الشعب يُسمي هذه الكنائس بالمعابد الفارسية؛ لأن النسطوريين قدموا إلى الصين من بلاد فارس، ثم أصيبوا بجور السياسة في أيام الملوك الذين كانوا يتوجسون من الأجانب، ولكنهم عكفوا على معابدهم وحافظوا عليها إلى القرن الثالث عشر؛ إذ قدم الرحالة ماركو بولو إلى الصين فوجد لهم معابد على طول الطريق من بغداد إلى بكين.
ولم يكن لرهبان القديس فرنسيس مثل هذه الحظوة؛ لأنهم دخلوا الصين في إبان القلاقل على حدودها الغربية.
أما صاحب الأثر الأكبر في نشر المسيحية بين القوم فهو الأب اليسوعي مانيو ريتشي الذي سبر غورهم وتألفهم باتخاذ عاداتهم في ملابسهم ومآكلهم، وتسمى باسم صيني فعُرف بعد ذلك باسم «لي هسي ثاي» ثم حذق اللغة الصينية وترجم إليها دروس الجغرافية والفلك والرياضة، ومهد الطريق لتلاميذه فندب بعضهم لوظيفة الفلكي الإمبراطوري، وخصص له مكان من قصر ابن السماء، وكان يتسمح مع القوم فيثني على حكمة كنفشيوس ويأذن لهم في تكريم أسلافهم، متدرجًا بهم من عبادة أرواحهم إلى ذكرهم بالترحم والتحميد، وقبل منهم أن يطلقوا اسم السماء على الإله، ولم يدعُهم قط إلى المسيحية على اعتبارها ديانة أشرف وأصدق من ديانتهم، ولكنه جمع بين الأيسر والأقوم من الديانتين، فلم ينفروا من الإصغاء إليه.
واتبعه أناس من تلاميذه على سنته ولكن بغير مقدرته وسماحته، حتى وقع الخلاف بين هؤلاء التلاميذ وبين الآباء البيض (الدومينيكان) على مسائل التوفيق بين الديانة الصينية والديانة المسيحية، ونمي الخبر إلى كنيسة رومية (سنة ١٧٠٤)، فأنفذت أحد وكلائها — الأب تورنون — إلى بكين لتصحيح الموقف وأشفق هذا عند وصوله إلى العاصمة من مجابهة القوم برسالته فتردد في تبليغها ثلاث سنوات، ثم اضطر إلى إعلانها وإنذار من يخالفها بالحرمان إن لم يبرح البلاد الصينية وينفض يده من أعمال كنائسها.
وغضب ابن السماء من إعلان هذا الأمر في بلاده، واستكبر أن يسيطر أحد بالأمر والنهي على رعاياه، فاعتقل القائمين بمعارضة القساوسة الموفقين، وأصدر أمرًا آخر ينذر فيه كل من يسمع إلى المعارضين بالنفي من البلاد.
ولما قدم المبشرون الإنجيليون لأول مرة في أوائل القرن التاسع عشر (١٨٠٧) كان معظم مقامهم في الموانئ والمناطق التجارية المباحة، وأعقب مقدمهم ظهور طائفة مسيحية وطنية يدعي صاحبها أنه الأخ الأصغر للسيد المسيح، ويبشر بعقيدة وسطى بين عقائد أهل الصين وعقيدة الإنجيليين، وأوشك هذا الرجل — واسمه هونج — أن يسقط ابن السماء من عرشه؛ إذ كان قد استولى على نانكين ونادى بنفسه ملكًا سماويًّا على الصين بأسرها، ولكنه أخفق بعد نجاحه عشر سنوات؛ لأنه خسر المسيحيين والوطنيين وأنصار الأسرة المالكة وأعداءها بخطته في التوفيق الذي ينكره كل فريق، ولم تمت ثورته مع هذا كل الموت، بل كانت بمثابة «المسودة» الأولى للثورة المنتظرة، فنشأ أبناء الشطر الأخير من القرن التاسع عشر وهم يتذاكرون حركته ويفكرون في أسباب نجاحه وأسباب إخفاقه، وفي طليعتهم سن ياتسن زعيم الثورة التالية التي كُتب لها النجاح بعد هذه التجارب والتمهيدات.
واتسعت أعمال المرسلين الإنجيليين خلال هذه المرحلة، بعد السماح للأجانب بالتنقل في داخل البلاد، ثم صادف هذا التوسع إقبالًا من الناشئة على العلم الحديث وثقة بفضل الثقافة العصرية فتسابقوا إلى مدارس المرسلين، ولم يتردد بعضهم في قبول الشعائر والعبادات التي فرضتها هذه المدارس على طلابها، ولا سيما المدارس العليا التي لم يكن لها في ذلك الوقت نظير من المعاهد الوطنية.
•••
والإسلام هو أكثر الديانات أتباعًا في الصين بعد الديانة الوطنية، ويترواح تقدير المسلمين بين عشرين مليونًا وخمسة وخمسين مليونًا، أو أكثر من ذلك في تقدير بعض الرحالة المسلمين، ومعظمهم من سكان الأقاليم الغربية، ويسميهم الصينيون هوي هوي، إما من كلمة هو بمعنى الغرب أو من كلمة هوي بمعنى الالتفات والاستدارة؛ لأنهم يستقبلون الغرب في الصلوات.
وقد اتصل خبر الفتوح الإسلامية بملوك أسرة تانج من جيرانهم أمراء الفرس الذين لاذوا بعرش ابن السماء يستنجدونه على جيوش العرب، ووجدت في سجلات الأسرة صحيفة تذكر بلاد العرب ونشأة الإسلام، وتقول عن الجزيرة العربية (تاه شيه) إنها كانت ولاية فارسية، وإن رجلًا منها تلقى وعدًا من السماء بملك العالم والانتصار على كل من يحاربه، ولم يستجب العاهل (تاي تسنج) رجاء الأمراء الفارسيين على كل حال، سواء لاتقائه الاشتباك في حرب مع الجنود الموعودين بالنصر أو لقلة الجدوى من تلك الحرب على أطراف الدولة النائية، ثم تقدم العرب في آسيا بقيادة قتيبة، ووصل رسل الخليفة الوليد إلى العاصمة الصينية، فرضي ابن السماء لأول مرة أن يعفي هؤلاء الرسل من قواعد (الكوتو) أو البروتوكول الصيني الذي يقضي بسجود كل داخل إلى ساحة العرش ثلاث مرات قبل الوقوف في حضرة ابن السماء؛ لأن أولئك الرسل هموا بالعودة من حيث أتوا وقالوا: إن دينهم ينهاهم أن يسجدوا لأحد غير الله، وبقيت للدولة الإسلامية هذه السمعة المرهوبة إلى الجيل التالي؛ فأرسل العاهل (شي تيه) يستعدي أبا جعفر المنصور على الثائر لوشان ثم سمح للجيش العربي الذي هزم ذلك الثائر الخطر بالمقام في الأرض الصينية، فمن ذرية هذا الجيش جلة المسلمين الصينيين، ثم لحق بهم طوائف من المسلمين رجعوا مع ملوك التتار بعد غارات جنكيز خان وأتباعه، فاستحبوا المقام وتزاوجوا وتناسلوا حيث أقاموا، ولم يزالوا محافظين على عاداتهم من تحريم الخمر ولحم الخنزير والمعاملة بالربا، واقتبسوا من العادات الوطنية غير قليل، ومنها المغالاة بتعظيم الأسلاف؛ لأن هذه العادة لم تكن غريبة عن طباع العرب أو أبناء القبائل البادية التي تألف منها جيش المسلمين في ذلك الحين.
فتاريخ الإسلام في الصين يخالف تاريخ البوذية وتاريخ المسيحية؛ لأنه تاريخ سلالة إسلامية انتقلت بعقيدتها من تخوم البلاد الخارجية، ولم يكن للتبشير عمل في نشر عقيدتهم، إلا ما كان من تحول الزوجات والجيران المقتدين بجيرانهم، ومما لاحظه المؤرخون على المسلمين الصينيين أنهم لم يحفلوا بنشر الدعوة الدينية حولهم، وأن شهرتهم العسكرية كفت عنهم عدوان القبائل التي تُحيط بهم، وأنها في كثير من الأحيان كانت تغري أبناء السماء باستخدامهم في جيوشهم، فكان منهم قادة مشهورون إلى أيام أسرة منج الوطنية، وكان أشهر قادتها «شنج هو» يُسمى بالحاج ويقود الحملات البحرية كما يقود الحملات البرية، واشتملت إحدى حملاته (سنة ١٤٠٥) على نيف وستين سفينة عليها من المقاتلين نحو ثلاثين ألفًا من أبناء الملل المختلفة.
وتعتبر الثورات الإسلامية نذير الخطر في تاريخ الصين الحديثة خلال القرن التاسع عشر على الخصوص، فقد تعددت ثورات المسلمين منذ أول ذلك القرن فكانت علامة على سوء الحال واليأس من صلاح الأمور، وبلغت ثورتهم الكبرى أشدها بأقاليم شنسي وكانصوه سنة ١٨٤٧، فلم تمض ثلاث سنوات حتى أعقبتها الثورة المعروفة باسم التايبنج؛ أي دعوة السلام السماوية، واحتدمت نيران هذه الثورة أكثر من عشر سنين، ثم تلاحقت الثورات بعد ذلك من الشمال والجنوب، ولم تنحسم ثورة المسلمين الجنوبية بإقليم يونان إلا بعد إخماد ثورة التايبنج بسبع سنوات.
•••
هذه لمحة عابرة إلى أحوال التدين في الأمة الصينية، مدارها على بيان الصبغة التي تصطبغ بها الملكات العامة في تلك الأمة العريقة، ونعني بالملكات العامة ما كان من قبيل الشعور الوطني أو الشعور العنصري أو الشعور الديني أو ضروب الشعور التي تشترك فيها الأمم والطوائف الكبيرة، ومن هذه اللمحة العابرة نرى أن الشعور الديني — على كونه في الصين قوة غير مهملة — لم يكن محور الأطوار الكبرى في سياستها وتقلب الدول فيها، ويندر في تاريخ الصين أن يضطهد قوم لعقيدتهم الدينية دون سبب آخر يجعل لهم صفة سياسية أو اجتماعية خاصة ولو في وقت من الأوقات. ومن هذا القبيل اضطهاد كهان «التيبت» لمخالفيهم حين جمعوا في أيديهم سلطة الكهانة وسلطة الحكم واحتكار تجارة الشاي، فكانت أغراضهم السياسية والتجارية سبب هذا الاضطهاد، ومن هذا القبيل أيضًا أن بعض الأسر اضطهدت البوذيين؛ لأنها نظرت إليهم نظرها إلى الأجانب الممالئين للدول الأخرى، أو اضطهاد أتباع كنفشيوس؛ لأن دعوتهم الثقافية كانت تحبب إلى الشعب نوعًا من الحكومة غير الحكومة القائمة.
ولما ثار المسلمون غير مرة كان السبب الغالب سوء الحال، وأنهم بطبيعتهم أقل خضوعًا للحكومة الظالمة من عامة أهل الصين، وتأتي الأسباب الدينية عارضة مع هذا السبب الغالب، ولهذا كانت ثوراتهم تعقبها ثورات أخرى من أهل الصين الذين يدينون بغير الإسلام، ويسخطون على حكوماتهم لغير البواعث الدينية.
قال الراهب: كلا، وقد ذكرت لسموكم آنفًا أنني لم آت لأخاصم أحدًا أو أدخل في مساجلة مع أحد.
قال الأمير: لست أعنيك، ولكنني أقول هذا وأقول أيضًا: إن كتابكم ينهى الإنسان أن يحيد عن العدل طلبًا للمنفعة.
قال الأب: إنني لا أطلب مالًا، وقد أبيت أن آخذ شيئًا مما أعطيت … وشهد كاتب من كُتَّاب الأمير كان حاضرًا بأنني رددت قضيبًا من الفضة وثوبًا من الحرير.
فعاد الخان يقول: ليس كلامي عنك، ولكنني أتكلم عن أناس يتلون الكتاب ويخالفونه، ونحن أعطينا الكهان والسحرة ولا نخالف ما يُوحى إليهم.
ومن طريف ما يُروى أن هذا الراهب كان يتحدث إلى رجل من حاشية الخان فقال له: هذه إرادة السماء، فقال خادم الأمير: وهل صعدت إلى السماء؟ وكان يظن أن المتحدث عن السماء ينبغي أن يتصل بها كاتصال كهانهم وسحرتهم، ولا حجاب دون السماء.
•••
أما عادات أهل الصين وأخلاقهم فيما عدا هذه العاطفة العامة — عاطفة الدين — فالتخصيص فيها يتطلب كثيرًا من الأناة.
إذ يقال في بعض الأحوال عن خلق نادر أو شائع: إنه من أخلاق أهل الصين فإذا هو من الأخلاق الإنسانية التي تتماثل في جميع الأمم، ويجب أن نوطن النفس على تكرار جميع الأخلاق الإنسانية في أمة بلغت أول القرن العشرين أكثر من أربعمائة مليون، وبلغت في القرون الغابرة عشرات الملايين حين كانت أكبر الأمم لا تزيد على بضعة ملايين، فمن المتعذر جدًّا أن يُوجد خلق إنساني لا يظهر في هذه الأمة ولا يتكرر فيها، وكل خلق يسبق إلى الذهن أنه خاص بها لا يلبث بعد البحث أن تظهر له مشابهات كثيرة في غيرها.
إنما تتخصص في هذه الأمة وأمثالها عادات الاجتماع دون عادات الطباع.
ففيها مثلًا عادة حبس قدمي البنت منذ الطفولة الباكرة، وعادة الإزراء بالجندية على خلاف المعهود في الأمم القديمة، وعادة التخاطب بالعبارات المصطلح عليها مما يشبه القوالب المحفوظة.
وهذه وما شابهها جميعًا ترجع إلى أحوال المجتمع الصيني التي يجوز أن يتخصص فيها بموافقات لا تعم سائر المجتمعات.
فالأمة التي تصبح فيها مسائل السلوك دينًا مرعيًّا لا نعجب فيها من المغالاة بالأناقة ودلالات الترف والدلال، ومنها أناقة المرأة وتلطيف جوارحها وأعضائها، فإذا ثبت فيها المجتمع على ديدن المحافظة آلاف السنين؛ فيكفي فيها أن تظهر البدعة جيلًا واحدًا حتى تتوارثها منه الأجيال أعقابًا بعد أعقاب.
أما عادة الإزراء بالجندية فلها جملة أسباب خاصة بالصين في تاريخها القديم: منها أن أهل الصين لم يشهدوا من الجندية إلا جانبها الذي يغري بالإزراء والجفاء؛ إذ كانت صناعة الجندية صناعة المرتزقة في الحروب الأهلية، يعمل فريق على قتل فريق من أبناء الوطن الواحد، وقلما عملوا في دفع الغارات الأجنبية التي من أجلها عظَّم الناس الجندي وهو يواجه الموت في الذود عن قومه ووطنه، ولهذا تواتر المثل القائل إن الحديد الجيد لا يصنع منه مسمار والإنسانية الجيدة لا يصنع منها جندي، ولا يقصدون بذلك إلا طائفة الجند الذين لا مرتزق لهم من صناعة ولا دراية إلا أن يبيعوا أنفسهم لكل من يعطيهم رزقًا في سبيل أطماعه وأهوائه.
ومن أسباب هوان الجندية عندهم أن عهد الإقطاع كان قائمًا على القادة في كل إقليم، فلما قضي على هذا العهد جعلوا الولاية فنًّا يتولاه الأصلح بالامتحان، وساعدهم على ذلك تقديس الحكمة في صورة الأبوة، فأصبحت الطاعة للحكيم الخبير عادة غير مستغربة بعد الطاعة للآباء المجربين والأجداد المقدسين، وقد عانى زعماؤهم المعاصرون أشد العناء في تشجيع شبانهم على الأعمال العسكرية التي ساءت ظنونهم بها عشرات الأجيال، فلم يقبلوا عليها إلا بعد ضربات الهزيمة المتوالية، وبعد أن علمتهم هذه الضربات أن الهوان لاحق بهم بين شعوب العالم، ومنها الشعوب التي كانوا يحتقرونها ويترفعون عنها، ما لم يقوموا هذه القيم من جديد.
ولصقت بأهل الصين عادة التخاطب بالعبارات المصطلح عليها؛ لأن الكتابة عندهم هي في الواقع قوالب منقوشة تتكرر بدلًا من الحروف في الكتابات الأخرى؛ ولأنهم أهل مراسم وأنظمة موروثة يحفظها أصحاب القصور، ويقتدي بهم الخاصة فمن دونهم إلى العامة ودهماء السوقة، والناس على دين ملوكهم، ولا سيما الملوك أبناء السماء.
ومن عاداتهم العقلية حب المقابلة والتناسق في التفكير، يملكهم النسق حتى يذهلهم عما وراءه من النقائض الخفية، ولم يفلح في مخاطبتهم من لم يفطن إلى هذه العادة العقلية فيهم، وبخاصة وعاظ الأديان.
وهذا أيضًا أثر من آثار الحكمة الطويلة التي تلخصها كلمة «الاتزان» وأثر من آثار الحوادث التي عودتهم أن يتريثوا ولا يندفعوا، وأثر من آثار الولع بالرسم والتنسيق في الكتابة والتصوير والنسيج والشعائر والمجاملات.
•••
لوحظ في بيئات الحجاب والصيانة المفرطة أن الفتاة إذا زلت في هذه البيئات خرجت من كل عنان؛ لأن المنزلة الوسطى بين الحجاب الشديد وبين الجماح المطلق غير موجودة.
ويصح أن يلاحظ مثل هذا في ثورات الأمم التي ريضت على الاتزان والنسق المطرد، فإنها إذا ثارت ثارت بعد بطلان كل حيلة، فليس أصعب من إثارتها إلا أن تكبح ثورتها حين تخرج عن عقالها.
مذاهب السياسة
من الطبيعي أن تكثر مذاهب المفكرين في الحكم وآداب السياسة بين الأمة الصينية؛ لأنها قديمة العهد بالحكومة، قديمة العهد بالأساتذة والمفكرين، حتى أوشك هؤلاء أن يكونوا طبقة كبيرة تقابل طبقة الولاة الإقطاعيين في سائر الأمم.
وقد كثرت فعلًا هذه المذاهب حتى اجتمع منها النقيضان في وقت واحد.
فكان من فلاسفتهم أتباع الطريق أو الناموس من ينكر ضرورة الحكم ويقول: إن القانون يخلق المجرم، وإن الخلاص من واضعي الشرائع أول واجب على الناس، فإذا لم تكن شريعة لم يكن مجرمون، ويتعلم الناس مع الزمن أن اقتناء الأموال مجلبة للنزاع والخصومة والإجرام فلا يقتني أحدهم ما ليس في حاجة إليه.
ويقابل هذا المذهب مذهب الفلاسفة المعروفين بالشرائعيين، وخلاصته أن الشريعة ضرورة لا غنى عنها، وإن صلح الحاكم وحسنت نيته؛ لأن لحاكم ينبغي أن يتقيد أمام الناس بقوانينه، وألا يحكم بشخصه بل بالأحكام الموضوعة للراعي والرعية.
وبين المدرستين مدرسة ثالثة لا تنكر التشريع أصلًا ولا تستلزمه أصلًا، بل تقول إن مهمة المجتمع الكبرى هي تربية أبنائه حتى يجيء الوازع من أنفسهم لا من الأوامر والزواجر، فإن هذه الأوامر والزواجر تعلم الناس كيف يحتالون عليها فيقع في الشرك من هو قليل الحيلة ويفلت منه من هو أقدر على الاحتيال وأحق بالعقاب.
وكان حكيم الصين الأكبر كنفشيوس على رأس القائلين بإسناد الحكم إلى الحكماء.
وقد قيل في أصل الحكومة كل ما قاله فقهاء الغرب في القرون الأخيرة مع اختلاف الأساليب، فمن حكماء الصين من يجعل الحكومة ضرورة لانطباع الناس على النزاع والعدوان، ومنهم من يجعلها ضرورة؛ لأنها تتفرغ لعمل لا تتفرغ له الرعية كلها، ويكاد الحكماء أن يتفقوا على أن مصلحة الرعية هي أساس الحق في الحكم، وشعارهم جميعًا قول كنفشيوس: إن السماء تقول ما الشعب قائل وتسمع ما الشعب سامع، وإن خلع الحاكم علامة على رجعة السماء في تفويضها.
ولا يشذ عن هذا الرأي من يقول: إن الأرض لابن السماء، فإنهم يحسبونها ملكًا له باعتباره مسئولًا عن مصالح الرعية، ويقولون: إن تحصيل الضريبة لا يحق للحاكم ما لم تكن جزاء على عمل نافع لمن يؤديها.
إلا أن هذه المذاهب على قدمها وكثرتها لا تعدو مباحث النظر ومساجلات المفكرين ودروس المعلمين، فلم يكن لها أثر في إقامة دولة وإسقاط دولة، وانحصرت فائدتها في تثقيف بعض الولاة والملوك، فمن كان منهم مطلعًا على آراء الحكماء عمل بما يروقه من آرائهم، ومن وكل منهم الرأي إلى الوزراء من الأساتذة والمؤدبين، فالناس منتفعون بحكمة وزرائه كلما اقتدروا على العمل بحكمتهم، ولم يحدث قط أن الدولة قامت لتطبيق مبدأ أو سقطت لمعارضة مبدأ، وإنما تأتي الفائدة وفقًا لما يستحسنه الملوك والوزراء.
وهناك تجارب سياسية أو إدارية تولدت في الصين من اجتماع ظروف فيها لم تجتمع على هذا المنوال في غيرها.
ومن هذه التجارب القضاء على أمراء الإقطاع بعد نظام الإقطاع الذي أسسه شو كنج ووضع فيه كل ما يمكن من الأقسام، ومنها إقطاع المدن الذي عُرف باسم تيين وإقطاع الإمارات أو الدوقيات الذي عُرف باسم هو، وإقطاع الحكومات القديمة التي حفظ لها حقها في بلادها إلى حين، وكانت تعرف باسم «وي» وإقطاع الحدود الذي كانت مهمته حراسة حدود الدولة وكان يُعرف باسم هوانج.
وقد كان هذا التقسيم على غاية من النفع في بداءته وظل كذلك عدة قرون؛ إذ عملت كل ولاية على تمدين القبائل الهمجية فيها بنشر المعارف الزراعية والعادات التجارية بين أهلها، ثم ضعفت الحكومة المركزية فضعفت رقابتها على الأطراف القاصية، وجاءت الأسرة التالية فبطشت بأمراء الإقطاع كافة واستبدلت بهم حكامًا توسمت فيهم الكفاية والأمانة، ثم وضعت نظام الولاية بالامتحان، ورشحت كل من أنس في نفسه القدرة على أداء الامتحان المطلوب، وساعدها على ذلك أن الصينيين يقدسون الأسلاف ويتوجسون من الجندية، ولو أنهم استطاعوا لقصروا الولاية على الآباء والشيوخ المحنكين، فإذا كان الآباء لا يؤخذون بالاختبار والامتحان، فالبديل منهم ذوو الحنكة والدراية الذين يثبتون خبرتهم بالاختبار، أو الامتحان.
هذه الضريبة قضت على الإقطاعيين باعتبارهم طبقة تجمعها جامعة واحدة وتنتقل سيادتها بالوراثة، فمن ارتفع بعد ذلك إلى مكان الولاية واستولى على ضيعة أو إقليم فإنما هو فرد لا تضمه إلى غيره طبقة متساندة، وقد يخلفه والٍ من عامة الشعب لا عصبية له ولا مزية له على العامة غير درايته واحترام الرعية لعلمه وفهمه.
واختفى مع الإقطاع، نظام آخر لازمه قديمًا في غير الصينية، وهو نظام الرق، واستعباد المغلوبين بالمئات والألوف، وأعان على اختفاء الرق أن الحاجة إليه غير لازمة مع وفرة الأيدي العاملة وتقسيم الأرض الزراعية بين أقرباء الدم والمصاهرة.
ومن ظروف الصين التي خصت بها على نطاق واسع، أنهم اختبروا الملكية المشتركة من أقدم العصور، ولبثت بقية منها متخلفة إلى زمن قريب.
فالأرض كانت ملك القبيلة على المشاع، ثم تكاثرت القبائل فأصبحت ملكًا للدولة، وأصبحت للدولة حصة من المحصول تتسلمها عينًا وتقدرها على حسب المسافة بين العاصمة والأرض المزروعة، فالأرض البعيدة، ترسل المحصول حبوبًا، والمتوسطة ترسل الحبوب في السنابل، والقريبة ترسل الحصيد كله، ويتفاوت المقدار في كل حصة، للتسوية بين الضرائب في جميع الجهات، ومن هنا تكفلت دواوين الحكومة قديمًا بضروب من التجارة والتوزيع، لتصريف المحصولات التي تجبيها.
وحلت الأسرة محل القبيلة زمنًا في الملكية الزراعية، ثم تقسمت الأنصبة فتاتًا يصغر شيئًا فشيئًا، ويحتاج مالكه إلى استئجار الأرض من غير ملكه؛ أي من الوالي الذي ينوب عن الدولة في الإقليم.
وكانت في كل إقليم — خلال هذه العصور جميعًا — أرض شائعة يتطوع الفلاحون لخدمتها، وهي الأرض الموقوفة على هيكل السلف الأكبر في ذلك الإقليم، فمن غلة هذه الأرض ينفقون على بناء الهيكل وترميمه وخدمته وإقامة محافله، ويعمل الفلاحون فيه بدعوة من الكاهن والوالي أو بالتفاهم على المناوبة، ولا يتقاضون أجرًا من أحد.
•••
- النتيجة الأولى: أن تجاربها الماضية تجعلها بابًا مفتوحًا لكل تجربة محتملة، تدخلها غريبة وتصطبغ فيها بصبغتها الوطنية؛ إذ لم يكن من طبيعة الأنظمة الحكومية التي سبقت فيها أن تغلق الباب على نظام جديد يطرأ عليها.
- والنتيجة الثانية: أن أحداثها السياسة تحسب من قبيل التغييرات المتشابهة، ولا تحسب من قبيل التطورات المتجددة، فإن أسرتها الأخيرة نسخة من أسرها الأولى قبل الميلاد بعدة قرون، ومحور التغيير فيها قوة الأسرة وضعفها، فإذا كانت الأسرة وطنية، تربصت بها القبائل الساطية غرة الضعف والغفلة فانقضت عليها واغتصبت منها عرشها، ثم تضعف هذه الأسرة الأجنبية وتعتريها الغفلة مع الزمن؛ فتسقطها أسرة وطنية أخرى أو غارة جديدة من القبائل الضاربة حول بلاد الحضارة، فليس في هذه التغييرات تطور لنظام الحكم على مبدأ جديد.
وكل ما أثر عن الحكماء من المذاهب والنصائح فإنما هو من الوصايا التي تساق إلى كل حاكم على كل نظام من أنظمة الحكم الملكي أو الجمهوري أو الفردي المستبد أو الشوري النيابي، أو ما شئت من الأنظمة العتيقة والمبتكرة. فما من حاكم إلا يجوز أن يقال له: إن العدل خير من الظلم، وإن الكفاية، أولى بالاختيار من الحظوة الشخصية، وإن القوانين عصمة الملك ورضى الرعية، وما لم يكن هنالك برنامج مفصل يصلح لنوع من الحكومات ولا يصلح لنوع آخر، فلا محل للانقلاب من جراء تلك المذاهب التي يسلمها من يسلمها، أو يناقشها من يخالفها مناقشة النظر والدراسة.
ومرجع النقص في عوامل التطور هنا إلى سببين على الأرجح: أولهما العزلة عن العالم، وأحداثه الفعالة بين الأمم القريبة والبعيدة، وثانيهما العزلة الداخلية، ونعني بها عزلة الحكومة المركزية عن الأطراف القاصية وعن مباشرة التفصيلات في أدنى الولايات وأقصاها على السواء.
فالبلاد التي تشرف فيها الحكومة على تفصيلات الحكم في كل إقليم من أقاليمها يتطور نظامها الحكومي عند كل تطور عظيم يطرأ على المجتمع؛ لأن الحكومة فيها هي كل شيء بالنسبة إلى الأعمال العامة، فلا مناص من تغيير نظامها كلما تغيرت مطالب المجتمعات التي تتولاها.
وهذه حالة غير حالة البلاد المترامية الأطراف، فإن العلاقة بين أقاليمها وحكومتها المركزية تتراخى فلا تشرف هذه الحكومة على تفصيلات الحكم في الأقاليم، ولا يتحتم انقلابها كلما طرأ على هذه التفصيلات طارئ جديد.
فإذا لم يكن ثمة طارئ جديد فالانقلاب من باب أولى ليس بالحتم المقضي لا محالة، وقد كانت بلاد الصين جميعًا بمعزل عن العالم وأحداثه وتغييراته، وكانت مكتفية بنفسها فخورة باكتفائها، فلا تسقط فيها الحكومة المركزية إلا إذا عجزت عن حماية نفسها وتفاقمت مساوئها فخذلها من كان ينصرها.
ودام الحال على ذلك عشرات القرون …
ثم مرت بالبلاد عشرون سنة بدلت كل شيء غاية التبديل، فلا عزلة عن العالم الخارجي، بل لجاجة في الاتصال واشتباك العلاقات، ولا استغناء عن الحكومة المركزية في كبير الأمور أو صغيرها، بل هي الحكومة التي لا بد من صلاحها أو تغييرها: تغييرها هذه المرة تغيير التطور في النظام وفي جملة السياسة وتفصيلاتها.
وهبت في البلاد ثورات، ولكنها كانت من ثورات التاريخ الماضي، وعلى سنته البالية، فلم تفلح ولم تغير شيئًا؛ لأنها هي نفسها أحوج ما كان إلى التغيير.
وانتظرت البلاد ثورة من التاريخ الحديث.
فجاءتها الثورة من تاريخ العصر على يد الرجل الذي سمي بحق أبا الصين الحديثة، وسُمي بحق نبي الوطنية في الصين.