أبو الصين
سن ياتسن
نعم، سُمي سن ياتسن بحق أبا الصين ونبيها الوطني، وهي لم تعرف نبوة في غير الوطنية.
وكان أبا الصين ونبيها الوطني حقًّا؛ لأن الصين كانت فريسة لجراثيم اليأس والموت، فنفخ فيها روح الأمل ونقل إليها جراثيم الحياة.
ولم يكن بدعًا بين الزعماء، فهناك أعمال عملت له قبل مولده، وهناك أعمال عملت له بعد مولده ولم يطلبها ولم يتعب في تدبيرها.
وهكذا جميع الزعماء في جميع الأمم في جميع العصور.
إلا أن نصيب هذا الرجل في فضل الزعامة كان أعظم من نصيب الزعماء في زمانه، فكتبت له وحده رسالة الزعامة التي لا غنى عنها ولا تجدي موافقات الحوادث شيئًا بغيرها.
فمن الصعب أن نفهم كيف كان سن ياتسن يقدر على رسالته لو لم يُولد حين وُلد، فكانت ولادته قبل ذلك بعشرين سنة، أو بعشر سنين.
ومن الصعب أن نفهم كيف كان يقدر على رسالته لو لم تكن نشأته في الجنوب حيث نشأ، ولو لم يكن تعليمه كما تعلم، ولو لم يكن أخوه الأكبر الذي أشرف على تعليمه بعيدًا عن أرض الصين يوم بلغ الصبي سن المدرسة.
ولكن الأصعب من هذا أن نفهم كيف كان رجل غير سن ياتسن مقتدرًا على مهمته لو لم تكن له سليقته وعزيمته وبديهته، وخليقة اليقين في وجدانه، وبث اليقين في وجدان الآخرين.
وُلد سن ياتسن في نوفمبر (سنة ١٨٦٦) والناس يتحدثون بثورة التايبنج وأنصار هذه الثورة يلوذون بالجنوب، بعد القضاء على حركتهم واتفاق الدول الصينية والدول الأوروبية على مطاردتهم واستئصال بقاياهم.
وقُضي على الحركة يومئذ ولم يقض على جماعاتها السرية التي تغلغلت بين قرى الشمال والجنوب من أقصى الأقاليم الصينية إلى أقصاها.
وكان من الطبيعي أن تلوذ بالجنوب؛ لأن العطف فيه على الحركات الثورية أعظم وأصدق، ولأن الأنصار المؤيدين فيه للأسرة المالكة أقل وأضعف.
وليس أقدم من تواريخ الجماعات السرية في البلاد الصينية، ففي أيام أسرة هان قبل عشرين قرنًا كانت جماعة «الحواجب الحمر» قوة مرهوبة في الحرب الأهلية، وسميت كذلك؛ لأن صبغ الحاجبين باللون الأحمر كان علامة بينهم حين يتعرف بعضهم إلى بعض في غير بلد غريب.
وأشهر هذه الجماعات في العصور الوسطى — جماعة الزنبقة البيضاء — نشأت على أيام الأسرة المغولية، وعادت إلى الظهور على أواخر أيام أسرة «منج» الوطنية فاجتاحت الأقاليم الجنوبية وخمدت ثورتها بعد أن قُتل عشرون ألفًا من أعضائها.
وفي القرن التاسع عشر تجددت هذه الجماعة ونشأت إلى جانبها جماعة الثالوث، إشارة إلى السماء والأرض والإنسان، وجماعة «كولاوهوي» أي: الإخوة الكبار، وكانت تعيث في جوانب الأرض انتقامًا من الأسرة المالكة وإزعاجًا لها، ولكنها لم تكن ذات برنامج سياسي أو خطة مرسومة لولاية الحكم بعد سقوط الأسرة الحاكمة، ومن لجانها طائفة كبيرة ناصرت الحركة الوطنية بعد إعلان الجمهورية.
ولم ينقطع تأليف هذه الجماعات بعد انهزام جماعة التايبنج، فنشأت جماعة الملاكمين، ونشأت بعدها جماعة الحواجب الحمر، ونشأت هنا وهناك جماعات إقليمية للدفاع أو للهجوم، ولكنها كررت أخطاء التايبنج ولم تعتبر بدروسها.
فنشأ سن ياتسن في صباه وهو يحلم بتأليف جماعة من هذه الجماعات … ولو لم تكن هذه الجماعات وأمثالها حلم طفولة لقد كان الأحرى بإخفاقها أن يثنيه عن محاولاتها وجرائرها.
•••
وكان مولده في قرية سيانجشان بإقليم كوانتنج، وقيل: إن أباه كان من أعضاء جماعة التايبنج المسيحيين الذين يؤمنون بمذهب زعيم الجماعة في المسيحية، ومنه ادعاؤه أنه أخ صغير للسيد المسيح، وقيل غير ذلك إنه كان من أعضاء الجماعة ولم يؤمن بنحلتها الدينية.
وكان مولد سن ياتسن في الجنوب ترشيحًا آخر للمطالبة بالحرية؛ إذ كان الجنوب يعادي الأسرة المالكة التي كان فريق من أهل الشمال يتعصبون لها، لمجيئها من الشمال ومقام ذويها وأتباعها في عواصمه وقراه، وإذ كان الجنوب أقرب إلى الحرية والحضارة الحديثة وأكثر اختلاطًا بأمم العالم واطلاعًا على شئونها، إما بمعاملة الوافدين إلى الموانئ الجنوبية وإما بالرحلة إلى الديار الخارجية.
ونحن نستصغر اليوم أثر هذه النشأة في مستقبل طفل صغير؛ لأننا نتوهم حالة الصين يومئذ كأنها حالة عصرية يطلع فيها القارئ على أخبار الصحف والإذاعة حيث كان، ولكننا نصحح هذا الوهم في أخلادنا متى ذكرنا أن الصحافة لم يكن لها وجود بين الشماليين، وأن الاطلاع هناك على أخبار الخارج ممتنع بغير حاجة إلى مانع من الحكومة، وهذا هو الفارق البعيد بين اطلاع الناشئ في الجنوب على شئون العالم وبين اطلاع أبناء الشمال على تلك الشئون، وحسبنا أن نراجع تواريخ هون سيوتسوان زعيم التايبنج، وكانج يووي زعيم النهضة الأدبية، وليانج شيكاو زعيم المدرسة الدستورية الملكية، وأن نراجع تراجم تلاميذهم العاملين، لنذكر معنى النشأة الجنوبية في ذلك الجيل.
وقد لاحظ المؤرخ جرين صاحب كتاب «قصة ثورة الصين» أن التنافس بين الشمال والجنوب ظاهرة مألوفة بين أمم كثيرة شرقية أو غربية … فهو مألوف بين أبناء الشمال والجنوب في الولايات المتحدة، ومألوف بينهم في إيطاليا، ومألوف بينهم في بروسيا وألمانيا الجنوبية، ويحدث هذا التنافس تارة لأسباب عنصرية وتارة لأسباب سياسية أو اقتصادية، كما يحدث أحيانًا لمجرد الولع بالمفاخرة وميل الإنسان عادة إلى تفضيل مكانه وعشيرته وجيرته وكل منسوب إليه على حسب درجاته من القربى.
•••
ومن تمام الموافقة في نشأة سن ياتسن، بعد مولده في الجنوب، وعلى أعقاب ثورة التايبنج، أن تعليمه المدرسي كان تعليمًا عصريًّا رشحه لقيادة الجيل المعاصر من نابتة المدرسة الحديثة من خريجي الغرب واليابان والمعاهد الصينية المترقية.
كان والده فلاحًا وأخوه تاجرًا من أصحاب المعاملات في الخارج، فدرج وهو يعرف متاعب الفلاح الصيني ومتاعب التجارة الصينية أمام المزاحمة الأجنبية مستغنيًا بالمشاهدة عن التعليم، وأراد أبوه وأخوه أن يعداه لحياة غير حياة الزراعة والتجارة، وكان أخوه يتجر في هنولولو فطلب إلى أبيه أن يرسله إليه تخفيفًا عن الأسرة وتمكينًا للصبي الصغير من تعليم أصح وأوفى من التعليم الذي يتهيأ لمثله في بلاده، فوصل إلى هنولولو وهو يناهز الثالثة عشرة وانتظم بمدرسة حديثة يديرها الآباء الإنجيليون، وقضى ثلاث سنوات قيل: إنه اطلع خلالها على بعض الكتب المسيحية فمال إليها وأبلغ أخاه رغبته في التنصر، فبادر هذا وأعاده إلى بلده ولم يشأ أن يتسلمه من أبيه على دين أجداده وأن يعيده إليه وقد صبأ إلى دين آخر، إلا أن الصبي كان شديد المراس من صغره وكان أساتذته يشكون من عناده ويعاقبونه على مخالفاته، فلم يكن جنوحه إلى المسيحية بتلقينهم وتشجيعهم، بل بمحض مشيئته واعتقاده، فلما قفل إلى قريته أصر على عقيدته وتعمد الجهر بمخالفة العقيدة الموروثة عسى أن يقصيه أبوه عن القرية إلى مدينة يتمم فيها دروسه على المناهج العصرية.
فهجر القرية فعلًا إلى كانتون ورآه هناك طبيب من أعضاء البعثة البروتستانتية الأمريكية فنصح له بدراسة الطب، وأرسله إلى هونج كونج ليتعلم الطب في مدرستها الكلية، فتخرج منها سنة ١٨٩٢، وانتقل إلى مكاو وهي تابعة للحكومة البرتغالية، لمزاولة الصناعة فيها، فلم تمهله حكومتها أن أمرته بمغادرتها متذرعة بما اتصل بها عن نشاطه السياسي، وكارهة في الواقع أن تفتح على أطبائها باب المنافسة من طبيب صيني متخرج من مدرسة إنجيلية، ولم يلبث بعد أن عاد إلى كانتون أن ابتدأ دعوة الإصلاح بعريضة مفصلة اقترح فيها على حكومة بكين تعميم المدارس الزراعية على النمط الحديث، فطوت الحكومة هذه العريضة ولم يكسب منها الفتى المصلح إلا أنهم أضافوا اسمه إلى السجل الأسود، وفرضوا الرقابة على حركاته وعلاقاته.
•••
هذه الموافقات المتجمعة من مولده ونشأته وتعليمه لم تكن من عمله ولا تحسب له من جهوده.
ولكنها موافقات يشاركه فيها مئات الناشئين في تلك الفترة، كلهم من أهل الجنوب، وكلهم من أبناء الشطر الأخير من القرن التاسع عشر، وكلهم متعلمون في المدارس الحديثة.
وقد سألنا في أول هذا الفصل: ترى ماذا كان في استطاعة سن ياتسن أن يصنعه لو أنه ولد قبل مولده بعشرين سنة، أو قضى شبابه في قرى الصين المنعزلة بين شمالها ومغربها، أو تعلم على الطريقة التقليدية التي لا تُؤهله لقيادة دعوة يتصدى لها المثقفون وذوو الآراء المتجددة؟
ومن يسأل هذه الأسئلة خليق أن يسأل معها: تُرى ماذا كان في وسع زعيم غير ياتسن أن يصنع في قيادة تلك الدعوة إن لم يكن له صفاته ومزاياه؟
لا شيء! ولو كان في وسع أحد غيره أن يغلبه على القيادة لغلبه عليها في مبدأ الأمر على الخصوص، قبل أن يضفي عليه النجاح سرابيل الهيبة والقداسة.
إن المزية الكبرى التي وهبها سن ياتسن ليست من المزايا التي توهب لكل إنسان.
وتلك المزية هي القدرة البالغة على التأثير والإقناع طواعية بغير كلفة أو هي بعبارة أوضح وأصدق أنه كان يملك الثقة ويعطيها، وهي خصلة واحدة تجتمع فيها خصال شتى، يصعب إحصاؤها، بل يصعب إدراكها بارزة على وجه الأمور.
كان في شبابه يراجع بعض الكتب بالمتحف البريطاني فالتقى بفئة من الثوار الروس — منهم ششرين — ولعل منهم لينين — وسألهم عن غاية رجائهم من جهادهم … ثم قال لهم: إنه يرجو أن تحقق الثورة الصينية غايتها خلال ثلاثين سنة … فتهافت الروس متعجبين: أفي ثلاثين سنة تحقق غايتك؟ لو تحققت غاية ثورتنا بعد مائة سنة لكان هذا قصارى ما نتمناه، وها نحن أولاء نجاهد من الآن!
قال جرين صاحب كتاب قصة ثورة الصين — وليس هو من الأسخياء بالثناء عليه: «إن شخصية سن ياتسن لا تجحد، وهو أطول من عامة أهل الصين، يوحي إليك منظره قوة الكيان … ويلقي في روعك أنك أمام رجل لديه ذخيرة من القدرة غير التي تلمحها عليه لأول نظرة؛ أهي قدرة الخلق أو العزيمة أو المغناطيسية لا تدري، ولكنها ولا شك هي القدرة التي أتاحت له أن يلعب بالجماهير من أبناء وطنه كما يشاء.»
ولا بد أن قدرته على التأثير والإقناع كانت تفوق المشهور حتى عن زملائه من أصحاب السلطان على أتباعهم ومريديهم، فلم يكن تأثيره وإقناعه مقصورين على الجموع الذين يتأثرون أحيانًا بتنبيه غرائز الجماهير فيهم، بل بلغ من سلطانه على الآحاد ما يشبه التنويم والسحر المزعوم، واتفق غير مرة أنه استخفى من مطارديه وأن الحكومة جعلت على رأسه مكافأة مغرية لمن يأتي به حيًّا أو ميتًا أو يدل عليه، وعرفه بعضهم أثناء استخفائه فاستطاع بحسن بيانه وقوة سلطانه أن يثنيهم عن تسليمه ويحولهم إلى تأييده والاجتهاد في إخفائه.
وكثيرًا ما تسرب اليأس إلى خاصة أعوانه من الذين يعتمد عليهم في إحياء الآمال وانبعاث العزائم، وكان لهم العذر من يأسهم لتوالي الهزائم عليهم، وكثرة الضحايا من إخوانهم، وقلة المال في أيديهم، وتقاعد العامة والخاصة عن معونتهم أو ارتدادهم عليهم طمعًا في مثوبة الحكومة وخوفًا من عقابها ونشاط جواسيسها، فما هو إلا أن يسمع بطائفة من هؤلاء غلبهم اليأس وخانتهم العزيمة حتى يلقاهم ساعة أو بعض ساعة، فيخرجون من عنده إلى المخاطر التي ندبهم لها وقد نسوا ما كانوا يعتلون به قبل ذلك من علل اليأس والانصراف عن الحركة، ومنها ما هو حاضر أمام أعينهم لا تسهل المماراة فيه بأخاديع النفوس.
وأسعفته هذه الملكة الخارقة حين استدرجه عمال الأسرة المالكة في سفارة الصين بلندن، فأوقعوه في كمين نصبوه له باسم الوطنية وجلب الأعوان إلى الحركة، فلولا إقناعه لأحد الحراس بإبلاغ رسالة منه إلى أصدقائه لحملته السفارة إلى بكين حيث ينتظره العذاب والتنكيل.
هذه الملكة الخارقة قد اتفق عليها مؤرخوه وناقدوه، وإنما اختلفوا في ملكته الإدارية وذهبوا في اختلافهم إلى الطرفين المتقابلين: فريق يرفعه فيها إلى ذروتها ويحسبها من مزاياه التي يخصها بالتنويه، وفريق يُجرده منها كل التجريد.
ولعل شهادة لينين هنا من الشهادات التي لا تُهمل؛ لأنه خبير بالرجال، وليس من دأبه السخاء بالثناء على أي إنسان.
قال: «إن سن ياتسن تعم أفكاره روح ديمقراطية مناضلة ولا يبدو عليه أثر من العي السياسي وقلة الاكتراث للحرية ولا هو يقبل القول بأن الحكم المطلق كفؤ لإنجاز مطالب الإصلاح الاجتماعي في الصين …»
ولا نظن أن النقاد الذين أنكروا عليه القدرة الإدارية سألوا أنفسهم عن المهمة التي فرضوا عليه النجاح فيها، أو عن الرجل الذي كان خليقًا أن ينجح حيث أخفق، وأن يعمل شيئًا أكبر من عمله وأبقى.
فقد كان المطلوب خلق إدارة جديدة على أنقاض الإدارة البالية، وكان عليه أن يعمل بالأيدي القديمة قبل تدريب من يخلفها، وأن يحسب حساب الخيانة والإحباط المتعمد، كما كان عليه أن يحسب حساب الجهل والمخالفة بين أقرب المقربين إليه، وقد اعترضته الحرب العالمية بعد قيام الجمهورية بنحو ثلاث سنوات، وسبقتها دسائس اليابان ومناوشاتها، وهي عوارض خليقة أن تُوقع الخلل والاضطراب في إدارة الحكومات التي طال عليها العهد بالاستقرار والطمأنينة، فكيف بالإدارة الحكومية بين قديم عاجز متهم، وجديد عاجز لا يطمأن إليه وإن سلم من الاتهام؟
إن العمل بعد إعلان الجمهورية كان أعسر جدًّا وأثقل جدًّا من العمل قبل إعلانها، وكلاهما عمل جبارين لا يقوى عليه غير أولي العزم والقوة.
وكفى دليلًا على شيء منه، ولا نقول عليه كله، أن سن ياتسن كان يلام على الهوادة مع الشيوعية وعلى التشدد معها في وقت واحد.
ففي سنة ١٩٢٢ — أي بعد إعلان الجمهورية بعشر سنوات — رميت دار الزعيم بالقذائف وقاد الثورة عليه رجل من الجمهوريين اعتقد أن الزعيم يمالئ الشيوعيين، وكان الزعيم يومئذ يقنع أدولف جوف مندوب الروس بكتابة البيان الذي يقرر فيه أن الشيوعية لا تصلح للصين في ذلك الحين، فنجا من داره بأعجوبة وعاش شهرين غاديًا رائحًا على متن زورق صغير.
وفي هذه الفترة يتهمه المتطرفون بالتخلف والرجعية ويطلبون منه أن يلغي مبادئ الوطنية والسيادة ليقبل بجملته على الشيوعية، وتتمادى الحملة عليه من المتطرفين حتى يواجهوه باتهام مكتوب يجيب عليه كتابة كأنه يُؤدي الحساب أمام القضاء، فلا يأنف أن يجيبهم ويقول في جوابه: «إن دعوى القائلين بتخلف مبادئنا إنما يبعثها فرط التعصب أو التعبد للثورة الروسية من جانب الطلاب الناشئين.»
وقد مضت بين إعلان الجمهورية وإعلان الحرب العالمية سنوات لا تُحسب من عمله؛ لأن رئيس الجمهورية يوان شي كاي بيَّت النية على قلب الجمهورية وإعادة الملكية وتنصيب نفسه على عرش الصين عاهلًا جديدًا باسم ابن السماء، وأوشك أن يبطش بسن ياتسن لولا يقظة هذا وإسراعه إلى مغادرة البلاد والإقامة باليابان مهددًا فيها بالتسليم؛ لأن ابن السماء المنتظر كان يترضى اليابان ويتقبل مطالبها لتنصره على خصومه الجمهوريين.
ونحن حين نكتب سيرة رجل عظيم نذكر على الدوام أن أحوج الناس إلى الإنصاف هم العظماء المظلومون، فما من عظيم إلا وهو مظلوم على عمد وروية وعلى غير عمد وروية: يتعمد ظلمه أعداء موتورون ضيع عليهم نعم الرفعة والمجد والشهرة، ويتعمد ظلمه صغار محنقون يتعوضون من شعورهم بالنقص أنهم ينصبون الميزان للعظماء ويعيبون هذا أو يتكرمون بالثناء على ذلك، ويظلمهم على غير عمد جهلاء لا يفقهون ما تتطلبه الأعمال الكبار وما يعترض تلك الأعمال من العقبات والأخطار.
ولا نكتم القارئ أننا نكتب سير الأفذاذ العاملين لتعظم عظمتهم ونلتمس مواطن العذر لهم في تقصيرهم، وشعارنا أن معرفة المزايا أعسر من معرفة النقائص، وأن الإنسانية فيها الكثير من النكرات والصغار فلا حاجة بها إلى زيادة عليهم، وإنما حاجتها الكبرى أن تعطي العظمة حقها … فما كانت العظمة لتضيع ويبقى بين الناس حق لإنسان.
وسيرة أبي الصين مثل من أمثلة عدة للفضائل التي تحتاج إلى تقدير وتقويم، والأعذار التي تحتاج إلى إيضاح وتذكير.
من سنة ١٨٩٢ إلى سنة ١٩١١
في كل مسألة من مسائل العالم الكبرى شيء لم يقع في التقدير.
ومن الصواب إذن أن نحسب للمجهول حسابه في كل مسألة من هذه المسائل الكبرى، فليس من اللعب بالألفاظ أن يقال: إن المجهول في هذه المسائل عامل ثابت لا يمكن تجاهله؛ لأن التاريخ لم يسطر لنا قط تدبيرًا عظيمًا لم يعرض له طارئ مجهول. فهو عامل صحيح كالعامل الذي نقدره وندبره ونحسب حسابه قبل وقوعه، وإنما الفارق بينهما أن المجهول قد يأتي معجلًا كما يأتي معوقًا أو معطلًا، وليس في طاقة الإنسان أن يثق من إحدى الحالتين قبل وقوعها، وإن كان في طاقته أن يحتملها ويرجحها ويدخلها في حسابه على هذا الاعتبار: أي على اعتبار التعجيل واعتبار التعويق والتعطيل.
وسنُعنَى في هذه السيرة بالإشارة إلى موقع هذه المجاهيل أو هذه المصادفات؛ لأن إهمالها يخل بكل حساب صحيح.
كان الثوار من الشبان الروس يقدرون لنجاح ثورتهم مائة سنة، وكانوا يحسبون زميلهم الصيني مبالغًا في التفاؤل حين قال لهم: إنه يرجو أن يحقق غرض الثورة الصينية خلال ثلاثين سنة، وكان هو يقول — وإن لم يعلن ذلك قبل نجاح الثورة — إنه لم يقدر سقوط الأسرة المالكة في حياته، وإنه بقي إلى سنة ١٩٠٥ يتحاشى ذكر الثورة في الجماعات التي يُؤلفها، ويُسمي هذه الجماعات باسم الرابطة المتحدة.
ثم دارت الأيام دورتها فلم تأتِ سنة ١٩١٧ حتى كانت القيصرية هاوية، وكانت الثورة قابضة على مقاليد السلطان في عاصمة القياصرة؛ أي قبل انقضاء عشرين سنة من المائة التي قدروها؛ لأن هزيمة روسيا في الحرب العالمية كانت هي «المجهول» الذي طرأ ولم يكن له حساب، فعجل بنهاية العهد القديم ودفع بطليعة العهد الجديد ثمانين سنة إلى الأمام.
أما سن ياتسن فقد ظهر أنه بالغ في إطالة السنين ولم يبالغ في تقصيرها، فلم تنقض عشرون سنة على ابتداء دعوته حتى ذهبت الأسرة المالكة إلى غير رجعة، وكان يحسب أنه إذا سمى الحركة ثورة في سنة ١٩٠٥ صدم أسماع المدعوين إلى تأييدها، فلم تمض ست سنوات حتى كانت حكومة الثورة الصينية حقيقة يتسامع بها المشرقان والمغربان.
لقد كان يعتقد أن الأسباب مقنعة له ولأمثاله من ذوي البصر والعزيمة، وأن جماهير الشعب لاحقة به وبهم بعد زمن طويل، وأن غاية ما في وسعه أن يصنعه لتعجيل اليوم المنظور أن يثير النفوس بالهجمة بعد الهجمة والمجازفة بعد المجازفة، فتكفلت الحوادث بمعونته من حيث لا يحتسب، بل تكفلت أسرة المانشو نفسها بمعونته من حيث تحسب أنها تحمي عرشها وتوطد أركانها؛ قبلت الهزائم وهي تظن أن السلامة في التسليم، وأثارت ثورة الملاكمين فضربتها الثورة في صدرها، وذهبت تلم شعثها وتجمع المغارم المفروضة عليها، فثقل محملها على الكواهل، وسقطت حين ضعفت هذه الكواهل الهزيلة عن حملها؛ أسقطها الضعفاء يوم عجزوا عن القيام بها، ولولا ذلك لما قوي على إسقاطها العصبة الأشداء.
بدأ سن ياتسن دعوته بعد أن تخرج من الكلية الطبية وتفرغ للدعوة السياسية في السادسة والعشرين من عمره.
وقد بدأها في الواقع قبل ذلك بسبع سنوات على أثر الهزيمة التي مُنيت بها جيوش الدولة العتيقة أمام فرنسا سنة ١٨٨٥.
إلا أن دعوته لم تجاوز يومئذ أصحابه وزملاءه، ولم تكن عدتهم أولًا تزيد على أصابع اليد الواحدة، ثم ازدادوا سنة بعد سنة، وجاءته الزيادة من البلاد التي احتلها الأجانب أو البلاد التي وصل إليها الصينيون الذين ضاقوا بالعيشة في وطنهم فهجروه إلى البلاد الآسيوية.
نعمة من نقمة … فقد كانت تلك الأقاليم المحتلة أصلح لإيواء الثائرين وتنظيم حركتهم من الأقاليم التي بقيت في ظل عرش ابن السماء.
وراح يجمع المال من الجاليات الصينية وينفقه على شراء السلاح، وتأتى له في حملة واحدة أن يدس إلى داخل البلاد خمسمائة مسدس لتسليح أنصاره وابتداء الثورة بالشغب والمناوشة، فتنبهت إليه جواسيس الحكومة وقبضت على طائفة من أصدقائه قتلتهم بعد محاكمة سريعة، وأعملت التنكيل والتشريد في بقيتهم آخذة بالشبهة حينًا وبغير شبهة في كثير من الأحيان.
وكانت السنوات الخمس من هذه السنة ١٨٩٥ إلى سنة ١٩٠٠ كما سماها سنوات انهيار، ثم كان بناء الحركة من جديد بعد ثورة الملاكمين، وكان في هذه المرة ينظم جيشًا مسلحًا ولا يقنع بتأليف اللجان والجماعات، واستعان على تنظيم الجيش بضباط من اليابان وآحاد هنا وهناك من الأوروبيين المغامرين، واستعان على النفقة الكبيرة بجمع الأموال من الجاليات الصينية في البلاد الآسيوية والأمريكية والأوروبية، وأخذت الهبات من أهل الصين تتوالى عليه غير مقصورة على الجنوبيين أو المقيمين بالأقاليم المحتلة، فانتظم له سنة ١٩٠٧ جيش في «بنلي» هزم جيش الدولة، وكان وشيكًا أن يزحف إلى العاصمة منتصرًا لو لم تخذله الحكومة اليابانية الجديدة وتمنع تزويده بالسلاح وتحرم على المتطوعين إمداده بالجند والمال.
وندع لسن ياتسن نفسه تفصيل رحلاته وحركاته فيما ترجمناه من كلامه في الفصل الأخير من هذا الكتاب، ونكتفي بالإشارة المجملة إلى المخاطر التي أفلت منها والمخاطر التي لاحقته إلى ديار الغربة من اليابان إلى أمريكا إلى إنجلترا إلى القارة الأوروبية، وجملتها في كلمات موجزة أن حكومة بكين رصدت ثلاثين ألف جنيه لمن يقتله حيث كان، وأن سفارات الصين لم يكن لها من عمل تتقرب به إلى العرش إلا أن تراقبه وتتعقبه وتنسج الشباك لاصطياده، وتبلغ أخباره وكلماته حرفًا حرفًا ويومًا بعد يوم إلى حكومة بكين …
إن الرقمين اللذين جعلناهما عنوانًا لهذا الفصل يحدان وقت الدعوة العامة إلى الثورة في سيرة سن ياتسن، ولكنهما لا يحدان وقت المخاطرة والمجازفة في تلك السيرة التي اقترن فيها الحساب الدقيق والمصادفة العجيبة أيما اقتران.
فإن الرجل قد استهدف للخطر وهو يافع متهم في قريته بالاجتراء على شعائر قومه، فلم يأمن البقاء فيها وفارقها على عجل إلى كانتون، وقد استُهدف للخطر مرات بعد إعلان الجمهورية بسنوات.
وفي جميع هذه المخاطر كان الفضل في نجاته يرجع يومًا إلى يقظته، ويومًا إلى حيلته، وربما رجع إلى خبرته بالملاكمة التي أغراه بالتدريب عليها شيوع الثورة المعروفة باسم ثورة الملاكمين، وربما رجع الفضل في نجاته إلى قوة تأثيره وقدرته على الإقناع.
غير أن المصادفة وحدها هي التي أنقذته من أكبر أخطاره، وهو خطر الاعتقال في السفارة الصينية بلندن في شهر أكتوبر سنة ١٨٩٦.
كان يزور واشنطن فنمي إليه أن سفارتها الصينية ترصد الكمائن لاقتناصه، فبرحها إلى لندن باسم مستعار، ولم تمض أيام حتى علمت سفارة لندن بوجوده ونصبت شباكها حوله، وليس أيسر من نصب الشباك حول رجل يُريد أن يلقى في العاصمة الإنجليزية كل صيني يتمكن من لقائه، ولا عمل له غير نشر الدعوة بين هؤلاء الصينيين.
وإنه ليسير ذات يوم في طريقه؛ إذ اقترب منه شابان صينيان وسأله أحدهما: أمن اليابان أنت أم من الصين؟ فلما قال له: إنه صيني من كانتون واستمع إلى لهجته الكانتونية أصغى إليه وطفق يسأله عن أحواله وأحوال إخوانه، وخطر له أنها فرصة ملائمة لتأليف لجنة من لجان الدعوة الثورية، فاسترسل مع الشابين حتى بلغا قصرًا كبيرًا فُتح بابه فجأة واندفعت منه شرذمة من الخدم والسعاة جذبوه إلى داخل القصر، وحبسوه في حجرة من حجراته، وتركوه هناك لا يزوره غير خادم يحضر له الطعام وحارس يتفقده من ساعة إلى ساعة، ومضى عليه أحد عشر يومًا وهو بهذه الحال يسمع كل يوم إن وقت الفرج قريب!
ولم يتوانَ الأستاذ لحظة؛ لأنه يعرف حكومة الصين ويعرف عقابها للثوار ولا يجهل مصير تلميذه إذا ظفر به التنين: دق العظام ورض المفاصل وسمل العينين وصلم الأذنين، ثم الإجهاز على الفريسة إن بقيت فيها بقية للموت.
فهرول إلى وزارة الخارجية يعد اللحظات خوفًا من فوات الوقت وخروج الأمر من يد الوزارة، ولم يلق اهتمامًا من الموظفين المسئولين لولا صديق له منتدب لبعض دواوينها، فبذل هذا الصديق جهده لإبلاغ المسألة إلى اللورد سالسبوري، وسئلت السفارة فأجابتهم بغير اكتراث: إن الرجل ينقل إلى بلده رحمة به واستجابة لتوسل أهله؛ لأنه مجنون يُخشى عليه!
ونجاة سن ياتسن على هذه الصورة ترجع إلى أكثر من مصادفة واحدة أو مصادفتين.
فمن المصادفات أنه اعتُقل ولم تكن بالميناء القريب سفينة صينية تأمنها السفارة على سرها، وتطمئن إلى إيداعه خفية بين ركابها، ولو قيضت للسفارة سفينة تتوافر لها شروطها لحملت أسيرها قبل أن يعلم باعتقاله أحد ينفع.
ومن المصادفات وجود السير جيمس بالعاصمة الإنجليزية، وأنه كان على معرفة بالزعيم المعتقل.
ومن المصادفات وجود الموظف الذي يعرفه السير جيمس بوزارة الخارجية، والواقع أن السير جيمس قد شك في نفع وساطته بعدما رأى من مراوغة الموظفين ورجال الشحنة، فنشر الخبر في صحيفة التيمس وتحدث به الصينيون كما تحدث به رجال السلك السياسي، فلم تقدر وزارة الخارجية على معالجة المسألة بالتسويف والمطاولة.
وأصبحت حجرة السفارة الروسية بعد هذا الحادث من الأماكن التاريخية، فهي في الدار الفخمة بميدان بورتلاند، مزار يحج إليه وتقام فيه الصلاة كل سنة يوم ذكرى وفاته، ولولا تلك المصادفات لما بقي لساكنها منذ ذلك اليوم ذكر في الحياة ولا بعد الممات، إلا أن يشهره التنكيل به علانية مع شهداء الثورة يوم يُكتب لها النجاح.
ومن الكلمات التي تذكر بهذا السياق أن ما يُعمل للحقيقة وما يعمل ضدها يخدمانها على السواء.
وهكذا يقال عن مناصرة القضايا الكبرى ومقاومتها، فإن حكومة بكين لم تكن لتقدم على نصب الشباك لقنيصتها لو علمت عواقبها وما استفاد الرجل منها، فقد سمع باسم سن ياتسن بعد هذا الحادث من لم يكن يسمع به، وتفتحت له مكاتب الصحف والأحزاب ودواوين الحكومات الأوروبية والأمريكية، وتنبه المهتمون بأمر الشرق الأقصى إلى البحث عن مكانته ومبلغ نفوذه، ولو أنه سعى لنفسه ولقضيته جاهدًا لأعنته المسعى قبل أن يُدرك شيئًا مما ساقه إليه الأعداء بغير عناء.
•••
وبهذه السمعة التي راحت تضخم يومًا بعد يوم حق له أن يخاطب الدوائر السياسية والدوائر الاقتصادية باسم الصين المقبلة، ويحذر المصارف والشركات من معاملة الحكومة القائمة؛ لأنها شبح ميت يوشك أن يطويه الغد القريب. وكانت تحذيراته هذه إحدى العقبات التي أوصدت على حكومة بكين وجوه الحصول على القروض، وهي في أمس الحاجة إليها.
وإذا كان سن ياتسن قد سمى سنوات الفشل الأُولى سنوات الانهيار، لقد كان الانهيار في الجانب الآخر أسرع وأخطر؛ إذ كان هدمًا ليس وراءه بناء، خلافًا لهدم الثورة الذي كان وراءه من يقيمه على الأثر، فضلًا عن فائدة الثورة من تداعي أركان الحكومة المختلفة، فكل ركن ينهدم من بناء الحكومة هو ركن يرتفع من بناء الثورة.
وأحاطت الحيرة بحكومة بكين من الجهات الأربع، فكل حيلة تحتالها للخلاص تنقلب عليها معولًا من معاول الخراب، ويظهر أن هذه الأُسر المتداعية سواء في تواريخ جميع الأمم، فهي لا تخشى الخطر إلا من خارجها ولا تتخيل أنها تسقط إلا بهجمة من عدو يواجهها وتستعد له بدفاع يصده، وأما أنها هي تعمل بيدها ما يسقطها فذلك غريب عن خيالها، وهل تعمل دولة على إسقاط نفسها؟ كيف هذا؟ إنه اللغو والمحال في المقال بله الفكر والخيال!
وفي التواريخ العالمية أمثلة شتى على هذه الأسر التي يسلطها عمى البصيرة على نفسها في أواخر أيامها، فتمضي في سباق مع أعدائها على تعجيل زوالها، ويبدو للناظر أنها كانت خليقة أن تبقى بغير حاجة إلى مجهود غير الكف عن مساوئها وحماقاتها، ولكن المشكلة الكبرى أنها لا تستطيع أن تكف عن تلك المساوئ، وآية عجزها هذه هي بعينها آية الفناء، أو هي آية استحقاقها للزوال.
ودارت الحلقة الوبيلة التي دخلت فيها أسرة المانشو ولم تزل تدور وتدور: حاجة إلى المال، فإرهاق للشعب المحروم، فسخط من الشعب، فإلحاح على طلب المال للحراسة ودفع الثورة والتمادي في السرف والترف … كأنما السرف والترف على وداع.
ولم تكفِ الضرائب، فزين نصحاء السوء للحكومة المنهومة أن تبيع المرافق العامة عسى أن تتقرب بها إلى الدول، وأن تنفعها تلك الدول عند الحرج حرصًا على مرافقها إن لم يكن وفاء للحكومة المهددة، فسلمت فرع سشوان من سكة حديد بكين-كانتون، ولما يفرغ أصحاب الأرض الوطنيون من تعويض تكاليفها وأثمان أسهمها، فهب سكان الإقليم يتناصرون ويتوعدون، وتألفت منهم جماعة باسم حماة السكك الحديدية، وانضم إلى هذه الجماعة ألوف.
وسرت العدوى إلى الإقليم المجاور — إقليم هوبي — فتنبه حاكمها وعثر في بعض المنازل التي فتشها بسجل الأسماء المشتركين في جماعة من أمثال تلك الجماعة، وحدث هذا مساء التاسع من شهر أكتوبر (سنة ١٩١١) فلم يصبح الغد حتى فاجأه الثوار قبل أن يفاجئهم، وعلموا أنه هو الموت المحقق إذا انتظروا، وأنهم بين الموت والحياة إذا ابتدروه، فأقدموا ولم ينتظروه.
وحان أوان المصادفة الأخيرة قبل إعلان الجمهورية، إن كان للمصادفات أوان.
فإن جنود سن ياتسن لم يقدروا للثورة ذلك الموعد، ولم يكن سن ياتسن نفسه بينهم، بل كان في رحلة إلى الغرب لجمع المال والعتاد، ثم انفجرت قذيفة في إحدى الدور بالمنطقة الروسية، وكان انفجارها خطأ غير مقصود، فسرعان ما تسامع بها الناس ودهم الشرطة من الروس تلك الدار وجمعوا كل ما وجدوه من أوراقها، وفيها أسماء الألوف من جنود الزعيم المنبثين في كل مكان.
هي الثورة إذن بغير انتظار.
ومهما يكن من فعل المصادفات في هذه الحوادث الجسام، فقد ظهرت معها مزية التنظيم وحكمة الخطط المرسومة وضرورة الاستعداد للتوجيه والقبض على زمام الحركة حين تأتي الحوادث الجسام بمصادفتها أو بتقديراتها، فلو لم تسبق هذه الحوادث خطة مرسومة للحكم الجديد، تتولاها هيئة معروفة للثائرين، لضاعت الحوادث المتفرقة حادثة بعد حادثة ولم تجمعها وجهة واحدة.
وكم في الواقع من عجب يعيى بمثله الخيال.
لقد كان موليير يمزح بالطبيب على الرغم منه، ويحسبه كما يحسبه النظارة من افتتان الخيال.
فأعجب من طبيب على الرغم منه قائد ثورة على الرغم منه، وذلك هو القائد الصيني «لي يوان هنج» الذي انتزعه الثوار من فراشه ليقودهم، وتوعدوه بالقتل إن لم يذعن لمشيئتهم، فأذعن الرجل على كره منه وقاد الثورة مخلصًا للفن العسكري وإن لم يكن مخلصًا للثورة، فاستولى بتلك الشراذم على ووشانج وهانكو وهنيان، وهي قلب الصين، ووقفت العاصمة تتردد بين التسليم وبين الاستنجاد بقائدها القديم المغضوب عليه — يوان شي كاي — وليس أقدر منه على تطويع الجنود للدفاع في ذلك المجال.
وعبرة الموقف العظمى هي أن المصادفة عامل يُحسب له حسابه في كل قضية خطيرة، ولكنها تضيع عبثًا إن لم تجد من كان مستعدًّا للانتفاع بها وقيادتها قبل ذاك.
فتلك الشراذم من الدهماء قد ألهمت أن تطلب القيادة فانتصرت بها كرة بعد كرة، ولكنها بقيادتها وانتصاراتها كانت ضائعة ولا شك إن لم تسبقها خطة مرسومة يتولى القائد تطبيقها، ولم يكن قائدهم المغضوب عليه يعلم ما يصنع بعد الانتصار.
إنما كان علم هذا عند جماعة سن ياتسن، وباسم هذه الجماعة تنادى الثوار المتفرقون وترقبوا منها أن تتجه بهم إلى وجهتها، وتردد اسم سن ياتسن على كل لسان.
أما قصر ابن السماء فقد كانت له أيضًا مصادفاته في هذا المأزق العصيب.
أيسلم للثوار أم يرتمي على أقدام قائده المغضوب عليه!
إن التسليم لثوار الجمهورية خسارة مائة في المائة، وليس في استدعاء يوان شي كاي خسارة أكبر من هذه الخسارة إذا انهزم، وقد ينتصر فيكفر انتصاره عن مذلة استدعائه، وفي الغد متسع لرد هذه المذلة إليه صاعًا بصاعين.
وكان يوان شي كاي كما قال المثل: «إن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارًا …»
فلم يرفض الدعوة، ولم يقصر في الدفاع، وانتصر في معركة بعد معركة، وبقيت المعركة الأخيرة بينه وبين صاحب الدعوة إلى الجمهورية والصين كلها تتأهب لاستقباله بعد أيام.
أيقضي على الثورة فيسحقها ويسلم مقاد البلاد للوصية الماكرة تنتقم منه لمذلتها واضطرارها ساعة الحرج عليه؟
لم يكن سحق الثورة يسيرًا، ولم يكن مأمونًا، فلتبق الثورة حية تخيف القصر إلى أجل، وليبق له القول الفصل في النزاع أو المساومة بين الخصمين.
ووقف القائد الداهية على مفترق الطريق.
وأرسل يفاوض الزعيم المقبل، ويتوسط لحقن الدماء، وبدا للعالم بأسره يومئذ أنه واسطة خير وبشير سلام، وبدا للعالم بأسره بعد شهور أنه استبقى العرش لنفسه، وقبل الجمهورية على أن يكون رئيسها الأول، ثم يزيح الزعيم بعد الخلاص من العاهل والوصية، ويخلو له الجو كما يشاء حيث يشاء.
وجاء سن ياتسن فلم يشأ أن يتشبث برئاسة الجمهورية، ولم يشأ أن يضع في الأفواه كلمة الاتهام المعهودة، وما أسرعها وأيسرها على كل لسان في ذلك المقام.
إنه يخرب الوطن، إنه يمزق الوحدة، إنه سعى للرئاسة وعز عليه أن يفقدها، فلا كان ولا كان مسعاه.
وهكذا وُلد العهد الجديد في البلد العريق.
وهكذا نجحت ثورة ذلك اليوم: ثورة عشرة عشرة إحدى عشر، كما تُسمى إلى الآن؛ أي ثورة اليوم العاشر من الشهر العاشر من السنة الحادية عشرة في القرن العشرين.
ومهما يكن من المصادفات والدسائس والمناورات، فهي بحق ثورة تستحق جهودها وتكاليفها.
وعلامتها الأولى اسمها.
فلأول مرة تقبل الأمة عيدًا لا يحسب تاريخه بشهورها العتيقة، وكانت شهورًا لا هي بالقمرية ولا بالشمسية، يضاف النسيء إليها على هوى الكتبة والحسبة، أو هوى الخزانة والمحصلين، فتحسب السنة اثني عشر شهرًا أو ثلاثة عشر أو أكثر من ذلك أو دون ذلك، ويُعاب تبديلها غيرة على كرامة الأسلاف.
ورب عنوان يغني عن تفصيل.
وعنوان (عشرة عشرة إحدى عشر) بعض هذه العناوين.
ثقافته السياسية
كان اتجاه الشاب الصيني إلى تعلم الطب في أواخر القرن التاسع عشر كافيًا وحده للدلالة على تحرر عقله من موروثات الدهور بين قومه.
فالقواعد الرياضية التي يعتمد عليها المهندس الصيني علم صحيح سواء عرفه بالخبرة أو اقترنت خبرته فيه بالقواعد النظرية، ولا يبعد أن يمتاز المهندس الصيني على زميله الأوروبي بالمهارة الفنية ولطافة الذوق وحسن استخدام الخشب وما إليه في موضع الحجر والملاط.
والاختلاف في أساليب الزراعة قد يكون اختلافًا بين الآلات والأصناف، ويتساوى الفلاحون شرقًا وغربًا فيما يرجع من تلك الأساليب إلى العقائد والتقاليد.
وليس بدعًا في الآداب أن تختلف آداب الأمم على تقاربها في الموقع والزمن وأصول اللغة.
أما الطب فالاختلاف بين حديثه وقديمه يشمل كل اختلاف بين العلم الصحيح وبين السحر والشعوذة.
ومن كان يؤمن بمزية الطب الحديث فقد تقدم شوطًا بعيدًا في التحرر من القديم والاستعداد للتصرف والتجديد.
وربما أضيفت إلى هذه الدلالة دلالة أخرى ذات شأن في التعريف بصاحب الترجمة، وهي حب الإصلاح والتجرد للخدمة العامة؛ لأن المصلحين الشرقيين قد شاع بينهم بعد منتصف القرن التاسع عشر أن رسالة الإصلاح القومي إن هي إلا رسالة طبية صحية قبل كل شيء؛ إذ كان وباء الهيضة (الكوليرا) يفشو بين الهند والصين واليابان من حقبة إلى حقبة، فلا تنقضي عشر سنوات متواليات دون أن تنكب به أمة من هذه الأمم، ثم يمعن فيها إصابة وفتكًا ويذهب كما جاء مجهول الأسباب في الجيئة والذهاب.
وقد دخل سن ياتسن مدرسة الطب وهو يؤلف الجماعات لتجديد الصين وإصلاحها، ويجعل مهمته الكبرى تجديد الصين لا مجرد الاشتغال بالسياسة والحملة على الحكومة.
ولعله لم يتعمد أن يتعلم الطب ليستفيد منه التفكير على الأسس العلمية … ولكنه — تعمد ذلك أو لم يتعمده — قد استفاد هذا التفكير فعلًا وظهرت آثار النظرة العلمية في جميع مباحثه ودراساته، فقد يصيب فيها أو يخطئ، ولكنه لا يزن الأمور بغير الميزان السليم من الوجهة العلمية.
وقد اشتغل بالطب فترة قصيرة بعد تخرجه من المدرسة، ولكنه لم يستطع أن يجمع بين التخصص للطب وبين التنقل لنشر الدعوة وتأليف اللجان وجمع المال واجتناب المطاردين والمقبلين، وشغلته السياسة بدروسها ومطالعاتها كما شغلته بمساعيها وتنظيماتها، فلم يكن ينتقل من بلد إلى بلد إلا بصحبة كتاب أو عدة كتب من مراجع الدساتير وأنظمة الحكم وأخبار الثورات في الأمم المختلفة، حتى وعى من هذه المعلومات ما تضيق به صدور المتخصصين والمتفرغين.
ويدهشنا حقًّا أن يقال: إن الرجل من الحالمين الخياليين، فإن الحالم الضارب في تيه الخيال تأخذه الدعوة النظرية فلا يميز فيها بين فكرة وفكرة على حسب الواقع في تطبيقاتها وفي مواطنها المتعددة. وهذا هو العيب الذهني الذي لا تتبينه من دراسات الرجل وتعليقاته، فلا تشابه عنده بين نظام واحد في بلدين، ولا بين الكلمة الواحدة في موضعين، ولم يكن ينعى على ببغاوات السياسة في بلده أمرًا كهذه الخلة المعيبة، فكانت نصيحته التي لا يمل تكرارها أن الاستقلال في الولايات المتحدة غير الاستقلال في الصين، وأن مبادئ الثورة الفرنسية معقولة في زمانها وبين قومها، ولكنها غير معقولة في زمان آخر ولا بين أقوام آخرين، وأن كارل ماركس لا يمل كل مشكلة ولا يعالج كل مرض، بل استخدم صناعته في التعبير المجازي فقال عنه: إنه طبيب توصيف وليس بطبيب علاج، وإن توصيفه على هذا لا يوافق كل بنية ولا يستغني عن التعقيب والتصحيح.
كان يقول: إن «الحرية والمساواة والإخاء» شعار له معناه عند الثوار الفرنسيين، ولكنه لغو بغير معنى حين يجري على ألسنة ثوار الصين.
فقد كان الفرنسيون يطلبون الديمقراطية في الواقع ويمهدون لها بطلب الحرية والمساواة والإخاء، أما الصين فلا حاجة بها إلى تحرير الفكر من سلطان الحكام؛ لأن الناس فيها يقرءون ما يشاءون ويكتبون ما يشاءون ويعتقدون ما يشاءون، ولا حاجة بها إلى تقرير مبدأ المساواة؛ لأنهم بعد شخص الإمبراطور سواء أمام القانون، وأعظم وزرائهم ورؤسائهم نبغوا من سواد الشعب فلم يكن مولدهم بين أبناء الطبقة الفقيرة حائلًا دون ولاية المناصب والتصدي بقيادة الأفكار بالعظات والدروس، ولا حاجة بين الصينيين إلى تقرير مبدأ الإخاء؛ لأنهم آمنوا بوحدة وطنهم وجعلوا حدوده كجدران البيت الواحد تسكنه الأسرة الواحدة، ويقدسون الأسلاف حتى ترتفع إلى السلف الكبير في مجاهل التاريخ.
والفدرالية حسنة في الولايات المتحدة؛ لأن ولاياتها كانت متفرقة فالتمست توحيدها من طريق الفدرالية، فالوحدة الوطنية هي الغرض من هذا الاتحاد، وليس من الحكمة أن نفقد الوحدة في سبيل الفدرالية، بل المصلحة أن نجعل الفدرالية وسيلة إلى الغاية الأولى، وهي توثيق كيان الصين.
وكثيرًا ما عاب على المتحذلقين لغطهم بما يسمونه حرب الطبقات وسألهم مرة بعد مرة: أين هي الطبقات؟ وأين هم النبلاء المتوارثون؟ وأين هي الكهانة ودرجاتها الكنسية والاجتماعية التي يسميها الغربيون بالهيرارشية؟
وكان يقول: إن حرب الطبقات عند كارل ماركس أصل من أصول التطور، ولكنها في الحقيقة عارض مرضي يظهر كلما استشرى البلاء وعز التعاون بين أصحاب المصلحة المشتركة، ولو كانت أصلًا من أصول التطور لكان أحسن الناس من يعمل لخلقها والحض عليها، فكيف إذا كانت مرضًا يُمنع كما تُمنع الأمراض؟
إن النداء بالديمقراطية أجدى على الصينيين من النداء بالحرية والإخاء والمساواة، فما طلب الغربيون الحرية والإخاء والمساواة إلا لأن الحجر على الأفكار وتفاوت الطبقات كان العقبة الكأداء بينهم وبين الديمقراطية.
ولما وضع مبادئه الثلاثة — وهي مبادئ القومية وسيادة الشعب وتيسير المعيشة — لم تكن بغيته كلمات تُقال محاكاة للدعوات التي تهتف بكلماتها وترددها على أسماع جماهيرها، ولكنه توخى من كل كلمة هدفًا يلائم الصين ويوافق حاضرها ومستقبلها.
فوضع مبدأ القومية لدفع خطر التقسيم باسم الفدرالية، واتقى به خطر المذاهب التي تسخر الجهلاء لتقويض أوطانهم وبث بذور العداوة بينهم وبين إخوانهم، وتصوير هذه العداوة لهم كأنها بلاء دائم لا تجدي فيه الحيلة ولا تصلحه نظم السياسية ولا الأخلاق.
ووضع مبدأ السيادة الشعبية لإلغاء المعاهدات الأجنبية الجائرة وتخويل الأمة أن تختار موظفيها وتعزلهم، وأن تنكر محل سلطان لا يستمده صاحب السلطان منها بمحض رضاها، وأن تكون السياسة والإدارة والتشريع قائمة كلها على هذا الأساس.
ووضع مبدأ المعيشة الميسرة للجميع؛ لأن اعتبره غاية المذاهب قاطبة في كل زمن، واعتبر الاشتراكية والشيوعية والديمقراطية وسائر مذاهب الاجتماع وسائل عارضة لتلك الغاية الثابتة، وما من مذهب منها يستحق أن يبقى بعد إنجاز مهمته وتحقيق غايته، فما وُضعت الاشتراكية أو الشيوعية أو الديمقراطية لذاتها، ولا وضعت لتبقى في كل زمن وكل آونة، ولكنها وضعت لتدبير معيشة الرعية واتباع وسائل مستحدثة لتيسيرها كلما قصرت وسائلها الأولى.
ولو شاء سن ياتسن أن يتخصص لتدريس العلوم السياسية لأغناه ما اطلع عليه من أمهات الكتب الغربية والشرقية في هذه العلوم، وقد صادفت نشأته فترة حافلة بالمصنفات الحديثة والقديمة في نظم الحكم ومبادئه وفلسفة الاجتماع ومدارسه المتعددة وأصول الاقتصاد وعلائقه بالحكومات والهيئات الاجتماعية، وكان يتابع هذه الكتب ويطلع عليها كلما صدر كتاب منها، فادخر منها محصولًا وافيًا كأوفى ما يكون الاطلاع لو شاء أن يتخصص لتدريسها.
إلا أن برامجه تكشف عن غرضه من هذه المطالعات، فإنما كان يتتبعها ويستقصيها ليفهم منها ما يصلح للتطبيق وكيف يكون تطبيقه في بلاده. ولم تكن هذه المطالعات من أجل هذا مصدر ثقافته السياسية دون غيرها، بل جعل وكده أن يمتحن مدارس السياسة وهي تعمل وتضطلع بتبعاتها، فلم ينزل بلدًا من بلاد الشرق والغرب إلا اغتنم فرص الفراغ من نشر الدعوة وتنظيم اللجان لدراسة نظامه الحكومي وأدواته العاملة وعلاقته بالمجتمع وسائر طبقاته وهيئاته، وقد شملت رحلاته بلادًا متباعدة في الموقع الجغرافي وفي النظم السياسية، من اليابان إلى الولايات المتحدة إلى إنجلترا إلى فرنسا إلى المستعمرات والولايات الخاضعة للدول الأجنبية، ولقي في كل منها زعماء الحكم وزعماء المعارضة وسمع من هؤلاء وهؤلاء ما يقولونه نقدًا أو موافقة للنظم المتبعة، فكانت مصادره من هذه الثقافة السياسية زادًا وافيًا إلى جانب زاده الواقي من المطالعة والمراجعة.
ويشهد له باستقلال الرأي أنك لا ترى انقيادًا منه لمدرسة واحدة بين هذه المدارس أو نظام واحد بين هذه النظم، فهي في ذهنه كالمائدة المطهوة يدخلها كل صنف من الأصناف ممتزجًا بما يصلحه ويُعدل مذاقه كما يُعدل مادة الغذاء فيه، ويخطئ من يقول عن الرجل: إنه تلميذ لهذا أو مريد لذاك، فكلهم أساتذته ومعلموه، وهو من أجل ذلك يختار الأستاذ والمعلم كما قال سعد زغلول عن الجامعة الأزهرية حين حضر على أساتذتها ومعلميها.
إلا أن برامجه وتعليقاته تشير إلى المصادر التي كان لها القسط الأوفر من مطالعاته ومراجعاته، ويمكن أن نحصرها في مصادر ثلاثة يؤثرها باهتمامه وتعقيبه وإن لم يذكرها بأسمائها.
فأولها فقه الدستور الإنجليزي، وقد بلغ من إعجابه بتطبيقاته أنه ود زمنًا لو تتهيأ للصين حكومة ملكية دستورية على النمط البريطاني، وفي هذه الفكرة أيضًا لم يستسلم للقدوة دون العمل، فقد عدل عنها بعد أن راقب أحوال الحاشية الصينية، وأيقن أن تطبيق الملكية المقيدة في بلاده أعسر من تطبيق النظام الجمهوري، وأنه إذا لم يكن بد من التجربة فلتكن تجربة النظام الجمهوري أولى وأحق بالابتداء والانتظار.
والمصدر الثاني الذي كان يبدو من برامج سن ياتسن أنه كان مدمن الاطلاع عليه هو فلسفة كارل ماركس، فقد شغل بها لتفنيدها وتوضيح الفارق بين الأحوال التي راقبها كارل ماركس والأحوال التي تقلبت عليها الصين منذ أقدم عصورها، وأنكر من الفلسفة الماركسية كل شيء إلا الاهتمام بالمسائل الاقتصادية وإعطائها حقها الكامل في تكوين المجتمع ومصاحبة أطواره، فهو لا يقل عن كارل ماركس اهتمامًا بهذه المسائل، وإنما الخلاف بينه وبين كارل ماركس أنه لا يحصر اهتمامه بها، ولا يغفل عن مثل هذا الاهتمام بغيرها، وأنه لا يعلق نبوءات المستقبل على شئون الاقتصاد دون سواها.
والمصدر الثالث أحق هذه المصادر بالالتفات إليه؛ لأنه أدل المصادر على سعة اطلاع الرجل وحسن استعداده للإفادة من الرأي الصواب حيث وجده، ولو لم يكن صينيًّا لقلنا: إن سُنته الأولى أن يطلب العلم ولو في الصين.
هذا المصدر هو كتاب خامل ألفه بعد الحرب العالمية الكبرى طبيب أسنان روسي من الأُسر التي هاجرت إلى أمريكا أيام القيصرية فرارًا من مظالمها، ترك اسمه الروسي وتسمى باسم موريس وليام وانخرط في سلك الثوار، ثم في سلك الشيوعيين إلى أن ساوره الشك في التفسير المادي للتاريخ، فألف كتابًا بسط فيه شكوكه وانتهى منه إلى تفسير التاريخ من الوجهة الاجتماعية النفسية، بعد أن شرح نقائض القول بحرب الطبقات وتصدع المجتمع الديمقراطي واستحالة الإصلاح بغير هدمه والبناء من جديد على أنقاضه. ولم يطلع على هذا الكتاب عند صدوره غير آحاد معدودين منهم زعيم الصين، وكان يومئذ قد فرغ من إقامة الجمهورية وشرع في تدوين البرامج المفصلة لتنظيم المجتمع الصيني وإصلاح شئونه وترتيب مرافق المعيشة فيه، فكان اعتداده بآراء المؤلف الخامل وهو في أوج شهرته العالمية آية على النزاهة وحب المعرفة حيث وجد السبيل إليها.
ومن النقائض التي أبرزها الطبيب الروسي أن عصر الإقطاع قد زال على رأي ماركس؛ لأن الطبقة الوسطى البرجوازية بلغت غاية الثراء، وأن هذه الطبقة الوسطى تزول على رأيه؛ لأن طبقة العمال ستبلغ غاية الحرمان ولا يبقى لديها ما تفقده غير سلاسلها، ولا يمكن أن يكون هذا تسلسلًا لعامل واحد على سنة واحدة، فلم يحدث مثل هذا قط قبل الآن بين الطبقات السابقة والطبقات اللاحقة.
ومنها أن معيشة العمال تتحسن وأن العمل الفردي يزداد خلافًا لنبوءة ماركس عن اطراد السوء في معيشة العمال واستحالة التوفيق بينهم وبين أصحاب الأموال.
وقد كان سن ياتسن يلاحظ هذا التناقض قبل صدور كتاب «التفسير الاجتماعي» لمؤلفه الروسي الطبيب؛ ولعله تنبه إليه لما بينهما من زمالة الصناعة وزمالة الاشتغال بالدراسات الاجتماعية والسياسية، فلم ينس ملاحظاته بعد ذلك على كونه لم يستفد منها غير شواهد العرض والتنسيق.
•••
وإنه ليخلص من ثقافة العلم والعمل إلى عقيدة راسخة، الحكومة الجمهورية والنظام الدستوري على الأصول الديمقراطية، ويحسب الحساب لجدة هذا النظام في الشعب الأمي فيرجئ التوسع فيه ويرجو أن يؤتى ثمرته بعد فترة من الإرشاد وفترة من الإعداد، مع إعلان سيادة الشعب عند إعلان الجمهورية.
أرادت الصين منذ الثورة أن تقتدي بأوروبة وأمريكا في تطبيق الديمقراطية السياسية، ولما كانت الديمقراطية السياسية الغربية قد وصلت إلى النظام التمثيلي وجب تطبيق النظام التمثيلي أيضًا في الصين! إلا أن الجوانب الحسنة من النظام التمثيلي لم تدركها الصين وأدركت مساوئه عشرة أضعاف بل مائة ضعف، ومسخ أعضاء المجلس خنازير ملوثين بالقذر والفساد على مثال لم يعهد من قبل، ويا لها من بدعة مذهلة في الحكم النيابي، فإن الصين لم تقصر في الاقتداء بالديمقراطية الغربية وحسب، بل جاءتها هذه الديمقراطية ممسوخة فأصابتها بالضرر وأفسدتها.
•••
قال بعض مترجميه: «إنه مزيج من أنبياء المسيحية الأولى، ومن نابليون، ومن ثوار أمريكا الوسطى.»
وذلك وصف صادق للرجل ولا سيما يقين القداسة فيه، فما من صورة لسن ياتسن تكمل بغير ملامحها الدينية من جانب إيمانه بالقداسة أو جانب اعتماده على إيمان الآخرين بها.
كان نبيًّا للوطنية حيث لا أنبياء للدين، وكان يعلم تقديس أبناء قومه لأسلافهم فيحرص على هذا التقديس ويحاول أن يجريه في مجرى الإيمان بالوطنية والفخر بالتراث القومي، عسى أن يعتصم به القوم في مستقبلهم ولا يبددوه كله على الماضي وذكراه الخالية.
ومن نبوته الوطنية أنه كان عظيم الاعتداد بعهد الولاء، فإذا فرط أتباعه في أمانتهم آلمه هذا التفريط وراح يتقصى أسبابه فلا ينسى منها — بل في مقدمتها — أنهم لم يعطوا العهد ولم يقسموا يمين الولاء. وكان على يقين أن تفريط رجل لا تراجعه ذكرى يمين أقسمها سهو غير مستغرب. أما الذي توقظ له الذاكرة قسمًا راصدًا في كل لحظة فالتفريط منه مقترن بشعور الإجرام، وقد يثنيه وخز الضمير عن الخيانة التي يشهد بها على نفسه كلما ذكر العهد وردد يمين الولاء، وأشفق من وصمة الإجرام والنزول بنفسه منزلة المجرمين.
لقد كان يعمل عمل الزعماء.
وكان يشعر شعور الآباء، ويحاسب الناس حساب القديسين الشهداء.
في الحياة البيتية
من الأقوال الشائعة: إن العظماء ليست لهم حياة خاصة.
وإذا كان هذا القول محل الخلاف فيما يتعلق بمعيشتهم وهم بقيد الحياة فلا محل للخلاف عليه فيما يتعلق بتواريخهم وتراجم حياتهم بعد الممات؛ لأن فهم الحوادث وتقدير الأعمال وتعليل العلاقات قد يتوقف على أخبار البيت والأسرة، وقد يكون ما يساعد العظيم في حياته العامة أو يكون منها ما يعوقه أو ما يصبغ علاقاته الخارجية بصبغة خاصة، فلا يتساوى في نظر المؤرخ عند ترجمة العظماء أن تكون لهم حياة بيتية أو لا تكون لهم زوجات وأبناء وأصهار وأقرباء.
ويصدق هذا القول على سن ياتسن كما يصدق على سائر العظماء، أو لعله أصدق عليه من كثيرين غيره؛ لأنه أخذ على عاتقه تجديد الصين. وجاء زواجه فنقل رسالة تجديد الصين إلى بيته وجعله من مسائله وهمومه؛ إذ كانت زوجته الأولى نموذج المرأة الصينية على التربية القديمة، وكانت زوجته الثانية نموذج المرأة الصينية على التربية العصرية، فليس أحدث من تربيتها في أوروبة أو أمريكا بله الصين وما شابهها من الأقطار الآسيوية.
زوجه أهله من قرينته الأولى (لو-زو) وهو يناهز العشرين، وكان غرضهم من هذا الزواج أن يغريه بالاستقرار ويربطه بالتبعات البيتية فلا يُعرض حياته للمخاطر ثائرًا على العرف وذوي السلطان، فكان زواجًا مناقضًا لوجهته كلها في الحياة، وإن كانت هذه الزوجة مثال ربة البيت بشهادة المترجمين للزعيم والعارفين بأسرته أجمعين.
واضطر سن ياتسن على كل حال أن يتنقل بين البلاد ويطيل الغيبة سنوات، ولا يغشى الأماكن التي تعرف له علاقة بها؛ لأنه كان طريد السلطان بعد زواجه فلم تتوثق بينه وبين هذه الزوجة أواصر الألفة والتفاهم على رسالته الكبرى التي تصغر عنده إلى جانبها كل رسالة.
من هذه الزوجة رُزق ثلاثة أولاد أحدهم سن فو الذي اشتهر في سياسة الصين بزعامة الحزب اليساري المنادي بالوحدة القومية والمعارض للحرب الأهلية، والذي يجعل محاربة اليابان غرض السياسة الصينية، ويتقبل الائتلاف مع كل قوة تعادي اليابان وتتألب على إحباط سياستها الآسيوية، ومن الطريف أن امرأة أبيه الثانية وأخاها من أنصار هذه الهيئة، وإن كانت امرأة أبيه تناصرها بالتشجيع ولا تنتظم في عداد أعضائها؛ لأنها تجتنب العمل السياسي ولا تستريح إلى انقسام الأحزاب.
ولد «سن فو» سنة ١٨٩١ وأتم تعليمه الابتدائي بهواي — كأبيه — ثم تخرج من جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة، وعاد إلى الصين وهو في السادسة والعشرين (سنة ١٩١٧) وعمل كاتبًا لأبيه ثم محافظًا لكانتون فمديرًا للسكك الحديدية فرئيسًا للجمعية التشريعية، وعارض شيان كاي شيك معارضة شديدة بعد وفاة أبيه، وسافر إلى موسكو غير مرة يحاول التوفيق بين روسيا والصين، وسبق ذلك بمحاولة التوفيق بين الشمال والجنوب وبين حزب الكومنتانج؛ أي: الحزب الصيني الوطني والحزب الشيوعي، فعرض حياته للخطر من ناحية أنصار اليمين ومن ناحية اليابان في وقت واحد، ودبر الجواسيس اليابانيون تدبيرهم لقتله في إحدى الطائرات، فأسقطوها ولكنه كان قد تخلف عن ركوبها، فنجا من المكيدة اليابانية وأوشك أن يقع في مكيدة وطنية، فحالفه التوفيق ونجا منها.
ويقول الذين عرفوه: إنه نسخة من أبيه لولا أنه طموح لا يزهد في المنصب والمال زهد أبيه.
ومن التجوز أن يقال: إنه يؤثر في سياسة أبيه بالإيحاء والإقناع، وإنما الصحيح الذي لا شك فيه أن الزعيم كان يتخذه مثالًا لأنداده من أبناء جيله، وكانت خطته في قيادة هذا الجيل مستمدة من مراقبته لعواطف ابنه وآرائه، فما كان طبيعيًّا من عواطف ابنه وآرائه حسبه طبيعيًّا من أنداده وزملائه وشمله بحنانه ورعايته كأنهم كلهم من أبنائه.
أما والدة سن فو فلم تشتغل بالسياسة قط، وقضت معظم أيامها بعيدة من الصين تارة في هواي وتارة في المستعمرة البرتغالية مكاو، وتنصرت كما تنصر زوجها وشغلت أوقاتها بتوزيع الكتب الدينية على سيدات البيوت.
وكانت زوجته الثانية وسطى بنات سونج الثلاث، وهن: آي لنج (أي رأفة وعمر طويل) وشنج لنج (أي سعادة وعمر طويل) وسي لنج (أي جمال وعمر طويل).
وبنات سونج هؤلاء أسرة فذة في تاريخ العالم، لم يعرف عن أخوات قط أنهن تزوجن في عصر واحد مثل زواجهن من ناحيته السياسية أو ناحيته الاجتماعية أو ناحيته الشخصية.
فالبنت الكبرى تزوجت من الدكتور كونج الذي تولى رئاسة الوزارة غير مرة، ويكاد أن يقام مقام التقديس في الصين؛ لأنه ينتمي إلى أسرة كنفشيوس ويحفظ أسماء نيف وسبعين جدًّا يصلون بينه وبين إمام الصين الكبير.
والبنت الوسطى تزوجت من الدكتور سن ياتسن أبي الصين ونبيها الوطني.
والبنت الصغرى تزوجت من القائد شيان كاي شيك الذي قاد الصين قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، ولا يزال رئيسًا للصين الوطنية.
وقد أهلتهن لهذا الزواج تربية عالية وانتساب إلى أب قوي النفوذ في دوائر المال والثقافة، وهو شارل سونج العصامي النابغ، الذي تعلم في أمريكا ليعود إلى الصين رئيسًا وطنيًّا للمرسلين، فحولته أزمات السياسة والاقتصاد إلى عمل آخر لا مناسبة بينه وبين هذا العمل، وهو التوسط لبلاده عند ملوك المال لتفريج أزماتها، ثم الانقطاع للأعمال المالية مع الانتفاع بنشأته الدينية في حماية الدعوة الوطنية.
ويباهي الصينيون بزعامة هؤلاء الأخوات للمجتمع الصيني الحديث؛ إذ ليس في أميرات الأسر المالكة ولا في بنات رؤساء الأمم من تفوقهن ثقافة وكياسة وسمتًا وخبرة بآداب المجتمعات، وكلهن يعرفن أكثر من لغة أجنبية ويقرأن المأثورات اللاتينية والإغريقية ويطلعن على الأدب الصيني القديم، ويحذقن الموسيقى الغربية والشرقية كأحسن ما يحذقها المتعلمات غير المحترفات، ويعتبرن طرازًا رفيعًا من الجمال والرشاقة بين الصينيات، ويضارعن أرقى الأسر في تقاليد التهذيب بين بنات الصين، ويضارعن أرقى الخريجات من جامعات أمريكا في التربية العصرية.
وقد أحبت وسطاهن الدكتور سن ياتسن وهو يناهز الخمسين، ووجد رواة الأخبار في هذا الزواج مادة صالحة لقصة غرامية في حياة المشاهير، فأذاعوا أن الدكتور شغف بالفتاة وغُلب على أمره حبًّا فتزوجها مع ما بينهما من فارق السن، ونسجوا حول ذلك الزواج ما راقهم من نسج الخيال وزخارف التلفيق.
وليست القصص الغرامية بالشيء النادر في سير الزعماء والمشاهير، وليس في هذه القصة خاصة ما يوجب التفنيد أو التصحيح لو كان غاية ما في الأمر أن الزعيم أحب الفتاة، ولكن بيان الحقيقة في هذه القصة خاصة يكشف عن خصلة جوهرية من خصال الدكتور، ويرينا مثلًا قويًّا من الاعتبارات التي يلحظها في أعماله، وهي اتقاء القيل والقال.
فالواقع أن سن ياتسن كان صديقًا لشارل سونج والد الفتيات الثلاث وكان سونج من كبار الماليين الذين جندهم الزعيم لخدمة القضية الوطنية، وكان لا بد له من تجنيد طائفة من أصحاب المصارف والشركات الوطنية لتصنيع البلاد وتزويد الحركة بما تحتاج إليه والوساطة في الأزمات الاقتصادية بين الصين وبيوت المال الأجنبية.
وأخلص سونج لصديقه مجازفًا بثروته وحياته، فافتتح دارًا للنشر والطباعة تُعنَى بنشر الكتب الدينية ظاهرًا وتطبع النشرات الثورية سرًّا وتبثها مع وكلائها في طول البلاد وعرضها بمأمن من رقابة الجواسيس على الجماعات السرية.
ولجأ سن ياتسن مرات إلى بيت سونج يختبئ به كلما تعقبته الشرطة واحتاج إلى مأوى بعيد من الشبهات ريثما يتمكن من مغادرة البلاد.
وأراد الزعيم أن يختار أمينة لسره تتوافر لها شروط الكفاءة وشروط الأمانة، ومن شروط الكفاءة معرفة اللغات وفهم دخائل القضية القومية، ومن شروط الأمانة الغيرة الشخصية على كتمان أسرارها، وهي شروط لا تتوافر لأحد كما تتوافر لبنات سونج؛ لأنهن على نصيب وافر من الثقافة وسر الزعيم هو سر أبيهن. فوقع اختياره على كبراهن أي لنج وظلت تعمل معه إلى أن تزوجت بالدكتور كونج هسيانج، وكان يومئذ رئيس جماعة الشبان المسيحيين، فاختار أختها الوسطى شنج لنج، ولم يطل عملها معه حتى جاءت أبويها ذات يوم تبلغهم أنها اعتزمت أن تخطب الدكتور لنفسها، فراعهم من الخبر أن تجترئ فتاة على خطبة رجل لنفسها، وراعهم فوق ذلك أن الرجل صاحب زوجة لم يُطلقها، وإن كان معلومًا لديهم ولدى الخاصة من أصدقاء الدكتور أنه لا يعيش معها.
وواضح من القصة أن الدكتور اختار الكبرى من البنات ثم الوسطى اختيار وظيفة لا اختيار حب وخطبة، وأنه كان في تلك الحالة بين خطط ثلاث لا معدى له عن واحدة منهن، فإما أن يقصي الفتاة عنه، وإما أن يبقيها على صلة به معرضة للقيل والقال، وإما الزواج.
وقد كان الزواج أكرم هذه الخطط، وكان كذلك أشبهها بعاداته وخلائقه، لإيثاره — كلما شجر الخلاف — أن يختار ما يحسم القال والقيل، وكادت هذه الخصلة أن تحسب من مواطن ضعفه في رأي المعجبين به ورأي ناقديه. فإن هذا الرجل الذي كان يواجه الموت ولا يُبالي الضنك والعذاب؛ كان يجفل من سوء السمعة ويختار الحل الذي يُعفيه منها، ويُذكر له من الشواهد على ذلك أنه سلم للقائد يوان شي كاي أن يرأس الجمهورية بدلًا منه، ونزل له عن الرئاسة دفعًا لشبهات من يقول: إنه رفض هذا المقترح تشبثًا منه بالمنصب، وجازف بسقوط الجمهورية وهي في مهدها لكيلا يسبقه أحد إلى رئاستها.
والخوف من القال والقيل موطن ضعف في الزعماء على الخصوص إذا كان الحرص على السمعة هو الباعث الوحيد عليه، ولكنهم إذا أشفقوا من سوء سمعتهم محافظة على القدوة الحسنة ووقاية للمصلحة العامة، فالخوف من القال والقيل شجاعة، والمجازفة بالتعرض له جناية. وقد كان إصرار سن ياتسن على رئاسة الجمهورية خليقًا أن يلقي في روع أبناء الصين وهم ينهضون لخدمة أمتهم أن المناصب مقدمة على مصالح الأمة، وكان هذا الإصرار معطلًا لنزول الأسرة المالكة عن العرش ولتسليم القائد يوان شي كاي بالنظام الجديد، ومثيرًا لمعارك الشقاق في معسكر الجمهورية نفسه، فلم تكن سمعة الزعيم هي المصاب الوحيد من جرائر القال والقيل.
ولو أنه استخف بالقال والقيل في مسألة زواجه من أمينة سره لأساء إلى سمعتها قبل أن يسيء إلى سمعته، ونكبت أسرة صديقه بفاجعة بيتية لا تستحقها منه، وفعل ذلك بغير موجب يستحل من أجله هذه الجريرة؛ لأنه كان على نية الزواج بعد تطليق امرأته التي لم يكن في وسعها أن تصاحبه في حياة الزعيم المجدد والرائد المتقدم للنهضة العصرية.
حوالي الساعة الثانية من صباح اليوم السادس عشر من شهر يونيو — ١٩٢٢ — أيقظني الدكتور من نومي وطلب مني أن أسرع باللبس والاستعداد؛ لأننا مهددون ولا بد لنا من الإسراع بالنجاة، وكان قد تلقى بالتلفون خبرًا عن تأهب القائد شين للهجوم علينا، فأراد البدار إلى زورق مسلح نوجه منه رجالنا لمقاومة العصاة، ورأيت من التعويق له أن يرتبط بمصاحبة امرأة في مهربه، فألححت عليه أن يتركني إلى حين غير متوقعة عدوانًا على شخصي وأنا على انفراد، وبدا له صوابي بعد برهة ولكنه لم يتركني مع هذا قبل أن يوكل بالبيت خمسين حارسًا من أهل ثقته، ثم مضى منفردًا ولم تمضِ نصف ساعة على انصرافه حتى سمعنا طلقات الرصاص، وصياح الصائحين، اقتلوا سن وين، اقتلوا سن وين … ثم اقتربت الساعة الثامنة ونفدت ذخيرتنا أو كادت، فوقفنا إطلاق النار محتفظين بالبقية إلى اللحظة الأخيرة، ثم لاح لنا أن البقاء غير مجد، ونصح لي رئيس الفرقة بمغادرة المكان ووافقه الجنود على أن يبقوا حيث هم لصد كل مطاردة، وعلمنا أخيرًا بمقتلهم جميعًا.
… ومضت ساعات في الممر قبل أن نصل إلى حديقة ديوان الرئاسة، ولمحنا بعد نصف ساعة ومضة خاطفة وشطرًا من القنطرة يتهدم وينقطع علينا من ثم سبيل العبور، واندفع العصاة نحو ديوان المالية ومكتب الرسوم الجمركية لينهبوهما، فانسللنا بين الزحام غير معروفين، وألفينا أنفسنا في زقاق بعيد من المشتغلين بالنهب والسلب، وكنت لا أقوى على السير من فرط الإعياء، فتوسلت إلى الجند الذين معي أن يطلقوا النار عليَّ لأستريح، ولكنهم حملوني بين جثث القتلى … ثم سدت طريقنا مرة أخرى، وتهامسنا إلا نجاة من هجمة الغوغاء المقبلين إلا بالرقاد على الأرض بين الجثث كأننا بعض الموتى، ثم تمكنت من الاستخفاء بملابس امرأة ريفية، وعلمت بعد ذلك أن امرأتين مسكينتين قُبض عليهما لأنهما تشبهاني، وبرحت كانتون عصر اليوم التالي، فلقيت الدكتور سن مساء ذلك اليوم على إحدى السفن بعد معركة حياة وموت وأسرعنا بالذهاب إلى هونج كونج مستخفين.
هذه حادثة من حوادث الزوجين في السنوات التسع التي ارتبطا فيها برباط الأسرة الوثيق، ولو تتبعنا أوقاتها من سنة ١٩١٥ إلى سنة ١٩٢٤ التي ختمت بها أيام سن ياتسن لكانت أوقات الشدائد هي القاعدة الغالبة وأوقات الأمان هي الاستثناء النادر، وإن لم تكن كلها من قبيل هذه الشدائد الدامية.
فهما بين منفى واستخفاء وصراع ورحلة يلاحقهما الجواسيس والمتربصون وشغل من أشغال المنصب مرهق تنوء به الجبال.
والحياة الزوجية بين هذه المتاعب كل ثقيل أو معونة على الكلول والأثقال، ومن الحظ الحسن أنها كانت في حياة الزعيم المثقل بالأعباء معونة جاءت على حين الحاجة إليها، فكانت زوجته الفتاة المترفة الناشئة بين أحضان النعمة والدلال خير معوان له على مصابرة الحوادث، وعوضها حب الإعجاب والإكبار عن حب الغرام والفتنة، فهانت عليها المتاعب والأهوال رعاية للرجل الذي أعجبت به وأكبرته. ولعل الأزواج من أمثال سن ياتسن في عصره لم يرزق أحد منهم قرينة تضارع قرينته في ثقافتها واطلاعها على أسرار السياسة من حولها، فهي أحق زوجة أن تشارك زوجها في عمله وتقرن رأيها برأيه، ولكنها لم تسمح لنفسها أن تجاوز وظيفة الكاتب الأمين الذي يعمل ما يطلب منه عمله ويحضر ما يناط به تحضيره، ولزمت حدودها هذه طوال أيام حياته، ولم تخالف هذه الخطة إلا بعد وفاته بزمن طويل.
خالفتها كلما خطر لها أن أتباع الزعيم قد حادوا عن نهجه وانحرفوا عن سوائه، وسوغ مقامها ما لا يساغ من غيرها، فرفعت صوت المعارضة يوم خفت بين قومها كل صوت معارض، واستمعوه منها طوعًا أو كرهًا، كأنه صوت الزعيم المقدس يرتفع بعد الممات.