من أعماله
في سنة ١٩١٢ ترددت البشائر بين أنحاء الكرة الأرضية بنجاح الثورة الصينية، وقيام الجمهورية مقام عرش ابن السماء.
وبعد ذلك بعشر سنين، حوصر زعيم الثورة وطوردت زوجته وتنادى العصاة بقتله، وتعالى الهتاف بموته حيث تعالى الهتاف له من قبل بالحياة والبقاء.
عشرون سنة مرت من فاتحة الجهاد في سنة ١٨٩٢ إلى قيام الجمهورية في سنة ١٩١٢.
واثنتا عشرة سنة مرت من يوم نجاح الزعيم إلى يوم وفاته.
شطران غير متعادلين في حساب الأرقام ولا في حساب الحوادث، وأشقاهما الشطر الذي كان بعد النجاح.
وصح في سيرة هذا الزعيم، كما صح في سير الكثير من الزعماء، أن أعباء النجاح أثقل من أعباء الاضطهاد والكفاح!
بل كان هذا أصح ما كان في سيرة زعيم الصين.
لأن ثورته كانت سعيًا متلاحقًا إلى الأمام، ولكن عمله في الحكومة كان أشبه بساع يسعى وهو مشدود إلى الجهات الأربع، فكل تقدم من ناحية نكوص من أنحاء.
كان عليه في سياسته مع الدول أن يبطل سيادتها على بلاده، ويلغي «حقوقها» المغتصبة ويزيد الرسوم على تجارتها التي تتدفق على بلاده بغير رسوم، أو تؤخذ رسومها عوضًا من الغرامات والديون.
وكان عليه في الوقت نفسه أن يقترض منها لتصنيع الصين وتعميرها وتجديد مرافقها على أحدث طراز، كي تدفع المزاحمة الملحة عليها من مصانع الدول الأجنبية.
وكان عليه أن ينقذ الصين من الخراب إذا بقيت «حقوق» الدول جاثمة على صدرها، وأن ينقذها من الخراب إذا أبت هذه الدول أن تسخو له بالمزيد من القروض.
كان عليه أن يهادن اليابان؛ لأنها تصد الدول عن بقاع القارة الآسيوية وتنادي «بآسيا للآسيويين».
وكان عليه أن يهاجم اليابان؛ لأنها تعني أن الصين لليابان دون سائر الدول الغربية، حين تذود تلك الدول عن القارة الآسيوية.
وفي سياسة وطنه كان عليه أن يسكن أو يتحرك إلى الجهات الأربع، وليس السكون أو الحركة إلى الجهات الأربع مما يُطاق.
كان عليه أن يحمي الجمهورية وأن يسلمها لغيره!
وكان الشمال والجنوب في وطنه قد انقسما بعد الاتفاق على خلع الأسرة المكروهة العاجزة، فلما زالت الأسرة عاد الخلاف بعنوان جديد، بل عاد بجملة من العناوين.
ومن ذلك أنه كان يعهد بالوظائف إلى الموظفين الكفاة من أهل الجنوب؛ لأنهم المتعلمون على أصول التعليم الحديث، ولأنه يعرفهم معرفة الثقة والتجربة، فينسى الطامعون في وظائفهم أن «سن ياتسن» أبو الصين، ولا يذكرون إلا أنه جنوبي يحابي الجنوبيين!
ومرافق الصناعة والتجديد نعمة ونقمة في نفس واحد.
أيستغني بلد من البلدان في القرن العشرين عن سكة الحديد؟
كلا، ولا استثناء للصين، أو لعلها أحوج إليها من سائر بلاد العالم، لترامي أطرافها وكثرة سكانها.
ولكن هذه النعمة الكبرى جرت معها البلاء وراء كل قاطرة وكل مركبة؛ لأنها يسرت وصول البضاعة الأجنبية إلى أقصى الأطراف، فضربت صناعة الوطن وعطلت أيدي العاملين، وسهلت لهم الانتقال من بقعة إلى بقعة طلبًا لعمل الزراعة أو عمل النقل أو طلبًا للعمل كائنًا ما كان، فلا هم واجدون عملًا ولا هم مردودون إلى مواطنهم، ولا هم نازلون منازل الحفاوة والترحيب، وقد يخاف منهم العبث والفساد بغير عمل وبغير سكن وبغير قوت.
يجب أن يغلق الباب المفتوح.
يجب أن تفتح الأبواب للقروض.
يجب أن تبنى المصانع على عجل.
يجب أن تستورد من الخارج أدوات البناء.
يجب أن نتحرك إلى الجهات الأربع، ونحن مشدودون إلى الجهات الأربع.
وإذا همت الحكومة الجديدة بتحصيل الضريبة من الأمة المنزوفة، وجدت هذه الضريبة مستوفاة إلى سنوات على عهد الحكومة البائدة، واستحال تحصيلها على نظام جديد: نظام يحصي الأرض والسكان ويقرر الحدود بين الملاك والمستأجرين، ولا إحصاء ولا خرائط ولا يعرف لأموال الدولة حساب غير حساب الكيل الجزاف.
وأوشك كل عامل أو عاطل في الصين أن يزج بسن ياتسن إلى الجهات الأربع، وأن يشده إلى كل جهة من هذه الجهات.
ومن أعضل المعضلات تفصيل السياسة الصينية كما كانت تتبع في تلك الآونة، ولكن الإشارة إليها تكفي لتقدير المتاعب كما اضطلع بها الزعيم الظافر.
الزعيم المسكين؛ لأنه ظفر بمقصده، فانتقل من السير على طريق واحد إلى السير على الجهات الأربع.
وهذه إشارة عابرة إلى بعض هاتيك الجهات!
رئاسة الجمهورية
كان العلم الخماسي — علم الثورة — يرتفع على كل سارية في عواصم الصين، رمزًا إلى الأمم التي تتألف منها القومية الصينية، وهم الصينيون والمنشوريون والمغول والمسلمون وأهل التيبت، ولم يبق بعد أيام أثر للعلم الإمبراطوري — علم التنين — في غير قصور بكين.
وسمع سن ياتسن بثورة أنصاره التي انفجرت قبل أوانها وهو يطوف المدن الأمريكية لجمع المال استعدادًا للثورة التي تقرر موعدها بعد ذلك بسنة، وعلم من الصحف الأمريكية أنه رئيس الجمهورية المنتظر … فلم ير التعجيل بالعودة إلى بلاده، واهتم قبل كل شيء بوقف صرف الأقساط المتفق عليها من القروض الدولية لحكومة بكين، والسعي عند الدول الكبرى للاعتراف بالحكومة الجديدة والاتفاق على السياسة المقبلة.
وسافر إلى لندن باسم مستعار، فوجد هناك برقية أرسلت إليه بعنوان المفوضية الصينية التي لم تزل تنوب عن ابن السماء، يعرضون عليه رئاسة الجمهورية بصفة رسمية … وفي دار هذه المفوضية كان معتقلًا قبل سنين لتسليمه إلى حكومة بكين!
ولقي المسئولين من رجال الحكومة الإنجليزية، وأعضاء مجلس الديون، ثم انتقل إلى فرنسا فتحدث مع بعض وزرائها ونوابها في شأن الحكومة الجديدة، وبرح أوروبة إلى بلاده وهو على شيء من الارتياح إلى موقف الدول من الوجهة الرسمية.
وقبل أن يصل إلى بلاده بستة أيام كان المندوبون في حكومة بكين والمندوبون عن اللجنة الثورية قد اتفقوا على اللقاء بشنغهاي للتفاهم والتقريب بين الطرفين، فظهر من سياق البحث بينهم أن الطرفين كانا على وعد من اليابان بالمؤازرة، ونمى إليهم أن اليابان همت بإنزال جنودها على الأرض الصينية والتقدم إلى العاصمة، فاستمهلتها إنجلترا صديقتها يومئذ وذكرتها بمخالفة العمل المنفرد للاتفاقات الدولية، وحقيقة الأمر على ما اعتقده الطرفان المتفاوضان أن إنجلترا خشيت أن يؤدي التدخل الياباني إلى بسط الحماية على عرش الصين بطلب من الأسرة المالكة، وهي نتيجة يأباها الثوار بطبيعة الحال، ويأباها القائد يوان شي كاي؛ لأنه يطوي النية على تنصيب نفسه ملكًا بعد فترة الثورة الأولى، وتأباها إنجلترا أو الدول الكبرى؛ لأنها تقضي على نفوذهن جميعًا، وتسلم الصين فريسة سائغة لدولة واحدة.
فأسرع الفريقان إلى التفاهم على وقف القتال قبل أن تنطلق الدسائس الأجنبية من عقالها.
ووصل سن ياتسن شنغهاي في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر (سنة ١٩١١) ونودي به رئيسًا للجمهورية في التاسع والعشرين منه، وافتتح مراسم العهد الجديد بزيارة ضريح العاهل الوطني عميد أسرة منج التي كانت تحكم الصين قبل الأسرة المانشوية، فبايع روح الأسلاف على إحياء الصين الخالدة وصد المغيرين على استقلالها، واختار للدولة علمًا مثلث الألوان من الأزرق والأبيض والأحمر، رمزًا لمبادئ الثورة الثلاثية وهي الوطنية وسيادة الشعب والاشتراكية أو رخاء المعيشة، وفيه اثنا عشر شعاعًا تنبعث من الشمس رمزًا إلى أقسام الصين الأرضية.
ووجه اهتمامه الأكبر إلى تدعيم القواعد الدستورية، فأذاع الدستور المؤقت مشتملًا على الحقوق الأساسية وأصول التشريع، واعترضته عقبة الهيئة النيابية في تلك المرحلة، فلم يكن من المتيسر انتخابها بغير معدات الانتخاب التي لم تعهدها الصين من قبل، ولم يكن من المتيسر الانتظار إلى ما بعد تحضير هذه المعدات، وأبى أن يحصر النيابة عن الأمة الصينية بين أعضاء حزبه ولجانه التي كانت تنبث في الحواضر والأقاليم لنشر الدعوة وتنظيم المقاومة، فاكتفى بما تيسر يومئذ وجمع المجلس الأول من المندوبين الذين اختارتهم دواوين الحكومة ولجان الجماعات الثورية، وذوي الرأي بالشهرة المستفيضة ومنهم من لم يصطحب معه توكيلًا من الدواوين أو اللجان، وارتضى المسئولون جميعًا تأليف المجلس على هذه الصورة على أن تخلفه بالانتخاب هيئة من مجلسين خلال عشرة شهور يناط بها وضع الدستور.
واختار الزعيم وزراءه من أكفأ رجالات الصين الحديثة، ومنهم من كانت له شهرة عالمية كالدكتور وانج شنجهوي الذي عين بعد نحو عشرين سنة (سنة ١٩٣٠) قاضيًا بمحكمة لاهاي الدولية، واتخذ نانكين عاصمة للدولة الجديدة: عاصمة بلا خزانة ولا سجلات ولا دواوين ولا موظفين، ثم شعر بقيود المنصب ومحرجاته وعنَّ له أن يندب غيره للرئاسة ويفرغ للقيادة الشعبية، فوافق ذلك مقترحًا من القائد يوان شي كاي يندبه هو للرئاسة أثناء فترة الانتقال بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، ورأى سن ياتسن أن يستفيد من هذا المقترح للدولة الناشئة فعلق قبوله على نجاح يوان في إقناع الأسرة المالكة بالنزول عن دعاواها وحقوقها بسلام، فانقضى شهر في المساومة والمناورة قبل الوصول إلى نتيجة يحسن إعلانها.
وفي الثاني عشر من شهر فبراير سنة ١٩١٢، أعلنت الوصية باسم الإمبراطور الصبي سوان تونج وثيقة النزول عن العرش، وفيها تقول: «إن الأمة اليوم جانحة كلها إلى حكومة ذات شكل جمهوري، وبدت هذه الرغبة واضحة في أول الأمر من الأقاليم الجنوبية والأقاليم الوسطى ثم وعد القادة العسكريون من الأقاليم الشمالية بتأييدهم لهذه الرغبة، ونحن برعاية ميول الشعب نعلم مشيئة السماء، وليس بالجميل منا أن نقاوم ميول الشعب حرصًا على مجدنا، فنحن — والإمبراطور إلى جانبنا — نولي الشعب حقوق السيادة ونأمر بإنشاء حكومة دستورية على النظام الجمهوري، ولا يحدو بنا إلى هذا القرار حبنا لرضى شعبنا الذي طال حنينه إلى حسم الشقاق السياسي وكفى، بل تدعونا مع ذلك رغبتنا في اقتفاء وصايا الحكماء الأقدمين الذين علمونا أن السيادة ترجع آخر الأمر إلى مشيئة الأمة.»
واشتملت وثائق الاتفاق على شروط أخرى تضمن للعاهل الصبي أن يحتفظ بلقب الإمبراطور مدى حياته، وأن يتقاضى من الدولة معاشًا سنويًّا يزيد على نصف مليون جنيه، وأن يُترك له قصر الصين وحاشيته وحرسه، وأن تصان أضرحة الأسرة وتتكفل الدولة بإتمام الناقص منها.
ووعد يوان بتحويل العاصمة من بكين إلى نانكين في الجنوب، وأبرق بهذه الوثائق إلى سن ياتسن كأنه يتعجل إنجاز الوعد باختياره رئيسًا للجمهورية، فاعترض سن ياتسن على الصيغة التي كتبت بها وثيقة النزول وقال: إنها تجعل الجمهورية بمثابة المنحة الملكية التي يجوز للإمبراطور أن يستردها متى شاء، مع احتفاظه بلقبه وقصره ومراسمه وحاشيته، فوافقه الكثيرون من النواب والساسة على تأويله، ولكنهم حسبوا أن مسألة الصيغة لا تساوي مشاكل الخلاف ومصائب الحرب الأهلية، وقبلوا نزوله عن رئاسة الجمهورية للقائد يوان، وأسرع هذا إلى إبرام الأمر الواقع، فعين سن ياتسن مديرًا للسكك الحديدية.
ولا نعلم عن التحقيق أسرار المفاوضات التي دارت بين يوان والأميرة الشابة (لنج يو) الوصية على العاهل الصغير، إلا أنه قد هدم أعصابها بوسائل شتى ولم يقتصر على وسيلة واحدة، فمن وسائله أنه أوعز إلى ضباط الفرق، وكلهم ممن تعلموا على يديه وترقوا برعايته، أن يبرقوا إليه معلنين إخلاصهم للنظام الجمهوري وثقتهم بحكمته وحنكته واقتداره على حل المشكلة بما يرضي الأمة ويصون الوحدة القومية، وأنه أوقع في روع الوصية أنه لا يستطيع أن يعمل بغير مال يشتري به الثوار ويقسم به صفوفهم ويضمن مرتبات جنوده زمنًا؛ مخافة أن ينفضوا عنه وينقلبوا عليه قبل انفراج الأزمة.
فسلمته الوصية خزانة الدولة، واكتتبت مع الأمراء والأميرات بالذهب والفضة بعد إفراغ الخزانة العامة، فلم يبق لديهم ما ينفقونه على المعارك والمساعي السياسية لو خطر لهم أن يخالفوه ويركنوا إلى مشورة أحد غيره، وربما زعم للوصية المتحطمة أن الحكومة الموقوفة ظل زائل، وأن الإمبراطور ربما بلغ سن الرشد وهي في خبر كان، وأنه باق على ولائه للبيت المالك عند الحاجة إليه.
ولا يدعو الموقف حينئذ إلى أكثر من مرسوم يصدره الإمبراطور بمشيئة الشعب الذي سيضجر مع الزمن من عجز العهد الجديد ولا يصعب على الوصية أن تقبل هذه التعلات فهي أحب إليها بأية حال من كفاح لا يعاونها عليه أحد، ولا تضمن من عواقبه ما ضمنته لها من وثائق الاتفاق، وقد رؤي هذا الباقعة في مؤتمر الأسرة المالكة الأخيرة يضرب الأرض بجبهته ويبكي ويأبى أن يرفع وجهه خجلًا من النظر إليها وهي تستسلم لمصيرها، وسمعت الوصية تقول للعاهل الشاب: إذا كنت الآن لا تزال بقيد الحياة فالفضل في بقائك لهذا الصديق النصوح، وكان يوان قبيل ذلك بلحظات يقول لهم: إن لويس ملك فرنسا لو وجد حوله من يقنعه بالإصغاء إلى صوت العقل لما هلك وهلك معه ذووه!
ولقد عز على ناس من خلصاء الرئيس سن ياتسن أن تؤول الثورة إلى هذا الباقعة الذي لم يثبت قط على الولاء لأحد، ومن هؤلاء شيان كاي شيك خليفة سن ياتسن على قيادة الصين، فإنه اعتزل منصب العسكرية وعاد إلى اليابان يستكمل دروسه ويترقب من ثم تقلب الحوادث والأحوال. وأخل يوان بأول شرط من الشروط المطلوبة وهو تحويل العاصمة من بكين إلى نانكين، فتعلل ببوادر الفتنة — وهي من تدبيره — للبقاء بالعاصمة الشمالية وحراسة الأقاليم من ورائها، وأجل الانتقال إلى العاصمة الجنوبية إلى أجل غير محدود.
ثم سرت مساعي يوان شيئًا فشيئًا من طريق الدعوة السياسية، فلما نظم سن ياتسن حزبه باسم «الكومنتانج»؛ أي الحزب الوطني، نظم يوان حزبًا يقابله باسم حزب التقدم (شنبتانج) ودس أعضاءه في دواوين الحكومة ومراكز النفوذ، وكلف عالمًا من علماء القصر الدستوري الأمريكيين وخبيرًا من أساطين الصحافة الإنجليزية أن يدرسا الحالة العامة من الناحية الفقهية والتقليدية، ويكتبا بالرأي الذي يريانه تقريرًا مفصلًا معززًا بالشواهد والأسانيد للاستئناس به عند تقرير النظام الدائم عما قريب!
أما سن ياتسن فقد تقبل مهمة الإشراف على تنظيم المواصلات غير مترفع عنها بعد رئاسة الجمهورية، والواقع أن منصب المدير العام لمواصلات الصين لا يقاس على نظائره في البلاد الأخرى؛ لأن علاقات الدول بالصين تدور على خطوطها الحديدية ومواصلاتها البحرية والبرية، وتعمير الصين من أقصاها إلى أقصاها يتوقف على مستقبل هذه الخطوط ومعضلاتها المتجددة أكبر من طاقة الدولة الصينية برمتها، وهذه المعضلات هي التي أراد يوان أن يمتحن بها طاقة الزعيم المحبوب، فهو ملاق فيها الفشل والحيرة لا محالة، وكل أولئك خير لإمبراطور المستقبل يوم تتهيأ الفرصة للتشهير بالرئيس القديم.
ومن مهازل النقد والتاريخ أن ألسنة يوان من الصحفيين الأجانب أخذوا على سن ياتسن أنه أمر بإعداد خريطة للصين ترسم عليها المواقع التي يراد الاتصال بينها، فأعدوها له ورسموا الخطوط المطلوبة غير حافلين بما يعترضها من الجبال والأنهار والعقبات، واستدل النقدة المؤرخون بهذا على جهل الزعيم وتصديه لما لا يحسنه ولا يدريه، وفاتهم أن يتهموه بالعمى عن رؤية مواقع الجبال والأنهار … فليست المسألة إذن جهلًا بهندسة المواصلات، فما من أحد يجهل أن الجبال والأنهار تعوق المواصلات، وإنما هي مسألة نظر يرى الجبل في موضعه أو لا يراه.
وحقيقة المسألة أن الخريطة الأولى وُضعت كما قال أولئك النقدة المؤرخون، ولكنها خريطة تعقبها خرائط لرسم القناطر والأنفاق أو رسم المنعرجات الطوال والقصار حيث لا يتيسر بناء القنطرة وفتح النفق، ولا بد من الخريطة الأولى والخرائط التي تليها في بلاد لم تُوضع لها خريطة قط، لغرض من هذه الأغراض.
وقد وجه يوان مساعيه الخفية جميعًا لإحباط مشاريع السكك الحديدية والاستيلاء على جميع القروض التي يحصل عليها من خزانة الديون.
والمفهوم من موالاة القائد يوان لمجلس الديون أنه يدخره للمستقبل عسى أن يعترف به إمبراطورًا على الصين بعد إلغاء الجمهورية، وأنه اقترض المال وحصل على عدة ملايين فلم ينفق منها كثيرًا ولا قليلًا على مشروعات التعمير، بل أنفقها كلها على تسليح الفرق الموالية له ورشوة القادة المسلطين على الأقاليم.
والمفهوم أن سن ياتسن وأنصاره نقموا على هذه السياسة خوفًا على مستقبل الجمهورية، وانتظارًا منهم لتسوية مسائل القروض والديون والجمارك والمواصلات على أساس جديد يناسب الدولة الحديثة، مع مناداتهم باحترام المعاهدات إلى أن تتم التسوية المنتظرة، خوفًا من تأليب الدول على العهد الجديد.
وكان من رأي سن ياتسن أن يستعان ببيوت المال والصناعة في اليابان على تمويل مشاريع التعمير الأولى؛ لاعتقاده أن اليابان لا تستطيع أن تنفرد بامتياز يخصها على حدة، وأنها إذا حاولت أن تنفرد بامتياز كهذا صدتها الدول مجتمعات دون أن تنتظر التخويف أو الإثارة من قبل الحكومة الجمهورية، فالواقع أن الدول التي لا تحمي سيادة الصين غيرة عليها بل خوفًا من غلبة إحداها على هذا الميدان الفسيح، ومن تغلبت عليه طغت على العالم بقوة تخشاها الدول جمعاء.
وقد عرف من مفاوضات يوان أنه قبل ضمان الملح في الدولة الشاسعة لسداد قروضه الأخيرة، فأبرق سن ياتسن إلى الدول يحذرها، وأعلن الرئيس ويلسون كما تقدم تنحي الولايات المتحدة من مجلس الديون.
ووقعت الواقعة بين الرئيسين.
وصرح الشر باسمه بين العاصمتين.
وتمادى يوان في أساليبه، فنكل بخصومه وأرسل إلى زعيم معارضيه بالمجلس (سنج شيو جين) من يقتله وهو على رصيف محطة شنغهاي يهم بالسفر إلى الشمال، وقبض على قاتله في مكانه، ولكنه خنق في السجن قبل أن يوجه إليه سؤال.
وتتابعت حوادث الاغتيال وتعطل البرلمان بوقف جلساته أو فصل أعضائه من حزب الكونتانج أو رشوة الأعضاء الآخرين، وتدرج يوان من إكراه الأعضاء الباقين على تجديد انتخابه إلى إلغاء الجمهورية وإعلان الإمبراطورية، فنادى بنفسه إمبراطورًا ولما تنقض على الجمهورية أربع سنوات (يناير سنة ١٩١٦).
وكانت الحرب العالمية الأولى قد شغلت الدول الغربية عن الصين وعن اليابان، وسنحت الفرصة لليابان فوجهت إلى حكومة يوان مطالبها التي اشتهرت بالمطالب الواحدة والعشرين، ومنها اعتراف الصين بحق اليابان في الاستيلاء على مخلفات ألمانيا وامتيازاتها، والاعتراف باحتلالها لمنشوريا ومنغوليا الشرقية، وتخويلها حق الرقابة على مناجم الفحم والحديد، وأن تتعهد الصين بألا تسمح لطرف ثالث باحتلال موانئها ومراكزها التجارية، وأن تقبل المستشارين والخبراء من اليابان للإشراف على شئونها السياسية والعسكرية والاقتصادية.
ولم يسع يوان أن يجابه اليابان برفض مطالبها، لاشتغال الدول عنه واشتغاله بمكافحة الثورة الداخلية، فوقع المعاهدة بينه وبين اليابان (في الخامس والعشرين من شهر مايو سنة ١٩١٥) على هذه الشروط المجحفة بعد تعديل طفيف لا يُقدم ولا يُؤخر في جوهرها، وكان إذعانه لهذه الشروط إحدى الضربات القاضية عليه، فزادته خذلانًا بين خصوم الجمهورية فضلًا عن دعاتها وأنصارها، ومكنت سن ياتسن من مقاتله ومن تجميع القوى شمالًا وجنوبًا على حكومته، فاعتقد أهل الصين أنه باع البلاد وباع الأسرة المالكة وباع الجمهورية ليشتري لقب الإمبراطور.
وجاءته النكبات من المخلصين وغير المخلصين، فلم يبق حوله أحد من الوزراء الأكفاء الذين قبلوا معاونته بموافقة سن ياتسن حثًّا له على إنجاز برامج الإصلاح ورياضة له على الاعتدال واتقاء للبغتة والمفاجأة، واقتدى به غير المخلصين فاشتغل منهم بولايته ووجد من يبايعه بالإمارة على هواه، ولا فائدة هنا من تعديد الأسماء فإنها تبلغ المئات لم يثبت اسم منها طوال الأزمة على ولائه لهذا الفريق أو لذاك الفريق، ومن بقي منهم على عهد الثورة لم يبق على خطة واحدة من خطط الحرب أو خطط المسالمة.
وغني عن القول أن نقمة بكين كلها كانت تنصب على رأس رجل واحد هو سن ياتسن؛ صاحب الاسم الذي تدور حوله كل دعوة إلى مقاومة السلطان المطلق، وكان هذا الزعيم الأمين صريحًا مع الطاغية الباقعة فأبرق إليه منذ الخلاف الأول (أبريل سنة ١٩١٣) يعلنه بالعداء ويقول له في غير مواربة: «إنك تخون الوطن، وإنني لمحاربك منذ الساعة كما حاربت الأسرة المانشوية.» وعاد بعد شهر فأبرق إليه يطلب إليه الاعتزال، وعاد بعد شهرين فأبرق إلى رؤساء الأقاليم يدعوهم إلى خذلانه والثورة عليه، صارحه بهذا العداء منذ ركب رأسه وتصرف بأموال الدولة كأنها من ماله، ووضح من كل استعداد له أنه استعداد لقمع الشعب والتزلف إلى الدول بالتفريط في حقوقه ومصالحه، فما كادت اليابان أن تفرض على البلاد دعاواها الواحدة والعشرين حتى قبلها بعد يوم واحد من توجيهها إليه، أبرقت إليه بمطالبها في السابع من شهر مايو سنة ١٩١٥، وأجابها إليه بغير تعديل ذي بال في التاسع من الشهر، ووقع الاتفاق المهين بعد أسبوع.
وخُيل إليه أنه يخدع البلاد والدول جميعًا عن نياته، وأنه ضمن الاعتراف من الدول سلفًا بسياسة الخنوع والرشوة، فجمع من أنحاء الشمال والجنوب مؤتمرًا وطنيًّا يتألف من ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين عضوًا وصلوا إلى العاصمة قبل ختام السنة، وسئلوا رأيهم فكانوا جميعًا على رأي واحد: وهو تغيير نظام الحكومة وإقامة الملكية الدستورية ومبايعة يوان شي كاي ملكًا دستوريًّا بلقب الإمبراطور.
وانكشف الإخراج المسرحي حين كتب إلى المؤتمر الوطني يرجوه أن يعيد النظر ويعفيه من الإلحاح عليه ويقول له: «إنه ما دام قد أجمع على إقامة الملكية الدستورية فلا محل لاعتراض رئيس الجمهورية على هذا الإجماع، إلا أن ترشيحه هو للملك قد أذهله، وأن السماء لهي التي تخلق الشعوب وتولي الملوك ولا تبديل لما تُريد، وإنما يستحق ولايتها من كان على فضيلة نادرة …»
ثم قال: وإنني أنا الرئيس قد خدمت الدولة ثلاثين سنة وبلوت الغير والصروف وما حصلت على شيء، وقد مضى على قيام الجمهورية سنوات أربع لقيت فيها الصعاب الجمة واقترفت الأخطاء الكثيرة، فكيف وما اتسع الوقت بعد لتصحيح تلك الأخطاء أستحق ذلك الشرف؟
ثم استطرد إلى محاسبة الضمير فتساءل: كيف يستريح من وخزه وهو يفكر في مولاه النازل عن عرشه؟ أو يفكر في قسم الولاء للحكومة الجمهورية؟
ثم قال: إنه لا يقوى على هذه المحنة إلا إذا شفع له فيها وعده بنسيان نفسه والتضحية بكل عزيز عليه فداء لوطنه، وإنه ليرجو مع هذا ألا يلجئه المؤتمر إلى مأزق يأباه ولا يزج بنفسه فيه وهو راض، وأمامه المرشحون للملك يختار منهم من يشاء عداه، وهو من يبايعه ويرضاه.
فلم يمض غير قليل حتى عاوده رسل المؤتمر بسجل طويل سردوا فيه فضائله ومزاياه وعددوا فيه مآثره على البلاد وخدماته للعرش وللجمهورية، وذيلوه بالفتوى التي تحله من حساب ضميره، فقد كان عليه أن يبر بقسمه للجمهورية ما دامت الجمهورية، ولكنها تزول يوم يزيلها الشعب فلا توجد ولا يوجد لها قسم في الرقاب، وإنما المسئول من أزالها لو لم يكن له حق في إزالتها أو إبقائها، ولا نكران لحق الشعب في الحالتين … فلا شأن «لإمبراطورنا» يوان شي كاي بما قضاه رعاياه.
هذه فصول من المسرحية تلتها فصول أخرى، كلفت الدولة الصينية كما هو واضح جهد الجبابرة لو صح أن يوصف بالجبروت هزل كهذا الهزل ومجون كهذا المجون، ولو أنها كانت مسرحية تمثيل كلفت ممثليها ومخرجيها عُشر هذه التكاليف لنجحت أضعاف هذا النجاح، ودام تمثيلها على الأقل بضعة شهور واستعيدت بعد سنوات، ولكنها بعد كل هذا العناء لم تشغل من مسرح السياسة الصينية أكثر من بضعة أسابيع، فإن «الإمبراطور» «على الرغم منه» وضع التاج على رأسه وأسبغ الطيلسان على كتفيه في مطلع السنة (١٩١٦) وخلعهما — باختياره — في الثاني والعشرين من شهر مارس مستجيبًا هذه المرة أيضًا لمشيئة الشعب، وأذاع أنه قانع برئاسة الجمهورية ما دام الشعب ينفر من لقب الإمبراطور.
وبديه إنه لم يلبس التاج والطيلسان مطيعًا للشعب ولم يخلعهما لطاعته، وإنما افترى على الشعب أولًا وآخرًا، وحاول أن يتشبث بالملك ما استطاع ولم يحسبه حسابًا لصدق النفوس في الوطنية ولا لخسة المطامع في أمثاله وبين صميم أعوانه، فعصف به خلل الحساب، وما كان له من قدرة يفخر بها غير صواب الحساب.
وما هو إلا أن جلس على عرشه يتقبل التهاني من حاشيته وأذنابه حتى تجاوبت أرجاء الصين بصيحة أعوان سن ياتسن الذين أطلق عليهم اسم الإخوان المتعاهدين: أنقذوا الجمهورية! أنقذوا الوطن، ولم تبالِ الطوائف الفتية منها أن تخرج للمظاهرة والهتاف بهذا النداء بين سمعه وبصره، وأثبتت التجربة كرة أخرى أن عادات الشعوب الأصيلة أنفع لها وألصق بها من النظم المستعارة، فإن الأحزاب السياسية لم تبلغ من خدمة وطنها في هذه المحنة بعض ما بلغته الجماعات و«الأخوات» التي تعودتها الصين منذ آلاف السنين، وكانت جماعة «الإخوة المتعاقدين» أنشط هذه الجماعات وأقدرها على تلبية الرأي العام وقيادته ونشر الأخبار سرًّا وجهرة بين جماهيره إلى أقصى أطراف البلاد النائية، وثابرت على نشاطها بعد سقوط الطاغية وذهاب «الإمبراطورية» المغتصبة.
ومن الصدق للتاريخ أن يقال: إن فعل الخيانة في هذه المحنة لم يكن أهون وقعًا على يوان وزمرته من فعل الأمانة والنخوة، ولكل شيء آفة من جنسه كما قيل.
ففي أسبوع واحد حذا المحتالون من أصحاب المطامع حذوه وأعلنوا استقلالهم بأكثر من عشرة أقاليم، وحز في نفسه أن معظم هؤلاء كانوا من أذنابه ومأجوريه، فاعتزل الملك وأخبار الممالك الداخلية المستقلة تلاحقه حتى أطبقت عليه الطامة الكبرى باستقلال رشوان وهونان وعليهما أقرب أعوانه وصنائعه … فقضى عليه الغم والكمد في السادس من شهر يونيو، ولما ينقض على صعوده إلى العرش ستة شهور ولا على نزوله عنه ثلاثة شهور.
روى التاريخ أن يوليان المرتد كان ينادي قبيل وفاته بينه وبين خاصته وبينه وبين نفسه: أيها الجليلي، لقد انتصرت! يعني «السيد المسيح».
ورواية التاريخ هذه لم تثبت ثبوت اليقين، بيد أنها رواية معقولة لا داعي لنفيها واستغرابها، فقد كان الباقعة الصيني، المعتز بدهائه وسلطانه وما يفعله المال والسلاح يعجب قبيل نزوله عن العرش ويعيد العجب قبيل موته، كيف يطاع سن ياتسن هذه الطاعة بغير دهاء وبغير سلطان أو مال أو عتاد، وتكاد صيحة يوان أن تكرر صيحة يوليان.
وتتجلى المكانة الهائلة التي رزقها هذا الرجل من نوادر لا عداد لها يقصها الأجانب والوطنيون ويتحدثون فيها عن الخاصة والعامة من قومه، وربما كانت كلمة المكانة أضعف من التعبير الصحيح عن هذه الخاصة العجيبة التي لا يرزقها جميع الزعماء، فلولا أنها مكانة ثقة أو محبة لكانت كلمة السطوة أحرى أن تدل عليها حق دلالتها، ولولا أنها سطوة روحية لما نجح بشخصه منفردًا — كما روى الجنرال موريس كوين — في إقناع قائد جيش عاص بالارتداد مع جيشه وراء المدينة، تهدئة لروع السكان.
وتقدم من بعض الأخبار ما يشير إلى عادته المرعية في تحميل التبعات والمحاسبة عليها، فإنه لا يشهر العداء على أحد حتى يبرئ ذمته من تذكيره ونصحه، وجريًا على هذه العادة أبرق بعد وفاة يوان إلى وكيله لي يوان هنج يحذره من تحدي الدستور ومجاراة طلاب الانقلاب الملكي وإعادة الإمبراطور الصيني «بوتي» إلى عرشه، وكان هذا الوكيل يتولى منصبه ويقيم بالعاصمة الشمالية بعيدًا من سن ياتسن وأشياعه، فلما وصلت إليه البرقية تخلى عن منصبه وعن المنصب الذي أسندته إليه الحكومة الموقوتة، ولم يحفل بغضب القادرين عليه مرضاة للزعيم الذي يطارده الأقوياء ولا يكاد يأمن على رأسه.
ويعلم المتتبعون لتاريخ الصين الحديث أن الصلابة والعناد أبرز صفات القائد شيان كاي شيك خليفة سن ياتسن على زعامة الصين، ولم يكن شيان على وفاق مع أستاذه في كل موقف وكل خطة، فخالفه مرات ولم يخطئ دائمًا في هذا الخلاف، بيد أنه كان يخالفه وهو بعيد، ويروغ من لقائه كلما تسنى له أن يداري روغانه خجلًا من مخاطبته وجهًا لوجه بالخلاف، ولم ينفرد شيان بهذا الأدب مع أستاذه العظيم، بل كان مثلًا يحكيه غيره من تلاميذ الرجل أو معارضيه، فهم جميعًا يتقون لقاءه بالمعاندة والمكابرة، ولا يجترئ عليه إلا من يجهله ويجترئ بسورة البهيمية الجامحة على كل مقام.
ومكانته هذه بين العامة من قومه هي التي قاومت طغيان يوان ومناوراته وأحابيله التي ينخدع بها الدهماء من كل أمة، فلما اجتمع مؤتمره وأجلسه على العرش ونشرت وثائقه في الصحف وعلى المنابر وبين جماهير المستمعين كان السؤال الذي يتردد على كل لسان: وماذا يقول سن ياتسن؟ وأين توقيعه مع الموقعين؟ ثم يوصد السائل أذنيه عن كل مقال!
وطالما تضاحك الأمريكيون من هذه السذاجة كلما صادفتهم عرضًا في دوائر الأعمال والمعاملات، فمن ذاك أن أهل الصين المقيمين بالولايات المتحدة عرفوا اسم الدكتور موريس وليام الذي سبقت الإشارة إليه عند الكلام على مصادر ثقافة الزعيم، فإذا استرابوا في وثيقة تجارية أو نصيحة من محام أو محادثة من صحفي — وهم بمانهتان حيث يقيم الدكتور — قالوا لمن يناقشهم: هاتوا لنا كلمة من الدكتور وليام، ولا تجدي محاولة قط ما لم يسمعوا الكلمة من الدكتور.
ولم تضعف هذه الثقة إلى سنة ١٩٤١ بعد وفاة الزعيم بست عشرة سنة، فلما أرادت مسز فرانسس ماسون أمينة صندوق الإعانة الصينية أن تغتنم مناسبة ١٠ أكتوبر سنة ١٩٤١ لنشر الدعوة للصدقة يوم الاحتفال بعيد الجمهورية، واقترحت على طائفة من عامة الصينيين أن تنشر صورهم في الصحف مشفوعة بأحاديث مروية عنهم، تستجلب بها العطف على فقراء بلادهم، كان جوابهم: نعم، نفهم هذا، ولكن لا نفهم لماذا تصوروننا لإعانة أناس يعيشون هناك؟ وماذا عسى أن تعمل صورة هذا الشيخ أو تلك المرأة لتقوية الجند على حرب اليابان وضمد الجراح وإطعام المنكوبين؟
وكادت السيدة أن تجن من الغيظ وأن تصرف المصورين الذين حضروا في مكاتبهم وصبروا نحو ساعة على سماع حوارها. وذكر أحدهم اسم دكتور موريس وليام مستشهدًا به على مسألة لا علاقة لها بموضوع الحوار، فلاحت على وجه زعيم الطائفة مستر بنج بارقة حياة، بعد أن لبث برهة كالصفحة الممحوة بلا كتابة ولا رمز ولا إشارة، وسألهم: أأنتم من معارف الدكتور؟ فلما قالوا له نعم، ونقلوا إليه بعض أخباره، قال لهم: حسن، الآن أحدثكم بقصة عن بلادنا وآذن لكم أن تنشروا معها صورتنا …
ليست هذه طاعة رعية لرئيس جمهورية، ولكنها ثقة أبناء الوطن بمن سموه أبا الوطنية في بلاد تقديس الأسلاف، وتنسى أن أبوة الزعامة أبوة مجاز فلا تفرق بين الولاء لها والولاء لعبادة الآباء والأجداد.
ولم يؤثر عن أبناء الصين أنهم من ذوي الخيال أو ذوي المزاج الذي يسميه الغربيون بالمزاج «الرومانتيكي»، ويقصدون به صبغ الحياة بصفة الحماسة الشعرية والفخامة الوهمية، فالقوم كما قدمنا عمليون أرضيون يقدرون الأمور بمقادير الحس القريب ولا يعجبون إلا بما يبصرونه ويدركونه ويلمسون شواهده في معارض الواقع والعيان، فزعيمهم سن ياتسن لم يسخرهم بالخيالات والأباطيل، بل كسب الثقة منهم بيقين لا يمتري فيه اثنان، وليس أدعى إلى الثقة بالعظيم عند الناس من ثبوت نزاهته أمام المغريات والمخاوف، ويقينهم أنه لا يبالي مخاوف الموت ولا مطامع الحياة، وقد رسخ هذا اليقين عندهم في نزاهة الرجل حتى أصبح الشك فيها كالشك في رؤيته وسماعه ووجود شخصه، فبلغ بهذا اليقين ما لا تبلغه رئاسة الرؤساء وقدرة الزعماء.
والواقع أن الرجل فني في رسالته حتى لم يبق له وجود بمعزل عنها، وأذهل أنصاره وخصومه بنشاطه بعد قيام الجمهورية كما أذهلهم قبل ذلك بالسعي الحثيث إلى إقامتها، وأوشك أن يُحسب من أصحاب طبائع الجان التي توجد في كل مكان، فبينا هو بكانتون إذا هو بشنغهاي وإذا برسالة له تقل من اليابان، أو من الجزر والسواحل المستطيلة من الجنوب إلى الشمال، ويخيل إلى مطارديه أنهم أحاطوا به وسدوا المنافذ عليه ثم يسمعون بأخباره على قيادة جيش أو على ظهر سفينة أو على منصة مؤتمر حاشد، لا يدرون كيف احتشد وكيف وصلت دعوته إليه، وبينا يخيل إلى أتباعه وأشياعه أنه قد يئس واستكان إذا بالأوامر منه تثيرهم إلى النضال وتحتم عليهم النصر «وعليهم أن يظفروا؛ لأنهم لا طاقة لهم بالهزيمة» فالنصر أيسر المطلبين.
وقد ولاه وكلاء الأمة المجتمعون في الجنوب كل منصب تشتد حاجتهم إليه، ولوه قيادة الحملة على الشمال، وأعادوا انتخابه لرئاسة الجمهورية وفوضوا إليه السفارة مع من يشاء، وكان قبوله لكل منصب من هذه المناصب بمثابة التسليم للموت والنكبة، فقبل أخطرها وأعسرها ولم يتردد إلا حين لا خطر ولا عسر ولا مظنة فيهما، بل قبل مرة أن يكون واحدًا من سبعة لإدارة الحكومة على نظام القنصلية، ردًّا لدسيسة الطابور الخامس الذي كان يعمل في الجنوب بإيعاز من بكين.
وساوموه أيامًا على قسمة الشمال والجنوب وطنين منفصلين، بكين كمعناها عاصمة الشمال، ونانكين كمعناها عاصمة الجنوب، فكان على كراهته للحرب الأهلية يجيب على المساومة بصيحة «الصين الكاملة» ويقول: إن الصين لو بقيت في مثل نصفها متحدة كاملة أصح وأقوى من الصين ذات العاصمتين المنعزلتين.
وعمت الفوضى حتى أصبح سلطان العاصمة ينتهي عند جدرانها، وحتى أصبح حكم «الانتخاب الطبيعي» بين القواد هو الحكم الذي تقره دواوين العاصمة، فإذا غلب القائد من ينافسونه وينازعونه فوظيفة العاصمة أن تقر هذا «الانتخاب الطبيعي» ويشيع المغلوب بالذم والعقاب!
وإذا كان صبر يضرب به المثل فهو صبر الزعيم الجليد بين مذاهب هذه الفوضى ومنازع هؤلاء القادة: كان يفتتح المدارس العسكرية لتخريج القادة منها بعد سنوات قادرين على قهر القادة المتنازعين، وإلزامهم الطاعة بحكم «الانتخاب الطبيعي» الذي احتكموا إليه.
وجرب من مرارة الصبر — أو من حلاوته — أنه كان يرى ألد خصومه يثوبون إلى رأيه حقبة بعد حقبة على مناقضته وعصيانه، فكان يقول لهم باسمًا: لا تحتفظوا للغد بالندم على مخالفة اليوم.
وقد عابه الناقدون من الأجانب على الخصوص بالتشبث والعناد لغير ضرورة؛ لأنه أصر على رفض كل مساومة ترمي إلى التقسيم كائنًا ما كان المصير، وكان أناس من قومه يوافقونهم كلما كلفتهم المقاومة عنتًا يودون لو أعفاهم منه الزعيم العنيد، فلما قضى نحبه ونزلت النوازل بعد فوات الوقت كان منهم من يحسب أنه لم يتشبث كما ينبغي ولم يبلغ الكفاية من تشديد النكير، ولو أنه عاش لما فرغ من الملامة التي يؤجلون الندم عليها إلى الغد بعد الغد، بغير انتهاء.
مع الدول
يسمي الصينيون بلادهم بالبلاد الوسطى أو مركز العالم، فكل ما ابتعد منها فهو أطراف ومجاهل.
وكانت بلاد العالم تبادلهم هذا الشعور وهذه العقيدة، فمن أقام على مقربة من تخوم الصين يعلم أنه على مقربة منها، ولكنه يتكلم عنها كأنما يتكلم عن حيز من الأرض معزول وراء جدار، ولا يزال بعض أصحاب النحل الذين يقيمون إلى غرب القارة الآسيوية يعتقدون أن الصين هي العالم الأخير، فمن فارقت روحه العالم فإنما تفارقه لتذهب إلى مطلع الشمس من بلاد الصين!
وزاد الشعور ببعد الصين، أو بغرابتها، أن الذين طوحوا بأنفسهم في الأسفار، ووصلوا إليها قفلوا إلى أوطانهم يهولون ويبالغون في التهويل كدأب الرحالين الذين يحبون أن يوهموا الناس أنهم ركبوا الأهوال من أجل شيء يساوي مراكبها ومعاطبها، فلا يقنعهم الغريب حتى يغربوا في وصفه إلى الغاية من الإغراب، وجاء زمان كان المستمع فيه إلى كل غريب يحسبه لأول وهلة حديثًا عن الصين، وأصبح من مضارب الأمثال حين يغلو المتكلم في استغراب كلام أن يقول: «هذا صيني بالنسبة إلي» أي هذه لغة لا تدخل في عداد اللغات التي يتفاهم بها السامعون.
ومن حظ الصين أنها اقتربت جد الاقتراب من أيدي المستعمرين وهي لا تزال بهذا المكان من الغرابة عند أمم المشرق والمغرب.
فالجزر البريطانية والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وهولندة قائمة على شواطئ البحر الأطلسي، ولكنها كانت قد وصلت برواد الاستطلاع والاستعمار إلى الهند وما جاورها، فأصبحت من الصين قاب قوسين، وأصبحت الصين خط الامتداد الوحيد أمامها كلما طمعت في التوسعة أو ضاق بها المقام بين الطامعين المتغلبين.
ولما هب النائمون وفتحوا أعينهم على ميادين الاستعمار كانت الصين أقرب ما تناولوه، فتناولوا منه ما قدروا عليه …
هبت روسيا واليابان لسباق الاستعمار بعد منتصف القرن التاسع عشر الذي عُرف بالهجمة الاستعمارية الكبرى، وعلمت روسيا أن الاقتراب من الهند غير مأمون العاقبة، فلم تجد أقرب إليها من الصين.
أما اليابان فلا خيار لها في القربى، وإنما تأخر بها الزمن ولم يتأخر بها المكان، فانتهبت نصيبها مع المنتهبين.
كل هذا والدنيا لا تستغرب أخبار هذه المنهبة العالمية، فكل ما جاء منها فهو مكسب للبشرية من تلك المجاهل الغريبة، وكل مأخوذ فهو حق مباح.
ذلك من حظ الصين أو من سوء حظ الصين.
وبقيت في المكيال بقية تبرعت بها الدولة الصينية على غير قصد منها، فلم ينقل الناقلون عنها إلا كل غريب يسوغ تلك النظرة الغريبة، ويملي للقوم في الاستباحة والانتهاب.
وكانت هجمة بغير عنان، ثم توقفت على كره من الهاجمين، وتجمعت الدواعي من شتى الجهات لتوقيف ذلك الهجوم.
فأول هذه الدواعي أن الهاجمين على الغنيمة أشفقوا أن يتنازعوا عليها، فتريثوا على قلق وارتقاب.
وجاء الداعي الأهم بعد هذا من قبل الولايات المتحدة خوفًا على ميزان الأمان في المحيط الهادي، فقد أخرجت إسبانيا من الفيليبين فلم تلبث أن وجدت أمامها من هو أخطر من الإسبان يتسابقون إلى غنيمة أكبر وأضخم من جزر الفيليبين: وهي الصين. ووافق حذرها هذا حذر الدول المستعمرة من تنازعها وتنافسها على الحصص الباقية، أو حذرها أن يموت صاحب التركة ولما يتفقوا على تقسيم ميراثه، فتوفقوا واستمعوا نصيحة الولايات المتحدة بالتوقف، وحرموا على أحدهم أن ينفرد بالدار المفتوحة لكل واغل وداخل، وسموا هذا التحريم الخاص أو هذه الاستباحة العامة بسياسة الباب المفتوح.
وداع غير هذه الدواعي أن التنين الغريب زالت عنه الغرابة، وزالت عنه حجة الاستباحة.
كان ابن السماء يحتج على استباحة أرضه، فيثبت باحتجاجه أنه يرطن وأنه من عالم آخر تفصله ألوف الفراسخ وألوف السنين.
وكانت رعاياه — رعايا ابن السماء — تحتج وتغضب فتضيف المئات من الفراسخ والمئات من السنين إلى تلك الألوف، فلم يكن أغرب من ابن السماء إلا أبناء أرضه دعاة السلام، أو الملاكمين دعاة الصراع … ولما أراد رسول التايبنج أن يقترب بعض الاقتراب قال قولته التي جعلته أعجوبة الأعاجيب في أرض العجائب، قال: إنه شقيق المسيح الأصغر، فكان الوثنيون من قومه أدنى الفريقين إلى العقول والأسماع!
ثم فتح العالم أذنيه على صوت جديد: صوت ليس بالغريب عن الصين، وليس بالغريب عن العالم، في لهجته نبرة صينية لا خفاء بها، وفيها نبرة إنسانية لا خفاء بها كذاك، أو لعلها أدنى إلى الإنسانية من بعض ما يسمعونه بينهم، عصر القوة والقسوة والعداء والاعتداء.
ذلك صوت النهضة الحديثة من العالم القديم.
ذلك صوت «الصينية» التي تفهم ولا يضرب بها المثل في الإبهام والخفاء على الأفهام.
وانبرى العالم يتفهم ويتقرب.
أصبحت الصين جزءًا من العالم.
ومن حظ الصين هذه المرة أيضًا أنه العالم المنقسم على نفسه، فكل قسم منه يريد هذا الطارق الجديد إلى جانبه، إلا أنه يريده ليأخذه من طريق التفاهم بعد طريق السطو والسطوة، ولا يريده ليسلم ويسلم معه من غائله القوة والقسوة، وبلاء العداء والاعتداء.
فالسياسة الاستعمارية أبت، بعد النهضة الصينية، أن تعلم أن الصين تجشمت متاعبها وبذلت ضحاياها لتخلص من مساوئ العهد القديم لا لتبقيه وتطيله؛ كأنها لم تتجشم متعبة ولم تبذل ضحية، فصمدت على دأبها من الطمع والإهانة، وخيل إلى ساسة الغرب أن احتلال بقعة من بقاع الصين واغتصاب جزء من سيادتها قد صار مظهرًا من مظاهر الوجاهة الدولية، يعاب على الدولة أن تفقده بين نظرائها ولو لم تكن لها مصلحة فيه. فلما رأت إيطاليا أنها تصعد على مراتب الدول نظرت إلى ما يعوزها من مظاهر الوجاهة فلم تجد لها فرضة على سواحل الصين ولا مرفقًا من مرافقها، فطلبت منها أن تؤجر لها إقليم فيوكين البحري وميناء «سان تو آو»، وأوشكت أن تجرد عليها حملة لإرغامها على قبول مقترحاتها.
لا جرم تعود الدول سنة ١٩٢٢ فترى أنها لا تزال كما كانت قبيل بداية القرن العشرين، وتتفق الدول التسع على معاهدة واشنطن لتعطي الصين أمانًا على سيادتها وتحرم على إحداهن أن تنفرد بمزية فيها، وتعيد فتح الباب الذي يتسع لدخولهن مجتمعات على سنة المساواة …
ولما انقسمت الصين بين حكومة الشمال وحكومة الجنوب رحبت الدول بهذا الانقسام وجعلته ذريعة للمزايدة في المطالب بين الخصمين المتنازعين، ولم تعترف بخير الحكومتين بل أفهمتهما معًا أنها تعترف بمن يذعن لأمرها ويتقبل مطالبها ويتابع السير على سياسة العهد القديم بجميع تفصيلاتها.
وفحوى ذلك بعبارة موجزة، أنها لا تعرف حكومة سن ياتسن ولا تعمل على مؤازرته، ولا تزال تنظر إلى الصين كأنها سوق مستباحة، وتحسب أنها خاسرة يوم تصبح الصين حوزة لا تستباح.
والمطلوب أن يكون الرجل «سياسيًّا عمليًّا» باللغة التي تعنيها السياسة الاستعمارية.
وكل شيء تقوى عليه الطاقة البشرية إلا أن يصبح «أبو الوطن» سياسيًّا عمليًّا بهذا المعنى.
وذلك هو الحرج، أقسى الحرج في زعامة الأمم.
وتلك هي مسكنة العظمة ومظلمة الصدق والشرف.
لقد كان كل نهاز محتال في بكين سياسيًّا عمليًّا حكيمًا عليمًا بمنطق الواقع، مرجحًا على سن ياتسن في هذا المضمار، بميزان الخيانة والاستعمار.
أما سن ياتسن فغاية ما استطاعه من الحكمة العملية أنه صرح بحاجته إلى رءوس الأموال الأجنبية، وأراد أن يكون فتح الباب لتثمير الأموال في مشاريع التعمير عوضًا عن الحقوق الأجنبية المدعاة والامتيازات القضائية والاقتصادية المفروضة على الشعب والحكومة، فتلغى المعاهدات الجائرة باتفاق الطرفين، ويتفق الطرفان على تثمير الأموال بما يعمر الصين ولا يحيف على استقلالها وحرية حكومتها.
ولما اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى كانت للصين فيها سياستان متعارضتان: سياسة الشمال وسياسة الجنوب.
فأما سياسة الشمال فكانت تعطي كل شيء ولا تأخذ شيئًا: كانت تسلم لليابان بما يشبه حقوق الحماية، وتقطعها الأرض التي جلا عنها الألمان وتخولها الإشراف على الدواوين والمعسكرات، وتشترك في الحرب العالمية.
وأما سياسة الجنوب — أو سياسة سن ياتسن — فهي تلتزم الحياد أو تدخل الحرب على ضمان، ولا ترى على أية حال موجبًا للاشتراك في الحرب مع قبول مطالب اليابان.
وواضح أن سياسة الشمال هي السياسة التي لا مصلحة فيها لغير حكومة بكين، ولا باعث لها غير التزلف إلى الدول للاستعانة بأموالها ومناوراتها السياسية على البقاء.
وواضح أن سياسة الجنوب تكسب للصين إن كسبت، ولا تكلف الصين خسارة أكبر من الخسارة الواقعة، إن خسرت.
وواضح أي السياستين هي السياسة العملية الحكيمة بالنسبة إلى الصين، وأيهما هي السياسة العملية الحكيمة بالنسبة للاستعمار.
ولا أحد من الساسة الأجانب يرتضي الحكمة العملية بالنسبة إلى الصين مهما يكن حظها من الوضوح، ولا استثناء لسياسي أجنبي في هذا المجال مهما تكن صبغته وصبغة الحكومة التي ينتمي إليها، ومنها حكومات ثورية تنكرها جميع الحكومات.
فمن سخرية القدر أن رسول حكومة الثورة الروسية قصد إلى بكين بعد انتهاء الحرب العالمية بثلاث سنوات، ولم يعترف أول مقدمه بحكومة الجنوب، وكان هذا الرسول — أدولف جوف — يزف إلى أهل الصين بشرى النزول عن حقوق المعاهدات وهي بشرى يتقبلها سن ياتسن بالترحاب؛ لأنها عنوان سياسته وأصل من أصول برامجه الدولية والوطنية، ولكنه عندما كشف عن رسالته لم يعجب أحد لاعترافه بحكومة الشمال، وتجاهله لحكومة الجنوب.
كان هذا الرسول يبلغ الصين نزول حكومته عن حقوق خرجت من يديها، ويحتفظ بالمنافع التي تملكها، وهي منافع السكك الحديدية.
وهذه السكك الحديدية أقرب إلى الشمال.
وحكومة بكين أقرب إلى المساومة فيها.
فمن السياسة العملية أن يستقرب الشمال، وأنه مع الجغرافية والسياسة معًا لقريب المنال.
•••
إن القوى التي تعتبر مقياسًا لعظمة الزعامة نادرة، لندرة العظمة بطبيعتها، وندرة اجتماع قواها في نفس الزعيم الواحد، ومن أندر هذه القوى — إن لم تكن أندرها جميعًا — قوة الزعيم على مغالبة اليأس وابتعاث الرجاء من مكامنه حيث يضيع كل رجاء.
ويحار الباحث حين يبحث عن مصادر ذلك الرجاء في حوادث العالم أو علاقات الناس، فيبدو له أنها أحرى أن تكون من مصادر اليأس والتثبيط، ولا يهتدي إلى مصدر لها في غير سليقة الزعيم التي تخلق الرجاء لصاحبها وتخلقه للآخرين.
وقد امتحنت قوى الزعامة في نفس سن ياتسن مرات بعد مرات، من أيام الدعوة إلى أيام الثورة إلى أيام الرئاسة إلى أيام الانقسام في أمته وبين أعوانه وأعدائه، فلا نحسب أنها تعرضت لامتحان قط أعضل من امتحانها أيام الحرب العالمية الأولى.
فلو أنه التفت إلى عوامل اليأس في حوادث العالم أو في حوادث أمته أو في حوادث أصحابه وخاصته؛ لوجد في كل منها ما يملأه يأسًا ويحجب عنه كل أمل يراود الحالم الممعن في الخيال.
كانت حكومة الصين قد استجابت دعوة الحكومة الأمريكية فقطعت علاقتها بألمانيا، ثم انتهت الحرب وانعقد مؤتمر الصلح وجلست الصين مع الدول المنتصرة، فإذا هي تعامل معاملة العدو المنهزم، وإذا بالمؤتمر يتبرع بإقليم شانتونج لليابان كأنه من تركة ألمانيا ولا علاقة له بالأرض الصينية!
ولم يجرؤ مندوبو بكين على توقيع معاهدات الصلح مع اشتهارهم بالاستسلام للدول الغربية، وغشيتهم الرهبة من الثورة التي أثارها سن ياتسن في الرأي العام فاكتفوا بالتوقيع على صلح النمسا، وأحجموا عن التوقيع على صلح ألمانيا، وفارقوا باريس وهم على وجل مما ينتظر حكومتهم بين سخط الرأي العام وسخط الدول المسيطرة عليها.
وقبل انعقاد المؤتمر بسنتين كانت حكومة الثورة الروسية تحلف حكومة القياصرة وتعلن لها سياسة خارجية غير سياستهم في الشرق الأقصى على الخصوص، وكان سن ياتسن يقول: إن الثورة الروسية نسخة من الثورة الصينية التي سبقتها بست سنوات، فأبرق إلى لينين يهنئه بزوال عهد القياصرة والاستعمار ويتفاءل بحسن المصير.
ثم تمضي سنوات بعد الحرب العالمية وترسل حكومة الثورة على القيصرية برسلها إلى الأمة الصينية، فإذا هم يقصدون إلى بكين، أو يقصدون إلى حيث تكون المساومة على الأقاليم والامتيازات، ويتجاهلون الثورة الصينية وقادتها ومقاصدها؛ لأنهم قوم لا يسامون ولا يساومون!
ومن أين يأتي الرجاء في السياسة العالمية!
من الغرب أو الشرق؟ من المحافظين أو الثائرين؟ من القارة الأمريكية أو القارة الآسيوية أو القارة الأوروبية؟ أو من الأمة التي لها قدم في أوروبة وقدم في آسيا؟
لا رجاء أينما نظر الناظر بين الآفاق والأرجاء.
ولكنه هناك في ينبوع واحد لا يفقد رجاؤه، وهو قلب زعيم.
وتشاء المقادير أن تغلق بكين أبوابها في وجه رسول الثورة الروسية؛ لأنها لا تفتح أبوابها بغير إذن الدول الكبرى.
وأراد سن ياتسن أن يستطلع الأمور على حقيقتها في البلاد الروسية، فأشخص إليها تلميذه الأكبر شيان كان شيك، واستقصى الأخبار والمعلومات من الطلاب الصينيين الذين كانوا يقصدون مدارس روسيا بعد شيوع السخط على اليابان.
ولم يفُت بكين أن تغتنم الفرصة السانحة للتشهير بسن ياتسن في الصين نفسها وفي البلاد الأوروبية والأمريكية التي تساومها، فأطلقت ألسنة الصحف الوطنية والأجنبية تتهم الرجل بإفساد العلاقة بين بلاده وبلاد العالم المتمدن، وترويج الدعوة للشيوعية ومذاهب الفوضى بين قومه، وتدق ناقوس الخطر من جانب الزعيم «المارق من حظيرة الوطن وحظيرة الحضارة.»
وبينا هذه الضجة المسخرة تصم الآذان في المشرق والمغرب، ومؤامرات الاغتيال تدبر لقتل الزعيم وخاصته من جراء هذه التهم والشبهات؛ كان الرجل يبدأ كل مناقشة بينه وبين سفراء الروس بالتنبيه إلى المبدأ المرعي في كل اتفاق، وهو استقلال الصين وصيانة حقوق السيادة لها على أرضها، والتفرقة بين الصداقة السياسية والدعوة الشيوعية، ثم لا يكتفي بالتفاهم على هذا المبدأ في المناقشات الخاصة فيطلب من السفراء أن يرجعوا إلى حكومتهم لإقراره في بيان عام يُذاع على الملأ بتوقيع الطرفين.
وصدر هذا البيان في السادس والعشرين من شهر يناير سنة ١٩٢٣ وفي مطلعه: «إن الدكتور سن يرى أن أحوال الصين لا تسمح بتطبيق النظام الشيوعي أو نظام المجالس السوڤيتية، وأن مسيو جوف يقره كل الإقرار على هذا الرأي، ويضيف إليه أن قضية الصين التي هي أولى من كل قضية بالاهتمام والتعجيل هي استكمال وحدتها واستقلالها …»
ويلي ذلك كلام عن قواعد الاتفاق على مسائل السكك الحديدية، ثم وعد قاطع بأن الحكومة الروسية لا تعمل على استقلال جزء من أجزاء الصين، وإشارة خاصة إلى أقاليم منغوليا وما جاورها.
•••
وعلم كل من يعامله من الوطنيين والأجانب أن المحافظة على كيان الصين هي القاعدة الراسخة التي لا هوادة فيها.
سعى إليه السفراء الرسميون وغير الرسميين من قبل الدول يزينون له الاستقلال بما في حوزته، ويعدونه أن تعترف الدول باستقلاله على أثر اعترافه بحكومة بكين، فلم يعن بالجواب على هذه المساومة، أو كان جوابه عليها مطالبة الدول بالكف عن التعرض لشئون الصين الداخلية سواء كانت خاصة بحكومة الشمال أو حكومة الجنوب.
وطالب الدول بالتخلي عن الجمارك في كانتون فلم تحفل بطلبه، وظنته «لجاجة شرقية» تبتدئ وتنتهي بالكلام. فاحتل الجمارك وأخذ في تحصيل الرسوم على البضائع الواردة، فلم يكد المندوبون الدوليون يصدقون أعينهم وهددوا بالمحاصرة واتبعوا التهديد بتسيير السفن الحربية وإنزال الجنود فيها، ونزلت الجنود فعلًا فأنذرهم في اليوم الذي نزلت فيه إلى البر ليزيدن الرسوم الجمركية أو ترجع إلى مراكبها، واضطرت الدول إلى تغطية هذه المظاهرة والتفاهم على شروط جديدة لتحصيل الرسوم ونظام الاستيراد.
وأحست حكومة الشمال أنها تفقد «شعبيًّا» كلما كسبت «دوليًّا» من مجاراة المطامع الأجنبية، وأنها لا تأمن على وجودها طويلًا إن لم تصطنع مجاراة الأمة مع مجاراة الدول الكبرى، فأصدرت (في سنة ١٩٢٣) دستورًا عصريًّا مستمدًّا من الدستور الفرنسي وبعض الدساتير الأوروبية الحديثة، وتخيرت فيه أرقى النظريات النيابية عسى أن تتقرب به إلى طوائف المجددين من أبناء الشمال وأبناء الجنوب، فلم يلبث هذا الدستور أن طوي قبل نشره وتطبيقه، لقيامه على أساس ينكره سن ياتسن ويعتبره مناقضًا لقاعدة المحافظة على كيان الصين، وذاك هو أساس الحكومات الفدرالية، وظاهرها حسن مطابق للنظام الأمريكي الذي ارتضاه جمهرة من الناشئين المتخرجين من الجامعات الأمريكية، وباطنها سيئ يرمي إلى المساومة بين حكام بكين وحكام الولايات الطامعين في الاستقلال باسم الوحدة الفدرالية.
وقد رأى القراء فيما تقدم وسيرون فيما يلي أن سن ياتسن كان شديد الحذر من هذه القدوة الخاطئة، فإن الفدرالية كانت صلة الاتحاد بين الولايات الأمريكية المتفرقة، أما الفدرالية في الصين فهي تفريق للأمة المتحدة بين أصحاب المطامع والخوارج المتمردين.
ولم تملك حكومة الشمال أن تتجاهل نفوذ سن ياتسن بعد هذه المحاولات التي أحبطها جميعًا باعتراضه عليها، واتهامه للأغراض المبيتة من ورائها، فتوسلت إليه تدعوه إلى زيارة بكين للتفاهم على قواعد الوحدة، وكانت هذه الدعوات تأتيه من قبل فيرفضها لضعف مركزه في الجنوب وخوف أنصاره في بكين من الظهور بتأييده، فاعتقد أنها فخاخ تنصب لاغتياله أو اعتقاله واسترهانه لمساومة أعوانه الجنوبيين على التسليم، فلم يستجب لتلك الدعوات واكتفى بشرح آرائه ومطالبه في المسائل المعروضة عليه.
أما هذه الدعوة فقد جاءته والقوة في جانبه والرأي العام في بكين نفسها يناصره ويشيد بذكره، وحكومة بكين مهددة مستضعفة بين المتمردين عليها والمتربصين بها من رعاياها، فاستجاب لها وأرسل قبل سفره إلى بكين طائفة من المقترحات وبيانًا بالهيئات التي تدعى إلى الجمعية الوطنية لتمثيل الأمة برمتها، واشترط أن يشهد تلك الجمعية مندوبون عن الجامعات ومعاهد الصناعة وغرف التجارة ولجان الفلاحين والعمال، وسائر الطوائف من جميع الطبقات.
ثم أزمع السفر فبلغه في الطريق أن حكومة بكين رفضت مطالبه ومقترحاته، فلم يشأ أن يعود أدراجه، وواصل المسير إلى عاصمة الشمال، فوصل إليها في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر (سنة ١٩٢٤) وأراد أن يواجه حكومتها بما يلزمها الحجة ويرد عليها دعواها التي تعودت أن ترميه بها، كلما أبى أن يقرها على سياستها.
إلا أنه لم يكد ينزل بالعاصمة حتى تراكمت عليه متاعب السفر ومتاعب المرض الذي كان يعاوده ولا يجد متسعًا من الوقت لعلاجه، فانتقل إلى المستشفى وأجمع الأطباء على التعجيل بإجراء العملية الجراحية، وظنوا أنه يشكو خرَّاجًا في الكبد فظهر أنه سرطان مزمن لا أمل في شفائه ولا جدوى من علاجه، ولم تخف الحقيقة على الطبيب المريض فقضى أيامه الباقية في بيت صغير يلقى فيه أصحابه وزواره ولا يشغله عن الاستعداد للموت إلا أن يملي على خلفائه وصايا العمل من بعده، وهو يعلم وهم يعلمون أنها أيام معدودات يفارقهم بعدها الفراق الأخير.
•••
مات سن ياتسن في الثاني عشر من شهر مارس (سنة ١٩٢٥) وآخر كلمة في وصيته أن تنعقد الجمعية الوطنية لتوحيد الأمة وإلغاء المعاهدات الجائرة وتبادل الصداقة مع الأمم التي تعامل الصين على سنة المساواة.
الأحزاب والتلاميذ
أقسى المصائب ما يصيب الإنسان أو الشعب في كبريائه، وهو كذلك أنفعها له وأفعلها في تنبيهه لعيوبه وإيقاظه من غفلته، وقد كانت هزيمة الصين في حربها مع اليابان (سنة ١٨٩٥) إحدى هذه المصائب النافعة، فأخذت تتساءل عن علة هزيمتها وعوامل القوة التي أتاحت لجارتها المحتقرة أن تنتصر عليها، فاتفقت آراء المفكرين فيها على تعليل ذلك بنظام الحكم وضرورة العمل بالأنظمة العصرية التي أخذت اليابان بنصيب منها.
وشرع الإمبراطور الناشئ في اقتباس النظم النيابية بمشورة نصحائه، وصدرت مراسيمه الأولى (سنة ١٨٩٨) ببعض التعديلات الدستورية تمهيدًا لاتباعها بغيرها، واستعد ولاة الأمر للسير المتدرج على هذا المنهج لولا المرأة المشئومة التي كانت تسيطر على البلاط في ذلك الحين، واسمها — لسخرية القدر — تزوهسي أي «الأمومة السعيدة»!
فهذه المرأة المشئومة تطيرت من حركة الإصلاح فأحكمت دسائسها داخل القصر وخارجه لانتزاع السلطان كله من يدي الإمبراطور الناشئ، وخيل إليها أن هذه الحركة الدستورية ألاعيب أطفال وأنها تعرف الأساليب التي تطرد بها الأوروبيين من مملكة ابن السماء، فكان تدبيرها لفتنة الملاكمين إحدى هذه الأساليب، وشاء القدر على غير قصد منها أن تضرب العهد القديم كله بيديها، فارتدت اللكمات إلى صدرها، كما قال المستهزئون، وما أكثرهم في أيام المحن والأزمات.
وولد أول حزب سياسي على أثر الحركة الرجعية التي تعقبت حركة الإصلاح الدستوري بالإلغاء واضطهاد القائمين بها داخل البلاط ودواوين الحكومة، فأنشأ سن ياتسن جماعة «هسنج شنج هوي»؛ أي جماعة تجديد الصين بمقاطعة بكاو التابعة للبرتغال، وكان ذلك سنة ١٨٩٢ بعد حركة الإصلاح الأولى بنحو أربع سنوات.
ووسع هذه الجماعة سنة ١٩٠٥ أيام مقامه في اليابان وبعد طوافه في أوروبة فسماها جماعة «شنج كوتنج منج هوي»؛ أي جماعة الأخوة الصينية، ولم يجعل لها رئيسًا، بل جعل لها مكتب إدارة يتولى العمل فيه باسم «تسنجلي»؛ أي المدير العام، وتتشعب فروعه في الصين وبين الجاليات الصينية حيث وجدت في البلاد الأجنبية.
واتبعت هذه الجماعة نظام الجماعات السرية إلى ما بعد إعلان الجمهورية، فحولها إلى حزب علني باسم الكومنتانج؛ أي حزب الوطن، وضم إليها جماعات أخرى كانت تعرف باسم الحزب الديمقراطي المتحد وحزب التقدم الشعبي وحزب التقدم الديمقراطي وحزب الشعب العام، وهي أحزاب كانت تدعو إلى الإصلاح الدستوري ولا تستلزم إسقاط الأسرة المالكة، فاتفقت مقاصدها ومقاصد سن ياتسن بعد إعلان الجمهورية، وانتخبته للرئاسة بإجماع الآراء، فقبل الرئاسة مؤقتًا ثم تنحى عنها كعادته لصديقه (سنج شياو جن) وهو من أقطاب الدعوة الجمهورية وحراسها الأمناء.
وبعد نزول سن ياتسن عن رئاسة الجمهورية للقائد يوان شي كاي عمل هذا على مقاومة الكومنتانج؛ بفصل بعض الأحزاب منه وتأليف حزب يسمى «شنبتانج»؛ أي حزب التقدم، فتألف هذا الحزب الجديد ممن يسمون بالحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد، وذهب رئيس الكومنتانج «سنج شياو جن» ضحية لهذه المكيدة، فقتله أعوان يوان في العشرين من شهر مارس سنة ١٩١٣، ولم تكد تمضي سنة على قيام الجمهورية.
ورأى سن ياتسن أن الحزب يحتاج إلى تأليف جديد بعد خروج من خرج منه، وتسلل الطابور الخامس إليه من سماسرة يوان وأمثاله، فأعاد تأليفه في طوكيو بعد سنة من مقتل رئيسه، وعاد إلى إدارته باسم «تسنجلي»؛ أي المدير العام، ثم انتقل مركز إدارته من طوكيو إلى شنغهاي بعد وفاة يوان شي كاي، وكان أعضاء هذا الحزب موقدي الثورة في كل مكان يوم نادى يوان بنفسه إمبراطورًا على عرش أبناء السماء، فلم تهدأ الثورة في ديرين وشنغهاي وهونان وشكيانج ويونان وكويشو وكوانجزي وكوانجستنج وشنسي إلا بعد نزول يوان عن عرشه، وتلك هي الأقاليم التي عرفت بانتصارها لدعوة سن ياتسن من أوائل أيام الجماعة السرية.
وفي سنة ١٩٢١ انتخب سن ياتسن رئيسًا لحكومة كانتون المؤقتة، ثم نجمت الفتنة التي دبرها أحد القواد الخونة بدسيسة من حكومة بكين وسماسرة الدول الأجنبية، فعاد سن ياتسن إلى تنظيم حزبه وتأليفه من جديد سنة ١٩٢٤، وتيسر له هذه المرة أن يوجه الحزب إلى أعمال غير أعمال التنظيم الحزبي، فأنشأ جامعة «كوانج تنج» العلمية وجامعة هوامبو العسكرية ومدارس متفرقة ثانوية وابتدائية، وفتح لجان الحزب للطلبة والصناع على نظام يناسبهم، ويكفل للحزب أن يمثل أبناء الصين كافة من جميع الطبقات والأعمار.
وتحقيقًا لوجهته الكبرى التي تتلخص في المحافظة على كيان الصين تقبل اشتراك الشيوعيين في مؤتمرات الكومنتانج بصفتهم الشخصية، مع التفاهم بين الجميع على اختلاف أحوال الصين وحاجتها إلى ضروب من الإصلاح الاجتماعي غير التي يدين بها الشيوعيون في روسيا، وأولها إحلال التعاون القومي محل التنازع بين الطبقات وتغليب إحداها على المجتمع كائنة ما كانت منزلتها فيه.
والظاهر من تاريخ الدعوة الشيوعية في حياة الزعيم أن رؤساء الدعوة كانوا يعتقدون حقًّا أن الصين لم تستعد في تلك الآونة على الأقل لتطبيق النظام الشيوعي، وعمدتهم في هذا التقدير أن الصناعة لم تتطور وأن عمال الزراعة لا توحدهم جامعة ثورية، وقد روي عن ستالين إلى سنة ١٩٤٥ أنه كان يقول: إن الحركة الشيوعية عامل غير خطير في سياسة الصين، ووجد زعيم الشيوعية الصينية (ماوتسي تنج) عناء شديدًا في إقناع أصحاب النظريات داخلًا وخارجًا بسوء تقديرهم لعوامل الثورة بين الفلاحين من أهل الصين على الخصوص.
وأيًّا ما كان الباعث على قرار التفاهم بين الكومنتانج والحزب الشيوعي في حياة سن ياتسن فقد كان الفريقان يرعيان حق الأستاذية لأبي الصين، ويفهم من يسمعهم يذكرون «الأستاذ» ولا يزيدون أنهم يقصدونه دون غيره بهذا اللقب الذي خصوه به كما خصوه بلقب «الأب» الكبير.
وبقيت للرجل مكانته المرعية بعد وفاته بأكثر من ثلاثين سنة، فمن خالفه منهم لا يتهمه ولا يعيبه، وإنما يعالج تفسير كلامه على الوجه الموافق لرأيه، أو يعلل مخالفته إياه بمضي الزمن وتبدل الحال، ويقول: إن «الأستاذ» كان خليقًا أن يرى رأيه ويعمل عمله لو كان بقيد الحياة.
برامج الإصلاح
وأصابت الكاتبة البارعة، فإن وصايا سن ياتسن لهي في بابها توراة سياسية صينية بكل ما للتوراة من الخصائص في هذا الباب، فقد تحتدم المعركة الحامية لتقديم كلمة منها أو تأخيرها تأييدًا لهذا الحزب أو تفنيدًا لغيره، وهي كما قالت ترد على كل لسان حتى ألسنة اليابانيين.
وذلك حظ من القداسة لم يرزقه غير القليل من القدماء.
وليس هذا الحظ مقصورًا على أقوال الزعيم في أيامه الأخيرة، فإن أقواله في بروسل — وهو دون الأربعين — قد أضيفت إلى مراجعه الأخيرة، فأصبحت مبادئ الشعب الثلاثة (سان مين شوآي) ومبادئ الدستور الخماسي (ووشوان هسين فا) أسفارًا معتمدة من تلك التوراة الصينية، ولحقت بها من التعليقات مجلدات تتلوها مجلدات بغير انقطاع.
إن هذا الرجل الطموح كانت له غايته التي تتقاصر دونها الهمم منذ خطوته الأولى، فقد كان يناهز السادسة والعشرين يوم عقد العزيمة على «تجديد الصين» ولم يقصر جهده على إسقاط الأسرة المالكة أو تغيير أداة الحكم أو إعلان الجمهورية، فما كان شيء من ذلك في نظره إلا وسيلة إلى الغاية العظمى التي تهون في سبيلها الوسائل، بل تهون الغايات.
ومن مقاصده البعيدة ما لعله أجل شأنًا من تجديد بلاده من الوجهة الاجتماعية أو السياسية، فإنه أراد أن يجدد «النفس» الصينية في إهابها العتيق، فطفق في سنواته الأخيرة يبدأ ويعيد حول معنى الفهم والعمل، ويؤكد حكمته العزيزة عليه، وهي الحكمة التي لخصناها بالكلمة الأولى من هذا الكتاب، وفحواها بمختلف العبارات وفي مختلف المعارض أن الفهم هو العسير، أما العمل فلا عسر فيه، وهذا ما أفاض في شرحه وسماه تدعيم النفس الصينية، فلم يكن يغنيه أن يتجدد بناء الصين دون بناء النفس الصينية على قوام جديد.
وفي أيامه الأخيرة ألف كتابه عن «تنمية» الصين بين الدول، وبسط فيه وجوه الإصلاح وجهًا وجهًا على أوسع ما استطاع من الإسهاب، ولم يقصد به أن يضعه على الأثر موضع التنفيذ العاجل، ولكنه علم أن تعمير البلاد — ولا سيما البلاد التي تشبه الصين اتساعًا وازدحامًا — عمل متداخل متشابك لا يرتجل قطعة بعد قطعة، ولن يفلح في هذا العمل من يبدؤه وهو لا ينظر عند ابتدائه إلى منتهاه، فبسط وجوه الإصلاح والتعمير ليحسب العاملون حسابها خطوة بعد خطوة، ومرحلة وراء مرحلة، وهذه الخطة العملية هي التي سماها خصومه حلمًا من أحلام الخيال.
ومن خصومه هؤلاء من هم خصوم فكرة أو خصوم مزاج لا يضمرون له العداء ولكنهم لا يطيقون أن يجروا معه في أشواط الحماسة الروحية، ومنهم من كتب إليه حين اطلع على مشروعاته يقدر له ملايين الأموال التي تتطلبها وعشرات السنين التي تستغرقها، كأنما هو قد بسط تلك المشروعات ليضرب عليها بعصا الساحر فيفتحها له «سمسم» تامة عامة في طرفة عين.
وقيل عن هذه المشروعات كثيرًا إنها مرتجلة متعجلة، ولكنها على التحقيق لم تكن وليدة عام ولا بضعة أعوام، بل لازمه درسها وتقليبها على جوانبها أكثر من عشرين سنة، ومات وهو ينقح برامجه التي استهل بها حياته السياسية، ويرتب المراحل التي تتدرج عليها إلى منتهاها، مع تذكيره القراء والمستمعين أنها قابلة للتنقيح المتعاقب أثناء الطريق.
مات وهو يقول ويعمل لتثبيت مبادئه الثلاثة: الديمقراطية والسيادة الشعبية ورخاء المعيشة أو الاشتراكية.
ولم يخطئ التقدير إلا حين خطر له أن الصين قادرة على البدء بتطبيق تلك المبادئ عقب إعلان الجمهورية، فانقضى أكثر من عشر سنوات والجمهورية تبتلى بمحنة بعد محنة، والبدء بالتطبيق يتأخر سنة بعد سنة، فلم يزل برنامجه إلى أخريات أيامه محتاجًا إلى أدواره الثلاثة: دور التوطيد ودور التوجيه ودور الحكومة الدستورية.
فمنذ أعلن في بروسل مبادئه الثلاثة قرر لمريديه أن بلادًا تتسع اتساع الصين لن تستغني عن القوة لتوطيد أمنها واستقرار أمورها عقب إعلان الجمهورية، ثم يتوجه بها خدامها أو زعماؤها إلى وجهتها القويمة مع إيمانهم بسيادة الشعب وصدورهم عن هذا الإيمان في أعمال التشريع والإدارة، ثم تستفيد كل ولاية من تجاربها المحلية وتجتهد اجتهادها لتوثيق علاقتها بالحكومة المركزية، وساوره الرجاء أن تتم المرحلتان الأوليان بعد ثماني سنوات، ولم يحلم برؤية النتيجة أيام حياته، ولكنه لم يستبعد أن يفارق الحياة وهو مطمئن إلى نتيجة مرضية يشهدها الجيل الذي يليه.
وفي الباب التالي الذي نفرده لاقتباس أقواله زبدة من آرائه ومشروعاته نختارها من كتبه وندع لصاحب الترجمة أن يترجم لنفسه بقلمه ولسانه، فإن سن ياتسن لم يكن زعيم سياسة ولا رئيس حكومة وحسب، وإنما كان قبل ذلك وبعد ذلك صاحب مدرسة اجتماعية ودعوة فكرية، ومن كان كذلك فهو ذو حق في توضيح آرائه وتوضيح منحاة في الفهم والعمل.
وذلك ما نتركه له في الباب التالي، متبعين فيه ترتيب «الأهمية» غالبًا وترتيب التاريخ ما تيسر، وهما على الجملة متقاربان؛ لأنه — كما قدمنا — قد أخر الابتداء بالعمل من فترة إلى فترة، فلم يتباعد الشوط بين الابتداء والختام.