من ذكريات الصبا
غادرتُ المدينة — أستغفر الله — بل هي التي أقصتني عنها، وأبعدتني عن ملاهيها ونواديها، عن حدائقها ورِياضها، عن فاتناتها وساحراتها، عن مشاهد حسنها ومعابد جمالها، عن الصراع فيها بين الحياة وأبنائها، عن الشعور فيها بمعنى «الحياة» شعورًا يتغلغل في أجزائها وأرباضها، عن مدارسها ومعاهد العلم وكعبة الثقافة فيها، ومناط آمال الشباب المصري الطامح في عهد جديد، ونور جديد، يقوده إلى «العالم الجديد»، ويُنزِله منزلة «الإنسان الجديد»!
نعم! فارقت القاهرة، وحيل بيني وبين الجامعة، مهبط آمالي ومعقد رجائي وحقل جهودي ووادي أحلامي، وقالوا: عطلة!
أنَّى أذهب إذن لأقضي شهور تلك العطلة الطويلة المملة، لأعطي بدني حقَّه من الراحة وعقلي حقَّه من الرياضة؟ … إلى الريف! إلى ذلك الحِمى الهادئ، وهذا المعبد الساجي الخاشع! إلى مهبط النفوس الثائرة، ومسكن القلوب المُعَنَّاة، ومجمع الآمال الشاردة، ومسرح الأحلام الهائمة!
أُقصيت إذن عن المدن لأستعيض عن صخبها وحضارتها، بهدوء القرية وبداوتها، ولأستبدل بابن القاهرة المتحضر المتعلم، ابن القرية الساذج الجاهل، فكثيرًا ما نجنح إلى البساطة والبداوة والجهل، نطلب فيها قناعة الرضا وهدوء الاطمئنان وجلال البداوة، ونستجم فيها من جهاد العلم ومن اضطرابه وتذبذبه، وشكوكه وحيرته، ومن صلف الحضارة وتكاليفها، وهل حياتنا يا صاح إلا مزيج مضطرب من الحضارة والبداوة، والعلم والجهل، والنور والظلام، والحق والباطل، وما شئت من هذه الظاهرات المتناقضة المتعاكسة التي هي سر نظام الوجود، والنغم أو الاتساق الذي ينظِّم اضطراب موسيقى الحياة؟ هل حياتنا إلا تفاعل الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والقوة والضعف، والإيمان والشك، وفي هذا التفاعل وهذا الازدواج قوة الحياة، وجمال الوجود، ووحدة العالم، وكمال الإنسانية جميعًا؟
ذهبت إذن أقضي فروض الذكرى والوفاء لقريتي التي غذتني رضيعًا، وتعهدتني صبيًّا، وشاهدتني أحبو على أرضها، وأعبث بمائها، وأجري في حقولها، وأتعلم مبادئ القراءة والكتابة فيها، وأحفظ القرآن الكريم في كتابها أمام كثير من فقهائها، ذهبتُ أستعيدها ذكريات الصبا، وأقسم لديها يمين البِر والحب والولاء، وأتَّخِذ من دُورها وقنواتها وحقولها «وكتَّابها» وحاراتها وأجرانها وأشجارها وربواتها وحدائقها ومقابرها، عوني على الذكرى، ووحيي عند التفكير، وإلهامي حين الكتابة، وأَصِلُ حلقةً من حلقات حياتي بالفلاح الساذَج الجاهل الطيب المسكين البريء الذي أحبه وأجِلُّه وأشفق عليه!
وإذا ما ذكرت «الكتَّاب» عادت بي ذاكرتي إلى عهود الطفولة والصبا، إلى تلك العهود الخالدة من العمر، بما فيها من حريةٍ تكاد تكون مطلقة، إلى عبث بالغ أقصاه، إلى خوف ورهبة من الفقيه الأعمى، يلطفه الحنين والشوق إلى اللهو مع أطفال الكتَّاب تارةً بفقيهنا، وتارةً أخرى بعَرِيفنا!
لا زلت أذكر «الكتَّاب»، ويومَ كنتُ أساق إليه سوقًا بالعصا، وعيني تذرف بالدموع، ولا أسكت عن بكائي ولا أجفف دمعي، حتى يرضيني أبي بقطعة الحلوى أو بالقرش، تشفعه قُبلة أبوية طاهرة، وكلمة رضية كريمة، ولا زلتُ أذكر «سيدنا» الضرير وهو «أستاذي» الأول — إنْ صحَّ هذا اللقب — وكيف كان يرهبني بأسه ويخيفني شكله ويزعجني صوته، ولا زلتُ أذكر «لوح القرآن» الخشبي تارةً، والصفيحي تارةً أخرى، وكيف كنت أنا السابق الفائز في حفظه واستظهاره بين أولاد الكتَّاب وحضرات الزملاء!
ولا زلتُ أذكر أيام المواسم والأعياد، لا يصرفنا «سيدنا» حتى أسلِّمه في يده «البريزة»، وحتى يسلِّمه الآخرون الفطيرة أو قطعة السكر.
ولا زلتُ أذكر ذلك العريف الضرير أيضًا وصوته الأجش الخشن، ونبراته الجافة الغليظة المنكرة، حتى كاد أن يكرِّه لديَّ وأنا في طفولتي استماعَ القرآن!
ثم لا زلتُ أذكر ولا يمكنني أن أنسى يومَ كان هذا اﻟ «سيدنا» ينيب كل واحد منَّا في أن يقرأ في البيوت «ربعًا»، حتى يستريح هو من عناء القراءة، ويأخذ مرتبه من الفلاحين المساكين زورًا وبهتانًا وغشًّا، ولا زلت أذكر ذلك اليوم العصيب، يومَ أعَدَّ «سيدنا» آخَر «الفلكة» الخفيفة، ويومَ أعَدَّ معها «الكرباج» لا العصا، وغسله بالماء والملح ليتفنن في الإيذاء والإيلام، وجادت رحمته وتديُّنه الصادق بأن أمر أمرَه بإلقاء ثلاثٍ من رفاقي أمامه في الفلكة، اتُّهِموا بأنهم سرقوا نقودًا من آبائهم وشروا بها سُكرًا وشايًا من الدكان، أذكر ذلك اليوم كأنه الآن، وأذكر يومَ وقَفَ هذا اﻟ «سيدنا» الثاني «على حيله»، وربط كل واحد بدوره في الفلكة، وأعطاه نصيبه من الضرب والعذاب إلى أن أدمت أقدامهم، والعريف الجبار الضرير هو الممسك بالفلكة آلة التعذيب، إمساكةً لا تخلو من تفنُّن وإبداع، وهو بذلك فَرِح مغتبط، ونحن جميعًا جالسون على «الحصيرة» حول هؤلاء الفرسان الثلاثة، نشهد هذا المنظر المؤثِّر الجميل، منَّا مَن يضحك شامتًا فَرِحًا، ومنَّا مَن يبكي شفقةً وتألمًا، ومنَّا مَن اصفرَّ وجهه ومَن ذهب رشده من الوجل والخوف خشاة أن تدور عليه الدائرة يومًا، فيُمثَّل به هذا التمثيل المفجع.
ولا زلت أذكر تلك الغرفة الضيقة المظلمة من الطوب النيِّئ (الأخضر)، والقناة التي كانت أمامها حيث يلعب فيها الإوزُّ والبط الصغير الجميل، وحيث نعبث فيها بأقدامنا وبما نقذفه فيها من أحجار، ثم قطع الحصير الأخضر من أوراق البردي وأعواد البوص، وتلك «الألواح» اللامعة الزاهية من الصفيح موضوعة على الرفوف المتربة المغطَّاة بنسيج العنكبوت، وتلك الدوي المصنوعة من الطين المحروق، وحبرها المتَّخَذ من هباب المصابيح والمسارج، والمختلط بقطع من الخِرَق البالية القذرة، «وسيدنا» الضرير المعمَّم، ومركوبه المرقَّع وبجانبه عصاته الجبارة «ومقرعته»، المستبدة الحاكمة بأمرها، وفلكته المصنوعة من حبال الليف تكاد تبتسم تيهًا وزهوًا بضحاياها وبجبروتها، وبما يعلق فيها من أرجل وأقدام لا تزال طرية غضَّة في غضارة العمر ونضارة الصبا، وهؤلاء الإخوان الزملاء خارجين من «الكتَّابِ» دارِ سجنهم ومنزلِ تعذيبهم، بجلاليبهم المتربة القذرة، وبوجوههم المعفَّرة وأيديهم المزينة بالحبر، ولن يخرجوا أو يغادروا عتبةَ «الكتَّاب» حتى يهرول كلٌّ إلى داره، يعلن إلى أمه خروجه من «الكتَّاب»، ثم إلى الحارة، وإلى الكرة، وإلى الأجران!
ولا زلتُ أذكر هذه اللذة الكبرى التي كنَّا نشعر بها أطفالًا، حين نبتاع لوحًا أو دواة أو مصحفًا من «السوق»، وتدفعنا هذه اللذة الكبرى وهذا الفرح الشديد إلى وضعها بين أحضاننا حين ننام، حتى لا يسرقها منَّا سارق أو يعبث بها عابث.
ولا زلت أذكر أيضًا تلك الساعة العصيبة حين كان يتربع «سيدنا» ويخلع «مركوبه» أو «بُلْغته»، ويضع بجانبه مقرعته وفلكته وينادي كل واحد منَّا بدوره في استظهارِ ما حفظ من المصحف، فإنْ أخطأ الشكل أو مخرج الألفاظ أو تلعثم في كلمة أو آية، أو قدَّمَ أو أخَّرَ، أسعفه بالمقرعة على ظهره أو على وجهه أو على عينه يحسبها يده أو ذراعه!
نعم! لا زلت أذكر كل هذا، تلك الأيام والعهود الجميلة الخالدة بحداثتها وطفولتها، ونقائها ومرحها وفوضاها ولهوها، ورهبتها وفزعها، وهل تُنسَى ذكريات الطفولة وعهود الصبا وأزمنة العبث؟
وسيبقى كل هذا في ذاكرتي مرتسمًا في خيالي، ممزوجًا بلحمي ودمي، مندمجًا في كل أجزاء نفسي؛ لأنه الصفحة الأولى من تاريخ «نفسي»، واللبنة الأولى في بناء «ذاتيتي»، ولهذه الصفحة عندي إجلالُ القِدَم وجمالُ العبث ودالة الصبا.
كنَّا في تلك العهود المَرِحة التي لا «مسئولية» فيها، ولا شعورًا بواجب، ولا تفكيرًا في الغد المجهول، ولا بحثًا عن حقيقة مخبوءة في ظلمات الوجود، تائهة في «اللانهاية» الواسعة الطويلة العميقة، كنَّا في تلك العهود من العمر — عهود الطفولة والصبا والعبث والفوضى والفساد — نعبث بالتراب والرمل، ونلهو بكلِّ ما يقع تحت أيدينا المخربة المهدمة، حتى الزمن الجبار المستبد كنا نلهو به في صبانا ونسخر منه، وها هو ذا الآن يبادلنا اللهو والسخرية وكأنه يقول لنا السن بالسن والعين بالعين! كنَّا نبني بيوتًا من الرمال بين مفترق الطرق وعلى شواطئ الترع، كأنها بيوت آمالنا ورجائنا، ثم نجري حولها الماء في الأرض التي خططناها للحدائق والرياض والأشجار، فإذا هدمَتْ هذه «المنشآتِ» وهذه الحدائقَ شاةٌ أو بقرة أو جاموسة أو إنسان، صخبنا وصحنا وغضبنا وبكينا؛ لأنها هدمَتْ ما بنينا، وقوَّضت ما أنشأنا، وسخرت مما فعلنا.
ولكن لا يلبث الرمل أن يذوب، ولا يلبث البيت وحدائقه ورياضه وأشجاره أن ينهار، وهكذا حالنا في هذا الوجود! نبني آمالًا وأحلامًا … كذابًا من الرمال ومن السراب، ونشيد قصورًا وحصونًا من الباطل ومن الوهم ومن الخيال، وننفق كلَّ أعمارنا في طلائها وزينتها وزخرفها والتيه في صحراواتها وفلواتها، حتى تخيِّب الحياة آمالنا، وتهدم بيوتنا التي أودعنا فيها صبانا ورغباتنا وهوانا وأحلامنا وتفكيرنا وكدَّنا وجهودنا وبحوثنا، وحتى يجيء ذلك «الطوفان» الطامي القاسي وتلك «الموجة» الكبرى، فتأخذ معها كل شيء وتبتلع كلَّ ما في الوجود؛ فإذا الآمال رمال، وإذا الأحلام سراب، وإذا البحث والتفكير هواء! حقيقة كخيال، وحق كباطل، وصدق ككذب، وعلم كجهل، وغناء كبكاء، ووجود كعدم، وشيء كَلَا شيء! أَلَا ما أكذب الحياة!
يا ليت الحياة كلها عهود الصبا ودولة الشباب!
ولكن هل تجدي «ليت»؟!