ريفنا المصري
نلجأ جميعًا إلى الهدوء والسكينة، نحتمي بهما من الصخب واللجب.
وأين نحتمي من صخب المدن وتكاليفها وضوضائها؟ وأين نروِّح عن النفس عناءها وعن الجسم متاعبه؟ في الريف كلُّ ما نطلب من هدوء بعد صخب، وسكون بعد حركة، وبداوة ساذَجة بعد حضارة متكلفة، في الريف مستراح للمعنيِّ، وملاذ للمُتعَب، ومتنفس للمكروب. نعم! في الريف ننشد راحتنا وطمأنينتنا، ونجد عزاءنا وسلوانا، ونرى أنفسنا رؤية الحقيقة؛ فلقد قال «أمرسون»: «ليس الإنسان سوى نجاح الطبيعة في تصوير نفسها.» وفي أي مكان نشهد جمال الطبيعة وجلالها، ونجاح تصويرها وكمال فنِّها ودقة صنعها، خيرًا من الريف؟ في الريف معابد الجمال حقًّا لمَن أراد أن يعبد الجمال، في الريف «ألوهية الفن» لمَن شاء أن يستلهم ملائكة الفن، هنا «قدسية الدين» وخشوع الإيمان ونور اليقين، لمن غَشَّتْ عيونَهم ظلماتُ الشك، وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، هنا يُعبَد الله في كل مكان! في الأرض منبت الخير والبَركة، وفي الشمس باعثة الدفء والحرارة والحياة، وفي السماء الزرقاء، وفي النجوم المتألقة، وفي القمر المنير، وفي الحقول الخضراء، وتحت ظلال الكافور والنخيل والتوت والصفصاف، وعلى حافات الترع والقنوات الجارية الوديعة المَرِحة، وفي وجوه الريفيات الجميلات جمالَ الله لا جمال «الإنسان»!
ما أجمل الطبيعة في الريف! وما أوسع «الكون» هنا! وما أرهب «اللانهاية»! وما أسهل طرق «المعرفة» لمَن يريد أن يبحث عن «المعرفة»! هنا في جمال الريف وهدوئه، وتحت ظلال أشجاره الظليلة الدافئة المتراوحة، يجلس الباحث عن «المعرفة» يستجلي الكون الواسع وأسراره الدفينة، ويجول في تلك «اللانهاية» الواسعة التي لا ساحلَ لها ولا حدَّ تنتهي عنده، ليصل إلى الله، إلى العلة الأولى أو علة العلل أو «الحقيقة المطلقة»، من طريق الأرض والسماء، والنجوم والأفلاك والأجرام والنبت والشجر والماء والشمس والزهر والحيوان، من طريق «الإنسان» ومن سبيل «الجمال»، فمن «الجمال» وحده نتصل بالله ونعرفه ونعبده ونفهمه ونحبه، والحب كما يقول «تاجور» هو كمال «الشعور بالنفس»، ونحن لا نحب لأننا لا نفهم، أو بعبارة أخرى نحن لا نفهم لأننا لا نحب؛ لأن الحب هو المعنى الأسمى الأكمل لكلِّ ما حولنا، فليس هو عاطفة فحسب ولكنه «الحق»، ولكنه الفرح الذي في صميم كل الخليقة.
الجمال والحب إذن هما سبيلنا إلى الله وطريقنا إلى عبادته ومعرفته، ففي «الجميل» نرى الله وندرك سرَّه في خلقه، ونعبده في قدرته وفي إبداعه وفي كماله، ونتَّحد فيه اتحاد العلة بمعلولها، ونفنى فيه فناءَ الضعف في القوة، والنقص في الكمال، والتشويه في الإبداع، والنهاية في «اللانهاية».
وإذا كان الجمال أساس الحب، وكان الحب أساس الدين، فأقوانا شعورًا بالجمال وأدقنا حساسيةً للحسن، هو أشدنا خضوعًا لسلطان الدين ولقداسته، وأصحنا فهمًا ومعرفة لملكوت الله وعظمته وكماله.
وإذا كان الريف في الغرب معبد الجمال، ومهبط السحر، ومستلهم الفن، ومبتدع «الخلق» والتكوين، ومستراح النفوس المعَنَّاة، ودواء القلوب الكسيرة من ضنك الحياة ومن آلامها، والصدور المكلومة من غدر الزمن وتنكُّره، ومسرح الأرواح الهائمة الحائرة تبحث في «اللانهاية» الأزلية عن نور اليقين وعن سر الوجود، فيتبدَّد شكلها في أضواء الإيمان وفي نور «الحب والجمال»!
أقول إذا كان الريف في الغرب عزاء المصابين، وسلوى البائسين، وراحة المكروبين، ومحجَّ العاشقين، ومعبد المؤمنين، وملكوت «الفنانين الخالقين»، فهل لنا ريفٌ نحجُّ إليه ونحتمي به ونعبد فيه الحب والجمال والقوة، مثل ما للغربيين من ريف؟ وهل لنا ريف يخلِق من العظماء ومن النابغين ومن الفنانين ومن «الخالدين»، ما يخلق ريف الغرب من رجال العقل والقلب، من أساطين الحكمة وأنبياء الحب والجمال؟ وهل لنا ريف يتجلَّى فيه «وحدة الوجود»، وتتمثل فيه قرابة «الجزء والكل» تمثيلها في ريف الغرب؟
يؤلمنا أن يكون الجواب: لا! يؤلمنا أن نصرِّح بأن ريفنا المصري كما هو الآن مستعِدٌّ لأن يخلق لنا من الفنانين ومن «الخالدين» ومن «الرسل»، ما يُنتَظر منه في عصر الإحياء والبعث والخلق!
يؤلمنا ويَنْدى جبينُنا من الخجل والأسى، ونُحني الرأسَ ذلةً وضعفًا، كلما وفد علينا من جماعات الغربيين والنازلين، وكلما ضربوا في ريفنا المصري الساذج النائم السادر، فلا تقع أبصارهم إلا على كلِّ ما تتقزز منه النفس، وإلا على ما يحقِّر من نهضتنا الكبرى ويخفض من كائننا القومي ومن تاريخنا الخالد، ﻓ «أوساط الجمال الحي» في ريفنا المصري ليس فيها الغذاء الروحي الكافي لما يفجِّر القلوبَ بالشِّعر الوجداني الحي، وبالعواطف النبيلة السامية في يقظتها، وفي تجدُّدها وفي حيويتها، ولا لما يصعد بالأرواح العالية في «الكون العظيم» وفي «الملكوت الأعلى» وفي «سموات الفن». نعم، ليس في ريفنا المصري مهبط لرسالة الحب ولا لوحي الجمال، ولا ربوع لفيض الإلهام وفلسفة الإبداع وسر «الخلق»، ولا مبعث لوفرة «الحياة» وزيادة «الإنتاج» وبهر السحر وسحر الفتنة، بل دُور متهدِّمة متناثرة، وحقول نائمة ساكنة كَسِلة، وترع راكدة كدرة فاترة، وأشجار متجردة عارية صامتة، وناس فقدوا أو أماتوا «حيويتهم» ما بين ضنك الفاقة والأسى، أو بين الإفلاس في سوق «الجمال والحب»!
نعم، يكاد يكون من أشد العوامل في هبوط «حيويتنا»، وفي الإفلاس في خلق رجال ونوابغ وفنانين وشعراء ينهضون بنا وبالعالم جميعًا من هذا الركود الروحي، وهذه الرخاوة الشعورية الفاترة المتبلدة؛ هو أننا لا نعنى قليلًا ولا كثيرًا بتوسيع دائرتنا الثقافية من ناحية «الجمال»؛ فليس للحياة لدينا قيمة أكثر من أنها وسيلة إلى إرضاء شهواتنا المادية المنفعية، وإلى استدرار الأموال واكتنازها، وإلى حشو البطون وامتلائها، أما قلوبنا، أما شهواتنا الروحية، أما ثقافتنا «الشعورية»، أما ناحيتنا «العليا» وكائننا «الأسمى»، فتكاد تكون لدينا جميعًا نافلةً من النوافل، و«لا شيء» بين الأشياء، وهذا ما يجعل حياتنا موحشة قفرة فقيرة مظلمة مبغوضة ضيقة، وهذا ما يدعونا إلى أن نطأطِئ الرأس ذلةً وخجلًا وعارًا، إذا ما سمعت آذاننا أسماء نابليون وروسو وشكسبير وجوت ودانت وبيتهوفن وفولتير وماركوني وأديسون وتاجور وغيرهم؛ هنا أمام هذه الأسماء الخالدة نشعر بذلة في «فَخارنا القومي»؛ لأننا لا نعطي حياتنا قيمةً إلا من الوجهة المنفعية، ولا نفهم الحب إلا أنه وسيلة، ولا الجمال إلا أنه فريسة شهوة وضيعة، وملهاة فارغة لنفوس خاملة وقلوب ضعيفة.
وإذا كان هذا حالنا من الفقر في الشعور والخمود في «الحيوية» والركود في «الإنتاج»، وإذا كنا لا نعنى كثيرًا ولا قليلًا ﺑ «ثقافة الجمال»، ولا نخلق لأنفسنا بأنفسنا معابدَ الجمال ومهابط السحر، ومباعث الفن والخلق والفتنة، من هذه الأرض المدحُوَّة الخيِّرة المحسنة الغنية، ومن هذه الحقول الخضراء الوديعة الساكنة، ومن هذه الأشجار العالية الصامتة المتراوحة، ومن هذه «الكائنات العليا» كما يُسميها «لا مارتين»، التي ينقصها يد الأثري ليخرجها وينفض عنها غبارها، ويبرزها للعالم وللوجود فيضًا للإلهام، ورسولًا بالنور وبالحق وبالحب وبالجمال وبالحياة جميعًا.
أقول إذا كنا نحن بأنفسنا دعاة انحطاطنا ومعاول هدمنا، فنحن أيضًا بأنفسنا يمكننا — لو شئنا — أن نرفع «حيويتنا»، وأن نخلق من أرضنا جنات نحجُّ إليها ونحتمي بها، ونجد فيها أنفسنا، ونغذِّي فيها عقولنا وقلوبنا وأرواحنا، فتغترف عيوننا النور، وتستمتع قلوبنا وأرواحنا بما في الوجود من حب وجمال، ومن سحر وفتنة وإبداع وإعجاز، وتفيض عن عقول خالقة محققة، وعن رجال ونساء يشعون الحكمة والقوة والجمال في الأرض جميعًا!
ونعود الآن إلى ريفنا الساجي السادر الفقير، وإلى حقوله الصامتة الساكنة الخيرة، وإلى شمسه الوفية الدافئة، وإلى بداوته القانعة الراضية في ظلال الدعة والسكون، وفي آثار ومخلفات الأجيال الغابرة والعصور الدابرة.
ما أجمل تحية الشمس لأبناء الريف! وما أجلَّها حين تطلع من خدرها وتتلفت من حولها، كالحسناء المفتونة بسحر جمالها وبسلطان دولتها على القلوب، تصحو من نومها وتنهض من سريرها، تتزيل أعضاؤها من فتور النوم، ويتراخى جسمها ويتهدل من كسل الراحة وسكرة اللين ونعومة الرخاوة، تظهر على عيونها الدُّعْج الناعسة الفاترة، والنائمة اليقظة، والمتبلدة النشطة، وعلى جفونها الخامدة الساكرة، وفي نظراتها المتكسرة الحائرة الحيية!
ما أجملها حين تتسلل من مطلعها على أبناء الريف من وراء الأبنية الواطئة البادية البسيطة الفقيرة، ومن خلال أوراق الشجر وسعف النخيل وأغصان الصفصاف المتهدلة في الترع الساجية، ومن وراء الحقول المحسنة الخضراء، والقباب البارزة بين الدور في القرية، وأبراج الحمام العالية، فتنعكس على الماء الجاري في القنوات وفي الترع، وعلى سنابل الزرع الأخضر وأعواد الأذرة الجميلة الجليلة في خضرتها وفي خيرها وفي زهوها، وعلى وجوه الريفيات الجميلات حاملات جراتهن المتمايلة المستهترة المتكبرة بمرح ونشاط، في تيه وعجب وتدلل. نعم، ما أبهى طلوع الشمس على وجوه الجميلات في الريف، مبكرات في أعمالهن خفيفات إلى تحية الشمس الخيرة مصدر الدفء ومبعث الحياة!
جميل جدًّا ذلك السِّرب من النساء الرِّيفيات ماشيات على شواطئ التُّرع يَخطرن في زهو وفي نشاط، مُبتسِمات في غير كُلفة ولا صنعة، مُطمئنَّات إلى حياتهن البسيطة الخشنة، غارقات في نعيم الجهالة المُظلِمة، خارجات مع الشمس الساطعة يُحيِّين معها الإله العظيم في ملكوته وفي صنعه وفي إبداعه. وكم في الريف الساجي الهادئ من حِسانٍ ذهبَ جمالُهن بين ضنك الفقر وأوجاع الأسى، وبين أغوار الإهمال وظلام الجهالة، واختبأن بين القُرى والكُفور، بعيداتٍ عن عوالم النور، وعن معارض الجمال وملاعب السحر!
ويا ما أجلَّ مَنظر الفلَّاح المصري النشط خارجًا مع الشمس إلى حقله وعمله، يقود أمامه ماشيته وأغنامه آلة خيره وبَركته، ويجرُّ مِحراثه الخشبي البسيط الذي تغيَّر وجهُ الأرض وتطوَّر كلُّ من عليها، ولا يزال هو هو في بَداوته وفي بساطته كأنه يَهزأ من تلك المدنية ومُخترَعاتها وخيراتها!
يخرج ذلك الفلَّاح النَّشِط مُبكرًا من داره، حاملًا على كتفه فأسه وغلقه وأمامه ماشيته، غير مدَّخِر لنفسه راحةً ولو قليلة من عناء العمل، مُمتلئًا بوفرة النشاط، وبحب العمل، وبالشعور بالواجب الذي هو أساس كل الأخلاق جميعًا كما يقول «كانت». وأُشهِد الله أنه قلَّما يوجد من كل صنوف الفلَّاح في العالم مثل الفلَّاح المصري نشاطًا وجلَدًا وصبرًا على الكدح والعمل، وتحمُّلًا للبؤس وللكدِّ وللألم؛ فهو في الحق «فخر مصر وسيِّدها».
أوَّلُ ما تَشهَد في الريف إذا ما تسلَّلت أشعةُ الشمس من بين أوراق الشجر، ووراء القِباب والدُّور المُتواضعة، جماعاتُ الفلَّاحين؛ هذا يحمل مِحراثه، وذاك فأسه، وآخَر يسحب ماشيته، وآخَر أغنامه أو جمله؛ وجمعًا عديدًا من الأطفال الصغار الذين خُلِقوا من الأرض ليعيشوا على الأرض وليموتوا في الأرض، دون أن يعرفوا غيرها عالمًا أو وجودًا، يخرجون إلى الحقول والغيطان، ويعلمون الفِلاحة والزراعة ولما يشبُّوا عن الطَّوق، ولما تحتمل أبدانهم آلام الكد وإرهاق العمل، حاملين معهم غذاءهم هم وآباؤهم في مناديل أو في أسبات من الخوص؛ وسِربًا مُنتظمًا من النساء تارةً، ومُنتثرًا أخرى، ما بين حاملات جرَّاتهن من التُّرع، أو خارجات مع أزواجهن إلى الحقول، يُشاركنهم في تلقيط أذرة، أو جَني قطن، أو حصاد قمح، أو نقل سِباخ، أو حمل ردم، أو ريِّ زرع.
هذا المشهد الجميل من النشاط المُفرح الفاخر المُتسرب في الرجال والنساء معًا والأطفال أيضًا، هو أول ما تشهده في الريف وتحدِّث نفسك عنه حديث الإعجاب، بل الإفراط في الإعجاب؛ لأنك تشهد فيه روح الشعور بالواجب والإيمان بالعمل وبالحياة، في تلك الطبقة الجاهلة البسيطة النشطة العاملة، التي تُدرُّ الخير على البلاد لبنًا وعسلًا، ولكنَّا نجهلها ونَزْدريها صلفًا وعُتوًّا، قُتِل الإنسان ما أجحَدَه وأكفَرَه!
هذا الشعور بالواجب الذي تشهده في الفلَّاح هو خير ما في الريف، ويا ليتنا جميعًا نشعر بهذا الشعور! إذن لتغيَّر وجه تاريخنا، وإذن لأصبحت الأمَّة كلها فردًا واحدًا يشعر بشعورٍ واحد، ويخضع لقانونٍ واحد، هو قانون الواجب لأنه واجب. يا ليتنا نعمل كأن كل عمل من أعمالنا — كما يقول «كانت» — سيصير قانونًا عامًّا! يا ليت كل فرد منا يقوم بواجبه في حدود وظيفته ومواهبه واستعداده؛ إذن لأنتجت هذه الجهود الفردية المنظَّمة خِصبًا وحياة وقدرة ونورًا!
وإذا خرج الفلَّاح إلى حقله في الصباح خلع ملابسه هناك ليستعدَّ للعمل المُجهِد، فتراه واقفًا في غيطه إما باحثًا مُفتقدًا مَسارب الماء ليرويَ زرعه، مُجتهدًا في أن يُزيل كل عائق أمام الماء ليجريَ خالصًا حرًّا في القنوات الضيِّقة، وإما جالسًا على نَورَجه في «الجُرن» يدرس قمحه أو برسيمه أو فوله، وفي أي وقت؟ في ساعة الظهيرة حيث لا ترحم الشمس أحدًا! ومع ذلك تراه حافِيَ القدمَين، عاريَ الرأس، مُتحمِّلًا حرارة الشمس بجلَدٍ كريم وصبرٍ جميل، غير ناقم على هذا الوجود ونظامه الذي يضطرُّه أن يسلك في سبيل العيش والحياة هذه المسالك الخشنة الوعرة، بل مُستمرِئًا كلَّ هذا الجهد وهذا الألم في سبيل أن يحيا، وأن يَعُول أولاده المساكين!
وفي الوقت الذي أراد القضاء الأعلى أن ينام فيه ناس، ويتقلَّبوا على الدِّمَقس المفتَّل، والأسِرَّة الناعمة الهزَّازة، والوسادات الحريرية الرَّخْصة.
في هذا الوقت يجلس فيه صاحبنا الفلَّاح على نورجه هذا هو وماشيته الأمينة الوفيَّة، تحت نار الشمس ووهجها وسَفْع التراب، ليُغذيَ العالم بخيرات غَرْسه وبَركات زَرْعه، وليُحييهم من عَرقه، ومن شبابه، ومن قلبه ودمه، بل من حياته جميعًا.
تراه في حقله مُشمِّرًا عن ساعِدَيه بجِدٍّ ونشاط ومرح، حاملًا فأسه يَفلح بها الأرض، ويضرب بها بين الحشائش ليُنقذ زرعه من شرها، مُنحنيًا بظهره لا يرفعه إلا ليأخذ نصيبه من الراحة ولو قليلًا، مُمسِكًا بمِحراثه الخشبي العريق في القِدَم يشقُّ به الأرض شقًّا، ويقلب عاليَها سافلها، أو يُحمِّل الرَّدم والسباخ لأولاده الصغار الذين يُشاركونه في عمله، ويُقاسمونه تعبه وهموم عيشه، ويظلُّ في عمله هذا حتى إذا حان الغداء حملت إليه امرأته سلَّةً من الخوص، بها بضعة أرغِفة من الأذرة أو الحُلبة، ومعها قطعة من الجبن أو جانب من المش والبصل أو «المخلَّل» أو العسل الأسود أو اللبن الرائب، وهذا هو غذاؤه معظمَ الأيام إن لم يكُن كلها، ولكنه قانعٌ بعيشه، راضٍ بهمومه على خشونته وبساطته.
وإذا ما آذنَت الشمس بالمَغيب والتَهبَ قُرصها وراء الأشجار وبين دُكنة السُّحب، عاد صاحبنا من عمله ومعه ماشيته وآلاته، وعلى وجهه ابتسامة الرضا والبِشر، وجلال الإيمان وخشوعه، يجري في عروقه دم النشاط حارًّا دافقًا كأنه لم يعمل شيئًا في نهاره يُظلِم هذه الابتسامة، أو يُغضن هذا الوجه الباسم الراضي، وكأنه بذلك عاهَد أخته الشمس على ألَّا يخرج إلى عمله إلا معها مُشرِقةً، ولا يعود من عمله إلا معها غاربةً، وفاء دونه أي وفاء، من الفلَّاح لشمس الفلَّاح!
ولكن هذا الفلَّاح الهادئ الباسم في غيطه وعمله، تراه يفور فائره إذا عَلِم أن دور الماء أتى واعتدى عليه غيره، بحيث يَعوقه عن ريِّ زرعه، وإحياء خلاصة لحمه ودمه وحياته جميعًا، هنا تختبئ نفسه الطيِّبة الهادئة الوديعة إلى حين، وتظهر نفسه الشَّرِسة الباطشة، يُحاول أن يمنع هذا المُعتديَ على الماء؛ فإن أبى فليس أيسَر لديه للبطش به من «النبُّوت» يشجُّ به رأسه أو يُهشم أضلعه، حتى لو استحكمت الحلقات، وضاقت به آلات البطش والضرب، فإلى الفأس يقضي بها عليه؛ فالماء حياة زرعه، وزرعه حياته هو!
ندع الفلَّاح الآن قليلًا ونعود إلى شمس الريف الجميلة ثانيةً؛ فلقد شاهَدْناها مُشرِقةً باسمةً جميلة، في يقظتها وفي مَطلعها، وفي فِتنتها وفي بهرها، بين ضَباب الفجر وبَلَل النَّدى، وروح الأزهار والرَّياحين؛ فَلنُشاهدها غاربةً باسمة أيضًا، وَلنَقف أمامها نقدِّم فروض التقديس والعبادة والخشوع، لخالق هذا الكون العظيم في سعته، العظيم في سِره، العظيم في صمته وفي إفصاحه وبيانه.
شمس الريف الجميلة الجليلة العظيمة، معبود أجدادنا في أعماق القِدَم وطفولة الزمن، يعبدون فيها الدِّفء والحرارة والحياة والقوة والخير جميعًا، هذا المعبود العظيم للفراعنة العظام، وهذه «القوة» العظمى المقدَّسة، لأُولي الجبروت والقوة والقداسة.
هذه الشمس الجميلة المَهيبة المقدَّسة، لن تراها جميلةً حسناء فاتنة جليلة ساحرة في خير من الريف! ما أجملها وما أجلَّها حين تتوارى في صفحة السماء الزرقاء، فإذا بالزُّرقة حُمْرة، وإذا بالحُمْرة جمال وجلال وفتنة وقداسة وعبادة، وما شئتَ من فنون السِّحر والبهر! ما أجملها حين يتلهَّب قُرصها الأحمر الوردي في أتُّون السُّحب المُتقطعة المُتناثرة اللاهية، في قتامٍ مَهيب حينًا، وفي نورٍ جليل نقي حينًا آخَر. في هذه الحمرة الوردية أو هذه النار البرتقالية، يتمثَّل قداسة الماضي وطفولته وقِدَمه، وعظَمة الحاضر وقوَّته ونشاطه، وآمال المستقبل وأحلامه وأسراره. وفي هذه الصور من القداسة والجلال والعبادة، لإلهة الدفء والحرارة والحياة، وفي هذا الماضي والحاضر والمستقبل، تتجلَّى «وحدة الوجود»، ويبرُز «الكل الأعظم» مُتآلفًا مُتآخيًا مع «الجزء الصغير»، مع العضو «المُنفعل» أو مع القوة «السالبة».
يعود مع الشمس كما خرج معها جماعاتُ الفلَّاحين بماشيتهم من أبقار وجاموس، وبحميرهم، وبأغنامهم، وبكلابهم أيضًا، وبصغارهم راكبين الحمير أو على ظهر الجاموس. وكم هو جميلٌ صوت الفلَّاح! صوتٌ تتمثَّل فيه الطمأنينة النفسية والرضا والقناعة، وهو عائد من عمله ساعة الغروب يسلِّي نفسه بتلك الأغاني الريفية الجميلة في بَراءتها وسذاجتها!
هذه الحركة الحيَّة الشاملة كل نواحي القرية نهارًا، وهذه الجموع العديدة من الرجال والنساء والأطفال لا تلبث كلها أن تهدأ بعد الغروب، وتسكن إلى الدُّور تستجمُّ فيها من العناء، وتجد فيها الدَّعة والراحة والسكون، فلا تعود تسمع صوتًا ولا جَلَبة، ولا نهيق الحمير ولا غثاء البقر الذي كنت تسمعه في النهار؛ فالآن ساد السكون، وتسلَّم الليل زِمام الحُكم، وعمَّ الظلام الداجي الرهيب، وهدأت الحركة، وسكن الزوج إلى زوجه وأولاده يجد لديهم راحته من عمله، وهناءةَ عيشه، وسلوى همومه وتعبه. وأين يجد الآباء هناءة العيش ورفهه، في خيرٍ من عناية الزوجات وعبث الأبناء ولَهْو الأطفال؟!
لعل خير ما في ريفنا هدوءه وسكونه! فهذه القرية التي كانت مَظهر نشاط شامل، ومَعمل حركة دائمة وحياة دافقة، قد خيَّم عليها الهدوء، وعلَتْها رهبة الصمت البليغ، وخشوع السكون المَهيب، وسكن الناس إلى ديارهم الفقيرة في ذلك الليل الرهيب رهبةَ الموت وفزعه، ويا ما أرهَبَ الليلَ في الريف! سكونٌ تامٌّ عن الحركة، ونوم كأنه موت، أو موت كأنه نوم، أو صلاةٌ صامتة وتسبيحةٌ دائمة، وعبادةٌ خاشعةٌ ساكنة، وفناء الوجود كله في إله الوجود وخالق الكون ورب السموات والأرض، فناء حي بطيء مستمر، قوي في ضعفه، سريع في ريثه وبطئه، شاعر في خموده وسَكْرته، عالم في جهله، مُتعبد في صمته!
في هذا الصمت الخاشع لم تعُدْ تسمع صياح الأولاد في الغيطان، ولا صوت «الفرقلة» يضرب بها الفلَّاح بقرته أو جاموسته، ولا يَقرع أذنَك صوتُ الحمير المُنكَر، ولا غثاء الجاموس والبقر، ولا صياحُ البط والإوَزِّ في التُّرع، ولا شجار جماعات الفلَّاحين، ولا مُشاتَمة النساء لسبب ولغيرِ ما سبب؛ فكل هذا قد هدأ إلى حينٍ بين بطون الليل وغياهبه، واستكن في ظلمائه ودُكْنته، واطمأنَّ الناس إلى الحياة هادئةً راضيةً وديعةً آمنة في سواد الليل، بعد أن أصابهم الجهد ونال منهم اللغوب في بياض النهار، وعُدْت لا تسمع حفيفَ أوراق الشجر ولا هسيسه، يُلاعبها الهواء وتعبث بها أشعة الشمس اللاهية، ولكن عمَّ السكونُ كلَّ شيء، ونام كلُّ شيء عن الحركة، وباتت القرية ساكنةً هادئة في ظُلمة الليل الرهيب، مُتهجدة مُتعبدة قانتة، تحمد الله على أن حبا أهلها فيض الزرع والخير ونعمة العافية وسعادة الطمأنينة والرضا. ومتى تحلو العبادة، وتُرفَع الأدعية خالصةً طاهرة، في خيرٍ من رهبة الليل وظُلمته؟ ومتى يُناجى الإله، وتصعد إليه الشكايات والآلام والجِراحات، في خيرٍ من نوم الطبيعة والفناء الحي للوجود؟ وأين يكون الليل أشدَّ رهبةً وأبلغ صمتًا وأكثر وحشةً منه في الريف؟
هذا فلَّاحٌ مِسكين شقيٌّ، جلس إلى مُصلَّاه المُتواضعة المفروشة بالقشِّ وبأعواد البردي وبالحصير البالي، على حافَة التُّرعة، في سكون الليل ورهبته، وفي نوم الوجود وغفوته؛ يقدِّم لربه فروض العبادة والخشوع، ويسأله أن يفرِّج كربه، وأن يُجيب سؤله، وأن يَشفيَ مريضه. وهذه امرأةٌ مات زوجها عن أطفالٍ صغار، لم يعرفوا بعدُ غدْرَ الزمن ولا هموم العيش ولا جهاد الحياة، ترفع أكُفَّها ضارعةً إلى الله، ملاذ البائسين، وربِّ الشاكِين السائلين، أن يَكنُف هؤلاء الصغار برحمته وعنايته، ويجود عليهم بمَنِّه وفضله، وأن يَبسُط لهم من الرزق والخير؛ فهي أعجَزُ من أن تَعُولهم، وأفقَرُ من أن تقوم بعيشهم، وهو تعالى أكرَمُ مسئول!
وهذا فلَّاحٌ آخَر جلس أمام داره بعد أن نام أطفاله، وبعد أن سجى الليل وابتدأت القرية في صلاتها وعبادتها، يسأل الله بصوتٍ يقطِّعه ذلَّة البؤس، وتخنقه عَبرات الأسى وأوجاع الشقاوة، أن يُمكنه من تسديد ديونه لمالِكِه الذي لا يرحمه، وأن يرفع ثَمن القطن هذا العام حتى يتيسَّر عيشه، وحتى يُمكنه أن يكسوَ أولاده وزوجه من عُرْيهم، وأن يُبارك له في محصوله ليعوِّض بذلك من محصول العام الماضي؛ حيث خانه الحظ، وعاكَسه القَدَر، واستبدَّ به المالك!
في هذا الهدوء الشامل الرهيب، وفي هذه الصلاة الخاشعة الصامتة، تسمع صوتَ المؤذِّن في المصلَّى يؤذِّن بصلاة العِشاء، فتَعْروك هِزَّة الإيمان، وتملك عليك كلَّ قُواك وكل وجودك قداسةُ العبادة وجلالة الخشوع، فتَرهَف بأُذنِك مع القرية الهادئة الساكنة، ومع النبت النائم المُتعبد، ومع أوراق الشجر الناعسة المُسبحة، القانتة المُرتلة، ولا يسعك إلا أن تستسلم، وإلا أن تندمج وتتَّحد مع هذه «العابدات»، وإلا أن تُشاركها في صلاتها وفي تراتيلها، وإلا أن تَفْنى معها في فَناء الوجود كله في ذات الله العُليا المقدَّسة!
يُسلمك هذا الصوت الخاشع الجميل، وهذه الصلاة الدائمة، وهذا الفناء الحي، إلى الذكريات العديدة؛ فتذكُر نفسك، وتذكُر علاقتك بربِّك وواجباتك إليه، وتقودك هذه الذكريات إلى أن ترفع رأسك وتحدِّق في السماء، وتجتليَ جلالها مُزْدانةً بالنجوم المبثوثة المُتألقة في صفحة السماء الدَّكْناء في ذلك السواد الرهيب، فتُفكر في نفسك وفي وجودك، وفي هذا الكون اللانهائي العظيم الذي تَعجِز عن إدراكه وفهمه عقولُنا ومداركنا وكل ملَكاتنا، ومع ذلك يدعونا الغرور والكبرياء الإنساني إلى أن نظنَّ أن عقولنا قادرة على إدراك كل شيء وتحقيقه، وأن مشاعرنا في مُكْنتها أن تُحسَّ وتشعر بكل ما في الوجود والكون، وفي الحق أننا لا نفهم قليلًا ولا كثيرًا حقيقةً من حقائق هذا الوجود فهمًا حقًّا صادقًا يُمكننا أن نطمئنَّ إليه ونقتنع به؛ فما يُدرينا أن هذا حق، وما يُدرينا أن هذا الذي نُسميه «عقلًا» قد لا يزيد معرفتنا تذبذبًا، وهدوءنا قلقًا، ويقيننا شكًّا، وما يُدرينا أن حكمه صحيح أو خطأ، سليم أو سقيم؟
يقول أناتول فرانس: «كل ما خطر ببالك، فالكون بخلاف ذلك.» فإذا كان هذا حقًّا، فبماذا نُدرك هذا الكون ونفهم هذا الوجود، إذا كنَّا لا نطمئنُّ لا إلى حكم العقل ولا إلى شعور القلب؟ أهكذا قُضِي علينا بأن نعيش مشرَّدين ملفوظين أمام هذا الباب القدسي المُوصَد أمامنا، محرومين معرفةَ الوجود الذي نعيش فيه، والنور الذي نراه، غُرباء حتى عن «أنفسنا»؟
أهكذا قُضِي علينا أن نصرخ ونهتف مع المَعرِّي حين استحكمت عليه حلقات الحيرة، وحفزه التشوُّف إلى المعرفة، فصرخ صرخةً من اللحم والدم، من نسيج الأسى وذلة الضراعة:
إلى أن قال:
أين عقولنا ومداركنا وقلوبنا من هذا الملكوت الواسع، وذلك العالم الكوني اللانهائي العظيم؟ ما هذا الكون؟ وما كُنْهه؟ وما غايته؟ وما مداه؟ ومن نحن في هذه العوالم الكونية الواسعة العديدة؟ وماذا وراء هذه السماء وهذه النجوم؟ ماذا تحت هذه الأرض؟ وماذا عند هذه الكواكب؟ وماذا وراء هذه الحياة؟ الموت؟ وما الموت؟ وماذا بعده؟ ولماذا؟ وما لون هذه الحياة الأخرى الموعودة؟ وما صِلتها بحياتنا الأولى؟ وإذا كان الموت هو خاتمة حياتنا الأولى فما هي خاتمة حياتنا الثانية؟ وما البعث؟ وما الحقيقة؟ وما الوجود؟ وأين ينتهي؟ ومن نحن؟ وماذا كنَّا؟ ومن أين أتينا وإلى أين نذهب؟ وماذا كان الوجود وماذا كانت الحياة؟ وماذا يُراد بنا؟ وما غايتنا من حياتنا؟ وماذا نعرف؟ لا شيء!
تلك وجوه أسئلة قد تمرُّ بخواطرنا إذا رفعنا رءوسنا إلى السماء نَجتلي سرَّها، ونُفكر في جلالها وعظمتها ورهبتها. ولسنا نملك في هذه الحياة إلا أن نسأل وإلا أن نُنادي؛ فنحن نُناديه تعالى كما يقول لا مارتين: «وإن لم يسمع، فإن عظَمتنا في أن ندعو، وعظَمته في ألَّا يُجيب.»
إلى أي حد نُصدِّق العقلَ ونَقبل حكمه راضِين مُطمئنِّين؟ وتُرى ماذا يحلُّ لنا مشكلة الوجود وسر الخليقة ومسألة المسائل؟ هل هو العقل؟ هل هو القلب؟ هل هو الإيحاء؟ هل هي الغريزة؟ هل هو الإلهام؟ هل هو الكشف أو الوجد؟ وبماذا نعرف «السر»؟ بماذا نفهم «المجهول»؟ هل بالحب كما يقول «تاجور» والمُتصوفة؟ أو هل بالعلم؟ أو بماذا؟ أو تُرى أن «المعرفة» ليست من حقوق الإنسان أو اختصاصاته في هذه الحياة؟ لعل هذا هو الأقرب إلى الحقيقة الضائعة «المجهولة»!
لقد نقد «كانت» العقلَ البشري في كتابه «نقد العقل المجرَّد»، وأظهر أنه لا يُعيننا على المعرفة، ولا يُساعدنا على الوصول إلى الحقيقة، وأنه مُعرَّض للخطأ في حكمه، وأنه لا يُرينا إلا صورة الحقائق لا كُنْهها، وأنه لا يجدُر بنا أن نتلقَّى حكمه بالقَبول الأعمى وبالاستسلام المُطلَق. واستنقصه أيضًا «برجسون» في كتابه «التطوُّر الخالق»، وبيَّن فيه أن عقولنا وحدها عاجزةٌ كل العجز عن استظهار حقائق الحياة وفهم الكون فهمًا يُرضينا ويُقنِعنا، وأننا لكي نفهم الحياة ونَستقريَها فهمًا كاملًا واستقراءً مُرضِيًا، يجب أن يكون فينا «لا وعي» النبات، وغريزة الحيوان، وبصيرة الإنسان!
هذا ولا يزال استنقاص العقل كمِعيارٍ ثابت للحكم على الأشياء وللوصول إلى الحقائق، سِمةَ هذه العصور أو هذا العصر الذي تزعزع فيه الثقة بكل شيء لا يتَّفق ونظريةَ التطور الذي هو سُنَّة الحياة، هذا العصر الذي أصبح لا يُعنى إلا بالواقع المحسوس، والذي أخذت تتزعزع فيه الثقة بالعلم وبما أخرج للناس كهادٍ يهدينا جميعًا إلى إدراك أسرار الإنسانية، وإلى فهم الوجود، وإلى علاقة الجزء بالكل، والفرد بالوجود وبخالقه الأعظم! وغاية آمالنا أن يهتديَ هذا العالم الجديد إلى النور الذي يكشف له ما خَفِي من حقائق الوجود، وما استبهم من أسرار الكون، وأن يكون نورًا يُنير العقل ويُرضي القلب ويُقنع الروح؛ نورًا يُنقذ الإنسانية من هذا الظلام الروحي الذي تتخبَّط في غياهبه، ومن هذا الأسْر الذي تعيش فيه؛ حتى تؤتيَ آثارها، وتُنتج ثمارها في ظلال الدَّعة والطمأنينة واليقين والسلام والحب والخير والإيمان.
وإذا ما أخذ الليل السَّاجي يَهصر أستاره ويرفع نِقابه، وانبلج نور القمر يتحلَّب بين أشجار السَّنط والصَّفصاف والكافور، استيقظ الفلَّاح من نومه على صوت المؤذِّن يدعوه إلى الصلاة، قبل أن تَطلع الشمس على العباد تُحييهم تحيَّة الصباح السعيد، واشتركَت دِيَكة الصباح في الدعوة إلى اليقظة وإلى الصلاة. وما أجمَلَها تقفُ على أسطحة الدُّور بأعناقها الطويلة وريشها الجميل، تُوقظ الفلَّاحين من رُقادهم، وتحثُّهم على القيام بواجباتهم والصلوات لربِّهم! وفاء للفلَّاح أي وفاء حتى من الدِّيَكة! وكم يكون جليلًا خاشعًا رهيبًا نداءُ المؤذِّن: الله أكبر! والناس نيام، والطبيعة كلها مُتعبدة قانتة ناعسة يَقِظة!
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر في جلاله وعظَمته، الله أكبر في خلقه وإبداعه، الله أكبر في رحمته وغفرانه، الله أكبر في نِعَمه وإحسانه! هنا يغمر النفْسَ خشوعُ الرهبة وجلالة الإيمان وقداسة الدين، هنا تتَّحد النفس مع الله وتفنى فيه.
فأين وفاء الإنسان من وفاء الكلب؟ وأين غُروره وصَلَفه من شجاعة الكلب وتواضعه؟ وأين غدره وخيانته من إخلاص الكلب وأمانته؟ فإذا ذكرتُ وفاءَ الكلب لصاحبه في الريف قادَتْني الذكرى، وسرى بي الخيال والخاطر إلى كلب «لا مارتين»، وكيف خاطَبه ولاطَفه وتحبَّب إليه حين قال له: «إن كنت أيها الكلب راقدًا في مواطئ النِّعال، فلا أذكُر أن قَدمي مسَّتْك يومًا ما احتقارًا، كما أني لا أذكُر أني زجرتُك يومًا بكلمةٍ تجرح حنانك وشفقتك.»
وليس كلب «لا مارتين» وحده هو الجدير بأن يأنس إليه صاحبه ويُخاطبه، ويجد لديه العزاء والسَّلوى عمَّا في الحياة من مكر وخديعة وكذب وغدر. وليس «لا مارتين» وحده الذي تُعوِزه السَّلوى فيتفقَّدها عند الكلب وعند الحيوان جميعًا، وقد افتقدها عند الإنسان النبيل الكريم حتى لم يعُدْ يؤمن بصداقة ولا يعتقد في إخلاص، بل كلُّنا «لا مارتين»، بل كلُّنا نجد في حياتنا كل يوم وكل لحظة غدرَ الأصدقاء، وتنكُّرهم ساعةَ الشِّدة، وتكالُبهم ساعةَ الرخاء، وكلُّنا نهتف مع المتنبي قائلين: «إذا عَظُم المطلوبُ قلَّ المُساعِدُ.» ونصرخ مع المَعرِّي في صرخته المُرَّة:
وكلٌّ منَّا رأى في تجارِبه الخاصَّة نُكرانَ الجميل، ودناءةَ الأصل، والخيانةَ من أعزِّ الأصدقاء عليه وآثَرهم لديه. وكلٌّ منَّا هزأ وسَخِر وشكَّ شكًّا يكاد يكون إنكارًا لصداقة الإنسان المزعومة، ولوفائه الكاذب، وإخلاصه الأجوف، وبحث عنها عند الحيوان الذي لا يعرف الكذب ولا الخداع ولا الزُّلفى ولا الرياء، وأصبح كلٌّ منَّا تقريبًا «لا مارتين» نجلس إلى كلابنا، وإلى قِططنا الصغيرة الجميلة البريئة نستدفئ لديها بحرارة الوفاء، ونجد فيها جميل السَّلوى وحُسْن العزاء. وبماذا نُعزي نفوسنا في هذه الحياة الطويلة أمام هذه الضروب المختلفة من غدر الأصدقاء وتنكُّرهم وكيدهم، ومن خصومة الأعداء وانتقامهم، ومن عداوة الزمن وقسوته؟ بماذا نُرفِّه عن نفوسنا المُعنَّاة وقلوبنا التي طفحت بالغضب وبالسخط، وبألوان الهموم وصنوف الأسى، إذا لم يكن بكلبٍ نُلاعبه ونُخاطبه ونُملس عليه ونُصاحبه ونُماشيه، أو بقطةٍ صغيرة نضعها على رُكبتنا، ونعبث بشعرها الناعم الجميل، ونُشاكسها ونلهو بها، ونجد لديها راحة الجهد، وجمال العبث، وحُسْن السَّلوى، وخير البِر والوفاء؟!
لا أريد أن أترك هذا الفصل قبل أن أقول كلمة عن «حياة اللهو» في الريف؛ وفاءً للعهد مع القارئ الكريم أن نُصوِّر له حياةَ الريف المصري تصويرًا، إن لم يكُن صادقًا كله فهو قريب من الحق والصدق، وهذه هي بُغْيتنا وقصدنا من هذه «الأحاديث» أو هذه الرسالة؛ محاولة متواضعة لتصوير ريفنا وفلَّاحنا للبيئة المدنية التي تجهله ويجهلها.
وماذا تتصوَّر أن تكون حياة اللهو في ريفنا المصري السادر الساكن الذي تنقصه «الحياة» والحركة، المحروم من كل وسائل الاستمتاع بالوجود استمتاعًا مرفَّهًا مُرضيًا؟ لقد ذكرت لك أن «أوساط الجمال الحي» في ريفنا المصري ليس فيها الغذاء الروحي الكافي لقلوبٍ طامحة، وعقولٍ خالقةٍ مُحققة، ونفوسٍ أبيَّة كريمة كبيرة، وأن معنى «الحياة» عندنا يُقدَّر بمقدار ما تُدرُّ علينا الحياة من أرزاق ومنافع وحاجات ورغبات وشهوات. أما الغاية من الحياة لأنها «حياة»، أما إنها وسيلة وغاية ومثَل أعلى، فلا نُعنى بهذا قليلًا ولا كثيرًا. وإذا كنَّا نفهم الحياة هذا الفهم، وننظر إليها بهذا المِنظار، فقلَّما نُعنى بالبحث عن وسائل الاستمتاع بها استمتاعًا يغذِّي قلوبنا وأرواحنا، ويُرضي طموحنا وكبرياءنا وآمالنا، وقلَّما نفكِّر في العناية باللهو والعبث والسلوى، وخاصَّةً ﺑ «ثقافة الجمال» وﺑ «رسالة الحب».
ونحن بذلك إنما نُعطل ملَكاتنا ووظائف أعضائنا التي حباها الله لنا ووهبنا إياها لنستخدمها في وظائفها، ولنستمتع بما خُلِقت من أجله، ونحن بذلك نُوحش من حياتنا، ونُضيق من فسحاتها، ونُحقر من قدرها، ثم نشكو منها ونتألَّم لأنها لا تُرضي رغائبنا ولا تُجيب حاجاتنا. ولو أنصَفْنا لشكَونا أنفُسنا، وأنحينا باللائمة والتقصير على عقولنا التي نقيِّدها بالتعصُّب والعماية والتقليد، وعلى قلوبنا التي نُغلقها ونُظلمها بالجهل والإفراط والإسراف في المُجون والعبث، وعلى أرواحنا التي نأسِرها بالكسل وبالتراخي وبالهمود، ثم نتذمَّر ونلعن نظام الوجود الحائر؛ لأنه لم يجعلنا في عِداد السُّعداء المُترَفين الرافهين، العلماء النابغين، ونصخب ونثور ونكتئب ونحقد ونحزن ونبكي. ولو كنَّا قُضاةً عادلين لشكَونا وصخبنا وتألَّمنا من أنفُسنا، من بعض أغنيائنا أرباب الأرض والطين، وأصحاب المنازل والقصور والقناطير المُقنطَرة من الذهب والفضة، المُكتنَزة في طِيَّات الورق وتحت الوسائد وأحجار البلاط، الذين خُلِقوا فألفَوا أنفُسهم أغنياء عن آبائهم وأجدادهم في تلك العصور السُّود، عصور الإقطاعية والجبروت والاستعباد، ثم شراء مُتَع النفوس وحاجات القلوب بالضِّياع وبالقصور وبالفدادين، فلم يتذوَّقوا ألمَ الفاقة، ولا أوجاع الأسى، ولا هموم العيش، ولا ذلة السؤال، ولم تَخمُص بطونهم من الجوع، أو تَنحَل أجسامهم وتَستحِلْ ألوانهم من كثرة الشكوى وإلحاف الرجاء وطلب العون، ولم تَهطِل من عيونهم يومًا دمعة البؤس مُمتزجةً بدم الوجيعة وجِراح الفقر؛ فليس بغريبٍ أن تُصَم آذانهم أمام شكايات البائسين وأوجاع المُحتاجين، وأن تُغلَق قلوبهم المُتحجرة أمام أصوات السائلين وصرخات المُعوِزين. وليس بعجيبٍ أن يتصامُّوا عن استماع صوت «الإصلاح»؛ لأنه لا يعنيهم أصحاب الطين والقصور، بل يعني هؤلاء المساكين الفقراء «عبيد» هؤلاء «الأسياد» في عصرٍ زالت فيه العبودية والسيادة. وهذا الصنف من الأغنياء الأشحَّاء الجامدين في مصر يذكِّرنا بقول صاحبنا «روسو» عن أغنياء فرنسا، قال: «لم يكادوا يذوقون لذة الإمارة حتى احتقروا غيرهم، وحتى أصبحوا لا يفكرون في شيء إلا إخضاع الناس واسترقاقهم، مثل الذئاب المُتوحشة التي لا تكاد تذوق طعم دم الإنسان حتى ترفض أيَّ طعامٍ آخَر، ولا تتلذذ إلا إذا شربَت منه.»
ولست أدري ما الذي قدَّمه هذا الصنف من الأغنياء إلى بلادهم التي أثْرَوا من أرضها، وابتنَوا قصورهم تحت سمائها، وملئوا بطونهم وجيوبهم من ثمارها وخيراتها، ماذا غير تصعُّر الخدود، وانتفاخ الوجوه، وهز الأكتاف، وإيماءة الرءوس، والحديث بالإشارات، والتلوِّي والتقطُّع في الكلمات، والخطاب بالأنوف، والنظر بالأقدام والرَّكل بالأرجُل، ثم طي الأرض والشوارع بالسيَّارات واللهو بالماجنات الغانيات، وبذر الأموال على الموائد الخضراء، وقضاء ثُلثَي العام كله في الغرب بين الأندية ودُور المجانة ومصايد النساء؟
هنا يحضُرني قول «روسو» وصرخته العالية المُرَّة حين أذكُر وأنا أتألَّم هذا الصنف من الأغنياء الذي أبغيه وأتصوَّره حين أكتب هذه السطور، وهو صنفٌ معروف بيننا جميعًا يكاد لا يشعر بشعورنا ولا يتألَّم لآلامنا، ويكفُّ يده عنا حين يجب أن يبسُطها، ويوصد أبواب أمواله المُكتنزة أمام صيحاتنا وشكاياتنا في كل خطوات إصلاحنا حين يجب أن يفتحها، قال «روسو»: «ماذا صنعَت العائلات التي تُسمَّى شريفةً لمجد وطنها أو لسعادة بني الإنسان؟ وماذا أنتجت في أكثر البلاد التي سطع نجمها فيها، إلا أن ظهرت عدوَّةً للقوانين وللحرية، وإلا أن أعانت الاستبداد وظلم الشعوب؟»
نعم! يؤلِمنا جدًّا أن يكون بعض أغنيائنا على هذه الحال؛ فلا يألمون لآلامنا ولا يشعرون بشعورنا، يؤلمنا أن يُنحُّوا أنفُسهم عن الميدان وعن العمل وعن عملية الإنشاء والبناء والإصلاح، فكأنهم ليسوا منَّا ولسنا منهم، وكأن مصر هي وطننا وحدنا أو وطنهم وحدهم لأنهم «أصحاب المصالح الحقيقية» فيها، كما أُذِيعت هذه العبارة في هذه السنين، يؤلِمنا أن يكون في أيديهم طب الداء وعلاج الحال، ثم يقعدون ويتنحَّون ويبسمون ويَسخرون!
نعم! إن شكَونا أحدًا في كل ما نشعر به من بؤس وضنك واحتقار لمعنى «الحياة»، وحرماننا من الاستمتاع بها، وجهلنا ﺑ «ثقافة الجمال»، وتكاسُلنا عن كل وجوه الإصلاح، وتأخُّرنا عن الأمم التي تجري وتعدو ونحن نزحف ونحبو، فإنما نشكو أولًا هذا الصنف الجامد من أغنيائنا، وثانيًا حكوماتنا؛ وذلك لأن مصالح البلاد تهمُّ فئة «المحكومين» أكثر مما تهمُّ فئة «الحاكمين»؛ لأن المحكوم هو الذي يشعر بالألم، وهو يفهم الفقر ويعرف الأسى ويُقدر «الإصلاح»؛ فعسانا نُقبِل على عصرٍ جديدٍ يشعر فيه أغنياؤنا بقيمة «الإصلاح»، وبالحاجة إلى العمل والاشتراك مع الأمَّة في كل وجوه السعي والكد والبناء، ويأخذون نصيبهم من الجِد والنشاط، وتقديم مواهبهم واستعدادهم وثروتهم لإصلاح هذا «الهيكل» المُتهدم، وتطبيب هذا «الجسم» المُنهدِّ من التعب والمرض؛ ليقوى على الحياة، ويصبر على التنازع على البقاء، ويثبت في «الانتخاب الطبيعي»، ويُشعَّ القوة والعمل والخِصب والخير جميعًا شرقًا وغربًا!
ونعود ثانيةً إلى ريفنا ولَهْوه بعد أن أبعَدَنا عنه قليلًا حضرات الأغنياء.
لسنا نعرف في القُرى ما نعرف في المدن من الملاهي والنوادي للتمثيل وللَّهْو وللمحاضرات والمناظرات، أو مشارب للقهوة وما فيها، أو ملاعب للنرد والبليارد، أو مراقص للفِتيان والفتَيات ولمُحبِّي الجمال وعُشَّاق العبث. ولسنا نعرف فيها دُورًا للسينما ولا نواديَ للرياضة، ولا مَكاتب لمُحبِّي الأدب وعُشَّاق الاطلاع. ولسنا نرى فيها ما نرى في المدن من مُتنزَّهات، ورياض وحدائق باسقة عاطرة بالورود والأزاهير، غاصَّةً بملكات الحُسن ومالكات القلوب وزينة الحياة الدنيا. ولسنا نسمع فيها ما نسمع في المدن من أصوات الكمنجة والعود والبيانو و«الجازبند»!
يُفارقنا كلُّ ذلك إذا ما وطئت أقدامنا الريف المصري. وإذا كان ريفنا ساكنًا ساذَجًا فقيرًا من «الحياة» ومن الحركة، فكذلك حياة اللهو فيه بسيطةٌ بريئة لا تزال عليها مسحة البداوة الريفية، لا تُحركها بواعث «الحياة»، بل هادئة ناعسة حالمة في الماضي الدابر والعصر الغابر؛ فلا يعرف الفلَّاحون من أدوات الموسيقى إلا «الأُرغول» والمزمار والطبل البلدي و«السلامية». وقد يكون لهذه الموسيقى الريفية جمال، بل في الحق لسنا نُنكر ما فيها من جمالٍ يَملِك علينا قلوبنا وحواسَّنا حينًا، بنبراتها الريفية البريئة العارية عن كل غموض وتعقيد وحُليٍّ، الهادئة الساكنة المُعتدلة الرفيقة كأبناء هذا الوادي المُبارَك الساجي الحالم، ولو أنها خِلوٌ من المعاني السامية والإلهامات العليا والتيَّارات الروحية النبيلة، ولو أنها لا «تخلق» جديدًا أو توقظ هامدًا أو تبعث عاطفة، لكن مع كل هذا لها جمالها الريفي الصامت البريء العاري عن كل صبغة وتحسين، نَجْنح إليه ونميل حينًا؛ ساعةً تكون عواطفنا هائجة، وملَكاتنا الحاسة يَقِظةً مُتعَبة في العمل والحركة؛ ساعةً تُكربنا هموم العيش والتفكير في مصائب الحياة التي تنصب كل لحظة كأنها الغيث الهَتون، هنا تهمد عواطفنا الهائجة فانيةً في هذه الأنغام البريئة الرقيقة، فننسى حينًا ما في الحياة من وصب وضنك وشقاء!
الأرغول إذن و«السلامية» هما كل ما يعرفه الفلَّاح من آلات الموسيقى، وهو كثيرًا ما يحمل أرغوله أو مِزماره ويترنَّم به في الغيطان والحقول الساكنة الحالمة ليُرفِّه عن نفسه عناء العمل، وليُهدهِد بها أغنامه. وهو لا يعرف من ضروب اللهو والسلوى، وقضاء أوقات فراغه والاستمتاع بما في الحياة من لذة وجمال، إلا الجلوس على «المصطبة» أو على حافات التُّرع والجسور، أو في الطريق يلعب «السيجة» بالأحجار في التراب، وإلا «لعبة الحطب»، وهي المُضارَبة أو المُبارَزة بالعِصيِّ الغليظة.
ومع فقر حياة اللهو في الريف وبراءتها وبساطتها فقلَّما يُزاولها الفلَّاح المصري؛ لأن مَشاغل حياته كثيرةٌ تشغله عن أن يأخذ نصيبه من الحياة الدنيا، من اللذة ومن اللهو، وكيف له أن يلتذَّ ويلهو وحياته بطبيعتها لا تكاد تنتهي من العمل طِيلةَ النهار؛ فهو من الغيط إلى الدار!
وكم تراه فَرِحًا مُغتبطًا تنفرج شفتاه عن ابتسامة السعادة والفرح والاستمتاع بالحياة يوم عُرْس في القرية، أو يوم «المولد»، أو موسم من المواسم، أو ليلة من «الليالي»، هنا تجده يتكالب ويتهافت على مكان العُرس أو المولد أو الليلة ليستمع إلى مُغنٍّ مشهور، أو غير مشهور، أو مرتِّلٍ كبير أو صغير، أو مُنشِد في حلقة الذِّكر، فيأخذ مكانه بين المُستمعين ليرفِّه عن نفسه، ويُبرد قلبه ويُضيئه باستماع آيات كتاب الله الكريم، أو قصائد مدح نبيِّه العظيم، ثم تفجؤك بل تروعك هبَّته وصيحاته العاليات الصاخبات، صيحات الاستحسان والإعجاب؛ فيقفز من مكانه أو يُلقِي بما على رأسه من «طاقية» أو «لبدة» في الأرض، ثم يُهرول إلى المُقرئ أو المغنِّي طالبًا منه إعادة ما يقوله ويُنشِده؛ لأنه حرَّك هامد عواطفه، وأيقظ نائم حواسه، وأروى قلبه الصاديَ المُغلَق أمام منافذ الجمال والفتون واللذة.
وإذا أردتَ أن تتحقق من «يوم» الفلَّاح، فهو يوم الموالد للأولياء؛ فتراه يَبرَح قريته ويتوجَّه إلى مكان المولد مهما كان بعيدًا، ومهما كانت الطُّرق إليه مُلتويةً عَسِرة، وقد يُسافر له خاصَّةً، وقد يقترض من أجله ليوزِّع على الغانيات الساقطات بعضَ ما يقترض ثمنًا لابتسامةٍ ماجنةٍ فاسقة، أو قُبلةٍ أمام الأنظار جميعًا من رجال ونساء، وما إلى القُبلة من حاجات النفس الوضيعة السافلة، ورغائبها الساقطة القذرة؛ نفس لم تُهذبها التربية ولم يُشذبها المجتمع. والبعض الآخَر يشتري منه جانبًا من «الحمص» أو «حب العزيز» أو «الحلاوة السمسمية» لزوجه وأولاده ولأفراد عائلته من أقارب وأصهار، ومن كل ذي نسب ورحم. وإذا ما وصل إلى «التياترو»، أو إلى «السِّرك» بمعنًى أدق، عُرِضت عليه المهازل والمساخر التي تُلائم عقليته المستعدَّة للهزل وللسخرية. وهناك تقع عيناه على أشدِّ المناظر فُحشًا وأنكرها فسوقًا ومجانةً، وهو مع ذلك فَرِح مُغتبط لأنها تُلائم شهواته، وتُرضي عواطفه، وتُشبع ميوله. وهناك تُعرَض عليه رقصات البطن الماجنة الفاحشة من بنات الخلاعة والهوى الفاسق. وهناك يُلْقى على سمعه وعلى سمع رجال الإدارة أيضًا أغانٍ وأدوارٌ كلها الفُحش والفِسق، وكلها مما يُحرض مباشَرةً وجهرًا على هَتْك ستر الحياء، وعلى الإغراق في المجانة والفسوق وما إليهما. ولا يُبالي أصحاب هذه الملاهي — أو هذه «الخوامير» بمعنًى أصح وأقرب إلى الحق — بوجود نساء بين الرجال يشهدن هذه المناظر ويسمعن هذه الأغاني؛ يشهدن رجلًا يحتضن غانية، ويُبصِرن غانيةً تتلوَّى وتهتزُّ في حركاتٍ تُهيج العواطف وتُوقظ الشهوات، ويسمعن أغاني تُحرض تحريضًا صريحًا على ما ينزل بالنفس وبالأخلاق إلى أحطِّ ما يُمكنها أن تنزل إليه، ولكن لماذا يُبالون وهم يرَون في عرض هذه المشاهد وهذه الأغاني رواجًا لسوقهم وربحًا أيَّ ربح لتجارتهم؟ ولماذا يتحرَّجون وعواطف بعض النساء نفسها تريد ذلك، ومُيولهن تميل إلى هذه الأغاني الماجنة وتلك المشاهد المُغْرية، وإن بذلن كل جهودهن ليُخفِين عواطفهن الباطنة وشعورهن الداخلي من تستُّر واصطناع الحياء وادِّعاء الخَفَر؟
وإذا عرفت أن فلَّاحنا يرقص طرَبًا ويطير فرحًا لأبسط منظر من مناظر اللهو، فلا يأخذك العَجب لو رأيت رجال القرية ونساءها وأطفالها خرجوا جميعًا من دُورِهم مُهروِلين ليسمعوا ما يحكيه «الفونوغراف». وأُشهدُ الله شهادةً لا حَنَث فيها ولا كذب، أني قد كِدت أبكي أسفًا لعقلية جماعة من الفلَّاحين والفلَّاحات، ولحرمانهم من موارد اللهو وأمكنة الاستمتاع بالحياة والقدرة على التسلية، يومَ أبصرت هذه الجماعة في قريةٍ صغيرة من قُرى ريفنا المصري لا تزال حيةً تُرزَق حتى كتابة هذه السطور، أبصرتهم جميعًا قُعودًا ووقوفًا أمام «الفونوغراف» ينظرون بلهفة وبذهول إلى ذلك «الإنسان» الذي يختبئ في نفير «الفونوغراف» ثم يغنِّي ما يردِّده هذا الفونوغراف، ثم يُحاولون أن يتعرَّفوا كلَّ شيء عن هذا الإنسان المُختبئ. وإني لأذكُر أني رأيت بينهم امرأةً عجوزًا تتراجع إلى الوراء وجلًا وخوفًا؛ لأنها كانت قد سمعت «أسطوانة» تحكي شِجارًا وعِراكًا، فخافت أن تمسَّها عصًا من عِصيِّهم، أو لطمةٌ من لطماتهم. عقليةٌ مِسكينة جاهلة تستحقُّ الرحمة والشفقة!
لقد ذكرت أن آلات الموسيقى في ريفنا هي الأرغول والسلامية، ونسيت أن أذكُر عاملًا ثالثًا مُهمًّا في حياة اللهو في ريفنا المصري لا يخلو من خطر وأهمية، ذلك هو «الربابة»، ويُقابلها في المدن «الكمنجة». وإذا كنَّا نتقبَّل الأصوات والأغاني وأدوار الموسيقى بآلاتها المختلفة، ونستحسنها ونسوغها بحسب ثقافتنا وتكويننا العلمي وتربيتنا الخلقية، وبحسب استعدادنا لقبول الإلهامات العليا، وشعورنا بسلطان «الجمال»، وإدراكنا «للعالم الباطني»؛ أقول إذا كنَّا كذلك فليس بعجيبٍ أن تكون «الربابة» عند الريفيين ولدى العامة أشد من «الكمنجة» تأثيرًا في العواطف، وامتلاكًا للقلوب وللحواس جميعًا، وأدْعى إلى ترقيقها وتهذيبها. ولشَدَّ ما يَهرع الريفيون إلى ذلك الذي يُسمونه «شاعرًا» ويجلسون حوالَيه، وتعتلي النساء أسطحة الدُّور، ويترامى الأطفال والأولاد تحت أقدام الرجال، ثم يجلس هذا «الشاعر» على دكةٍ خشبية ليظهر بين القوم، ويُمسك ربابته ويبدأ بتجربة الأوتار، ثم يشفعها ﺑ «كحة» تتوالى المرة بعد المرة، فيُرهفون له آذانهم الصاغية، ويسُود عليهم جميعًا السكون وكأن على رءوسهم الطير!
وهنا يبدأ هذا «الشاعر» بمديح النبي عليه السلام. ولا يخلو هذا المديح غالبًا من «التغزُّل» أو التشبُّب به؛ فهو جميل، أكحل العَينَين، أدعجهما، بِهِما حَوَر، أحمر الخدَّين، مُتورد الوجنتَين، دقيق الفم، لؤلئيُّ الثنايا، ياقوتيُّ الشفتَين، وإلى غير هذا مما هو خليق بالحِسان وبالغِيد الجميلات، لا بنبيٍّ عظيم صاحب دين كريم، ودستور اجتماعي كبير خطير، لا بمحمدٍ صاحب «الرسالة» الكبرى ونبيِّ الكتاب الأعظم. ومن العجيب بل من المُخجِل حقًّا أن نسمع في هذا العصر الذي نعيش فيه، وفي سِنِي تلك النهضة التي نهضناها والخُطى التي خطَوناها، أن نسمع عن «النبي» من الوصف ما نسمعه من المجنون عن «ليلاه»، ومن كُثيِّر عن «عزة». إن هذه لأكبر وصمة نُنزلها بديننا، وأشدُّ جريمة نرتكبها ضد «نبينا». ولقد حان الحين لأن نعرف عن «النبي» ما يليق باسمه العظيم، وبدِينه القويم، وبرسالته الكبرى، وبمذاهبه وتعاليمه الاجتماعية الروحية الفلسفية الخالدة أبد الآبدين. وإذا ما عرفناه حقًّا، وفَهِمناه كما يجب أن نفهمه، هنا يكون حبُّنا له وصِلتنا به واندماجنا فيه وتتبُّعنا وخضوعنا لتعاليمه ولسُنَّته، أقوى وأثبت وأصدق من هذا التغزُّل المُخجِل وهذه الألفاظ الحقيرة، ولن يكون «حب الجهل» كحب المعرفة والفهم والإدراك!
ثم يتطرَّق هذا «الشاعر» من مديح النبي عليه السلام إلى مديح أبي زيد الهلالي، فيذكُر قصيدته هو والزناتي خليفة ودياب بن غانم، وما أظهره كلٌّ من هؤلاء الفُرسان الأبطال في الحرب من ضروب الشجاعة الخارقة، وما قاساه «الهلالية» من ألوان الهَول والبأس، وكيف أذلُّوا «الزناتية» وقهروهم وأخضعوهم إلى سلطانهم، ثم يذكر جمال «عالية» امرأة أبي زيد، ويتغزَّل فيها ويتشبَّب بكل جزء من جسمها، ويفتنُّ في وصف كل مظهر من مظاهر جمالها، في صوت لا يخلو من جمال أحيانًا، بحيث ترى الكل قد استفزَّتهم هذه الضروب من الشجاعة، فحرَّكت فيهم النخوة والبسالة، وأظهروا إعجابًا بهؤلاء الأبطال، وإعجابًا خاصًّا كله التَّفاني والولاء والتعصُّب ﻟ «أبي زيد» بطل الحرب ورَجلها. وعند إشادة «الشاعر» بمحاسن «عالية» وغيرها من النساء، وبعيونهن وشعورهن وصدورهن ونُهودهن، ترى الرجال قد توسَّعت أحداق عيونهم، وانفرجت شفاههم عن ابتسامات لها معناها، وعن ضحكات الإعجاب، وتمثَّلت شهواتهم وبرزت سافرةً على عيونهم وعلى وجوههم كأنهم يشهدون حقًّا «عالية» هذه، وكأنها أمامهم تنفث فيهم سحر جمالها ودلالها، وكأنهم يريدون أن يقتلوها نظرًا وتفرُّسًا و«زنا العيون»!
هذا الضرب من اللهو الريفي المصري البسيط البالغ جمال البساطة وبراءة السذاجة، ليس قاصرًا على الريف، بل يجد مَنازله حينًا في بعض أحياء مدننا عند العامة ومن إليها، وليس هو بقاصر أيضًا على مصر وحدها، فإننا نعرف «الإلياذة والأوديسا» لهومير، إن تحقَّقت هذه النسبة من الوجهة التاريخية الأدبية، ونعرف أن اليونان القُدماء كانوا خاضعين كل الخضوع لهذا الضرب من اللهو، وكذلك كل الأمم في عهود بَداوتها وفِطرتها، وكانوا يتلذَّذون حقًّا بالجلوس أو الوقوف حول «هومير» وغيره من القُصاص والشعراء، يذكرون لهم الحروب القديمة وأبطالها، وأعمال هؤلاء الأبطال وشجاعتهم وبَسالتهم، وكل ذلك بأسلوبٍ قصصي جميل له جماله وله أنغامه، يتَّفق وعواطف القوم وميولهم وشعورهم وأوساطهم وتربيتهم وتكوينهم. ونحن نعرف أيضًا أن لكل أمة بَدويِّها ومُتحضرها ضُروبَها من اللهو، ولكلٍّ منها الطُّرق والوسائل المختلفة لإرضاء عواطفها ونزعاتها، وإشباع شهواتها وميولها، وحاجات عقولها وقلوبها.
وإذا كانت أيام «الأعياد» تُحسَب من حياة اللهو، فما هو يوم العيد في ريفنا المصري؟ تُحسُّ بتباشير «العيد» حينما ترى كل امرأة تَحِيك ثيابَ أولادِها الجُددَ، وحينما تُبصر حركةً عامَّة شاملة في البيوت جميعًا ليلًا ونهارًا؛ من عجين الخبز، وإعداد «كعك» العيد، ومن دُخان مُتصاعد من فجوات الدار ومن فرنها، ومن عملية غسيل، ثم تجفيف ونشر على أسطحة الدُّور، إلى عملية كنس الحارات، كل امرأة أمام دارها، إلى عملية «الحناء» وخروج كل امرأة في الليل ببلَّاصها أو صفيحتها إلى التُّرعة للاستعداد للاستحمام والاغتسال!
ولن تطلع الشمس من خِدرها ومقصورتها صباح العيد حتى تملأ عينَك مَناظرُ الأطفال والأولاد بجلاليبهم الحمراء والبيضاء، وبأيديهم الملطَّخة بالحِنَّاء، وفي أيديهم قِطَع الحلوى أو «عفريت النسوان» أو لعبٌ أخرى، ثم تُبصِر جماعات الريفيين بجلاليبهم البيضاء غالبًا، وببُلَغهم الصفراء الجديدة، ولُبَدهم السوداء أو الحمراء حينًا، يسيرون مُبتسمين فَرِحين مهنِّئين بعضهم بعضًا بالعيد السعيد المُبارَك، الذي قلَّما يتلاقَون ويتقابلون جميعًا إلا في مِثله، مُتوجهين إلى المُصلَّى وإلى المساجد حيث يُقيمون هناك صلاة العيد، وبعد ذلك إلى مقابر الموتى حيث يرفعون لهم هناك أدعية الرحمة، ويُنزلون عليهم غيث المغفرة والرضوان، وحيث يتذاكرون المصير الأخير والنهاية القاسية المُرَّة، ويتذاكرون موتاهم الأعزَّاء وماذا خلَّفوا في حياتهم، فيتَّخذون منهم ومن أجداثهم وعظامهم عِبرة الحياة وعظة الموت ودرس «المصير».
وهناك تُشاهد بين المقابر جماعات النساء بسِلَلهم وبأسباتهم مليئةً بالكعك وبالتَّمر وبالحلوى؛ لتُوزَّع على جموع الأطفال والأولاد هناك «رحمةً» على موتاهن، وذكرى لعهودهم، ووفاءً لحقوقهم. ويملأ سمْعَك أصواتٌ عالية من جماعات «الفقهاء» يقرءون سورة «يس» الكريمة خاصَّةً، ثم يُجازون على ذلك ببضع «كعكات» أو جانب من التَّمر.
وأخيرًا يعودون إلى ديارهم، يتزاوَرون ويُهنئون بعضهم بعضًا رجالًا ونساءً. وفي العصر يخرج الرجال إلى الخلاء والأمكنة الفسيحة أو «الأجران»، وهناك يلعبون «لعبة الحطب»، وهي كما قلنا المبارزة أو المضاربة بالعِصي الغليظة، أو يلعبون بالكُرة من الخِرَق البالية، أو يقضون جانبًا من الوقت في «الأراجيح» المُزدحمة ساحتها بالأطفال والفتَيات والرجال.
ومن المُدهِش أن ترى أحيانًا في يوم العيد في الحقول كثيرًا من الفلَّاحين بجلاليبهم الزرقاء يُزاولون عملهم اليوميَّ بجِدٍّ ونشاط، ولا يُعطون جسومهم حقَّها من الراحة حتى في مِثل هذا اليوم!
هذه هي صورةٌ مُختصَرة جدًّا للعيد في الريف، وهي صورةٌ ساذَجة بريئة كما ترى، ولكن نُلاحظ أنه يَنقُصها روح «الحياة» والشعور بالذات، وهذه الظاهرة تكاد تكون عامةً في مدننا وفي ريفنا؛ فلن نفهم من العيد إلا الملابس الجديدة الأنيقة، وإلا الطهيَّ الجيِّد والمأكولات الشهيَّة، أما العيد كيومٍ نلتقي فيه والطبيعة العظيمة المحبوبة الجليلة في حدائقها وأزهارها وبحارها وأنهارها؛ أما العيد كيومٍ نُحاول فيه الشعور بذواتنا وتغذية قلوبنا وأرواحنا مما في هذا العالم الرحيب من نور ومن جمال، ونُطلِق فيه نفوسنا على سجاياها وطبائعها تنتقل على أفنان الحب، وبين دوحات الجمال، لا وَجِلةً ولا مُتوجسة شرًّا، ولا خائفة رقيبًا أو عاذلًا أو مُواضَعات الناس؛ أما العيد بهذا المعنى فبعيدٌ عن بيئاتنا المصرية وعن تفكيرنا، وهكذا نخلق لأنفُسنا بأنفُسنا مواضعَ الوحشة وغياهب الظلام وقيود الأسْر!
قلنا قبل الآن إن الفلَّاح المصري — رغمًا من بساطة حياة اللهو لديه — فهو لا يُزاولها إلا ندورًا؛ فلسنا نعرف رجلًا مشغولًا عن العالم وعن لهوه ولذَّاته مُنعزلًا قابعًا في داره، مُحتقرًا للحياة أو لمعناها بمعنًى أصح مثل فلَّاحنا المصري؛ فهو لا يُقدر لنفسه وجودًا ذاتيًّا، ولا يُدرك معنى الشعور بالحياة، ولا يعرف أن هذه الحياة مِلكٌ لنا وحدنا، نستمتع بها كيف نشاء وأنَّى نريد وحيث نرغب. أوَليست هذه الضروب من اللهو إلا نوعًا من العزاء والسلوى عمَّا نُلاقيه في هذه الحياة من عنت ومن شقاء؟ فليس من مُصاب إلا قدَّر الله له السلوى، وليس من داء إلا أوجد له الله الدواء! وإلا فكيف تكون هذه الحياة التي نحياها إذا كانت خلوًا من السلوى، وفيها ما فيها من نغص وبلاء؟ وإلا فما فائدتنا من قلوبنا ومن آذاننا ومن عيوننا، إذا لم تكُن طُرقًا ومنافذ إلى اللهو وإلى الاستمتاع بكل ما في الوجود، قبل أن يُغلقها الردم ويسدَّها ثرى الرَّمس ويَطويَها ظلام اللَّحد؟ وماذا كان يكون مصيرنا وحياتنا إذا أريدَ منَّا أن نتحمَّل الألم وحده ثم نُحرَم اللذة؟ وماذا كان يكون حالنا لو احتبست الآلام بين أطواء قلوبنا، فلن تجد لها مَخرجًا إلى العزاء أو مُتنفَّسًا عن الشقاء؟ كان أن تنفجر قلوبنا لتَلفظ منها آلامها، وتندكَّ جسومنا لتطرد عنها همومها، كان يكون الفناء والدمار والبوار! ثم ما الموت؟ أليس هو حرمان القلب أن يُحب، والعين أن ترى، والنفس أن تتذوق لذَّاتِ الحياة، والروح أن تحوم في معابد الجمال وأماكن القداسة؟ وإذا كنَّا لا نتذوَّق لذَّات الحياة ونستمتع بلهوها وعبثها الآن، فمتى تُتاح لنا الفرصة لنلتذَّ ولنلهوَ ونعبث؟ أفي الرَّمس وقد اندثرت قلوبنا تحت أحجاره، وبَلِي جسمنا تحت أنقاضه، وتبدَّدت عظامنا بين جوانبه، وتبعثرت آمالنا وأحلامنا ورغباتنا وشهواتنا هواءً في ظلام وضلال ترابه؟