المرأة في ريفنا
تحدَّثنا في الفصل السابق عن حياة الفلَّاح المصري وعن خُلُقه ونفسيته بما سمحت لنا معرفتنا به، وبما استطعنا أن نُجليَ صورته على وجهها الحق أو القريب من الحق للبيئات المدنية التي تجهله، ونُحبُّ الآن في هذا الفصل أن نتحدث أيضًا عن المرأة الريفية كما تحدَّثنا عن الرجل؛ لأنه إذا ذُكِر الرجل فيجب أن تُذكَر معه المرأة جنبًا لجنب ليتآخى النوعان، ويتآلف الشقيقان.
نظنُّ أن القارئ الكريم قد يكون كوَّن لنفسه الآن رأيًا تصوريًّا في المرأة الريفية المصرية، بعد أن وقف على ناحية من حياة الرجل الريفي المصري وخُلُقه ونفسيته ومركزه الاجتماعي العام؛ وذلك لأنه قد عوَّدتنا الإنسانية وكذلك التاريخ أن نرى تطوُّر المرأة يُلازم دائمًا تطوُّر الرجل، وأن الحكم على الرجل في أي أمَّة من الأمم يَتبَعه حتمًا أو غالبًا الحكم على المرأة حكمًا مُتناسبًا مُتضامنًا مع الحكم الأول، وما دُمْنا إلى الآن قد فَهِمنا بعض الفهم مركز الرجل في القُرى، فليس بعسير علينا إذن أن نفهم بعضَ الفهم أيضًا مركزَ المرأة!
نرى من الواجب علينا قبل أن نبدأ في الحديث عن المرأة في الريف، أن نُسجل لها في هذه البداءة حسنةً هي خير حسناتها، وفخرًا هو خير فَخار في جهادنا النِّسوي؛ ذلك هي أنها خير ساعد لرَجلها وأحسن مُعِين لشريكها، كأنها تفهم حق الفهم مركز المرأة بإزاء الرجل، وواجبات الزوج حيال زوجها، وكأنها تقدِّر حق التقدير معنى الشركة الزوجية، ومعنى التعاقُد الروحي الذي هو خير ما نريده نحن أنصارَ المرأة.
المرأة القروية على جانبٍ كبير من النشاط الحي العملي، ومن الوفاء لزوجها ومشاركتها إيَّاه في عمله مشاركةً فعلية؛ فهي تخرج معه سافرة الوجه أمام كل الرجال، لا تتحرَّج ولا تتقنَّع بقناع قد يحجُب وجهها وقد لا يحجُب سوءتها، تخرج معه إلى الغيط أو إلى الحقل وتسحب معه مواشيَه وحميره وأغنامه، ترعاها في الحقول والمراعي، وتسقيها من التُّرع، وتقوم بأكلها وبحاجاتها جميعًا، تقف بجانبه في الغيط تُساعده في عمله، وقد تحمل الفأس مِثله وتَفلَح بها الأرض أيام الغِراس، وقد تسهر بجانبه ليلًا وتكشف عن ساقَيها وتُشمر عن سواعدها وتروي الأرض، وقد تُمسك هي المِحراث بجَلَد كريم وصبر جميل، أو تحمل الردم والسباخ مع الرجل، تجلس على النورج أيام الدراس ولا تخشى على نفسها هجير الحَر وقت الظهيرة، ولا تُشفِق على وجهها السافر من أن تَلفحه الشمس أو يسفعه التراب، وعند الحصاد تراها خير مُعِين لزوجها، وأحيانًا تجدها موفَّقة عليه في عمله وأشدَّ منه نشاطًا وتوفيقًا؛ ففي أيام جني القطن، وهو موسم الفلَّاح، تجدها جنبًا لجنب معه، مشمِّرةً عن ملابسها، يجري النشاط في دمها فيزيدها نُضرةً وجمالًا تحت الشمس المُحرِقة، لا تكلُّ عن العمل، ولا تتبرَّم من الكد، ولا تشكو من التعب، ولا تتأذَّى من الشمس ولا من الشوك المبثوث وسط الزرع بكثرة.
في كل هذه المواقف من العمل ترى المرأة جنبًا لجنب مع الرجل، سافرةً كاشفة عن وجهها لكل رجل في الغيط أو في الطُّرق العامة أو في دارها؛ فهي لا تعرف للقناع أو للحجاب سبيلًا أو حاجةً، فقناعها هو عفافها، وحجابها هو شرفها، هو ثقتها بنفسها وإيمانها بطُهْرها، ثقةً تُهيمن على كل ملَكاتها، وإيمانًا يتغلغل في كل أعضائها. وماذا يُجدي القناع للمقنَّعات إذا كان وراءه نفسٌ تلعب بها الأهواء المُنكَرة الخبيثة، ووجهٌ تُحملق فيه عينان برَّاقتان حائرتان يكشفان عن غرضٍ سافل، وينمَّان عن هوًى مُجرِم، ويُترجمان عن عُهرٍ مكتوم واستعدادٍ محبوس للشهوات الوضيعة؟ لماذا تلجأ إلى ذلك القناع وهي ترى في نفسها قدرةً كافية لأن تجلس مع الرجل وتُحادثه وتُعامله وتُسايره مُحتفظةً بجمالها وبعفافها وبشرفها، مُعتبرةً إيَّاه أخاها لا خصمها؟ لا نحسب إلا أن القناع على النقيض يزيد في الإغراء وفي الفتنة، ويُساعد على التهتُّك وعلى الفساد الخُلقي وعلى الغواية. ولقد أذكُر هنا قول المرحوم قاسم أمين في هذا المعنى: «من ألزمِ لوازم الحجاب أنه يهيِّئ الذهن في الرجال والنساء معًا لتخيُّل الشهوة بمجرد النظر أو سماع الصوت.» وقال أيضًا: «لا ريب في أن استلفات الذهن إلى اختلاف الصنف من أشد العوامل في إثارة الشهوة.»
وكل هذا متَّفِق وطبيعةَ الناس وبديهة العقل والمنطق؛ فكلَّما اعتَدْنا على شيء ألِفْناه وأصبح لدينا أمرًا عاديًّا، لا نأبَه له كثيرًا، وكلما بَعُد عنَّا شيءٌ وحيلَ بيننا وبين معرفته ورؤيته، كلما ازداد لهفنا عليه وتقصِّيه؛ والقناع إذن عاملٌ كبير على جعل المرأة مُغْريةً للرجل، وقد يُتَّخذ في كثير من الأحيان عند كثير من النساء للغواية وللفتنة وللتجميل، وقد يُتَّخذ ستارًا لبعضهن يرتكبن من ورائه ما تسوِّل لهن نفوسهن، وما يشاء لهنَّ الهوى، بعيدات عن الأنظار وعن الأقاويل، مؤمنات بأنهن في مُنعزَل عن الكاشحين والعُذال وعن الشبهات.
من الاحتقار للشرف أي احتقار، ومن الزِّراية بمعنى العفة أي زراية، أن تكون هذه القطعة السوداء أو البيضاء من القماش أو الحرير الشفَّاف هي ضمان هذا الشرف، وهي الحارس على هذه العفة دون أي اعتبار للوازع الخُلقي ولوحي الضمير وضابط القلب!
إذا كان السُّفور مَدعاة إلى تدهوُر الخلق كما يريد أن يقول بعضُ الجامدين الذين لا يعرفون في الحياة إلا «لا»، فلماذا تكثُر حوادث السطو على الأعراض في المدن عنها في الريف، والنساءُ في الأولى معظمهن، وخصوصًا الطبقة الوسطى، مُتحجبات مُتقنعات بهذا الستار الصفيق، وبهذا «الحارس القوي الأمين»؟
ليس السفور هو الذي يُفسِد الخلق أيها الجامدون، وإنما هو سوء التربية الحقَّة الكاملة الذي يَخرق كلَّ حجاب، ويفتح على المرأة كلَّ باب من الفساد كما قال بطل الدعوة النسائية المرحوم قاسم أمين.
تخرج المرأة الريفية سافرةً كما قلنا، ومع ذلك لا يحدِّث شابٌّ نفسه أن ينظر إليها نظرةً خبيثة، ولا هي تُقربه منها وتُغْريه وتُبادِله الغمز واللمز تحت ستار شفَّاف بمَعزل عن الأنظار؛ لأن كلًّا منهما يرى في الثاني أخاه كلَّ يوم، فلا حاجة من التغامز والاستشفاف والبحث عن مواضع الجمال وأماكن السحر والفتنة والإغراء، ومع كل هذا جميعًا فليس السفور مُطلَقًا بباعث على الغواية والخضوع لسلطان الجمال؛ فليس أسباب الفتنة ما يبدو من أعضاء المرأة الظاهرة كما يقول المرحوم قاسم أمين، بل من أهم أسبابها ما يصدُر عنها من الحركات في أثناء مشيها، وما يبدو من الأفاعيل التي تُرشِد عمَّا في نفسها.
وكم نأمل نحن أنصارَ المرأة أن نرى كل نسائنا مِثل المرأة القروية، يُسفِرن عن وجوههن ويمزِّقن الذي يُسمونه حجابًا، ويخرُجن إلى العالم وإلى الأنظار وإلى الحياة ليبعثن في الجو المصري القوةَ والحركة والنور والجمال والخير، وليُعطِّرنه بوُرود الحق وأزاهير القداسة والجمال والسحر والفتنة. لقد حان الحين بأن نعيش في صراحة وشجاعة وفي نورٍ بعد أن سئمنا وعِفْنا العيش في الغموض والجبن والظلام! نريد أن تخرج المرأة المصرية من مَحبسها المُظلِم وعالمها الضيِّق إلى الفضاء الواسع الحر؛ لتعرف مركزها، وتُقدر واجباتها، وتعمل مع الرجل في إسعاده وهناءته ومشاطرته البؤس والنُّعمى على السواء، وتُشاركه في العمل على خدمة البلاد وعلى سعادة الإنسانية جميعًا، وتأخذ نصيبها معه من الواجب حيال الإصلاح الوطني والبعث القومي. نريد أن تدخل ميدان العمل والإنتاج متسلِّحةً بمواهبها النسوية الراقية، وبقدرتها على تجميل الوجود للرجل، وعلى بعث القوة والنشاط في نواحي العمل والإنتاج المختلفة. نريد أن نُحسَّ بأثر «رسالة المرأة» في الرجل وفي الحياة، وأن نخضع لإلهام المرأة ونعمل بوحيها! كم نتمنَّى ونأمل أن نرى منَّا نساءً يبعثن بإلهامهن وبجمالهن وبسِرِّهن عظَمةَ العُظماء وفلسفة الفلاسفة وأدب الأدباء واختراع المُخترِعين، ويخلقن بهذا الإلهام العالي وبهذا الإيحاء القدسي ما خلقت نساء أوروبا وأمريكا من أمثال «ماركوني»، الذي لم يخترع تليفونه اللاسلكي إلا حينما أقعدته كلُّ السُّبل عن الاتصال بحبيبته، ففكَّر في خلق هذا التليفون اللاسلكي الماركوني ليُرضيَ به حاجة نفسه من حبيبته، قبل أن يفكِّر أن يُرضيَ به حاجة الإنسانية جميعًا من نفعه واستخدامه! نريد إذن أن يبرُز نساؤنا إلى الوجود الحي، ويقُمْن برسالتهن الكبرى، ويتولَّين عمليةَ البعث والخلق!
كم هو جميل عندما ترى قُبَيل الغروب جماعات النساء كسِربِ الطيور حاملاتٍ جرَّاتهن من الفَخار في عُجبٍ وتِيه، متوجِّهات إلى التُّرع، متحدِّثاتٍ في طريقهن بأعذب الأحاديث، وأين عذوبة الحديث في خير من النساء؟
تمشي تلك النساء سافرات الوجوه في حشمة وجلال، مُبتسماتٍ في عفَّة وكمال، تتسلَّل أشعة الشمس الذهبية الوردية الغاربة بين سعف النخيل وأوراق الصَّفصاف المتدلِّي لتقعَ على وجوههن النضِرة الجميلة، فتُكسِبها حُمْرة الشمس الوردية جمالًا؛ لتعوِّضها بذلك الجمال عن نضرة النعيم وترَف الغِنى. هذه الوجوه النضِرة الجميلة الناعمة تراها في بساطة جمالها وعفو طبيعتها لا تلجأ إلى مسحوقات الكيميا ولا أصباغ المدنية، بل هي الجمال كما أراد الله أن نُحبَّه ونعشقه فيه، لم تُفسِده يد الإنسان، ولم تُلوثه أصباغ الصناعة، جمال الله لا جمال الإنسان!
ونُحبُّ أن نقول بهذه المناسبة ونقرِّر حقيقةً لا نشكُّ فيها، هي أن المرأة الريفية من جهة «النسائية أو الأنوثة» تختلف كثيرًا عن أختها المدنية؛ فالأنوثة في الثانية أكثر حياةً وقوة، وأليَن رخاوةً ونعومةً، وأشد إغراءً وفتنةً وسحرًا؛ وذلك لأنها تُحسِن طُرُق الإغراء والفتنة في حديثها وفي حركتها وفي نظراتها، بخلاف أختها الريفية؛ فإن جمالها ينقصه «الحيوية»، وتنقصه أيضًا القدرة النسائية على البعث والخلق والإيقاظ، وهي إذا كانت جميلة لا تُحسِن كثيرًا أن تجعل من جمالها سحرًا وفتنةً للقلوب، وغذاءً للعقول، ووحيًا للأفكار، كما قد تفعل جميلات المدن الفاتنات!
سبق أن قلنا إن المرأة الريفية خير شريك للرجل بكل ما تسعه معاني الشركة، ولكن ماذا تعمل غير عملها العملي في الغيط؟
يكاد يكون برنامج عملها اليومي المَنزلي كالآتي: لا تلبث أن تصحوَ من نومها حتى تحتلب جاموستها أو بقرتها وتُزيل ما تحتها، ثم تكنس دارها وتخرج حاملةً جرَّتها لتملأها من التُّرعة، وإن كان لديها فراخ أو ما إليها من بط وإوَز تقدِّم لها طعامها. وإذا لم يحضُر زوجها في الغداء حملت سلَّتها وبها غداؤه وتوجَّهت إليه في الغيط تقدِّمه له. وعند الغروب تخرج كما قلنا إلى التُّرعة تغسل أطباقها أو تملأ جرَّتها، ثم تعود لتطبخ للعشاء إذا كان لديها ما تطبخه، ثم ينقضي النهار ويعود إليها زوجها. وطبعًا إن كان لديها عمل في الغيط مع زوجها تُشاركه فيه.
هذه الأعمال البسيطة أبلَغ حدود البساطة في حياة المرأة المنزلية هي كل ما تعمله المرأة تقريبًا في يومها؛ لأنه من الطبيعي ليس لها منزل كما نفهمه يحتاج إلى التنسيق والعمل الدقيق الطويل. وفي فترات راحتها تجلس إلى جاراتها في الحارة أو في الدار يتبادلن الأحاديث المختلفة، والحديث شُجون كما يقولون؛ فيَذكُرن فلانة التي ستتزوَّج، والأخرى التي طُلِّقت، والثالثة التي أحضر لها زوجها جلابيةً جديدة أو خَلخالًا ثقيل الوزن، والرابعة التي ضربها زوجها ضربًا مبرِّحًا لأنها لم تَبِع شيئًا مما عندها ليشتريَ به دخانًا أو شايًا. وهذه الأحاديث المختلفة لا تخلو دائمًا من نميمة أو اغتياب، وهذه هي أسوأ ظاهرة خُلقية في المرأة الريفية؛ كثيرة الحديث، كثيرة الشجار؛ لأن حدود أعمالها في المنزل قليلة، ودائرتها ضيقة؛ ففي أي شيء تقضي فراغها إذا لم يكن لها عمل في الغيط؟ في الحديث حيث تجوز به المحبوب والمكروه والمألوف وغير المألوف. وهي إذا لم تجد لها عملًا تعمله أخذت تقطع الوقت بهذه الأحاديث الطويلة الفارغة، أو أخذت «تعدِّد» إن كانت محزونة، وتلك تكاد تكون عادةً شاملة في ريفنا كما يقول أستاذي الجليل الدكتور طه حسين!
ظهر لنا إلى الآن أن المرأة الريفية خير ما تكون وفاءً واحترامًا لرَجلها، تُساهمه معه في أعماله العملية، وتأخذ نصيبها معه في السعي حول رزقهم وحياتهم، ولكن ما لون حياتها المنزلية وأعمالها الداخلية التي هي صُلْب واجباتها وأولاها بالعناية والاهتمام؟! كيف تُدير منزلها، وكيف تَسُوس مملكتها لو صحَّ أن يكون لها مملكة؟ كيف تقوم بتربية أولادها، أو بعبارةٍ أدقَّ وأهم كيف تقوم بوظيفتها الكبرى؟
تعيش المرأة في القرى في منزلها عيشةً مُهمَلةً قَذِرة بأوسع معنًى تتصوَّره من الإهمال والقذارة؛ فهي كما تَعلَم جاهلةٌ جهلًا فاحشًا، فلا نَعجَب كثيرًا إذا رأيناها في منزلها صورةً صادقة من جهلها وغبائها، حتى لو أن نابليون لو كان قد رآها في دارها وحياتها لَأصدرَ مرسومًا رسميًّا بإنكار وإبطال ما قاله عن المرأة، هذا القول الخالد: «المرأة التي تهزُّ المَهد بيمينها، تهزُّ العالم بيسارها.» نعم! كِدنا نيئس نحن أنصارَ المرأة المصرية من النجاح في ناحيتنا النسوية، كلما رأينا العدد الأكبر والغالبية العظمى بل الساحقة من نسائنا على هذا الجانب المُخجِل من الجهل ومن الإهمال، ولكننا نُعلل النفس بالآمال، ولا نريد أن ندع لليأس سبيلًا إلى قلوبنا؛ لأنَّا نؤمن بسُنَّة التطور وبقانون الحياة، ولو أن تحقيق هذه الآمال في ريفنا قد يكون لا يزال بعيدًا مستكِنًّا في بطون الغيب. وبهذه المناسبة نوجِّه إلى القائمات بالنهضة النسوية، وبخاصة إلى الزعيمة الكبيرة السيدة هدى هانم شعراوي، رجاءً مِلؤه محض الإخلاص وحب الإصلاح والنهوض الاجتماعي والتعليمي والأدبي لنسائنا عامةً، أن يوجِّهن جانبًا كبيرًا من عنايتهن وجهودهن المشكورة المحمودة إلى القرى وإلى الريف المصري؛ فهناك يَجثم الخطر الوبيل على تقدُّمنا، وهناك يَربِض الداء الكمين الذي يهدِّد نهضتنا ويعوقها عن الإزهار والنمو!
حَمِدنا للمرأة الريفية مشاركتها للرجل في أعماله الخارجية، وأُعجِبنا بنشاطها ووفائها له أبلغ حدود الإعجاب، ولكن لا يمكننا أن ننسى أو نغفل أن تلك الطاقة الجميلة من الزَّهر يتخلَّل وُرودَها وأزهارها السمُّ والشوك!
تصوِّري معي أيتها القارئة وأيها القارئ امرأةً لا تزال يدها ملوَّثة بأوحال البهائم والمواشي، ثم تضنُّ عليها بالغسيل من الكسل أو من قلة الماء، ولا تأنف أن تشرع مع كل ذلك في عجين خبزها أو عمل جبنها أو حليب لبنها. تصوَّروا امرأةً قلَّما تعرف أن تَحُوك جلابيتها، أو أن تغسلها غسيلًا ترتاح إليه العين وتميل إليه النفس. تصوَّروا امرأةً لا تفهم عن سياسة دارها وتدبيرها أكثر مما تفهم من زريبة مواشيها. تصوَّروا امرأةً لا تعرف كيف تكون أمًّا مطلقًا بكل ما تسعه هذه اللفظة الكريمة المقدَّسة، تترك أطفالها في فسحة الدار أو في الحارة يعبثون ويتمرَّغون في التراب وعلى الأكوام، حيث هناك مَجمع قاذورات القرية وأوحالها من دُورها المختلفة. ولقد تُلقي الأم طفلها أحيانًا في القاعة أو في فسحة الدار ينتحب من البكاء والعويل، وتقفز عليه الكتاكيت والبط والفراخ تعبث بعينَيه وتلعب على وجهه، ثم تذهب هي لتقضيَ حاجة لها أو تجلس إلى جماعة من النساء ينَلْن الناس بالحديث والغِيبة، وأما الطفل فلْيَمُت أو فلْيَعِش «وهو وبخته». وكم من الأطفال عندنا كانوا يكونون نابليون أو الإسكندر أو فولتير لو عُنِي بتعليمهم، ولو عُنِيت بهم أمهاتهم في عهود الطفولة، وتعهَّدتهم في هذه السِّن التي يتأثر بها الطفل بما تلقِّنه له وما توجِّهه إليه وتُعامله به أمه؛ فليس من أحد على ما نظنُّ يُنكِر أثر الأم في ابنها، وهذا نابليون يحدِّثنا عن أمه، وعن أنها الأثر الأول والعامل الأقوى في عظمته وفيما صار إليه اسمه وصيته.
ولكن هل ننتظر من أمهاتنا وخصوصًا في الريف ذلك الأثر وهذا الواجب؟
كِدنا نيئس حقًّا أيها القائمات بشئون المرأة، ولو أننا نؤمن بأن لا يأس مع الحياة كما قال المرحوم مصطفى كامل! هنا يَجثم مرضٌ وبيل وداءٌ خطير كما قلنا يهدِّد كِياننا القومي وأُسرتنا وأطفالنا وناشئتنا، نخشى أن يَفتك بمجموعنا ما لم تمتدَّ إليه يد الإصلاح والعلاج؛ فوَجِّهن عنايتكن قبل كل شيء إلى موضع الداء الكمين الخطِر هنا، إلى المرأة القروية التي تحيا حياةً كلها جور وإهمال وجهل وقذارة، نخجل ونبكي عليها ومن أجلها، فيا رجالات مصر ويا أنصار ونصيرات المرأة! عطفًا ولو قليلًا على القرى؛ فهناك يكمُن الداء، وهناك يجثم الخطر وينتشر الوباء؛ تلك وصمةٌ كبيرة في جبين فخارنا القومي لن يرضاها نصيرٌ للمرأة، فاعملوا يا أنصار المرأة على إزالتها لتمزِّقوا صحيفةَ عارٍ وخِزي في سِجلِّ نهوضنا القومي وإصلاحنا الشامل وإحيائنا المصري!
•••
نريد الآن بعد أن كشَفنا عن ناحية من نواحي حياة المرأة الريفية أن نصوِّر تلك الناحية الداخلية البَحتة للمرأة في الريف، وهي الحياة القروية الزوجية.
نظنُّ أنه قد أصبح يسيرًا علينا إلى حدٍّ ما أن نتصوَّر تلك الحياة الداخلية، ما دُمْنا وقَفنا إلى حدٍّ ما أيضًا على حياة الرجل ونفسيَّته ومركز المرأة وحياتها في القرى. وهذه الحياة الداخلية النفسية قد تصحُّ أن تكون المِقياس الذي يُساعدنا على تصوير وفهم الحياة القروية عامةً، وبخاصةٍ الداخلية منها، تصويرًا وفهمًا أقرب إلى الصدق؛ وبهذا يُمكِننا أن نستجمع ونحصِّل فكرةً ما عن هذا الجانب من الحياة المصرية، المجهول أو الغامض لمن لا يعرفه أو لا يريد أن يعرفه.
وإلا فأين توجد حياةٌ أغزر مادةً للكاتب وأوسع دائرةً لخيال المصوِّر وتأمُّلات الفنَّان، من حياةٍ تَجمَع الرجل والمرأة تحت سقف واحد، يعكس كلٌّ منهما على الآخَر خُلُقه وذهنه ومذاهبه، ويتبادلان الأخذ والعطاء، وحيث تبدو فيها حسنةُ كلٍّ منهما وسوءته بارزةً للناقد، وواضحةً جليَّة لريشة المصوِّر؟
ذكَرنا حين تحدَّثنا عن الرجل في الريف أنه لا يكاد يفقه أو يشعر بمعنى «الحب» الذي قد نفقهه هنا ونشعر به ونقدِّره، ونريد الآن هنا أن نُشرِك المرأة أيضًا في هذه الصفة أو هذه النفسية الشعورية؛ فهي بعيدةٌ كل البُعد عن حياة «الحب»، غريبة عن الشعور به شعورًا ساميًا نبيلًا يُحرك عواطفها بأنبل المشاعر وأسمى المعاني، ويرقِّق خُلُقها، ويهذِّب كائنها، ويملأ وجودها حياةً وقوةً ونورًا، هي كأخيها الرجل لا تفهم من الحب إلا ذلك الضرب الخبيث من الاستغواء الجنسي، وإلا هذا النوع الحيواني من أسفل دركات الحب؛ فهذا القلب الذي يسكن بين جنبَيها لا يخفق بالحب السامي الخالد في نُبْله وفي عليائه، ولا يكون رسولَ رحمة بالناس أو طبيبَ أدواء الرجال، حتى لو استفحل الداء وعَظُم المُصاب.
يقول «جوت» فخر الألمان: «ما قيمة العالم بأسْره في نظر القلب إذا ما خلا من نعمة الحب؟» ولكن المرأة الريفية المصرية بخاصةٍ لا تقوم بوظيفة قلبها الذي مُنِح لها ليَخفق وليَطرب وليُحب؛ ولذلك فقيمة العالم عندها شيءٌ كَلَا شيء، وعدمٌ كوجود. وإذا كانت حياتها هكذا من الجمود الروحي، ومن الموت الشعوري، ومن البلادة في الحس وفي العاطفة، فهل نتصوَّر أن يكون لها حياةٌ روحية بجانب تلك الحياة المادية الكثيفة، تعيش فيها بقلبها ومن أجل قلبها لتُجمل وجودها وتزيد حياتها خِصبًا وإنتاجًا ونورًا؟ وماذا تكون تلك الحياة التي يحياها الناس لو لم تكُن خِصبةً مُنتِجة مُنيرة؟ وكيف لنا أن نصبر على مضض حياة لا نشعر فيها بحب يخفِّف عنَّا آلامَ تلك المرحلة من العمر، ويغذو عواطفنا وميولنا وذهننا، ويخلق عبقريتنا ونبوغنا، ويوقظ خامد شعورنا، ويُنسينا مرارة الزمن وقسوته وهموم العيش ونكده، ويجعلنا نهزأ بالشَّوك ونسخر من الألم ونتلذذ بالعذاب ونستحلي العَلقم والصاب؟ وكيف لنا أن نُعانيَ من هذه الحياة ما نُعاني، ونرضى بنكدها وبظلمها وبشقائها صابرين مُرغَمين، ثم لا نُحسَّ بأن لنا قلوبًا في حاجة إلى أن تخفق وإلى أن تُحبَّ، وخلقها الله لتنموَ وتنهلَ من نَبْع الحب، وتزدهر وتحيا في رياض العشق، فحَجْرنا عليها إنما هو تعطيل لوظيفتها، وجمود وكُفران بنِعَم الخالق الأعظم؟ ومتى كان الحب كفرًا والعشق البريء جريمةً في أسفار الله المقدَّسة وفي شرائع العدالة؟
ولمَن إذن خُلِق نور القمر، وندى الأزهار، وعبير الرياحين، وظلال الشجر، وزقزقة العصافير، ونَوح الحَمام، وغناء البلابل، ورجرجة الماء، ومُداعَبة النسيم؛ إذا لم يكُن للحب، وإذا لم يكُن للأخوَين الحبيبين، الرجل والمرأة؟
إذا لم تكن حياتنا التي نحياها حياة قلوبنا وعواطفنا وشعورنا وأرواحنا، فإنا لنؤثِر أن تُنتزَع منَّا هذه القلوب التي لا تخفق ولا تحب؛ حتى لا نشعر بوجودها بين جنوبنا معطَّلةً خامدة ذليلة أسيرة، وحتى لا نُطأطئ الرأس ذلةً وصغارًا أمام ظلال الشجر ونور القمر ورجرجة الماء!
فلْتؤخَذ منَّا طائعين راضين إن عجَزَت عن القيام بوظيفتها وواجبها؛ فلن نريدها أبدًا لعب الأطفال ولا عرائس الصِّبية، ولن نذرف عليها دمعة!
ونعود الآن إلى موضوعنا، إذا كان هذا هو حياة الرجل والمرأة في الريف من ناحية العواطف والشعور، أو بعبارةٍ أدق من الناحية الروحية، فهل ننتظر ونتصور أن تكون الحياة العائلية الريفية مدعَّمة بالحب، قائمة على التوافق والرضا من ناحية الجنسَين؟ ولكن كيف لنا أن نسأل هذا السؤال وننتظر هذا الجواب ونحن نرى أن معنى «الزواج» في مصر عامةً، وفي القُرى بخاصة، لا يُفهَم منه أكثر من أنه وسيلة، أو بمعنًى أصحَّ مَعمل لتفريخ النَّسل كمعامل الكتاكيت؛ فالزوج أو الزوجة إذا تعطَّلَ هذا المعمل عندهما أو أبطأ في التفريخ والتخريج صبَّا اللعنات على الزواج، واستغاثَا لله وللأولياء وللعرَّافين وللدجَّالين أن ينتظم هذا «المعمل»، وأن يُعاود حركته وإنتاجه، حتى أصبح الحرص على إنتاج هذه «المعامل» شهوةً مُتحكمة مستبدَّة بأمرها لدى الكثير جدًّا من أبناء مصر المُتزوجين، وبخاصةٍ الريفيُّون والريفيات منهم؟
ومن أشدِّ المصائب والنكبات التي تتألب على هذا الفلَّاح أن تجد له ما لا يقلُّ عن خمسة وستة أولاد، وقد يبلغون أحيانًا ثلاثة عشر أو أربعة عشر، ومع ذلك قد لا تجد في بعض الأوقات رغيفًا في داره؛ فإذا حدَّثته بوجوب تحديد النسل بحسب الرأي الطبي جلبًا لمنفعته ودرءًا للشقاء وللبؤس عنه، لوى وجهه عنك، وقد يتَّهمك في دينك أو في عقلك وشعورك!
لا يفهم كثير عن الزواج في مصر إلا أنه وسيلة إلى إشباع الشهوات الجسمية، وإرضاء حاجات البدن والحس، وإلا أنه طريقة من طُرُق الاستثمار والاستغلال والتجارة بالفتيات الطاهرات البريئات من أساليب ومن ظلم وتحكُّم الآباء والأمهات!
ما العلاقة بين المال والقلوب والمستقبَل أيها الآباء المُجرِمون في حقوق أولادكم؟ وما معنى زواج تزيِّفون به ما تُسمونه وثيقة الزواج إفكًا وزورًا دون أن يكون للزوجَين وحدهما رأي في هذا الزواج؟ وما معنى زواج تُزَف فيه مجهولة إلى مجهول، وتُساق فيه الفتاة البريئة سوقَ الأنعام إلى من تجهله وقد تُبغِضه؟
ومن المُدهِش حقًّا أن تجد الناس هنا في مصر، حتى في الريف، إذا شاءوا أن يشتروا حُزمةً من الفجل أو الكرَّاث، أو أفة من اللحم أو أي صنف مما تعوَّدوا أن يأكلوه أو يشربوه لإشباع بطونهم وتغذية جسومهم، حَرَصوا جِدَّ الحِرص في انتقائه ونقده بين الرفض والقَبول، وتغليب الذوق الفني في الأكل أو في الشرب أخيرًا، ثم أخذوا يُساومون البائع ويُجادلون التاجر ليغلبوه على رأيهم، ولكن إذا شرعوا في الزواج، مسألة المسائل ومشكلة المشاكل ومِفتاح المستقبل الغامض، اندفعوا كالمسعورين أو كالعُميِ الذين لا يُبصِرون، دون أن يحقِّقوا وينقدوا كما كانوا يُحققون وينقدون حين كانوا يبتاعون الفجل أو البقول، فكأنَّ بطونهم أغلى لديهم وأسمى من قلوبهم ومن أرواحهم، وكأن الحاضر لديهم أولى بالعناية من المستقبل، وكأن الزوجة أو الزوج لا يتساويان في السوق مع الكراث أو البطاطس. وا خجلاه، بل وا حسرتاه!
ولقد يحضُرني هنا قول المُصلِح الأول المرحوم قاسم أمين في هذا المعنى، هذا القول المُقتطَع من قلبه والمُنبعِث من روحه، قال رحمه الله: «أرى الواحد من عامة الناس لا يرضى أن يشتريَ خروفًا أو جحشًا قبل أن يراه ويدقِّق النظر في أوصافه، ويكون في أمن من ظهور عيب فيه، وهذا الإنسان العاقل نفسه يُقدِم على الزواج بخفَّة وطيش يَحار أمامهما الفكر.»
وإذا كانت هذه الحال وهذه الفكرة ستدوم، فستشتدُّ أزمة الزواج عندنا تعقيدًا وقحطًا، ما دام هذا الزواج التِّجاري يهدِّد العائلات ويبعث الفساد في البنين والبنات ويقوِّض الأسرة. وكم أُحبُّ هنا أن أذكُر قول «ماكس نوردو» في هذا الموضوع، قال: «متى بطل النظر إلى المصالح المادية في أمر الزواج، وعادت المرأة مُختارةً في ميلها غير مُضطرَّة إلى بيع نفسها، وأصبح الرجال يتنافسون على إحرازِ ودِّها بذواتهم لا بأموالهم ووظائفهم، فحينئذٍ يصبح الزواج حقيقةً نافعة، لا أكذوبةً فاضحة كما نُشاهد في عصرنا هذا، وهنالك تُرفرف روح الطبيعة السامية على الزوجَين، وتُبارَك كل قُبلة من قُبلاتهما، فيُوضَع الولد مَحوطًا بهالةٍ من حب أبوَيه، وتكون هدية يوم ميلاده تلك العافية التي يورثها ذريتَهما زوجان كلاهما مُستجمع من صفات جنسه ما يحبِّب فيه قرينه.»
ونريد الآن بعد هذا أن نتحدَّث عن الزواج في الريف لنُكمِل إلى حدٍّ ما «الصورة الريفية»، ولكن إذا أمكننا أن نقف على «الحب» عند الرجل والمرأة على السواء في ريفنا حين تحدَّثنا عن هذا قبل الآن، فيُمكِننا بكل يُسْر وسهولة أن نتصوَّر وأن نفهم لونَ الزواج وطريقته في الريف.
فتًى طيب وفتاةٌ بريئة لا يعرفان من أمر بعضهما شيئًا، وقد يكون كلٌّ منهما مجهولًا للآخَر كل الجهل، هذا في الشرق وهذه في الغرب، ثم يسمعان أو لا يسمعان أنهما مخطوبان، وأنهما سيصبحان زوجَين، وسيعيشان معًا تحت سقف واحد، وسيكونان عُضوَي شركة روحية أبدية، وسيصيران رأسَي أسرة.
لماذا كل هذا؟ لأن الآباء أهوَن لديهم طعنة الخنجر وضربة الرَّصاصة التي تصمُّ وتقتل، من أن يعرضوا فتاتهم لخطيبها وشريكها في الحياة وفي المستقبل، الذي هو مِلك لهما وحدهما، حتى يعرف من أمرها ولو بعض الشيء، وتعرف هي منه ولو بعض هذا البعض، ولا يزالون للآن يعدُّون هذا فجورًا دونه أي فجور، وبدعةً ليست بعدها بدعة، أتَت بها عصور المدنية المُتحذلقة المُلحدة الفاجرة، والفتى المسكين يَقبَل هذا مُضطرًّا ليوفِّر على نفسه عناء البحث.
ومن المُدهِش، بل من الاحتقار للعقول وللنهضة الكبرى ولآمال المستقبل ولبناء عهد جديد وإنشاء جيل جديد، من الاحتقار كل الاحتقار لمبدأ الحرية الفردية وللشعور بالذات وبالكرامة، أن تبقى مِثل هذه الفكرة الجامدة التعصبية وليدةَ الماضي المُظلِم، في هذا العصر المُتأهب للحياة في أجواء الحرية والنور والعدالة واحترام الشعور والعمل للمستقبل، من الاحتقار كل الاحتقار ﻟ «وحي الإصلاح» ورسالة الإحياء والبعث المصري أن تبقى هذه الفكرة سائدة في أجواء الأُسر المصرية، وبخاصةٍ الكبيرة منها، وفات هؤلاء جميعًا أنه لو سِرْنا على هذا النهج طويلًا فسنقضي عاجلًا أو آجلًا على نظام الأسرة، وسنُساعد بذلك على جعل البيوت أديارًا وصوامع للفتَيات الراهبات، أو على جعلها مسارح للَّهو الفاسد والمجون المتَّهَم، وسنُشجع الفِتيان والفتَيات على الزواج، ولكن غير الرسمي، أو بعبارةٍ أدق وأجلى، على قضاء حاجات نفوسهم وقلوبهم التي منعها عنهم الزواج الأسمى المعروف. وفيما نراه الآن أمام أعيُننا كل ساعة ما يزيد في خوفنا وقلقنا على الحياة العائلية المصرية التي نريدها مَنبعًا للسعادة ومصدرًا للنعيم والوفاء والحب! ويظهر لنا أن الآباء والأمهات لم يتَّعظوا إلى الآن بما يحدُث نتيجة هذه الفكرة الجامدة السخيفة في عصرٍ لا يتَّفق مُطلَقًا وكلمةَ الجمود أو الظلام، وأنهم لا يزالون يتجاهلون وينسَون أنه لا يمكن — كثيرًا — لفتًى أو لفتاة يحترم كلٌّ منهما نفسه، ويقدِّر مركزه وآماله ومستقبَله، أن يُقبِلا على زواجٍ أعمى مبني على الخفاء والظلام بدون أن يعرف ويفهم كلٌّ منهما الآخَر معرفةَ وفهمَ الشريكِ للشريك، ولكننا نؤمن كثيرًا بأن الأيام وبأن المستقبَل وبأن الحياة نفسها ستضطرُّهم جميعًا على العدول عن فكرتهم التي لا تتَّفق والحاضر، وستُرغِمهم على أن يسلكوا الطريق التي يجب أن يسلكها من يفهم الحياة، ومن يُدرك سُنَّة التطوُّر التي تُهيمن على العالم والتاريخ جميعًا!
ولكننا لا نريد أن نترك هذه الفرصة قبل أن نقرِّر هنا حقيقةً نؤمن بها ونحرص على إثباتها في سبيل الحق وحده، وهي أن هذه الفكرة التي تحدَّثنا عنها أثرُ أو جانبُ الجمود فيها أقل في الريف بين الطبقات الصغيرة جدًّا منه بين الأُسر الكبيرة الريفية أو المدنية؛ فلقد قلنا إن الفلَّاح، ونقصد به هنا الصغير جدًّا كما أشرنا إلى ذلك في «المقدمة»، يعمل مع المرأة والفتاة في كل نواحي العمل وهي سافرة؛ أي إنه في زواجه يكون في الغالب قد رأى زوجه، وهذا إذا كانت من قريته أو من عائلته، وإلا فلا يُمكِنه مُطلَقًا أن يراها، ولكن نحن نفترض هنا أنهما ليسَا من قرية أو بلدةٍ واحدة ولا من عائلةٍ واحدة؛ أي نفترض ونتصور الحالة التي فيها حرية اختيار الزوجَين محرَّمةٌ تحريمًا مُطلَقًا؛ فإذا كان حال الزواج هكذا فماذا يبقى إذن من معنى الزواج الذي نفهمه هنا أو الذي نتطلع إليه وننشُده؟
بعد أن يدبِّر الآباء مكيدتهم في كهف الخفاء والظلام، ويعزمون على الاعتداء والعبث بمستقبَل فتاهم أو فتاتهم، وبعد أن ينتهيَا إلى رأيٍ أخير، وبعد جريمة الاعتداء على قلبَين بريئين، بعد كل هذا وأخيرًا يَعلَم الخطيبان بخطوبتهما، فيُقابلان هذا الخبر بصمت ووُجوم، ولكن في أسًى كمين أو حزنٍ دفين، ثم يؤتى بالمأذون المُجرِم الثالث بتلك العمامة الكبيرة التي يغشُّ بها البُسطاء، والتي قد تطوي بين تلافيفها خير ما وصل إليه الناس من لؤم ونصب وكذب وتزوير، يؤتى بذلك المُحتال الذي يوهم الناس بأنه أُرسلَ من عند الله ليُبارك هذا الزواج، فيذكِّرنا بذلك «البابا» الذي أرسل رسوله ليبيع للعباد «صُكوك الغُفران» ودخول الجنَّة الموعودة، ويمحو سيئاتهم ويعفو عن خطيئاتهم، فإذا ما ذكرت هذا المُحتال الكذَّاب وذلك «البابا» النصَّاب، ذكرت قول «روسو»: «ما أكثر الوُسطاء بيني وبين الله!» يؤتى بهذا المأذون ليكتب تلك التي يُسمونها «وثيقة الزواج»، ويوهمون الناس وأنفُسهم أيضًا بأنها عَقدٌ نتج من توافُق الإرادتين ومن رضا الطرفَين المُتعاقدين، قُتِل الإنسان ما أكذَبَه وما أكفَرَه! هل هذه الورقة حقًّا هي صدى شعورهما الحق ومرآة حبهما ومظهر إرادتهما ورضاهما لهذه الحياة الجديدة المليئة بالمسئوليات الجِسام، وبالأعباء الفادحة والواجبات الكبيرة؟ هل هذه القطعة من الورق هي الرباط بين قلبَين مُتحابَّين ورُوحين مُندمجين، لإعداد عهد جديد وتحقيق آمال كبيرة؟ هل هذه الورقة هي كل ما نفهم من الزواج حتى إذا ما حبرها المأذون وشهد الشهود كان الزواج وصدق العقد، وكان عملًا قانونيًّا مشروعًا صحيحًا ممثِّلًا الإرادتَين حق التمثيل؟ ما هذا العبث بالقلوب البريئة الضعيفة أمام قوة المكر وسطوة الكذب ودولة التغرير والخِداع! ما هذا الاعتداء على أجسامٍ غضَّة طريَّة، وأرواحٍ سابحة حالمة في آمالها وفي مستقبَلها، ونفوسٍ طاهرة كريمة لم تعرف الخُبث والاحتيال، ولم تتعود بعدُ احتمالَ الأذى والصبرَ على المكروه والبلاء، والقوةَ على إساغة الكذب وتجميل النصب؟ وهكذا تُكتَب وثيقة الزواج في معمل الكذب والتزوير، وليس للخطيبَين أي شأن فيها مباشر، ثم يُعلَن للناس ويُذاع أن فلانة خُطِبت إلى فلان، وأن ليلة الزفاف يوم كذا، كأنَّ الأمر جِد لا هزل، وصدق لا كذب، وحقيقة لا تدجيل، وعدالة لا ظلم!
وبهذه المناسبة لا نجد غضاضة في أن نَجْأر برغبةٍ نؤمن بعدالتها وبوجوبها إيمانًا قويًّا مَكينًا لنُصلِح من نظام أسرتنا، بحيث يُساعد على تسهل الزواج وجعله وسيلةً إلى الحب وإلى السعادة، وتلك الرغبة القوية هي أن ننظر إلى الزواج كأنه عقدٌ مدني كأي عقد، ونُتمَّه بكل إجراءات العقود المدنية، فيتم مِثلها بالإيجاب والقبول، وإذن فنستغني عن هذا العدد الوفير من المآذين، ونستغني عن وساطتهم، ونأمن الطُّرق التي يتفنَّنون فيها، والتي ليست من الشرف ولا من الدين الحق في شيء، ونُسهل بذلك عملية الزواج، ونضمن توافُق الإرادتَين ومعرفة الزوجين بعضهما لبعض، ونأمن تعسُّف وتجارة الآباء والأمهات بأبنائهم وبناتهم، وفي هذا خير وأمن وإصلاحٌ كثير!
والآن وبعد كل هذا، نريد أن نُصور في حدود خطتنا التي رسَمناها لأنفُسنا طريقةَ الزواج، أو بعبارةٍ أدق وأصح ليلة الزفاف في الريف عند فلَّاحنا المصري الذي نقصده، والذي نكتب هذه الرسالة في سبيله ومن أجله وحده.
في ليلة الزفاف الموعودة تُزَف العَروس إلى العريس زفافًا لا يخلو من البساطة ومن الجمال الريفي أيضًا، وقبل أن يذهبوا بها إلى دار زوجها يُنقَل عفشها عصرَ يوم الزفاف، إما على جِمال أو على «عربات الكارو»، وحول العفش ومعه تذهب جماعة من أهل العروس وأصدقائها، ويُطلِقون الرَّصاص في الجو إظهارًا لفرحهم وإعلانًا لسرورهم، والنسوة في طول الطريق يغنِّين أغنيات الريف الجميلة في بَداوتها. وبعد ذهاب العفش إلى دار العريس، وبعد الاحتفال به وزفافه، يجيء دور العروس فتملأ دارها بالنساء وبالفتَيات وبالأطفال الذين يركبون كل مَركب خشن إلى الوصول إلى العريس؛ ليرَوها في زينة زفافها وفي جمال هندامها، ولو يصل بهم الحال إلى تسلُّق الحائط والتطلُّع من ثقوب الباب أو ثغرة في الجدار أو فجوة في السقف، ولكن قد نسيت! قبل يوم «الدخلة» أو ليلة الزفاف هناك ليلةٌ أخرى لها خطرها وجلالها وعظمتها، وهي «ليلة الحنَّة» (الحناء)، حيث يخضِّبون أيدي العروس ورِجلَيها بعد اغتسالها واستحمامها، وهناك في هذه الليلة تجتمع كل فتَيات القرية وأطفالها ليتبرَّكن من حناء العروس، والفتاة الناهد التي زيَّن لها شبابها وصِباها وجمالها أن تفكِّر في الزواج تُنافس أخواتها الأخريات على «قرص» العروس في فخذها، قائلةً لها: «قرصتك في ركبتك، حصلتك في جمعتك.» ظنًّا منها أو أملًا لها بأنها ستصبح قريبًا عروسًا مِثلها؛ حيث تستمتع بشبابها وتحظى برجلها بُغيتها في حياتها، وعندما تُعَد العروس للخروج إلى دار زوجها ووداع دار أبيها التي ترعرعت فيها طفلةً ثم فتاةً وصبيَّةً في أحضان الشباب الناعمة الدافئة، فإما أن تُحمَل على جملٍ يُغطونه بملاءةٍ حمراء في شكل خيمة أو مثلَّث وتجلس هي فيه، ثم يزيِّنون رأس الجمل ورأس المثلَّث ببعض الورود الحمراء إن وُجِدت، ثم بسعف النخيل المُتعالي المُتراوح حول العروس وفوقها، وهي في هذه الحال مع بعض أهلها أو صديقاتها، ثم يخرج وراءها على جِمالٍ أخرى أو عربات — لو وُجِدت، ولو كان أصحاب العُرس ذوي يسار قليلًا — بعضُ نساء القرية وفتَياتها زميلاتها في عهود الشباب المَرِحة اللاهية، ببُلَغهم الصفراء الجديدة، وجلاليبهم السوداء الشفَّافة، ومن تحتها الجلاليب الحمراء أو الصفراء، وقبل أن تخرج العروس من دارها إلى دار زوجها يقف أحد إخوانها أو أقاربها على بابها، ولا يُسلمها لأحدٍ ما حتى يأخذ في يده ما يُسمونه «البلصة»، ولا يُمكِنني وأنا أخطُّ الآن هذه السطور أن أجزم أو أنكر استمرار هذه العادة القديمة في ريفنا، وبين المراتب الدنيا من مراتب فلَّاحنا، ولكني شاهَدتُها بعيني في بعض أفراح هذا الصنف من الفلَّاح الذي أقصده، والذي أذيع هذه الرسالة من أجله وحده، وأذكُر أني قرأت للمرحوم فتحي زغلول باشا وصفًا جميلًا للأفراح الريفية، وذكرًا خاصًّا لهذه العادة التي أذكُرها هنا وأصفها؛ فمن المُدهِش إذن حقًّا أن تبقى مثل هذه العادة المستنكَرة في أفراحنا، وألا تكفيَ المدة بين كتابة فتحي زغلول وبين عصرنا هذا لمحو وسحق مِثل هذه العادة الريفية، ولكنَّا نأمل أن تنقرض بفعل السنين والزمن!
هذا مَوكب العروس، أما العريس فمن الصعب جدًّا أن تجده أو تراه يوم العُرس، وبخاصة في عصر اليوم أو في مغربه، فهو يُحاول أن يُخفيَ نفسه عن العيون، وقبل أسبوع أو أسبوعين لليلة الزفاف يدعوه أحد أصدقائه الخالصين المقرَّبين إليه إلى داره للاستحمام والاغتسال عنده، فإذا كانت ليلة الزفاف الموعودة أخذ هذا الصديق الداعي ملابسَ العريس الجديدة من عصر اليوم تقريبًا، وفي ساعة الاستحمام يكون أهل القرية جميعًا قد عَلِموا بذلك، فيذهبون إلى دار ذلك الصديق الداعي ويجلسون مُنتظرين خروج صاحبنا العريس، فإذا ما انتهى من عمله وانتهى الحلَّاق من تزيينه وتجميله، خرجوا به وسطهم رافعين الشموع والمشاعل، إما على أيديهم، وإما على رءوس عِصيِّهم الغليظة، وإما في «شمعدانات» بسيطة أعَدُّوها لذلك، وصاحبُنا العريس في الوسط أو «واسطة العِقد» كما يقول ابن الرومي، يحمل منديلًا أبيض في يده يسدُّ به فمه وأنفه، وحوالَيه عشيرته وأهله وأصدقاؤه، مخضَّب اليدَين بالحناء، وفي هذا الجمع العديد المؤلف من الرجال والنساء يؤتى ببعض أصدقائه الذين يُحسِنون فن الغناء، والذين وهبهم الله نعمة الصوت الجميل، فيتناوبون معًا غناء «المواويل» التي تدور جميعًا حول الغرام والمُغرَمين، وعذاب الحب وشكايات المحِبين، ودلال ذوات الجمال ومالكات القلوب، واستبدادهن وعبثهن بما يمتلكن من قلوب الرجال، وبُخْل الجميلات بجمالهن، وقلوبهن التي لا تعرف إلى الرحمة بعُشَّاقها سبيلًا، وبين الحين والحين تُطلَق البنادق في الجو بعد الفراغ من إلقاء المواويل، ثم تنثُر النساء بدرات المِلح على الرجال في الموكب الزاخر خوفًا من الحسد كما أظن، ثم يستمر الموكب على هذا النهج، حتى إذا وصل أو اقترب من دار العريس ومعه أصدقاؤه دفعوه بقوة وجرَوا به بسرعة، وانسلُّوا به بين الجمع العديد إلى داره، وأدخلوه إلى «قاعته» التي خصَّصها له أهله هو وزوجه، فيأخذ بعد ذلك في فضِّ بكارة العروس أو ما يُسمونه أخد الفلاح، أما هم فيقفون بالباب أو خارج الدار ينتظرون خروجَه على مضضٍ، ويتعجَّلونه في إنهاء وظيفته ببعض أغانٍ ساقطة لا تخلو من وقاحة؛ فإذا ما دخل هو عند عروسه وجد عندها جماعة من النساء من قريباته وقريباتها، أتَين ليشهدن كيف يقوم بهذه العملية الفنية، التي هي لديهم من أحسن المشاهد جمالًا وأبهرها فتنةً. ولست أدري أي مشهد يكون مشهد فتاة بِكْر تُفَض بكارتها على مشهد من المتفرِّجات المُعجَبات بهذا المنظر الجميل الفني البديع، كأنهن يَشهَدن روايةً تُمثَّل أو لعبةً تُلعَب! ولستُ أدري ما شعور تلك الفتاة البريئة حين ترى نفسها في هذه الحال المُخزِية التي لا تتَّفق مُطلَقًا وأبسطَ صنوف الشعور والذوق والأخلاق، وحين ترى نفسها مُلقى الأنظار وهدف الأبصار؟ ومن المؤلم جد الألم أن هذه الصورة الفاحشة المُخجِلة المُزرِية لا تزال إلى الآن مستعمَلة في بيوت الكثيرين جدًّا من الريفيين، ولا يزالون ينظرون إليها نظرة الإعجاب والاستحسان، وحجة هؤلاء النساء اللائي يرتكبن هذه الفاحشة المُخجِلة أنهن حارسات على عفاف العروس، شُهداء على طُهْرها وشرفها. يا له من اعتداءٍ صارخ على العفَّة والشرف!
وإذا حدث أن العريس لم يُحسِن هذه العملية، لَطَمته «الماشطة» وأنحته عن العروس وقامت هي بعملية فض البكارة. مشهدٌ مُخجِل فاحش يذكِّرنا دائمًا بحياتنا التي نحياها، وببقائنا في هذه الوهدة العميقة من التأخُّر والانحطاط، وأخشى أن أقول: الوحشية.
وفي أثناء هذه العملية المهمَّة يتسلَّق الأطفال والفتَيات حائط الدار، وينظرن من ثقب أو فجوة إلى هذا المشهد الجميل؛ مشهد فتاة عذراء تُفَض بكارتها على مرأًى من جمع من المتفرِّجات الحارسات الشاهدات! ثم يخرج العريس ظافرًا مُنتصرًا من كفاح تلك العملية، فيُقابله أصدقاؤه وأهله بالقُبلات والأحضان، وتستقبله البنادق بالنيران والطلقات، والنساء بالتهليل والزغاريد. وفي اليوم الثاني تطوف جماعات من النساء في القرية جميعها، حاملاتٍ قطعةً بيضاء من القماش ملطَّخة بدم العروس، الذي هو مظهر شرفها وشارة عفافها وحجة طُهْرها؛ حتى يرى أهل القرية جميعًا أمانة الفتاة على شرفها، وحِرصها على طُهْرها، وهُنَّ في هذا التَّطْواف يغنِّين بعض الأغاني الريفية المُلائمة لهذه الحال، مثل: «بيَّضت الشاش يا عروسة!»
تلك صورةٌ مُقتضَبة مُوجَزة من أفراح القرى، ويُلاحَظ أني أتحدَّث هنا عن أصغر مرتبة من مراتب الفلَّاح المصري كما أخذت نفسي في كل نواحي الرسالة، وكما أشرت إلى ذلك في مقدمتي. ولقد دعاني إلى اختيار هذا النوع من الفلَّاح المصري عِلمي ومعرفتي بأنه يكوِّن في الوحدة القومية المصرية الأغلبيةَ الساحقة على حدِّ التعبير الدستوري.
ذكَرنا قبل الآن أن كلًّا من الرجل والمرأة في ريفنا المصري ينظر إلى الحب ويفهمه بنظرةٍ واحدة وفَهمٍ مشترك، وتحدَّثنا عن هذا اللون من الحب كثيرًا وقلنا أكثر من ذلك، قلنا أيضًا بأنه يندُر جدًّا أن يكون زواج في الريف نتيجةً لعواطف مُتشاركة وإحساساتٍ مُتبادلة وشعور بالحب والوفاق والميل، وقلنا إن الزواج في مصر عامةً، وفي الريف بخاصة، رجعيٌّ جدًّا على أقدم نُظُم الجمود ووسائل الرجعية، وبأن نظام هذا الزواج على ما هو عليه في عصرنا هذا لا يتَّفق مُطلَقًا وروح العصر الحديث، ولا مع ميول الناس وتوجيهات عقولهم ومشاعرهم؛ فمن الواجب علينا أن نبحث عن علاج وإصلاح لهذا النظام الذي يشوِّه من جمال نهضتنا، ويكاد يهدِّد بيوتنا وعائلاتنا، ويقضي على آمال شبابنا في المستقبل، ويُشجع على الفساد والغواية أولئك الذين يمنعهم هذا النظام الأعرج الفاسد أن يعيشوا العيشة الزوجية الهادئة السعيدة المحترمة!
وإذن فقد أصبح من اليسير علينا — كما نظن — أن نتعرَّف الآن ونفهم ونتصوَّر الحياة الزوجية القروية الداخلية؛ فإذا كانت هي كما قلنا نتيجةَ الصُّدف والقسر والإرغام أحيانًا، لا نتيجةَ الحب والتعارف وتبادُل الإحساس واشتراك الميول والعواطف كما نفهم نحن من الزواج العصري، وكما نريد أن يكون في مصر جميعًا، فلا تَعجَب كثيرًا إذا رأينا أن هذه الحياة الزوجية الداخلية لا تخلو دائمًا من نضال وعداء وتجاذُب الزوجَين؛ فالمرأة هناك قلَّ أن تنجوَ من الضرب والإهانة والتعذيب لأتفه الأسباب وأبسط البواعث.
تصوَّرْ معي أن الرجل قد يُوسِع امرأته ضربًا بالنبُّوت، وما أدراك ما النبُّوت! وذلك لأن إحدى نساء القرية قد أتت تشكوها إلى زوجها، أو لأنها تحفظ وتدَّخِر لديها بعضَ نقود له، فيحدث أن تمتنع أحيانًا عن أن تُعطيَه ثمنَ لفافة تَبْغ إبقاءً على نقوده من الضياع، وتوفير الشراء وقضاء الحاجات المنزلية الأساسية الأخرى! تصوَّرْ أن الرجل في ريفنا يجد في مُناداته لزوجه باسمها عارًا له وتنقيصًا من قدره ومن سيادته وسلطانه وكرامته، فلا يُناديها دائمًا إلا بهذا النداء العجيب المُتكبر الصَّلف: يا بنت!
وإذا ما جلس إلى إخوانه أو أصدقائه في مجلس وأراد أن يذكر زوجه، فتأبى عليه النَّعرة والكبرياء إلا أن يقول الأولاد أو العيال؛ خوفًا من أن يقول زوجي أو حرَمي أو ما اعتاد المُتعلمون المُستنيرون أن يقولوا!
وتصوَّرْ أيضًا أنه إذا استولد بنتًا وجَمَ وعلَت وجهَه الكآبةُ والأسى؛ لأنه كان يريد ولدًا، ولأنه ينظر إلى البنت وإلى النساء عامةً نظرات احتقار وازدراء وإنقاص، ولأنه يرى في النساء عامةً رأي صاحبنا «المَعرِّي»: «باعثات ركابك في مهالك مقتمات»، «فوارس فتنة أعلام غي»، «يلدن أعاديًا ويلدن عارًا»، «إلا أن النساء حبال غي بهن يضيع الشرف التليد».
بمِثل هذا المِنظار الأسود الظالم ينظر فلَّاحنا إلى المرأة.
ثم تصوَّرْ معي أخيرًا حياة زوجية تُستفتَح صباحًا عند مَطلع الشمس الخيِّرة المُحسِنة بأبغض الحلال إلى الله، بالطلاق كما قال النبي الكريم، ولا يستحي الرجل ولا يتعفَّف ولا يتحرَّج أن يُقسِم بالطلاق مرَّات ومرَّات، ثم يستأنف حياته الزوجية كأنه لم يفعل شيئًا يمنع هذا الاستئناف، بل يُبطله ويُلغيه، وفي هذا يُساعده ذلك النصَّاب الكبير أس البلاء، كما قلنا، المأذون نظير رغيفَين أو دعوة عشاء أو كيلة أذرة! كم من الفلَّاحين مَن إذا حادَثتَه عن أي شيء، أقسم لك في الحال يمين الطلاق مرَّات ومرَّات في هذره وجده، في عمله وسمره، في سِلمه وحربه، في حديثه بطلب وبغير طلب، وامرأته المسكينة قابعة في دارها، أو مُزاولة أعمالها في حقلها أو في بيتها، تجهل كل شيء عن زوجها، تجهل أنه يبيعها ويهدمها ويقضي على أولادها، ويتصرف فيها وفي أبنائها الصغار كيف تشاء أهواؤه وتريد جهالته. تجهل أنه يعيش معها في حرامٍ يُبغِضه الله ويَمقُته، أو بعبارةٍ أدق وأجلى تجهل أنه يعيش معها لا في زواجٍ حلال، بل في زنًا محرَّم فاجر، وكل ما ترتَّب على هذا الفساد والحرام فاسدٌ حرام، فساد الفرع من الأصل والبناء من الجدار!
المرأة في القرى إذن — كما لا حظت بعيني — لا تُعامَل من الرجل أكثر ممَّا تُعامَل الماشية والسوائم، ولا يُنظَر إليها أكثر من أنها «مَعمل» لتخريج الأطفال كمَعامل الكتاكيت الذين يعيشون في قذارة وبيئةٍ أهوَنَ وأحبَّ لدينا أن نراهم موتى أو لا نراهم مُطلَقًا من أن نراهم أحياءً على هذه الصورة المُخجِلة القَذِرة المُبكية، ولا يُنظَر إلى المرأة أيضًا أكثر من أنها «وعاء» يصبُّ فيه الرجل لذَّاته وشهواته الجسمية الزائلة الفانية! أتُرضي هذه الحال المُبكية والمُخجلة معًا أنصار ونصيرات المرأة؟!
ومن المؤلم أيضًا بل من المُبكي حقًّا أن الفلَّاح المصري قد يهون عليه أحيانًا ألا يكذب على وليٍّ من الأولياء الصالحين، ثم يُبيح لنفسه ولدِينه ولضميره أن يكذب على ربه وخالقه! نفسيةٌ غامضة غريبة لا تخلو من العَجب، ولا من الأسى والإشفاق الكثير!
وهكذا تكون حياتنا الزوجية الريفية الداخلية القائمة كما قلنا على الصُّدف حينًا، وعلى الجبر والعمى حينًا آخَر، مع أن النبي عليه السلام أشاب بوجوبِ معرفةِ كلٍّ من الخاطب والمخطوبة كلَّ ما يهمُّهما معرفته قبل الزواج، فقال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل.» وقال عليه السلام للمُغِيرة حين أخبره بأنه خطب امرأةً: «انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدَم بينكما.» ولكننا لا نريد أن نفكِّر ولا أن نبحث ولا أن نسير في حياتنا حتى كما كان يسير من قبلنا، فضلًا عن أن نُساير عصرنا ومُقتضيات زمننا! الآن وقد تبيَّن لنا مركز المرأة في القرى بإزاء الرجل ومعاملة الرجل ونظره إليها، وبعد أن تبيَّن لنا أن هذا التعاقد الجنسي من الرجل والمرأة تعاقُدٌ باطل قانونًا في أغلب الأحيان، وشرعًا ودينًا أيضًا؛ لأنه لم تُراعَ فيه مُطلَقًا شروط التعاقد الأوليَّة التي من أهمِّها رضاء الطرفَين المُتعاقدين، وتوافُق الإرادتَين المشتركتين في العقد، ولأنه شرعًا ودينًا باطل لما يُرتكَب فيه وباسمه من أمورٍ يُنكِرها الشرع ويمقُتها الدين، كتلك الكميات العديدة من القَسم واليمين دون احترام لدين، ودون خوف أو رقابة من الخالق صاحب الأديان جميعًا!
إذا تبيَّن لنا كل هذا، فَهِمنا وتصوَّرنا مقدارَ خلل الحياة الزوجية في الريف والفساد السائد فيها، وأمكننا بذلك فهم العلاقة النفسية الباطنية بين الزوجَين هناك؛ زوجان مات في كلٍّ منهما تقريبًا الشعورُ بالحب، اللهم إلا في العلاقات والأحوال الجنسية، زوجان يعيشان عيشًا استبداديًّا مُطلَقًا، يرى الرجل نفسه هو الحاكم والسيِّد المُطلَق الباطش بأمره ونفوذه حيث يريد ومتى يشاء، والمرأة المسكينة ترى نفسها مُجبَرة لأن تخضع وتستذلَّ لرَجلها؛ فلقد تربَّى فيها روح الاستكانة والخضوع للجبروت وللذل من الرجل ومن غيره، فأصبحت تخاف رجلها وترهبه بدلًا من أن تُحبَّه وتحترمه! فهي جاهلةٌ مسكينة، وهو جاهلٌ مسكين، والمرأة الجاهلة كما يقول المرحوم قاسم أمين: «تجهل حركات النفس الباطنة، وتغيب عنها معرفة أسباب الميل والنفور؛ فإذا أرادت أن تستميل الرجل جاءت في الغالب بعكس ذلك.»
ولذلك هي لا تعرف مُطلَقًا أن تتقرَّب منه وتتحبَّب إليه؛ وذلك لجهلها بهذه الأساليب أولًا، ولروح الخوف والنفور والجبن التي غرسها الرجل فيها ثانيًا، ولكنها قد تُحسِن هذه الأساليب أحيانًا إلى حدٍّ ما إذا كان للرجل زوجاتٌ أخرى معها، وهذا ُمنتشر بدرجةٍ مُخِيفة مُرِيعة في الريف، رغمًا من فقر الرجل المُبكي وشقائه المُفرِط، ولكن لا تدهش كثيرًا؛ فثمن المرأة رخيص جدًّا، وأقصد بها المرأة التي تُقابل الرجل الذي أقصده أيضًا، والذي نوَّهت عنه في كثير من صفحات هذه الرسالة، لا تدهش إذن إذا علمت أن الرجل قد يتزوج امرأة بجنيهٍ واحد أو ببضعة ريالات؛ حبًّا في الزواج أو حبًّا في النسل.
ففي هذه الحالة وحدها إذن قد تتقرَّب المرأة من الرجل، وتتودَّد وتتملَّق إليه ليُعِينها على الزوجة أو الزوجات الأخريات، وليَهبَها حبه وقلبه دونهن جميعًا، وكثيرًا ما تنشب المعارك وتحتدُّ الشتائم بين هؤلاء الضرائر استجلابًا لحب الرجل، لا! لشهوات ولذَّات الرجل!
والمرأة التي خُلِقت لتبعث في البيت جمالًا وحياة وسحرًا، ولتكون جنَّته أو ملاكه، ولتُجمل لرجلها حياته، وتخفِّف أو تُزيل عنه همومه وأعباءه، وتُشاركه لا جسمًا فقط بل قلبًا وشعورًا وروحًا وإحساسًا في نِعَمه وفي بؤسه، في تعبه وفي راحته، وتُذهِب عنه السآمةَ والضجر والتعب بما تُسرِّي عنه وتُلاعبه وتُداعبه بأناملها الناعمة الدافئة القطيفية، وبأنفاسها الحرَّى المُتصاعدة من قلبها المُحب الرحيم النابض، وبأحاديثها العذبة المُعطرة المتأرِّجة التي يصفها الشاعر في قوله:
وبنظراتها ولِحاظها المُسترخية الفاترة النافذة الساحرة، ولتربِّيَ أولاده تربيةً صحيحة قوية، ولتخلق فيه حبَّ الحياة وروح العمل والكفاح.
مِثل هذه المرأة تكاد تُفارق ريفنا، وتكاد تكون مجهولة هناك كل الجهل؛ إذن فماذا تكون وظيفة المرأة إذا لم تكن لزوجها ملاكًا يحرسه، وطبيبًا يُعالجه، وفنَّانًا يُجمل له الحياة، ووحيًا يُلهِمه القوةَ وحبَّ العمل، وقلبًا متمِّمًا لقلبه، وروحًا أليفًا لروحه؟ وإذا كانت المرأة في القرى تكاد لا تفهم ولا تقدِّر واجباتها نحو وظيفتها بإزاء الرجل وبإزاء البيت الذي هي مَلِكته، وبإزاء أولادها، وإذا كان الرجل أيضًا مَن هو لا يفهم واجبه نحو المرأة، ولا يعترف لها بمركزٍ محترم سامٍ، ولا يقدِّر وظيفتها في الحياة ورسالتها في العالم، ولا يفهم لها وجودًا ذاتيًّا مستقلًّا محترمًا في حدود عملها ووظيفتها، فلا ننتظر مُطلَقًا أن تكون حياتهما الزوجية سعيدةً هنيئة كما نفهمه ونُحسُّه حين نتصوَّر ونذكُر السعادة والهناءة!