نقد المنطق الأرسطي ومحاولة إصلاحه عند السُّهرَورْدي والمناطقة المحدثين
تمهيد
كشف لنا المنطق الإشراقي عند السُّهرَورْدي على أنه يُمثل محاولة من أعمق المحاولات في تاريخ المنطق العربي؛ إذ لا نجد لها مثيلًا لدى مناطقة العرب، فقد وضع السُّهرَورْدي، كما رأينا، مبحثًا في التعريف، ثم وضع مبحثًا في القضايا، حاول أن يرد فيه جميع القضايا إلى القضية التي أسماها بالقضية البتاتة. ولم يعترف بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحي العكس والتناقُض وبعض ضروب الأقيسة؛ فغيَّر بهذا كثيرًا من أصول المنطق الأرسطي. والسُّهرَورْدي يشبه إلى حد كبير الكثير من مناطقة العصر الحديث الذين حاولوا نقد المنطق ثم محاولة إصلاحه؛ بحيث يتواءَم مع التوجه الفلسفي الذي يسعى إليه كل عالم من علماء المناطقة. وهنا نحاول أن نكشف ذلك بالتفصيل خلال هذا الفصل؛ وذلك على النحو التالي:
أولًا: نقد السُّهرَورْدي والمناطقة المحدثين للمنطق الأرسطي
بيَّنا في الفصول السابقة كيف نقد السُّهرَورْدي المنطق الأرسطي، ثم كيف حاول إصلاح هذا المنطق من خلال مذهبه العام القائم على الإشراق، الأمر الذي حدا بنا لأن نطلق على مجموع هذه الإصلاحات «المنطق الإشراقي». والموضوعية العلمية تجعلنا نشير إشارة عابرة عن هذا نظرًا لموقف المحدثين تجاه المنطق الأرسطي؛ حيث إن موقف المحدثين من المنطق الأرسطي لم يَعُد بالجديد بعد أن تبين لنا أن السُّهرَورْدي قد نقد المنطق الأرسطي نقدًا علميًّا منظمًا. وقد كانت له بجانب هذه الانتقادات وجهات نظر خاصة قد خلَعها على المنطق الأرسطي، سواء بالإضافة أو بالتجديد.
ومن ثم نريد أن نُغطي الجانب الحديث من المنطق لبيان وجهات النظر المؤيدة والناقدة للمنطق الأرسطي، مع توضيح وجهات النظر الجديدة؛ حيث نعقد مقارنة بين السُّهرَورْدي والمحدثين في نقد المنطق؛ وذلك على النحو التالي:
ومن أشهر من نقد المنطق الأرسطي في العصر الحديث، على سبيل المثال لا الحصر:
(١) فرنسيس بيكون F. Bacon (١٥٣١–١٦٢٦)
- (١)
أن المقصود بالمنطق هو أن يضع لنا المنهج السليم لاكتشاف قوانين العالم الطبيعي، لكي تيسر لنا أن نفهم ذلك العالم ونُسيطر على قواه ونخضعه لإرادتنا؛ ومن ثم يُمكننا أن نفيد من القوانين العِلمية فيما يفيد الفرد والجماعة، ولكن القياس الأرسطي لا يهتم بعالمنا الطبيعي؛ إذ هو استدلال صوري لا يهمه سوى حتمية الانتقال من مقدمات إلى نتائج تلزم عنها، سواء أكانت تلك المقدمات صادقة من حيث الواقع أم كاذبة. لا قيمة للقياس إذن في تحقيق هدفه الأكبر.
- (٢)
يبدأ القياس الأرسطي من أفكار جزئية محسوسة، ويجعلها أفكارًا عامة، ويفترض أنها مقدمات صادقة لازمة، لكن ما تلك المقدمات إلا محتوية على أفكار شائعة قد تكون غالبًا كاذبة، وإذن فضررها من نفعها.
- (٣) إذا افترضنا أن المقدمات في القياس الأرسطي صادقة على الواقع، وإذا افترضنا أن انتقالنا إلى النتيجة سليم صحيح، كانت النتيجة عقيمة؛ أي لا تحوي جديدًا عما أُثبتت من قبل في المقدمات، ولكن ينبغي من المنطق أن يدفعنا إلى نتائج جديدة ومعارف جديدة. إذن فالقياس الأرسطي مضيعة للوقت.٦
(٢) ديكارت R. Descartes (١٥٩٦–١٦٥٠م)
- (١)
أن القياس الأرسطي أو الاستدلالي القياسي لا يؤدي إلى معارف جديدة، والأفضل استخدام الاستدلال الرياضي.
- (٢) أن الوحدة الأولى لا تكون قاصرة على القضية الحملية وحدها ذات الموضوع والمحمول، وإنما على كل قضية لا تحتوي على شيء أكثر مما يكون في عناصرها البسيطة.٧
- (٣) وإذا كان ديكارت يهاجم المنطق الأرسطي، فهو يسعى إلى إيجاد منهج جديد يستبعد فيه القياس الأرسطي، ويستخدم الاستدلال الذي يعتمد عليه المنهج الرياضي، والذي يبدأ من الأفكار الواضحة المتميزة، مدركًا ما بينها من علاقات، فيتقدم من أبسط الحقائق ويتدرج إلى أعقدها، ويساعده على ذلك الاستنباط الذي يوضح كيف تتحد الطبائع البسيطة، وعلى أي نحو تتألف بعد أن يتضح ما بينها من علاقات ضرورية، وهذا هو التقدم في المعرفة.٨
(٣) برتراند راسل B. Russell
(٤) رودلف كارناب R. Carnap
(٥) ألفرد تارسكي A. Tarski
- (١)
خلط المنطق بأبحاث ميتافيزيقية وأنطولوجية ولغوية وسيكولوجية أو عدم صورية المنطق.
- (٢)
اعتبار القياس الصورة الوحيدة للبرهان.
- (٣)
اعتبار القضايا الشخصية كلية.
- (٤)
عدم دقة تعريف القياس في بداية الأمر.
- (٥)
تبرير الاستقرار وذلك برده إلى القياس.
- (٦)
عدم تسمية حدود القياس الثلاثة على أساس واحد.
- (٧)
تضمن الكليات للجزئيات المتداخلة معها.
- (٨)
عدم إقامة نسق للمنطق.
- (٩)
عدم الاعتماد على قضايا حملية، أو عدم إقامة منطق للقضايا الشرطية والمنفصلة.
- (١٠)
قلة العلاقات التي يقوم عليها المنطق الأرسطي، وعدم إقامة منطق للعلاقات.
- (١١)
عدم الرمز للثوابت.
ثانيًا: الإصلاحات المنهجية التي أضافها السُّهرَورْدي والمناطقة المُحدَثون للمنطق الأرسطي
إذا كان السُّهرَورْدي قد جَدَّ في إصلاح المنطق الأرسطي؛ فقد سبق بهذا المُحدَثين الذين جدُّوا في إصلاح النقص الذي أصاب المنطق، وانتهت محاولاتهم إلى إقامة مناهج جديدة علمية من أهمها:
(١) المنهج الاستقرائي
(٢) المنهج الاستنباطي
- (١)
أنه فكَّر في اصطناع منهج عام يُمكن اتباعه في أثناء البحث في كل العلوم؛ وذلك باتخاذ المنهج الرياضي نموذجًا يُحتذى به في جميع العلوم.
- (٢)
أنه فكَّر في استخدام لغة علمية يتَّخذها العلماء والمُفكِّرون وسيلة للتفاهم بينهم، أسماها باللغة العالَمية التي تستخدم الرموز بدلًا من ألفاظ اللغة العادية، أو باللغة الفلسفية ذات الخصائص العامة.
- (٣)
أنه ردَّ كل المعارف أو الحقائق الضرورية إلى مبدأ واحد هو مبدأ الهوية، وصياغة رمزية عرفت فيما بعد باسم «قانون ليبنتز».
- (٤) أنه توصَّل إلى قائمة مبدأ مشترك بين جميع الاستدلالات، وهو مبدأ «استبدال المتكافئات» Substitution of Equivalents، وذلك الذي أوضحه جيفونز Jevons فيما بعد باسم «استبدال المتشابهات».١٩وقد خلف ليبنتز وراءه تصوُّرين للمنطق:
- الأول: تصور هندسي، يرى أنه من المُمكن أن يعالج المنطق بالطرق الهندسية، باستخدام الأشكال والحدس المكاني في التعبير عن العلاقات بين التصورات.
- الثاني: تصور جبري حاول أصحابه أن يعالجوا المنطق بالطرق الجبرية، مستخدمين الرموز والإشارات والمعادلات الجبرية. وكان «ساكيري» Saccheri وجيرجون Gergonne من أصحاب الاتجاه الهندسي، وكان «ميمون» Maimon من بين أصحاب الاتجاه الجبري، وكان «لامبرت» Lambert، وبلوكيت Ploucquet من أصحاب الرياضي بعامة.
ولكن كل هذا يجب ألا يُنسينا أيضًا ما هنالك من فارق كبير بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزي.
- (١)
المنطق الرمزي صوري صورية كاملة، أو هو على الأقل أكثر تجديدًا وصورية من المنطق القديم الذي يجمع بين الصورية والمادية، وإن يغلب عليه الطابع الصوري. وتتبدَّى هذه الصورية الكاملة في المنطق الرمزي في أنه لا يبحث في العلاقات الواقعية بين الأشياء، إنما يبحث في العلاقات التي يمكن أن تقوم بين القضايا، ولذا فهو يَحتوي على تقسيمات ذات مستوى لم تكن تبلغه باتِّباع المنطق الأرسطي، بمعنى أنه لا يهتمُّ بالمطابقة بين القضايا والواقع الخارجي، بل يميل أصحابه إلى أن تكون قضاياه والعلاقات بينها مما يختلف عن الواقع الخارجي.
- (٢)
إنَّ وسيلة التعبير في المنطق الأرسطي — وهي ألفاظ اللغة — أقل دقة وأدعى إلى الوقوع في الخطأ منها في المنطق الرمزي الحديث، الذي يُستخدم بدلًا من الألفاظ الرموز المختلفة.
- (٣)
إنَّ منهج الاستدلال في المنطق الأرسطي أقل دقة منه في المنطق الرمزي الحديث؛ لأنه كان مقتصرًا على نوع واحد من الاستدلال، هو الاستدلال القياسي.
- (٤)
إنَّ المنطق الأرسطي كاد أن يَقتصر في تناوله للعلاقات على علاقة التضمن وحدها، الأمر الذي جعل قضاياه قضايا حملية تتكوَّن كلٌّ منها من موضوع ومحمول مُرتبطين بعلاقة التضمُّن أو الاشتمال. أما المنطق الرمزي فقد كشف عن مجموعة كبيرة من العلاقات، وحللها ووضع لها رموزًا محددة وحسابًا تحليليًّا دقيقًا.
- (٥)
المنطق الأرسطي لم يكن يفرق بين القضية ودالة القضية. أما المنطق الرمزي الحديث فيفرق بينهما، ويجعل أغلب اهتمامه منصرفًا إلى دالات القضايا، ما دام يستخدم رموزًا ومتغيرات.
- (٦) المنطق الرمزي الحديث أكثر خصوبة في نتائج الاستدلال؛ وذلك لاستخدامه كم المحمول وحسابه، مما يوسع من قاعدة الاستدلال وكذا تحليل العلاقات، مما يوسع مجال الاستدلال ونطاقه.٣٠ وفي هذا تقول «سوزان ستيبنج» Stebbing إن أنصار المنطق الرياضي يأخذون على المنطق الأرسطي عدة أشياء؛ فهم يأخذون عليه:
- أولًا: أنه مُقتصر على نوع واحد من أنواع الاستدلال وهو القياس.
- ثانيًا: أنه أخفق في وضع رموز مُوافِقة للعلاقات المنطقية.
- ثالثًا: أنه أخطأ في تحليل هذه العلاقات.٣١
ومن ثم يتضح أن المنطق الرمزي اكتشف أنواعًا من الاستدلال غير القياس لها أهمية كبرى في التفكير، ففتحت أمامه ميدانًا واسعًا للبحث، كما استطاع أن يكتشف ويحلل مجموعة كبرى من القضايا والإضافات، يمكن أن يُعبر عنها بواسطة الرموز، فإلى جانب إضافة التضمن التي قال بها وحدها المنطق الأرسطي، قال المنطق الرمزي بإضافات أخرى يعبر عنها في اللغة بالأسماء الموصولة وحروف الجر وحروف العطف.٣٢ - (٧)
المنطق الأرسطي منطق تداخل بين أصناف؛ فمبادئه الثلاثة المشهورة: مبدأ الذاتية، والتناقض، والثالث المرفوع، لا تفيد إلا في تصنيف الحدود مأخوذًا كلٌّ منها على حدة؛ أي بحسبانها منفصلة يندرج الواحد منها تحت الآخر، ويُوضع الواحد منها بالتبادُل مكان الآخر، أما المنطق الرمزي فعليه أن يكمل هذا المنطق بمنطق قضايا، فينظر في القضايا من حيث إنها في الواقع الوحدات الأولى الأصلية، كما ينظر المنطق الأرسطي في الحدود؛ أي ينظر في كيفية التداخل بينها، وتقسيمها، وتضمن الواحد منها الآخر كي يُمكِن الاستدلال.
- (٨) إذا كان المنطق الأرسطي قد سمحَ بتضمُّن الكليات للجزئيات المتَّحدة معها في الكيف، إلا أن المنطق الرمزي الحديث يَرفض الانتقال من مقدمة أو مقدمات كلية إلى نتيجة جزئية؛ وذلك لأنَّ الكلية مجرد فرض، لا يتضمَّن ذلك الوجود الذي تُشير إليه القضية الجزئية، كما أنَّ القضايا الكلية لكونها فروضًا تكون صادقة دائمًا، سواء وجد موضوعها أو لم يوجد، في حين أن القضايا الجزئية قد تصدق وقد تكذب. وبذلك لا يضمن صدق الكليات صدق الجزئيات المُتداخِلة معها، كما أن افتراض الدلالة الوجودية يضيف مقدمة أخرى مُضمرة إذا صرح بها تحول الاستدلال المباشر إلى غير المباشر، وصار للقياس أكثر من مقدمتين، أو صار يتكون من أكثر من ثلاث قضايا.٣٣
- (٩) إذا كان المنطق الأرسطي يخلو من إقامة منطق للعلاقات، فإن المنطق الرمزي الحديث حاول إقامة منطق للعلاقات، وتمثل هذا لدى لامبرت Lambert (١٧٢٨–١٧٧٧م)، ودي مورجان De Morgan (١٨٠٦–١٨٨٧م)، وساندرز تشالرز بيرس S. Peirce.٣٤
- (١٠)
إذا كان المنطق الأرسطي قد رمز للمتغيرات فإنه لم يرمز للثوابت، أما المنطق الحديث فقد اهتم بذلك.
- (١١) إذا كان المنطق الأرسطي لم يُحقق الشروط التي تجعل القياس نسقًا فرضيًّا استنباطيًّا، يبدأ من تعريفات وبديهيات أو مسلَّمات، يبرهن بها على قضاياه؛ وذلك على الرغم مما قام به من عمليات للرد للأضرب الناقصة إلى الأضرب الكاملة.٣٥
تلك هي أوجه الاختلاف بين المنطق الأرسطي والمنطق الرمزي الحديث، ولكن هذه الاختلافات كانت نوعًا من الإصلاح للمنطق الأرسطي القديم.