النزعة الصوفية في المنطق الأوروبي الحديث
تمهيد
لقد بيَّنا في الفصل الثاني من موضوع البحث: المنطق وعلاقته بنظرية المعرفة الصوفية عند السُّهرَورْدي، «حيث اتَّضح أن المنطق عند السُّهرَورْدي يعني سياقًا آخر وطريقًا أقرب من تلك الطريقة وأضبط وأنظم وأقل إتعابًا في التحصيل»؛ كما يعني أيضًا «الآلة الواقية للفِكر مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد.»
ويرجع السُّهرَورْدي مصدر هذا التعريف إلى الذوق مصداقًا لقوله: «ولم يحصل لي أولًا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر مثلًا ما كان يُشكِّكني فيه مشكك.» وهذا التعريف للمنطق عند السُّهرَورْدي يتَّفق مع مذهبه العام الذي يؤمن به ويَعتقده.
والموضوعية العِلمية تجعلنا نحاول أن نثبت أن هذه المحاولة جديدة من نوعها في المنطق العربي، ويُمكن تلمُّسها في المنطق الأوروبي الحديث، وذلك على النحو التالي:
أولًا: تعريف المنطق وربطه بالمعرفة
(١) برنارد بوزانكيت
(٢) الوضعية المناطقة
- (١)
إيمانهم بأن مهمة الفلسفة هي تحليل لما يقوله العلماء، لا التفكير التأمُّلي الذي ينتهي بالفيلسوف إلى نتائج يصف بها الكون ونتائجه.
- (٢)
ضرورة حذف الميتافيزيقا من مجال الكلام المشروع؛ لأنَّ تحليل عباراتها الرئيسية تحليلًا منطقيًّا بيَّن أن عبارات مثل: «الضرورة – الجوهر – الضمير … إلخ» لا معنى لها، وبالتالي لا يُمكن وصفها بالصواب.
- (٣)
ضرورة الاتفاق على أنَّ العلاقة بين السبب والمسبب هي علاقة ارتباط في التجربة، لا علاقة ضرورة عقلية.
- (٤)
ضرورة اعتبار القضايا الرياضية وقضايا المنطق الصوري تحصيل حاصل لا تُضيف إلى العلم الخارجي علمًا جديدًا؛ فالقضية الرياضية مثل: ٢ + ٢ = ٤، ما هي إلا تكرار لحقيقة واحدة، أو لرمزَين مختلفَين.
- (٥)
كل شيء لا يَخضع للتجربة والتحليل غير مُفكر به.
- (٦)
ضرورة تأكيد أنَّ وظيفة الفلسفة وعملها هو تحليل المعرفة، وبخاصة المتعلِّقة بالعلم، وأن المنهج المُتبع هو تحليل لغة العلم.
(٣) الواقعية الجديدة
ومن ثمَّ فقد أوَّل كثير من المناطقة المُحدَثين وضع تعريفات خاصة من هذا القبيل للمنطق القديم، وهي تثبت فيه اعتبارات ميتافيزيقية ونفسانية وبيولوجية ولغوية.
ولكن الأكثر دلالة هو مُحاولة بعض المناطقة المحدثين ربط المنطق بالرياضة، ومحاولة تعريفه على هذا النحو.
- (أ) تعريف جيفونز Jevons الذي يرى أن المنطق هو علم قوانين الفكر The Lows of Thought.١٤ هذا التعريف للمنطق يَنطوي على بعد ميتافيزيقي؛ لأنه يُحاول أن يجعل من المنطق قوانين عامة تخضع لها كل الكائنات.
- (ب) أما كينز Keynes فيعرف المنطق بأنه العلم الذي يبحث في المبادئ العامة للتفكير الصحيح، وموضوعه البحث في خواص الأحكام، لا بوصفها ظواهر نفسية، بل من حيث دلالتها على معارفنا ومعتقداتنا، ويعنى على الأخص بتحديد الشروط التي بها تُبرز انتقالنا من أحكام معلومة إلى أخرى لازمة عنها.١٥
هذا التعريف للمنطق يَنطوي على بعد مثالي يختصُّ أساسًا بما ينبغي أن نفكر فيه، ولا يبحث فيما يكون عليه تفكيرنا إلا عن طريق مباشر، كوسيلة فحسب. ومن ثم ينبغي أن يوصف بأنه علم معياري أو منظم، وهو يَشترك مع علم الأخلاق وعلم الجمال في هذه الناحية، فإذا كان المنطق يبحث في القواعد العامة للسلوك الصحيح؛ فالجمال يبحث في القواعد العامة للذوق الصحيح.
ثانيًا: أبعاد الحكمة البحثية والذوقية لدى مُفكري العصر الحديث
ويرى الباحث أن هناك من مُفكري العصر الحديث في أوروبا استطاعوا أن يجمعوا في فلسفتهم بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية، وإن كانوا عبروا عنها في صور مختلفة تتَّفق مع فلسفتهم الخاصة، فنجد مثلًا:
(١) باسكال Pascal (١٦٢٣–١٦٦٢م)
(٢) اسبينوزا Spinoza (١٦٣٢–١٦٧٧م)
ويُعلِّق أستاذنا الدكتور إبراهيم مدكور رحمه الله على ذلك قائلًا: «ونستطيع أن نقرر أن ابن عربي واسبينوزا كانا مؤمنين إيمانًا عميقًا، وإن اتهما بالإلحاد. كانا مؤمنين إيمانًا عميقًا يملأ قلبيهما، فكانا يريان الله في كل شيء، ولا يكادان يريان شيئًا سواه — كانا يعتدان بأخوة الحب والإيمان، فلا يُفرقان بين موسوي ومسيحي، ولا بين مسلم وغير مسلم.»
(٣) ليبنتز Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦م)
-
«النقص في العالم من كمال وجوده»، وإن شئت قلت من كمال العالم؛ إذ لو نقص النقص من العالم لكان (هذا العالم) ناقصًا، والكمال المطلق لله وحده.٢٤
-
العالم غاية في الكمال؛ لأنه من صنع الله الذي له الكمال وحده، ولا يصدر من الكمال شيء إلا كان على درجة محددة من الكمال تليق به؛ إذ لابد أن تبدو صفة الصانع في صنعته.٢٥
-
الكمال ذاتي في الأشياء، والنقص عرَضي.٢٦
-
العالم جميل وهو جدير بالحب رغم ما قد يوقعنا عليه الحس من بعض ضروب النقص.٢٧
-
ذلك أن العارفين قد تكشف لهم أن هذا العالم بأسره غاية في الجمال وليس فيه شيء من القبح، بل قد جمع له الحسن كله والجمال كله؛ فليس في الإمكان أبدع ولا أجمل ولا أحسن من هذا العالم؛ ذلك لأن هذا العالم مرآة يَنعكِس عليها المعاني الإلهية، والله جميل، والجمال محبوب لذاته. لهذا يَنبغي أن نرضى بالواقع فلا نحقر شيئًا فيه، فهذا التحقير لا يَصدُر عن امرئ يتقي الله.٢٨
(٤) تيلش Tillich (١٨٨٦–١٩٦٥م)
وهنا يتَّضح أن السُّهرَورْدي سبق المُفكِّرين والفلاسفة في العصر الحديث في الجمع بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية.
ثالثًا: خصائص المنطق الحديث
- (١)
منطق مادِّي وهو الاستقراء.
- (٢)
منطق صوري وهو الاستدلال.
- أولًا: المنطق المادِّي هو المنطق المتعلِّق بالتجربة الخارجية، وهو لذلك يتضمَّن إخراج واستحداث معرفة جديدة؛ فمِن المستحيل بلوغ أي تقدم من وراء الاستدلال الصوري؛ أي إن الاستقراء جسر يعبر من الوقائع إلى القوانين، وهو عملية تستخدم في اكتشاف وتكوين القضايا العامة. أما الاستدلال فتحليل قائم على أساس تفريغ العبارات من أية إشارات إلى جزئيات من أجل تحويلها إلى قضايا رمزية، لا يهمنا فيها إلا سلامة الانتقال من البداية إلى النتيجة. ولا يهتم هنا إلا التجريد التام للعلاقة بين التصوُّرات والوقائع، ولهذا يؤدي تقسيم المنطق إلى صوري ومادي إلى ظهور شيء جديد نُسميه بالتحليل والتركيب. والتحليل دائمًا صوري؛ لأنه لا يأتي في النتائج إطلاقًا بأكثر ممَّا في المقدمات، في حين لا بد أن يولد التركيب شيئًا جديدًا في نهاية الاستقراء. والاستقراء تركيبي في حين أن الاستدلال تحليلي.٣٣
- ثانيًا: المنطق المادي يعتمد على استنباط عقلي، ولكنه يلتمس برهانه في الظواهر الجزئية — أي الوقائع الحسية، بينما المنطق الصوري يَعتمِد على الاستنباط في العلوم الرياضية، وهو يبدأ من بديهيات — لا جزئيات محسوسة، ويلتمس البرهان عن طريق الإثبات المحض؛٣٤ بمعنى أنه يبدأ من مسلمات، وهي إما بديهيات أو مُصادرات، فأما البديهيات أو الأوليات فهي قضايا بديهية واضحة بذاتها لا تقبل برهانًا؛ لأن مَن يَعرف معاني حدودها يسلم بصحتها دون حاجة إلى دليل، وهي تُدرك برؤية مباشرة أي بالحدس، ولا تجيء عن طريق خبرة حسية، ولا عن تفكير استنباطي عقلي؛ لأنها أولية فِطرية لا تستنبط من أخرى سابقة عليها بالبديهيات المنطقية التي تقول إن الشيء لا يُمكن أن يكون موجودًا وغير موجود في آنٍ واحد. أما المصادرات فهي قضايا يفترض العالم صحتها منذ البداية مجرَّد افتراض، بشرط ألا يعود فيفترض صدق نقيضها؛ لأنَّ النقيضَين لا يصدقان معًا.٣٥
- ثالثًا: المنطق المادي يَعتمد على قوانين طبيعية احتمالية ترجيحية وليست يقينية كقوانين المنطق والرياضة البحتة؛ وذلك لأنَّ القوانين الطبيعية تقال تفسيرًا لمجموعة من الظواهر المتشابهة لم يخضع الكثير منها لما تجريه من ملاحظات وتجارب.
- رابعًا: المنطق المادِّي إذا كان يعتمد على الاستقراء الذي يرقى إلى المقدمات الكلية بمُشاهَدة الجزئيات؛ فهو بهذا يضمن صحة هذه المقدَّمات ولا يفترض صدقها مجرَّد افتراض. في حين أن المنطق الصوري يعتمد على الاستنباط الذي يجعل المقدمات أفكارًا بسيطة تدرك بالحدس وتؤمن الزلل من معرفتها، ومنها يتوصَّل الباحث إلى نظرياته.٣٦
- خامسًا: المنطق المادِّي يبحث في المناهج التي تقدم عليها العلوم المختلفة، كل على حدة، وعلى هيئة مجموعات عامة، ويضع القواعد وفقًا للعلوم الخاصة، فهو نِسبي، خاص، مادِّي، ولكنه يقوم بهذا كله واضعًا نصب عينَيه القواعد التي وضعها المنطق الصوري؛ لأنها قواعد عامة يخضع لها كل تفكير عقلي. أما المنطق الصوري فيعني البحث في المبادئ العامة للتفكير المجرَّد، وفي العقل، وفي القواعد الضرورية التي يسير عليها الفكر في بحثه في جميع الموضوعات بلا تمييز، ويضع القواعد ناظرًا إلى الشكل فحسب، بصرف النظر عن مضمون المعرفة وموضوعاتها، فهي قواعد تتعلَّق بصورة الأحكام والاستدلالات، وترمي إلى اتفاق الفكر مع نفسه فحسب.٣٧
- سادسًا: إذا كان المنطق الصُّوري منطقًا شكليًّا يعتمد على الرموز؛ فذلك لأن هذه الرموز تدعو إلى الدقة في التعبير. تقول سوزان ستيبنج إن استخدام اللغة العادية أحيانًا ما يؤدي إلى الوقوع في الخطأ، أما إذا استخدمنا رموزًا معينة، فإننا نتحاشى الخلط أو اللبس الذي قد ينشأ عن استخدام الألفاظ.٣٨
وهنا يتَّضح الفرق بين المنطق المادي والمنطق الصوري من حيث خصائص كلٍّ منهما، إلا أن هذه الخصائص مُرتبطة بنظرية المعرفة؛ فدعاة المنطق يُحاولون فهم المنطق داخل نظريتهم في المعرفة، هذه المعرفة تَعتمِد على الإحساس وحده دون العقل؛ حيث رفضوا التسليم بالأفكار الفِطرية الموروثة والمبادئ العقلية البديهية، والقواعد الخلقية الأولية التي تجيء اكتسابًا، وأنكروا هذا الحدس الذي يدرك الأوليات الرياضية والبديهيات المنطقية، وراموا بأن هناك حدوسًا متعدِّدة تختلف باختلاف أصحابها، وردوا المعرفة في كل صورها إلى التجربة — مع خلاف بينهم في تعبيرها.
رابعًا: أقسام المنطق عند المحدثين
لقد ذكر الباحث في الفصل الثاني من هذا البحث أقسام المنطق عند السُّهرَورْدي؛ حيث اتَّضح أن السُّهرَورْدي يُجاري عادة المناطقة العرب في تقسيم المنطق، وبالتالي فهو يسير في اتجاه مضاد لبعض المناطقة المُحدثين الذين يرون أن اهتمام المنطق ينصبُّ على التفكير، ولما كانت القضايا هي وحدات التفكير، فلا بد أن يكون مبحث القضايا هو أول ما يجب دراسته، بل إن بعض المناطقة المحدثين نادى بحذف مبحث التصورات أو الحدود من مباحث المنطق؛ لأن البحث في القضايا يتضمَّن البحث في ألفاظها المؤلَّفة لها، ومن هؤلاء على سبيل المثال:
(١) بوزانكيت Bosonquet
(٢) برادلي Bradley
(٣) جوبلو Goblot
- (أ)
نظرية الحكم: وفيها ندرس الأحكام التي إما أن تقوم مباشرة على التجريد، وهذه تسمى بأحكام التجربة، وإما لا تقوم مباشرة مع التجربة، بل تصدر عن غيرها من الأحكام. وهذه تسمى بأحكام البرهان.
- (ب) نظرية الاستدلال: وفيها ندرس الانتقال من حكم أو أحكام إلى حكم آخر، ويسمى حكمًا برهانيًّا يكون صادقًا إذا كانت المقدمات صادقة.٤٣
وإذا كان بعض المناطقة المحدثين قد رأوا أن التقسيم الأرسطي الثلاثي للمنطق لم يعد قائمًا الآن، وإنما أصبح المنطق منقسمًا إلى قسمين فقط هما: الأحكام والقضايا.
ولعلَّ المشكلة تقسيم المنطق على هذا النحو أو ذاك لم تَعُد شاغل المفكرين والمناطقة المحدثين الذين اهتموا بالمنطق الرياضي؛ فإذا ما تأملنا المذاهب المختلفة التي تعرضت لمثل هذا في المنطق الرياضي، فإننا لن نجد عند أي منهم أي اتجاه لهذا التقسيم.
إن ما اهتم به المنطق الرياضي هو فكرة الاستنباط من المسلَّمات والتعريفات لكل قضايا المنطق، أو محاولة إقامة نسق استنباطي، برهن فيه على كل القضايا ابتداءً مِن مجموعتين من المسلمات والتعريفات.