تمهيد
ذكرنا من قبل أن النظرية المنطقية تختلف باختلاف الأساس الذي يذهب إليه الفيلسوف في
نظريته
في المعرفة، فكذلك تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي يُبتنى عليه العلم في
العصر
المعين، فكلما غيَّر العلم عن أساسه تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأن المنطق إن هو
إلا تحليل
لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرز صورها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفة
بعينها هي الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورة أمينة تبعًا لذلك، وكما تختلف النظرية المنطقية
باختلاف الأساس الذي يُبنى عليه العلم في عصر معين، كذلك تختلف باختلاف المذهب الفلسفي
الذي
يذهب إليه صاحب تلك النظرية؛ فقد يعيش في العصر العلمي الواحد أكثر من فيلسوف ينتمون
إلى أكثر
من مذهب فلسفي واحد؛ من ثم تراهم يختلفون في تحليل الأساس العِلمي الذي يجعلونه هدفهم
ومدار
بحثهم؛ ففي عصرنا هذا مثاليون وواقعيون وبراجماتيون ومنطقيون ووضعيون، ولكلٍّ من هؤلاء
وجهة
للنظر تنعكس على النظرية المنطقية عندهم.
من هذا المنطلق نحاول في هذا الفصل أن نستعرض أهم الآراء المنطقية عند السُّهرَورْدي،
ونتلمس أوجه التقارب الفكري بينها وبين مناطقة العصر الحديث.
أولًا: اختصار المنطق الأرسطي ثم محاولته وضع نسق له
بعد أن عرض السُّهرَورْدي للقضايا الأرسطية وتقسيماتها المعهودة في كتب المنطق الأرسطي
من
حيث الكمِّية والكيفية والجهة، يعود لينقد هذا التقسيم من حيث الكمية والكيفية والجهة،
ويرى أنه
كثير الفروع والتشعبات، والتي يُمكن الاستغناء عن الكثير منها، وذلك ما سيعمل السُّهرَورْدي
على
إيضاحه خلال رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية، ورد القضايا السالبة إلى قضايا موجبة،
ورد
الجهات من حيث الإمكان والامتناع إلى الضروري، فلا يَبقى لدينا من تقسيمات القضايا الأرسطية
وتفريعاتها إلا قضية واحدة، وهي القضية الكلية الموجبة الضرورية، وهي ما يُطلق عليها
السُّهرَورْدي اسم «البتاتة»؛ أي الجازمة والقاطعة؛
١ ولم يَعترف السُّهرَورْدي بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحي العكس المستوي
والتناقُض، فغيَّر بهذا كثيرًا من أصول المنطق الأرسطي القديم.
والسُّهرَورْدي هنا يشبه إلى حد كبير المناطقة الرياضيين في أوروبا الذين حاولوا
اختصار
منطق أرسطو، وإن كان هناك خلاف بينه وبينهم فهذا لأنَّ المناطقة الرياضيين رأوا أن المنطق
مقتصر
على صورة واحدة من صور الاستدلال، فاصطنعوا صورًا أخرى أكثر خصوبة في نتائج الاستدلال
تقوم على
كم المحمول وحسابه، ثم تحليل العلاقات، الأمر الذي يوسع مبحث الاستدلال من حيث قواعده
ومجاله
ونطاقه، وأما السُّهرَورْدي فقد رأى ما في المنطق الأرسطي من تطويل فحاول أن يرد صور
أشكال
القضايا والقياس إلى صورة واحدة، وهي القضية البتاتة.
٢
وفي رد السُّهرَورْدي لمبحث أشكال القضايا والقياس إلى القضية البتاتة، يعني أن
السُّهرَورْدي قد حاوَل جاهدًا وضع نسق للمنطق، وهو بهذا قد سبق المناطقة المحدثين من
أمثال
«فريجه» و«بيانو» و«راسل» و«هيلبرت» و«فيتجنشتين» و«روسير» و«جينتزن» وغيرهم، وهؤلاء
وإن اتفقوا
مع السُّهرَورْدي في المبدأ، لكنهم اختلفوا معه في الغاية؛ حيث إنهم وضعوا أنساقًا جدَّ
مختلفة
عن نسق السُّهرَورْدي.
ثانيًا: نقد التعريف الأرسطي ومحاولة وضع تعريف جديد
كان السُّهرَورْدي قد رفض المفهوم المشائي للحد، والمؤلف عن طريق الجنس والفصل المميز
لسببَين؛ أولهما أنَّ المميز مجهول مع المُعرف، وإن كان معلومًا عن طريق آخر فلا يصلح
للتمييز؛
لأنه لم يعد خاصًّا. وثانيهما أن من تمام شروط الحد عند المشائين إيراد جميع الصفات الذاتية،
وذلك مستحيل عقلًا؛ لأنَّ معرفة جميع الذاتيات مُرتبط بمعرفة ماهية الشيء، وماهية الشيء
هنا
تقتنص عن طريق الذاتيات فنقع في دور لا مخرج منه، وعلى فرض ذكرنا الذاتيات الخاصة بالشيء
كيف
لنا أن نعلم أنه ليس هناك ذاتي آخر مجهول بالنسبة لنا. ونجد أن كلا السببَين يرتد في
النهاية
إلى فكرة الدور في الحد الأرسطي، وهذه الفكرة كانت من أكثر ما استند إليه كل مَن رام
نقد الحد
الأرسطي. ونتيجة للأسباب المانعة للتعريف على طريقة المشائين، اقترح السُّهرَورْدي طريقًا
آخر
للتعريف هو ما يُسمِّيه التعريف بالمفهوم والعناية.
٣
وإذا كان السُّهرَورْدي قد أنكر التعريف الأرسطي القائم على الجنس والفصل باعتباره
قائمًا
على نزعة ميتافيزيقية، فهو بهذا يكون قد سبق بعض المناطقة المحدثين في إنكار هذا التعريف،
فنجد
إيتون
Eaton يُهاجم نظرية أرسطو في المحمولات التي هي أساس
نظريته في التعريف، هذه النظرية — فيما يذهب «إيتون» — نظرية ميتافيزيقية ووجودية وليست
نظرية
منطقية، وإن كانت مقدمة للقياس باعتبارها جزءًا من تحليل القضايا، فهي تعكس وجهة نظر
أرسطو
الميتافيزيقية في الأصناف وفي الأجناس والماهيات المحددة، كما تعكس وجهة نظر الفلسفة
العامة في
أن المعرفة العلمية تكون تدرجًا من الصور وتعرض المحمولات الأربعة التي تكلَّم عنها أنماط
العلاقات المختلفة التي من الممكن أن تقوم بين الصور المعبرة عنها في القضايا؛ فكل محمول
يعبر
عن نمط من هذه العلاقات بين الكليات. وقد ميزت النظرية بين العلاقات الضرورية والعرضية،
وأساس
هذا التمييز هو الواقع الأنطولوجي.
٤
ومن ثم يتضح موقف «إيتون» من تعريف أرسطو أنه يهاجم نظرية التعريف الأرسطية لأنها
مختلطة
بمباحث ميتافيزيقية وأنطولوجية. غير أن دعاة الوضعية المنطقية يعترفون بأن هذه النزعة
الميتافيزيقية في التعريف الأرسطي نزعة مُتسامية، ولكنها لم تصل إلى الدرجة التي يُمكن
معها أن
تكون نظرية علمية، بمعنى أن دعاة الوضعية المنطقية يرون أننا لن نصل إلى الحدود الحقيقية
إلا
نادرًا؛ لأن معرفة وإثبات الشيء الذي تتألف منه ماهيتها أمر صعب؛ لأنَّ عملية الحد لا
تتيسر لكل
إنسان؛ فإن هذا لا يرفع الإشكال من الناحية العملية؛ لأن الأشياء لا تعرف بحقائقها فحسب،
بل
تعرف بعلاقاتها بالأشياء، بمعنى أن الشيء المُعرف يَنقسم إلى عنصرين أساسيين؛ وهما: الجنس
والفصل، وإنما الغاية هي تجديد الطريقة التي تستعمل بها كلمة من كلمات اللغة، فكأنَّهم
حينئذ لا
يَبحثون عن جوهر الأشياء، بل يبحثون عن معنى اللفظ في اللغة التي اتَّفق على استعمالها
لأداء المعاني.
٥
وهم في هذا الاتجاه يراعون المظهر الخارجي للأشياء، وليشتقُّوا منه الصفات التي يمكن
أن
تكون من العوامل الأساسية في التعريف، بخلاف ما درج عليه المنطق التقليدي الأرسطي في
النظر إلى
الأشياء نظرة جوهرية لا تتغيَّر بتغير الأعراض الخارجية، ويظهر الفرق واضحًا بين النظرية
الوضعية والنظرية الأرسطية في مثال «الماء» إذا تجمَّد أو تبخر؛ فالماء والثلج والبخار
صور ثلاث
لطبيعة واحدة، والنظرية الجوهرية لا تختلف في نظرتها إلى هذه الطبيعة مهما تغيَّرت عوارضها؛
ومن
ثم يكون التعريف واحدًا لها حتى إن اختلفت صورها.
٦
وإذا كان السُّهرَورْدي سبق المناطقة المُحدَثين، وبخاصة دعاة الوضعية المنطقية في
عدم
الأخذ بالتعريف القائم على الجنس والفصل، وعدم الوصول إلى الماهية، فقد حاول السُّهرَورْدي
أيضًا وضع تعريف جديد مختلف تمامًا عن التعريف الأرسطي،
٧ وهذا التعريف يُمكن إدراكه إما عن طريق الإحساس، والأمور المحسوسة تدرك تمام
الإدراك، وإما طريق الكشف والعيان، وهو أدق الطرق وأوثقها، وتفسير هذا أن هناك طريقين
لإدراك
التعريف الصحيح:
- (١)
طريق المعرفة الحسية.
- (٢)
فالمعرفة الحسِّية تدرك بالمشاهدة الخارجية، وهي وحدها التي تعطي الخاص، وهي تعطي
معرفة
جديدة لا يمكن للتعريف الأرسطي أن يصل إليها، وهي الضامن لصدق المعرفة الإنسانية ومقياس
صدقها؛
فالواقع منه المجهول ومنه المعلوم، والمعرفة الإنسانية جزئية لأنها لا تستطيع إلا أن
تحصل على
المعلوم دون المجهول، في حين أن المعرفة الإشراقية تعطينا المجهول والمعلوم على حد سواء،
والمعرفة الإشراقية هي النقطة اليقينية الضرورية لكلِّ معرفة إنسانية، وهي تُعطينا معرفة
بالواقع، في حين أن التصورات عاجزة تمامًا عن الخروج من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان،
ثم يضع
السُّهرَورْدي التعريف الكامل لديه، ويُسمِّيه التعريف بالمفهوم بالعناية، ويُحدِّده
بأنه
التعريف بأمور لا تختص آحادها الشيء ولا بعضها، بل تخصه للاجتماع.
٩
ومما لا شك فيه أن السُّهرَورْدي إذا كان قد ذكر بأن التعريف يتم بأمور تخصه: إما
بتخصيص
الآحاد والبعض أو الاجتماع (الكل)؛ فالتعريف هو انتقال من العام إلى الخاص، ومن الكل
إلى
الجزئي، ومن غير المُشخص إلى المُشخص، في حين أن التعريف الأرسطي انتقال من عام إلى عام،
ولكن
بدرجة أقل كما هو واضح في الكليات الخمس؛ فهي كليات لا تشير إلى تخصص، ومن ثم يستحيل
تعريف
الشيء عن طريقها.
١٠
وإذا كان السُّهرَورْدي قد سبق بعض المناطقة الأوروبيين في العصر الحديث في التعريف
الصحيح
القائم على الكل أو الاجتماع، إلا أنه يختلف عنهم في أن هذا التعريف، والذي أطلق عليه
اسم
التعريف المفهومي، هذا التعريف يَنتفِع به في العلوم نفعًا لا يقصر عن التعريف فحسب الماهية
والحقيقة.
١١
لأنَّ التعريف المفهومي عند السُّهرَورْدي أصح من التعريف بحسب الحقيقة ولا صعوبة
فيه؛
لأنَّ التعريف بحسب الحقيقة قد ينقدح وجوده في ماهية لا يعلمها صاحب التعريف (الحاد)،
كما أنه
يجوز الإخلال بذاتي لم يطلع عليه، وعلى العموم تكثر في هذا التعريف الأغاليط الحدية.
١٢
ويُفرق السُّهرَورْدي بين الحد بحسب المفهوم والعناية وبين الرسم؛ لأنَّ الرسم يحصل
باللوازم. بينما الحد المفهومي هو مجموعة المحمولات الذاتية التي نطلقها على الشيء بحسب
المفهوم، كما يفرق بين التعريف بحسب المفهوم والعناية، والتعريف بحسب الاسم؛ فالتعريف
بحسب
المفهوم والعناية هو تصور أمور موجودة بالفعل، أما التعريف بحسب الاسم فهو تصوُّر مفهومات
غير
معلومة الوجود في الخارج، سواء كانت موجودة أم لا.
١٣
وتفسير هذا أنه لا بد أن يتمَّ التعريف بأمور تختص مجموعها بالشيء دون شيء من أجزائه.
تعرف
الخفاش مثلًا أنه طائر ولود، وكل واحد من هذين الأمرين أعم من الخفاش، ومجموعها يختص
به. أو
تعرف الإنسان بأنه المنتصب القامة البادي البشرة، العريض الأظفار. وكلٌّ من هذه الصفات
وإن جاز
وجودها في غيره، ولكن المجموع يختص بها دون غيره مما نعرفه بين الماهيات، وما به ليتحصل
تميزه.
١٤ وهنا يتَّضح أن السُّهرَورْدي قد سبق بعض المناطقة المحدثين، وبخاصة جون استيوارت
مل
G. S. Mill وبرنارد بوزانكيت
B.
Bosanquet.
فإذا كان «جون استيوارت مل» قد رفَض التعريف الأرسطي، فإنه يرى أن التعريف الصحيح
هو تعديد
الصفات الخاصة بكل فرد،
١٥ غير أنَّ «مل» قد سخر هذا التعريف لأسباب خاصة تخدم النزعة التجريبية التي يؤمن
بها، ولهذا نجد «مل» يدعو إلى تعريفٍ فردي واسمي يفسر الاسم، ويعدد صفات الفرد التي تتبين
لنا
عن طريق الإحساس، في حين أن التعريف عند السُّهرَورْدي هو الذي يعدد صفات الفرد التي
تتبين لنا
عن طريق الإحساس أو طريق المشاهدة والذوق، فإذا وضح التعريف عن طريق الإحساس لا مانع
من الأخذ
به، لكن إذا وضح عن طريق المشاهَدة والإدراك المباشر كان هذا أفضل.
أما بوزانكيت فقد أشار إلى أنَّ التعريف الصحيح هو جمع الصفات، بمعنى إحصاء كل الصفات
الذاتية، التي إذا أخذت جملة لم توجد إلا في الشيء المُعرف، ولو أنها قد توجد فرادى في
أشياء أخرى.
١٦
وهكذا يتَّضح أن السُّهرَورْدي رفض نظرية التعريف كما وضعها أرسطو في الأورجانون،
وذلك
لأنها تستند إلى الماهية وتكوينها في الجنس والفصل، ويكاد يتَّفق مع المتكلمين والفقهاء
في هذا.
كما يعدُّ سابقًا لبعض المناطقة الأوروبيين في العصر الحديث. والسبب في هذا يرجع إلى
أن نظرية
التعريف عند أرسطو ذات طابع ميتافيزيقي. هذا الطابع ترفضه كل الدراسات المنطقية القديمة
والحديثة.
كما سبق السُّهرَورْدي بعض المناطقة الغربيين في العصر الحديث في محاولة وضع تعريف
بديل عن
التعريف الأرسطي، وإن اختلف كلٌّ منهما في أمر هذا التعريف؛ أي إنهم يتفقون في المبدأ
ويختلفون
في الغاية.
ثالثًا: اختصار المقولات الأرسطية
إذا كان السُّهرَورْدي قد نقد المقولات العشر عند أرسطو، ثم اختصر هذه المقولات في
خمس، وهي
الجوهر والكم والكيف والنسبة والحركة؛ فالسُّهرَورْدي قد سبق معظم مناطقة العصر الحديث
في نقد
المقولات العشر، باعتبار أن أرسطو لم يكن دقيقًا أو متتبعًا لمنهج معين،
١٧ بمعنى أدق إذا كان السُّهرَورْدي قد أكد أن التقصير في المقولات كما وضح آنفًا،
فذلك لأن هذه المقولات — على حد تعبير عالم المنطق الفرنسي «جوبلو»
Goblot — اختلف المناطقة فيها اختلافًا شديدًا، حيث لم يستقر
بعد لقائمة من قوائم هذه المقولات أي قرار، وليس هذا بغريب، فإن العلم الحديث أيضًا غير
مستقر،
ولكن لا يمنع عدم الاستقرار والغموض في تقدم العلم، بل على العكس هو الدافع له.
ويلاحظ «جوبلو» أن الهندسة اكتملت في كثير من ميادينها، مع العلم أنه لا يوجد تعريف
غير
منقوض حتى الآن للخط المستقيم.
١٨
ومما لا شك فيه أن محاولة السُّهرَورْدي رد المقولات العشر إلى خمس، تعد تصنيفًا
جديدًا
لمبحث المقولات سبق به السُّهرَورْدي بعض المناطقة المحدثين الذين حاولوا وضع تقسيمات
جديدة
للمقولات، وأهمهم كانط
Kant؛ فقد أراد كانط أن يتوج المنطق
بقائمة للمقولات على غرار ما فعل أرسطو من قبل، غير أن المقولات، وإن كان بعضها مماثلًا
لمقولات
أخرى عن أرسطو، فليس لها دلالة المقولات الأرسططاليسية، بل إن بين الفلسفتين فارقًا أساسيًّا
في
وجهة النظر، ذلك لأن الانقلاب الذي أحدثه «كانط»، والذي كان استمرارًا لتفكير «ديكارت»،
قد أحل
المثالية الحديثة محل واقعية الفلسفة القديمة.
١٩
ويقسم «كانط» المقولات إلى اثنتي عشرة مقولة: أربع رئيسية وهي: الكم والكيف والإضافة
والجهة، وتنطوي كلٌّ منها على ثلاث مقولات فرعية؛ فالمقولات الفرعية للكم هي: «الواقعية
والسلبية والتحديد»، والمقولات الفرعية للإضافة هي: الجوهر والعلية والمشاركة، أما المقولات
الفرعية للجهة فهي: «الإمكان والوجود والضرورة».
٢٠
ولقد كانت قائمة المقولات عن «كانط» نقطة بداية قوائم أخرى، نسبتها إلى قائمة «كانط»
هي نفس
نسبة أرسطو للقوائم التي وضعها المناطقة العرب إلى قائمة أرسطو؛ فنجد مثلًا عالم المنطق
الفرنسي
«رونفييه» متأثرًا ﺑ «كانط»، وفي ضوء المذهب الكانطي يرى أن المقولات هي قوانين المعرفة
الأولية
والتي لا يمكن ردها إلى غيرها، وهي العلائق التي بها تعين الصورة وينتظم الآن. أما هذه
المقولات
عنده فهي الوجود، أو العلاقة، العدد والوضع والتتابع والكيفية والتغيير والعلية والغائية
والشخصية.
٢١
كما تطلع «هاملتون»
Hamilton (١٨٥٦–١٩٠٧) إلى بناء سلسلة
للمقولات، وذلك عن طريق العلية الثلاثية التي سار عليها «كانط»، والمركب من القول ونقيضه،
ويحصرها في خمسة مواضع:
هذه صورة للمقولات في المنطق الحديث، حاولنا تلمسها لكي نثبت أن السُّهرَورْدي سبق
دعاة
المنطق الحديث فيما توصلوا إليه بخصوص اختصار المقولات الأرسطية.
رابعًا: الاهتمام بالقضايا الشرطية بجانب القضايا الحملية
عرض السُّهرَورْدي للقضايا الشرطية بعد عرضه للقضايا الحملية على أساس أنها ما يتركب
من
القضايا الحملية؛ أي القضايا الحملية هي ما يتركب من الحدود، والقضايا الشرطية هي ما
يتركب من
القضايا الحملية «قد يجعل من القضيتين قضية واحدة، بأن يخرج كل واحدة منهما عن كونها
قضية ويربط
بينهما؛ فإذا كان الربط بلزوم، يسمى قضية شرطية متصلة، كقولهم: إذا كانت الشمس طالعة
كان النهار
موجودًا، وما قرن به حرف الشرط من جزءيها يسمى المقدم، وما قرن به حرف الجزاء يسمى التالي.»
٢٣ وتحديده هذا للقضية الشرطية المتصلة لا يختلف عما هو معروف لدى ابن سينا، وكذلك
الأمر فيما يتعلق بالشرطية المنفصلة التي يذكر فيها التحديد والأمثلة ذاتها «إن كان الربط
بين
الحمليتين بعناد يسمى شرطية منفصلة، كقولنا: إما أن يكون هذا العدد زوجًا وإما أن يكون
فردًا،
ويجوز أن يكون أجزاؤها أكثر من اثنين، والحقيقة هي التي لا يمكن اجتماع أجزائها ولا الخلو
عن أجزائها.»
٢٤
ولكن السُّهرَورْدي لا يحاول رد القضايا الشرطية إلى قضايا حملية، وإن كان ذلك ممكنًا
لبعضها الذي يكون أقرب إلى الحملية منه إلى الشرطية، لوجود أداة الشرط أو الفصل بعد الموضوع.
يقول السُّهرَورْدي: «اعلم أن الشرطيات يصح إلى الحمليات بأن يصرح باللزوم أو العناد،
فيقال:
طلوع الشمس يلزمه وجود النهار أو يعانده الليل، فكأن الشرطيات محرفة عن الحمليات.»
٢٥
ومعنى هذا أن السُّهرَورْدي لا يوافق على اعتبار القضية الشرطية حملية، وإن كان بعض
الشرطيات من الممكن أن يكون في قوة الحمليات، أو أقرب إلى الحملية منه إلى الشرطية، ومن
الممكن
رده إلى الحملي، ولكن ذلك لا ينبغي وجود الشرطي، وإن تساوى مع الحملي للتلازم الموجود
بين
القضايا.
ولقد رفض السُّهرَورْدي اعتبار القضايا الشرطية حملية، لعدم تساويها وإن وجد تساوٍ
بينهما،
فإنه لا يقضي على ضرورة وجود الشرطيات.
والسُّهرَورْدي بذلك يكون على اتفاق مع ابن سينا الذي اهتم بالقضايا الشرطية، ورأى
ضرورة
استغلالها وعدم إمكان ردها إلى الحملية دون إفساد لطبيعتها، وأن الحملية لا يمكن أن تؤدي
المعنى
الذي تؤديه الشرطية، وإن كان هناك قضايا شرطية ومنفصلة هي
أقرب إلى الحملية منها إلى الشرطية، وهي التي تأتي أداة الشرط أو أداة الفصل بعد الموضوع
لا
قبله، وقد أوضح ابن سينا ما يميز الشرطية والمنفصلة عن الحملية، وإن كان هناك أمور مشتركة
بينهما.
٢٦
ومن ثم يتضح مدى تأثر السُّهرَورْدي بابن سينا، وهذا يدل على أن كلًّا منهما على اتفاق
في
نقد المنطق الأرسطي الذي أهمل هذا النوع من القضايا والاستدلالات، الأمر الذي يترتب عليه
أن
القياس الأرسطي ليس هو المنطق الأولي، وأن المنطق الشرطي سابق عليه منطقيًّا، لأنه منطق
قضايا
غير محللة، وبالتالي يكون أقل تعقيدًا من منطق أرسطو الذي هو منطق للقضايا المحللة إلى
موضوع
وسور ورابطة منفية أو مثبتة.
إن اهتمام السُّهرَورْدي وابن سينا بمبحث القضايا الشرطية يجعل كلًّا منهما على اتفاق
مع
المنطق الرياضي الحديث الذي يحلل القضية الحملية الكلية فيردها إلى قضية شرطية، ويحلل
القضية
الحملية الجزئية، ويردها إلى قضية متصلة أو عطفية، من الممكن أن تحول إلى منفصلة، وحتى
إلى شرطية.
٢٧
ومن أشهر من قام بذلك «فريجه»؛ حيث حاول وضع رموز تعبر عن جميع القضايا الحملية،
بعد
تحليلها تحليلًا كاملًا وصياغتها بلغة الأسوار والدوال، وقد بيَّنَ أن جميع التعبيرات
الدالية
ذات الأسوار عن القضايا الحملية من الممكن أن توضع على هيئة قضايا شرطية، أو على هيئة
قضايا من
الممكن أن ترد إلى الصورة الشرطية.
٢٨
سادسًا: رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية
إذا كان السُّهرَورْدي قد رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية، مؤكدًا أنه في العلوم
لا تطلب
البرهنة على القضايا الجزئية، بل على القضايا الكلية؛
٣٥⋆ فالسُّهرَورْدي هنا كان
هدفه هو العمل على التخلص من الإهمال والبعضية بالافتراض؛ أي من خلال فرض أن المجموعة
الجزئية
تشكل فئة مستقلة ذات خصائص مميزة يمكننا أن نطلق عليها حكمًا كليًّا يشمل جميع أفرادها،
وإذا تم
حمل المحمول على كافة عناصر الموضوع تصبح القضية كلية، وبذلك يمكن رد القضية الجزئية
إلى قضية
كلية، من خلال الحصر الواضح للأفراد التي ينطبق عليها الحكم، وكأنه عودة بالقضية الجزئية
إلى
نوع من الاستقراء التام الذي نعمل من خلاله على تكوين فئة مستقلة تامة من هذه الجزئيات؛
أي إذا
قلنا «بعض الورود حمراء» نستطيع جعلها قضية كلية من خلال الاستقراء الذي يعمل على تحديد
الأنواع
الحمراء بشكل دقيق، والتي هي «أ، ب، ج، د»، ونستطيع بعد ذلك أن نحمل عليها حكمًا كليًّا.
٣٦
وما توصل إليه السُّهرَورْدي يذكرنا ربما — على حد تعبير «بوزانكيت»
Bosanquet — «أن القضية الجزئية قضية غير علمية؛ فهي تعبر عن
وصف ناقص، كما أنها تعبر عن إحصاء غير تام».
٣٧
علاوة على أن المناطقة الرياضيين يرون أن الانتقال من مقدمة أو مقدمات كلية إلى نتيجة
جزئية
غير جائز؛ لأن الكلية مجرد فرض لا يتضمن ذلك الوجود الذي تشير إليه القضية الجزئية، كما
أن
القضايا الكلية لكونها فروضًا تكون صادقة دائمًا، سواء وجد موضوعها أو لم يوجد، في حين
أن
القضية الجزئية قد تصدق وقد تكذب.
٣٨
ويظهر الفرق واضحًا بين القضية الجزئية والقضية الكلية عند «برتراند راسل»، الذي
يرى أن
القضية الجزئية تحوي السور الوجودي، وثابت الربط، ولا تنطوي على صيغة الشرط، بينما القضية
الكلية تحوي السور الكلي، وثابت التضمن، الذي ينطوي على شرط، وذلك لتوضيح أن القضايا
الجزئية
تقرر وجودًا واقعيًّا لموضوعها، ومن ثم ثابت صيغة الشرط، بينما القضية الكلية لا تتضمن
تقرير
الوجود الواقعي لموضوعها، ومن ثم صيغت في شرط، وبالتالي يمكن لأفراد موضوعاتها وجود واقعي.
٣٩
وإذا كان السُّهرَورْدي قد رد القضايا الجزئية إلى قضايا كلية، فهو لا ينكر القضايا
الجزئية، وإنما يرى أنه ينتفع بها بعض نواحي التناقض والعكس المستوي. ويمكن تلمس هذه
الفكرة
بطريق غير مباشر لدى عالم المنطق «كينز»
Keynes الذي يرى أن
للقضية الجزئية فائدتين:
سابعًا: عدم اعتبار القضايا الشخصية قضايا كلية
إذا كان السُّهرَورْدي قد أنكر القضايا الشخصية حين ذكر بأن «الشواخص لا يطلب حالها
في
العلوم»؛ فذلك لأنه يرفض تمامًا اعتبار الشواخص قضايا كلية — كما ذهب أرسطو؛ حيث رأى
أرسطو
وتلامذته أن القضية الشخصية والكلية من صورة منطقية واحدة، والشواهد على ذلك ما
يلي:
- (١)
كان أرسطو يعتبر القضية الشخصية كما لو كانت قضية كلية إذا دخلت مقدمة في
قياس.
- (٢)
تنطوي القضية الكلية على تقرير وجودي لأفراد موضوعها؛ أي أن الحد العام يدل على وجود
واقعي، كما أن اسم العلم يشير إلى شيء جزئي في الواقع، ذلك لأن أرسطو كان قد وصل إلى
صياغة نظريته الواقعية في المعنى، يكون بمقتضاها للكليات والمعاني العامة قوام واقعي،
وإن
كان واقعًا غير محسوس.
- (٣)
موضوع القضية الشخصية مستغرق كموضوع القضية الكلية، ذلك لأننا ننظر إلى «سقراط» في
القضية «سقراط فانٍ» مثلًا على أنه حد يسند المحمول كله إليه لا إلى جزء منه، واسم العلم
لا يجري عليه التَّجْزِيء.
٤١
وبالرغم من أن أرسطو وتلاميذه لم يميزوا تمييزًا حاسمًا بين القضية الشخصية والقضية
الكلية،
فإنَّا نجد عند السُّهرَورْدي نقطًا توحي بإدراكه لهذا التميز حين أشار إلى أن الشواخص
لا يطلب
حالها في العلوم.
والسُّهرَورْدي بهذا قد سبق المنطق الحديث الذي يرى أن فكرة اعتبار القضايا الشخصية
قضايا
كلية اعتبار خاطئ، ويعلل بعض الباحثين هذه الاعتبارات للأسباب الآتية:
٤٢
- (١)
موضوع الكلية حد كلي يشير إلى فئة أو مجموعة، أما موضوع الشخصية فحد فردي أو شخصي
يشير إلى شيء واحد بعينه، وليس إلى كثرة من الأشياء.
- (٢)
الكلية قضية مسورة أو تقبل التسوير، أما الشخصية فهي غير مسوَّرة ولا تقبل
التسوير.
- (٣)
الكلية قضية من الممكن أن تعكس عكسًا كاملًا، أو بالعرض، بأن يحل موضوعها محل
محمولها، ومحمولها محل موضوعها، مع المحافظة على الكيف والصدق وعدم استغراق الحدود التي
لم تكن مستغرقة، وبالنسبة للكم فقد حافظ عليه في حالة العكس الكامل ولا تحافظ عليه في
حالة العكس بالتحديد (الذي لا يجيزه المنطق الحديث)، أما الشخصية فلا يمكن أن تعكس في
جملة أو قضية مقبولة لغويًّا.
- (٤)
من الممكن أن نحصل من الكلية على نقض العكس المستوي، وعكس النقيض المخالف والموافق
والنقض الجزئي (نقض الموضوع) والنقض التام (نقض الموضوع والمحمول)، أما في الشخصية فلا
يمكن الحصول على أي نتيجة لاستحالة إجراء هذه العمليات الاستدلالية ابتداء من الشخصية،
نظرًا لعدم إمكان عكسها.
- (٥)
بين الكلية الموجبة والكلية السالبة يقوم تضاد، فلا تصدقان معًا، وقد تكذبان معًا،
لإمكانية انطباق الحكم على البعض دون البعض الآخر، وبالتالي لا يصح انطباقه على الكل
أو
عدم انطباقه على الكل، أما بين الشخصية الموجبة والشخصية السالبة فهناك تنافٍ؛ فلا تصدقان
معًا ولا تكذبان معًا، ووجود أي احتمال آخر فحكمه حكم التناقض، وإن كان لا يشترك مع
التناقض إلا في اختلاف الكيف؛ لأنه لا ينطوي على اختلاف في الكم.
- (٦)
بين الكليات والجزئيات المتحدة في الكيف هناك تداخل يقبله ضمنًا أرسطو، ويقبله صراحةً
أتباع أرسطو، ابتداءً من «الإسكندر الأفروديسي» الذي أدخله ويرفضه المنطق الحديث، أما
بين
الشخصيات والجزئيات فلا تقوم مثل هذه العلاقة، بل تقوم علاقتان جديدتان، هما: التمثيل
الوجودي في حالة الانتقال من الجزئيات إلى الشخصيات، والتعميم الوجودي في حالة الانتقال
من الشخصيات إلى الكليات.
- (٧)
بين الكليات والشخصيات المعتمدة في الكيف تقوم علاقتان جديدتان هما التمثيل الكلي،
إذا انتقلنا من الكليات إلى الشخصيات، والتعميم الكلي إذا انتقلنا من الشخصيات إلى
الكليات، وبين كليات متحدة في الكيف لا تقوم أيٌّ من هاتين العلاقتين.
- (٨)
بين الكليات والجزئيات المخالفة في الكيف تناقض لا يجتمع فيه صدق القضيتين
المتناقضتين أو كذبهما، أما بين الشخصيات والجزئيات المخالفة لها في الكيف فلا توجد أي
علاقة.
- (٩)
القضية الكلية من الممكن أن تستخدم كمقدمة كبرى في جميع أشكال القياس، أما القضية
الشخصية فلا نستطيع أن نستخدمها كمقدمة كبرى في جميع أشكال القياس، باستثناء الشكل الثالث
الذي ننتقل فيه من مقدمات شخصية إلى نتيجة جزئية، وقد سمح أرسطو باستخدام الشخصية كمقدمة
في قياس بعد أن كان — فيما يبدو — يرفض ذلك.
- (١٠)
القياس الذي يحتوي على قضية كلية من الممكن أن تبرز مشروعيته برده إلى الضرب الكامل،
أو بأن يشتق منه إذا لزم الأمر، بإجراء عكسٍ مستوٍ كامل، أو بالعرض على هذه القضية الكلية
أو الكلية المناظرة لها في الضرب الكامل، أما القياس الذي يحتوي على قضية شخصية، فلا
يمكن
أن تبرز مشروعيته برد أو باشتقاق، ما دامت الشخصية لا تعكس.
إذن فاعتبار أرسطو للشخصيات على أنها كليات أمر مرفوض، ويجب علينا أن نعتبر الشخصيات
قضايا
— مستقلة عن الكليات.
٤٣
ثامنًا: التحلل من عدد أضرب أشكال القياسات الأرسطية
إذا كان السُّهرَورْدي قد رد كل ضروب أشكال القياس إلى الضرب الأول من الشكل الأول،
فهو في
هذا لم يقبل الشكلين الثاني والثالث؛ لأن القضية الوحيدة المنتجة عنده هي القضية الكلية
الموجبة
الضرورية (البتاتة).
وهنا يتضح أن السُّهرَورْدي قد حاول لأول مرة في تاريخ المنطق العربي التحلل من عدد
أضرب
أشكال القياسات الأرسطية، وتلك كانت غاية بعض المناطقة الرياضيين في العصر الحديث، الذين
حاولوا
اختبار أضرب أشكال القياسات الأرسطية في ثلاث طرق:
٤٤
- (١)
الطريقة الجبرية.
- (٢)
الطريقة الهندسية.
- (٣)
الطريقة المنطقية.
ويمكن أن نعرض لهذه الطرق بإيجاز:
(١) الطريقة الجبرية
وتتمثل هذه الطريقة عند «ليبنتز» و«هاملتون» و«جورج بول». أما «ليبنتز» فقد جعل الشكل
الأول مكونًا من ستة ضروب، وذلك أنه يستبدل بالنتائج
الكلية لكلٍّ من
celarent،
barbara جزئيات متوافقة، كما أنه يضع ستة أضرب للشكل
الثاني، وذلك بأن يقيم عملية تداخل لنتائج
cesare،
camestres، وأخيرًا يضع ستة أشكال للشكل الرابع، وذلك بأن
يقيم عملية تداخل لنتيجة
celarent، ولكن كل هذه التقابلات
ليست في الحقيقة إلا أقيسة لاحقة
episyllogism؛ أقيسة تتضمن
نتيجة القياس السابق، ولا صلة لها إطلاقًا بمقدمات القياس الأصلي، لكن «ليبنتز» اعترف
مع ذلك
بأن الضروب التقليدية هي وحدها المنتجة. وقد اعترف أيضًا بأن أشكال المدرسيين الأربعة
تتفاوت
دقة وشرفًا. الشكلان الثاني والثالث أقل درجة من الأول، والشكل الرابع أقل درجة من الثاني
والثالث، وكل الضروب ترد إلى مبدأ الذاتية، وتثبت بواسطة قياس الخلف، وذلك بسبب التعارض
الذي
يوجد بين المقدمة والنتيجة المتناقضة معها ذات الكم والكيف المختلفة، والتي تصل إلى نفس
المقدمتين من هذه النتيجة.
٤٥
وأما هاملتون فإن رأيه في عدد الأشكال والضروب إنما يتكيف طبقًا لنظرية كم المحمول
وتصوره
العام عن المنطق الصوري. وقد قام هاملتون بتبسيط الأشكال كلها، وذلك أن محل قضية عنده
هو
مساواة أو رمز على مساواة كمية تحل محل الرابطة المنطقية الكيفية. ليس هناك إذن حد أكبر
ولا
أصغر ولا أوسط، ولا يوجد شكل قياس. الشكل: هو تغير عرض للصورة القياسية، إذن ليس ثمة
مشروعية
في رد الشكل الثالث إلى الأول، والشكلان الثاني والثالث صورتان غير متكاملين، استدلالين
غير
تامين، والأقيسة الوحيدة هي الأشكال الثلاثة الأولى. وأميز مثال للاستدلال هو:
والمبدأ الذي يسيطر على المنطق عنده ويسوده هو مبدأ إحلال المتشابهات؛ الواحدة محل
الأخرى، وهذا مبدأ رياضي بحت، وكانت له أهمية في جيفونز
Jevons الرياضي فيما بعد.
كان هاملتون يميل إلى اعتبار المنطق جبرًا أو علامات تحل محل الأفكار، وقد أدت محاولة
هاملتون هذه إلى أنه وضع عددًا من الضروب أكثر بكثير من ضروب المنطق المدرسي؛ ففي الأشكال
الثلاثة التي قبلها هاملتون، يكون عدد الضروب المنتجة مائة ضرب لكل شكل؛ ١٢ ضربًا موجبًا،
و٣٥
ضربًا سالبًا.
٤٦
وأما جورج بول فقد أكد أننا نستطيع أن نبرهن بطريقة جبرية على صحة الأضرب القياسية،
ونستطيع بها أن نسقط الأضرب غير المنتجة والفاسدة التي تسقطها الطريقتان اللتان اتبعهما
المناطقة المشاءون (الطريقة التجريبية والطريقة التقليدية)، ولكنها تسقط بالإضافة إلى
ذلك
خمسة أضرب ضعيفة، سمح بها مناطقة العصور الوسطى هي
Barbari،
Celaront،
Cesarop،
Camestro،
Camenop، وأربعة
أضرب قوية سمح أرسطو باثنين منها وهما
Darapti،
Felapton، وسمح من أدخل الشكل الرابع ومن تابعه بالاثنين
الباقيين، وهما
Bramantip،
Fesapo، وذلك لأن هذه الأضرب تنتقل من كليات تعبر عن فروض
إلى جزئيات تؤكد الوجود، وعلى ذلك فهي تقبل خمسة عشر ضربًا من الأضرب التي تقبلها الطريقة
المشائية الأرسطية، وترفض الأضرب الباقية.
٤٧
(٢) الطريقة الهندسية
وتتمثل لدى «جون فن»
G. Venn، وفي هذه الطريقة حاول فن أن
يبرهن برسوم هندسية بدون معرفة أي قاعدة من قواعد القياس العامة أو الخاصة بكل شكل من
الأشكال
الأربعة، وأن هذه الطريقة الهندسية تسقط كما أسقطت الطريقة الجبرية تسعة أضرب صحيحة عند
أرسطو
وعند أتباعه، منها أربعة قوية وخمسة ضعيفة، ويسقط منها مبدأ المقول على الكل وعلى اللاواحد
الذي يقرر أن ما يصدق على الكل أو نفيًا يصدق على كل ما يتدرج تحته؛ لأن هذا الكل قد
لا يكون
له وجود.
٤٨
(٣) الطريقة المنطقية
وهي طريقة حساب القضايا؛ فهي تبرهن على فساد الأضرب الفاسدة؛ لأننا في حالة هذه الأضرب:
إما أن نتوقف فلا نجد من القواعد ما يسعفنا، ولكن ليس التوقف دليلًا كافيًا على فساد
القياس
أو الاستدلال، فربما يرجع إلى معرفة القواعد، وإما أننا لا نتوقف ونجد من القواعد ما
نستخدمه،
ونصل به إلى نتيجة تخالف نتيجة القياس، وذلك كما في الأضرب الضعيفة.
٤٩
تاسعًا: إنكار الشكل الرابع
إذا كان السُّهرَورْدي يقبل الشكل الأول لأنه أكمل الأشكال وأوضحها، كما يقبل الشكلين
الثاني والثالث، وإن كانا أقل وضوحًا من الشكل الأول، إلا أنه ينكر الشكل الرابع، باعتباره
القياس الذي لا يتفطن لقياسيته ولذلك حذف. فقد تأثر السُّهرَورْدي في هذا بابن سينا الذي
ينظر
إلى الشكل الرابع، وقد صرحه بالفعل فوضع بحثًا خاصًّا للشكل الأول وآخر للشكل الثاني،
وثالثًا
للشكل الثالث، وألغى اعتباره الشكل الرابع نهائيًّا الذي كان موضع أخذ ورد؛ لأنه بعيد
عن الطبع،
ولا تكاد تسبق قياسيته إلى الذهن وفي إثبات حجته كلفة مضاعفة كما يقول.
٥٠
وهنا يتضح أن إنكار السُّهرَورْدي للشكل الرابع يرجع إلى اختلاف المناطقة العرب فيه،
فمنهم
من ينكره ومنهم من يقبله؛ فالمتقدمون ينكرون هذا الشكل باعتباره:
- (١)
أنه بعيد عن الطبع وينطوي على كلفة ومشقة.
٥١
- (٢)
أن أرسطو هو واضع هذا الشكل، إنما هو من وضع المتأخرين.
٥٢
أما المتأخرون فقد تحدثوا عن هذا الشكل ضمن حديثهم عن أشكال القياس، محددين شروطه
وضروبه
المنتجة، فتحدثوا عن الضروب الخمسة المعروفة في كتب المنطق العامة.
٥٣
وأما في المنطق الأوروبي الحديث، فقد لقي الشكل الرابع كثيرًا من الهجوم والدفاع؛
حيث يرى
«كينز» أنه لا يكاد يظهر في كتب المنطق إطلاقًا قبل بداية القرن الثامن، ولا يزال يتنكر
له
كثيرون من علماء المنطق المحدثين، ومن هؤلاء «باون» Bowen الذي
يشير إلى أن الشكل الرابع ما هو إلا بمثابة الشكل الأول عكس حد النتيجة؛ أي أننا لا نستدل
على
النتيجة الحقيقية من الشكل الرابع، بل نستدل بها من الشكل الأول، ثم إذا دعا الحال عمدنا
إلى
نتيجة هذا الشكل الأول.
ولقد تابع «باون» كثير من المناطقة في إنكار الشكل الرابع؛ فيذكر «جوبلو» بأنه ليس
ثمة غير
ثلاثة أشكال للقياس الحملي، وذلك لأنه لكي يمكن الحد الأوسط أن يدخل الأكبر في الأصغر
أو
يستبعده منه، لا بد أن يكون مرتبطًا بالواحد وبالآخر، ولا يمكن إلا أن يكون موضوعًا للواحد
وللآخر مثبتان له أو منفيان عنه، أو محمولًا مثبتًا أو منفيًّا عن الواحد أو عن الآخر
أو عن
كليهما معًا … والحالة الأولى هي حالة الشكل الثالث، وفي الحالة الثانية إذا كان الحد
الأوسط
مرتبطًا مع الاستغراق، إما بوصفه موضوعًا للشكل الأول، أو بوصفه محمولًا للشكل الثاني؛
فإنه
يمكنه إدخاله في الموضوع أو إبعاده عنه، ولكن يجب من أجل هذا أن يكون مثبتًا للأصغر،
أما في
الشكل الرابع فإن الأصغر هو الذي سيكون للأوسط أو منفيًّا عنه؛ فإذا كان من الممكن استنتاج
شيء
من مثل هذه المقدمات، فإن ذلك لا يكون الصغرى والأوسط موضوعها مساوية لقضية الأصغر تستخرج
عنها
بواسطة العكس المستوي، هذه الأخيرة هي الصغرى حقًّا.
كما يهاجم جوزيف Joseph الشكل الرابع قائلًا إن نظرية
القياس قد أصابها كثير من الغموض والفساد بإضافة الشكل الرابع؛ لأن في جعله شكلًا مستقلًّا
يؤدي
إلى أن يكون التمييز بين الحد الأكبر والحد الأصغر قائمًا على أساس موضعهما في النتيجة،
وليس مع
طبيعتيهما، ما يجعل الأكبر أكبر والأصغر أصغر.
كما تعرض بعض المناطقة المحدثين لمشكلة وضع هذا الشكل الرابع؛ فبعض المناطقة يرون
أن
«جالينوس» هو واضع الشكل، والبعض الآخر يرفض ذلك، إلا أن «يان لوكاشفيتش» يثبت في دراسته
الدقيقة لنظرية القياس الأرسطية أن جالينوس ليس هو صاحب الشكل الرابع من أشكال القياس،
وإنما
انتقل هذا الرأي خطأ إلى المناطقة الأوروبيين في العصر الوسيط عن طريق ابن رشد، ويعتبر
لوكاشفيتش الآراء التي حاولت تبرير هذا الرأي بأن ثمة اكتشافًا أصلًا حول الشكل الرابع
من أشكال
القياس يثبته من خلال حاشية ضمنها «ماكسيمليان» و«أليس» لمؤلف مجهول، وذلك عند تحقيقه
للشروح
الأرسطية. ومن بين ما تثبته هذه الحاشية أن الشكل الرابع من وضع شخص آخر غير جالينوس،
ولكنه إما
أنه لم يفهم من نصوص جالينوس، ولم يطلع عليها أصلًا، وقد يكون أراد لرأيه حين نسب هذا
الشكل إلى
جالينوس على اعتبار أنه من كبار المناطقة بعد أرسطو.
٥٤ وعلى ذلك ينادي لوكاشفيتش إلى أن الشكل الرابع من أشكال القياس الحملي ليس من وضع
جالينوس، ولكنه أيضًا ليس من وضع مؤلف مجهول، إذ إن نصوص أرسطو الواردة في التحليلات
الأولى
تثبت أصلًا معرفته بالشكل الرابع من أشكال القياس، إلا أنه يأخذ على أرسطو قوله «إن كل
قياس لا
بد أن يكون في واحد من هذه الأشكال الثلاثة»، ذلك لأن أرسطو ذاته كشف عن وجه رابع ممكن
حين أخذ
يرد بعض ضروب من الشكل الرابع — الذي لم يتحدث عنه كشكل مستقل — إلى ضروب من الشكل الأول.
٥٥
وينتهي إلى النتيجة التالية:
«ينتج مما تقدم أن أرسطو يعلم ويقبل كل أضرب الشكل الرابع، وينبغي توكيد ذلك في معارضة
الرأي الذي ذهب إليه بعض الفلاسفة القائلين إنه رفض هذه الأضرب، وفي رفضها خطأ منطقي
لا نستطيع
أن ننسبه إلى أرسطو. ولقد كان الخطأ الوحيد يقوم في إهماله هذه الأضرب في قسمته المنهجية
للأقيسة، ولسنا نعرف السبب في ذلك الإهمال.»
٥٦