قصة «ديدالوس» و«أكاروس» تُروَى على روايات كثيرة في الأساطير اليونانية القديمة،
وقد
اخترنا هذه الأسطورة لنظمها والتعليق عليها؛ لأنها تجمع العبرة والمتعة الخيالية، وهذه
هي خلاصتها: ديدالوس بطل كانوا يضربون به المثل للقدرة الخارقة في الصناعة وحسن الحيلة
في تذليل المصاعب والخروج من المآزق، وزعموا أنه غار من ابن أخته الذي كان يتعلم على
يديه فقتله وأخفى جثته، ثم خاف العاقبة فهرب من أثينا ومضى يضرب في البلاد برًّا
وبحرًا، حتى نزل «كريت» على صاحبها «مينو» فلقي عنده كرامة وحسن وفادة، وأمَّل «مينو»
أن يستفيد من علمه وقدرته في تحصين بلاده وتعليم رعيته فأبقاه وتكفل له بالحماية وطيب
المقام.
وكان لمينو زوجة جامحة الهوى تحب ثورًا مشهورًا في الأساطير باسم «منوطور»، فولدت
منه
طفلًا لا إلى الثور ولا إلى الإنسان، وغلب عليها حب الأم فأرادت أن تستحييه وتحفظه في
غفلة من زوجها المخدوع، فلجأت إلى ديدالوس تطلب إليه أن يبني لذلك الطفل سردابًا مجهول
المنافذ تضعه فيه وتتعهده بالتربية والحراسة، فتردد الصانع أولًا وحسب حساب الرفض
والقبول، ثم قبل أن يصنع السرداب مخافة من دسيسة الزوجة واطمئنانًا إلى خفاء الأمر بعد
بناء السرداب، ولكن الملك علم به فثارت ثورته وأغلق مسالك الجزيرة ومنع أن يفلت ديدالوس
منها هاربًا من عقابه، فلما اشتد الحجر على ديدالوس هدته الحيلة إلى صنع أجنحة له
ولولده «أكاروس» يطيران بها عن الجزيرة، ونصح الحكيم الصناع ولده ألا يعلو في السماء
فتذيب الشمس لحام جناحه ولا يهبط على الماء فيبللهما الرشاش الكثير، ولكن الولد نسي
النصيحة وهو في نشوة الطيران والوثوب، فعلا مصعدًا إلى الشمس وكان ما خافه أبوه؛ إذ سقط
هالكًا على صخرة في البحر يبكيه من حولها نبات الماء، فالأسطورة مجال لاستعراض عِبَر
الشهرة والغيرة والشهوة والطماح:
أكاروس هذا مسبح الطير فاركبِ
وتلك المهاوي من خضارة
١ فاجنبِ
زوى الغاشم المخدوع عنا سفينه
ونادى، فنحى جنده كل مركبِ
وظن بنا عجزًا، فيا سوء رأيه!
متى حيل ما بين السماء وكوكبِ
أدر مركب الريش الذي ما استقله
أنيس ولا جن ولا ذات مخلبِ
وطِرْ نلتمس عبر
٢ الشمال ونرتحل
على سنة الطير التي لم تُهذَّبِ
تراها إذا ضاقت بلاد بسربها
على أهبة في جوِّها المتقلبِ
•••
ألا وادخر عزمًا يقودك شرخه
إلى الأوج، فاحفظه لشوط مغيبِ
وسر قدمًا إن المطار لواحد
ولكن سبيل الأوج ليس بمقربِ
٣
أكاروس! إنا هاربان من الردى
فلا تجعل العقبى إلى شر مهربِ
توسط فلا تهبط ولا تعلُ مصعدًا
ولا تكُ من يعلو إلى غير مطلبِ
فإنك إن تغتر بالشمس ينخذل
جناحك، أو تبتلَّ بالماء ترسبِ
هنا لافح يوهي اللحام، وها هنا
لريشك وهي من رشاش مرطَّبِ
أكاروس، إني باذل لك من يدي
ومن خبرتي ذخر الصناع المجربِ
تذكَّر عظاتي واعلم اليوم أنه
صنيع الحجى لا الكف أنفس مكسبي
ولا تتخذ ريشي وتنسَ نصيحتي
يخُنْكَ جناح الرأي يومًا فتعطبِ
أقل من الصخر امرؤ ضم جسمه
أمانة روح لم يصنها لمأربِ
ولي فيك أعمار طوال وللدنى
فأسند إلى عزم الصبا حزم أشيبِ
حياتك من بعدي معادي، ولن ترى
فتى صالحًا يجني الفناء على أبِ
ولِلأمسِ شوقٌ أن يَرى الغدَ طالعًا
فإن مات يومٌ قبل ماضيه فاعجبِ
٤
بُنَيَّ استمع قولي فما بعد نسيه
سبيل إلى تكراره لمعقبِ
إِلى الجو! هذا يا بني وداعنا
وللأرض منا لهفة المتغربِ
فإما لقاء بعدُ فوقَ صَعِيدِها
وإما فراق شاعب كل مشعبِ
•••
وصاة لديدالوس وصى بها ابنه
ونِعْمَ الموصِّي من حكيم مدربِ
صناع له كف كأن أكفنا
من العجز إن قيست بها لم تركبِ
عليم بأسرار الفنون، وإنها
لتُقبَس من سر الحياة المحجبِ
ومن يؤتَ تصريف الجماد يضف به
أكفًّا وأعضادًا إلى كل منكبِ
وناهيك ديدالوس من ذي حصافة
قدير على فعل الأعاجيب معجبِ
يُعِيرك من يمناه صوله قشعم
٥
وخلسة ثعبان وحيلة ثعلبِ
ويبني فمبناه عماد لأمة
وبيت لأجيال وزين لمنصبِ
ولكنه بئس الغيور على اسمه
وقد يحمل الغيران أوزار مذنبِ
تغيط لما بزه فرع صنوه
ولم يرع حق الأخت في ابن محببِ
فأصماه، لم يشفق عليه من الردى
وواراه، لم يندم ولم يتحوبِ
٦
وما كان إلا أن نبا بكليهما
فضاء أثينا من مقيم ومعزبِ
فهذا مسجى في ثراها مترب
وهذا مزجى دونها كالمتربِ
تشرد واستعدى لإخفاء أمره
ذكاء يريك النجم في جنح غيهبِ
ووارته من عين الغريم فنونه
وكانت منارًا بين شرق ومغربِ
وما زال يغروري البلاد ويتقي
تصعد أثناء الذرى بالتصوبِ
إلى أن تلقته «كريت» وربها
على خير أهل في حماها ومرحبِ
وأمَّل «مينو» منه حصنًا لملكه
وما ملك إلا له من صناعة
معاقل يبنيها ليوم عصبصبِ
•••
هنالك كان الأمن لو يأمن امرؤ
يُخاف ويُرجى للمخوف المؤربِ
٨
تحيَّر ديدالوس ما بين منكر
وشكر، وغب اثنيهما غير طيبِ
أيحمل شكر الملك أم كيد عرسه
وأنجاهما في طيه سم عقربِ
غوت غرس مينو واشتهت، ساء ما اشتهت
من الناس، لا بل من بهيم مذنبِ
تحن إلى ثور وتهوى اقترابه
وليس ولي العهد منه بمعجبِ!
فأولدها طفلًا له مثل ظلفه
إلى شر وجه آدمي ومنكبِ
ويا رب أنثى تعشق الثور كلما
سباها فتى بالجسم لا الروح يستبي
•••
فمن غير ديدالوس يخفي شنارها
ويرعى مهاد الطفل رعي المؤدبِ؟!
أهابت به أمًّا وأنثى حريصة
ومالكة حيرى، فلم يتهيبِ
بنى لسليل الثور حرزًا، وليته
تلمس حزرًا من غوائل مغضبِ
غوائل «مينو» حين ثارت ظنونه
وضاجع أشجان المعنَّى المعذَّبِ
وأقسم لا واقٍ من الموت عنده
ولا وائل من سخطه المتلهبِ
وأهول من هول الخضارم في الدجى
ضراوة مهتوك وغيظ مخيبِ
•••
فلما تنادى الجند وارتجت القرى
وخيف الأذى من حاضرين وغيبِ
وقالوا: أمن رب الجزيرة حربه
يوقيه عرض البحر أو طول سبسبِ
أهاب الصناع العبقري بفنه
فلباه، فاستعلى به متن أشهبِ
٩
تسربل من ريش وسربل نجله
خوافق لوى بينها ألف لولبِ
فحلق مزهوًّا وفر مظفرًا
وأغرى لسان السخر بالمتعقبِ
•••
مضى ناجيًا من بأس «مينو» فهل نجا
فتاه من البأس الذي فيه يختبي؟
بلى! قد نجا لولا طماح سما به
إلى الشمس في ثوب من النار مذهبِ
تعشقها مفتونة فتقبلت
هواه بوجه صادق النور خلبِ
وأسكره الشوق الجديد فما ارعوى
لنصح نصيح أو لزجر مؤنبِ
وما هي إلا وثبة بعد وثبة
إلى الشمس حتى عزه كل موثبِ
تعشقها نارًا، فإن جاءه الأذى
من النار، فليعتب فلا حين معتبِ
•••
علا بدم حي وخر مضمخًا
به في جناحي أرجوان مخضبِ
طريحًا على صخر تغشيه رغوة
من العيلم
١٠ الغضبان في غير مغضبِ
وراحت بنات الماء يندبن حوله،
ومن ير أنقاض الصبا الغض يندبِ
وما من عزاء للشباب علمته
سوى مدمع من أعين الحسن صيبِ
إذا جال في حسبانه هان عنده
دموع ذراها
١١ الحزن من طرف أشيبِ