قصتان طريفتان
قرأت في هذا الأسبوع كتابين بالإنجليزية، أحدهما في «التصوف» لمؤلف هندي، والثاني في «المنطق العملي»، أو كما يسميه صاحبه «فن التفكير» لمؤلف إنجليزي.
وتسألني: ما الذي جمع الشامي على المغربي، وألَّف بين التصوف والمنطق على بعد ما بينهما من منهج، فهذا يعتمد على مقدمات ونتائج وقياس وبراهين، وذلك يعتمد على ذوق وإلهام ورياضة وكشف، هذا لا يؤمن إلا بالعقل، وذلك لا يؤمن إلا بالنفس، وكلاهما يُكفِّر بصاحبه؟
فأقول: إنه قد جمعت بينهما المصادفة البحتة، فقد كنت أبحث عن كتاب في مكتبتي، فعثرت على هذين الكتابين، فأغراني موضوعهما بقراءتهما، ولم أكره هذا الجمع «فالضد يظهر حسنه الضد»، ولست تتبين في جلاء سواد الأسود إلا إذا نظرت بجانبه إلى بياض الأبيض، وخير ما تتذوق حلاوة الحلو إذا تذوقت ملوحة الملح، وكثيرًا ما تعمد الغانية الجميلة إلى أن تُظهر جمالها بجانب الوصيفة القبيحة.
على أن هذا الاختيار لم يكن عبثًا، ولم يكن اعتباطًا، وإن كان مظهره كذلك، فالإنسان إذا سئم الأرض طار إلى السماء، وإذا مج اللذائذ مال إلى الزهد، وإذا سئم من دنيا الناس عاش في عالم المثال؛ ثم إذا هو عجب من تفكير الناس هرع إلى البحث في أسباب خطئهم، وإذا لم تعجبه عقليتهم نشد المثل الأعلى للعقلية، وإذا رآهم يُجَنُّون في التفكير والتصرف لذَّهُ أن يبحث في نوع جنونهم، ونقطة الانحراف في تفكيرهم.
•••
ما لي ولهذا، فقد كاد ينسيني القصتين.
كان من كل كتاب قصة لفتت نظري، واستخرجت إعجابي.
كلا الكتابين قص قصته من وجهة نظره، ومن زاوية نفسه، ولعلهما ترميان إلى غرض واحد، ونمط في التربية واحد، وإن اختلف العرض.
فأما القصة الصوفية فهي أن «بُلَّاشاه»، أحد أولياء «بنجاب» أرسله أبوه — وهو طفل — إلى الكُتَّاب، فكتب له المعلم «ا» و«ب»، وأمره أن يحفظهما ويكتبهما، فوقف «بُلَّاشاه» عند الألف، لا يحسن تعلمها ولا كتابتها، والأطفال الذين دخلوا معه الكُتَّاب ساروا شوطًا بعيدًا، فأتموا حروف الهجاء إلى «الياء»، وانتقلوا إلى ما بعدها، وصاحبنا واقف عند الألف لا يتعداها؛ ومرت أسابيع على هذه الحال، والموقف لم يتغير، وأخيرًا ضاق به المعلم ذرعًا، وأخذه وذهب به إلى أبيه وقال: «إن ابنك ناقص العقل، غير قابل للتعلم، ولست بمستطيع تعليمه.».
فحاول أبوه أن يُعالج هذا النقص، وعرضه على معلمين آخرين ليتحرك من الألف إلى الباء فما أمكن، وحز هذا في نفس الطفل، وأحس أنه حمل ثقيل على والديه، وأنهما يئسا من نجاحه، ففر إلى غابة وأقام فيها وذهنه مشغول بمظهر الألف ونكبته بها؛ فأدرك أن الألف تظهر له في الحشيشة النابتة في الغابة، في جذع الشجرة، في كل فرع من فروعها، في كل ورقة من أوراقها، في الجدول الذي يشق الأرض، في جسمه منتصبًا، في الجبل الضخم يشرف على الوادي، في جسم الحيوان ممدودًا، في كل شيء، فليس إلا الألف، والعالم كله وحدة، هو ألف أو جملة ألفات، هو متشابه التركيب، أو هو واحد التركيب، أليست الألف في أصلها نقطة ثم بنيت عليها نقط فكانت الألف؟ فالعالم كله نقط تكونت منها ألفات، وهو إذا كتبها فإنه عندما يلمس القلم الورقة ترسم نقطة، ثم بامتداد القلم يُكرر النقطة فتكون ألفًا، ثم تتعدد الأشكال، وتختلف الأوضاع والأصل واحد، والجوهر واحد، وقد يطغى الشكل على الأصل فلا تلتفت إليه النفس البلهاء؛ ولكن إذا دقق نظره وطهر فكره عرف وحدة الأصل ووحدة الخالق؛ ثم هذا العالم مكون من ألفات، والألف مجموعة نقط، والنقطة صفر، والصفر لا شيء، وليست الألفات إلا مظاهر تساوي أصفارًا، وتخفي وراءها خالقها، كما يختفي وراء الألف كاتبها، فلا شيء إلا الخالق ولا شيء إلا الله.
فرح الطفل بفهم درس الألف، وتذكر فضل المعلم عليه؛ لأنه هو الذي علمه ولم يكن يفهم، فطرده من الكُتَّاب لجهله، فنزل من الغابة إلى المدينة، وذهب إلى المعلم وقبل يده، وقال له: «لقد تعلمت درس الألف وفهمته، فهل تتفضل وتعلمني الدرس الذي يليه؟» ضحك المعلم من سخافته، وأراد أن يمتحنه فسأله أن يقرأ الألف ويكتبها، فقرأها وكتبها، وشرح للمعلم ما فهم منها، فدُهِشَ المعلم وحار عقله مما سمع، وقال للطفل: «يا بني أولى بك أن تكون أنت معلمي، وقد تعلمت من حرف الألف ما لم أتعلمه أنا من كل دروسي، وقد استفدت من الألف ما لم يستفده كل أطفال الكُتَّاب ومعلميهم من الألف ولا من الباء ولا من كل الحروف متفرقة أو مجموعة.».
فأخذ «بُلَّاشاه» يغني:
•••
هذه هي القصة الصوفية، وأما القصة المنطقية فهي أن شابًّا قص على سيدة برنامجه في يومه، فقال: «إني إذا استيقظت صباحًا أذاكر «أجرومية» اللغة البرتغالية في أثناء حلقي ذقني، ثم أقرأ ساعة في اللغة الإسبانية قبل إفطاري، فإذا أفطرت ترددت بين القراءة والكتابة إلى الغداء.».
واستمر يقص عليها كيف يقضي نهاره وجزءًا من ليله بين قراءة وكتابة وأكل وحديث وألعاب رياضية إلى أن ينام؛ وهكذا دواليك.
أنصتت السيدة إلى حديث الشاب حتى أتمه، وصمتت برهة ثم قالت: هذا كله حسن يا صديقي، ولكن قل لي: متى تفكر؟
وكان صمت، وكانت حيرة في الجواب.
•••
كلتا القصتين ترمي إلى غرض واحد، وهو التقليل من قيمة القراءة الكثيرة من غير تفكير، ورفع قيمة التفكير ولو في الدرس القليل.
ما أكثر ما نقرأ، وما أقل ما نُفكر! وقد رأينا أن التفكير في الألف أنتج أكثر ألف مرة مما ينتج من حفظ حروف الهجاء كلها ومركباتها من غير تفكير.
لقد حدثونا عن «ديمقريطس» الفيلسوف اليوناني أنه قلع عينيه لئلا يشغله النظر عن التفكير، والقراءة عن التأمل، وحدثونا حديثًا أخف فظاعة من هذا عن «فيثاغورس» أنه كان يقضي ليله في التفكير العميق في أحداث يومه، ولسنا نتطلب هذا ولا ذاك، ولكنا نتطلب تفكيرًا يعادل القراءة، وتأملًا يوازن النظر.
القراءة جمع أزهار، والتفكير تأليف طاقة.
القراءة جمع خرزات، والتفكير نظمها في عقد.
بل القراءة جمع أزهار وحشائش، وضم حجر كريم إلى حجر غير كريم، والتفكير اختيار الصالح واختيار المناسب، واستبعاد الفاسد واستبعاد غير المناسب.
القراء ضم عقيم إلى عقيم، والتفكير قدرة على الاستيلاد حتى من العقيم.
قراءة الكتاب وحفظه زيادة نسخة مطبوعة منه، والتفكير نفخ الروح في الصورة، ورد الحياة إلى الميت.
كثرة القارئين في الأمة زيادة مكتبة جامعة فيها، وعقل مفكر واحد باعث الروح، ونور الظلام، وحافز الهمم، وهادي الطريق.
كما أن في الكُتَّاب كاتبًا مقلدًا وكاتبًا خالقًا، كاتبًا ناقلًا وكاتبًا مبتكرًا، كذلك في القُرَّاء قارئ ناقل وقارئ ناقد، قارئ مستقبِل لاقط، وقارئ مبتكر خالق.
القارئ الخالق هو الذي يقرأ الصفحة أو الجملة فيولدها، ويشعر أنه تفتحت له منها آفاق للتفكير كأنه يطل منها على العالم، يدرك وجوه الشبه بين الأفكار ووجوه الخلاف، يدرك وجوه الفروق الدقيقة بين ما يظنه الناس متشابهًا، ووجوه الشبه الدقيقة فيما يظنه الناس متخالفًا.
القارئ الصادق يأبى أن يجعل عقله مستودعًا للأشياء المتناقضة، ثم يتركها كما هي متناقضة؛ إنما يعمل فكره ليكون مما في عقله وحدة متجانسة، بعد أن يطرد منه ما لا ينسجم مع هذه الوحدة، يصفف أفكاره في نظام كما يصفف التاجر اللبق سلعته، ويستبعد منها الزيف كما يستبعده التاجر الأمين.
القارئ الناقد هو الذي إذا قرأ فهم، فإذا فهم قوَّم، فإذا قوَّم احتفظ بالصحيح واستبعد الزائف، فإذا احتفظ بالصحيح فكر في العلاقة بينه وبين ما سبق له ادخاره في ذهنه، ثم كوَّن من ذلك كله وحدة متجانسة ينظر من خلالها إلى العالم، ويصدر بها حكمه على الأشياء.
•••
ما أشقه من عمل! ولذلك لم يستطعه في كل أمة إلا الأبطال.
أدرك هذا «بُلَّاشاه»، وأدرك تبعة المعلومات يحصِّلها، وعظم الواجبات للفكرة تحل في عقله، فلم يرض أن يحمل عبثًا غير عبء الألف.
وأدركت هذا السيدة فارتاعت من كثرة ما يلتهم صديقها من غير هضم، وأرشدته في لطف إلى أن خير ما أكل ما هضم.
ألست معي في أن القصتين طريفتان؟