فلسفة القوة في شعر المتنبي
يخطئ من يظن أن أبا الطيب عمد إلى ما أثر من الحكم عن أفلاطون وأرسطو وأبيقور وأمثالهم من فلاسفة اليونان فأخذها ونظمها، ولم يكن له في ذلك إلا أن حول النثر شعرًا، كما رأى ذلك من تتبعوا سرقات المتنبي وأفرطوا في اتهامه، فأخذوا يبحثون في كل حكمة نطق بها ويردونها إلى قائلها من هؤلاء الفلاسفة، فلسنا نرى هذا الرأي، فإن كان قد وصل إلى أبي الطيب قليل من حكم اليونان فإن أكثر حكمه منبعها نفسه وتجاربه وإلهامه، لا الفلسفة اليونانية وحكمها؛ ذلك لأن الحكم ليست وقفًا على الفلاسفة ولا على من تبحروا في العلوم والمعارف، إنما هي قدر مشاع بين الناس يستطيعها العامة كما يستطيعها الخاصة، ونحن نرى فيما بيننا أن بعض العامة ومن لم يأخذوا بحظ من علم قد يستطيعون من ضرب الأمثال والنطق بالحكم الصائبة ما لا يستطيعه الفيلسوف والعالم المتبحر، وهذا الذي بين أيدينا من أمثال إنما هو من نتاج عامة الشعب أكثر مما هو من نتاج الفلاسفة، وكلنا رأى بعض عجائز النساء ممن لم تقرأ في كتاب أو تخط بيمينها حرفًا تنطق بالحكمة تلو الحكمة، فيقف أمامها الفيلسوف حائرًا دهشًا يعجز عن مثلها ويحار في تفسيرها، ومرجع ذلك إلى ينبوعين وهما التجربة والإلهام، فإذا اجتمعا في امرئ تفجرت منه الحكمة ولو لم يتعلم ويتفلسف، فكيف إذا اجتمعا لامرئ كأبي الطيب ملئ قلبه شعورًا وملئت حياته تجارب، وكان أمير البيان وملك الفصاحة؟ فنحن إذا التمسنا له مثالًا في حكمه فلسنا نجده في أفلاطون وأرسطو وأبيقور، وإنما نجده في زهير بن أبي سُلمى وقد نطق في الجاهلية بالحكم الرائعة مما دلته عليه تجاربه وأوحى إليها إلهامه، كما نجده في شعر أبي العتاهية وقد ملأ عالمه حكمًا وأمثالًا خالدة على الدهر، وكل ما بين أبي الطيب وهؤلاء الحكماء من فروق يرجع إلى أشياء: المحيط الذي يحيط بكل شاعر، وقدرة نفس الشاعر على تشرب محيطه، والقدرة البيانية على أداء مشاعره، لقد ألِمَ زهير من الحرب ورأى ويلاتها فشعر فيها ونطق بالحكم الرائعة يصف شرورها ومصائبها، وفشل أبو العتاهية في الحياة فزهد وملك الزهد عليه نفسه فملأ به ديوانه، وكان لأبى الطيب موقف غير هذين فاختلفت حكمه عنهما وإن نبعت من منبعهما.
ودليلنا على ذلك أن أبا الطيب — فيما نعلم — لم يثقف ثقافة فلسفية إنما تثقف ثقافة عربية خالصة، قرأ بعض دواوين الشعراء ولقي كثيرًا من علماء الأدب واللغة كالزجاج وابن السراج والأخفش وابن دريد، وكل هؤلاء لا شأن لهم بالفلسفة ومناحيها.
وما لنا ولهذا كله، فإننا لو رجعنا إلى حكمه لوجدناها منطبقة تمام الانطباق على محيطه ونفسه، ليس فيها أثر من تقليد ولا شية من تصنع، فهو ينظم ما يجول في نفسه وما دلته عليه تجاربه لا ما نقل إليه من حكم غيره إلا في القليل النادر.
ونحن إذا أردنا أن نجمل نفسه ومحيطه قلنا: إنه بدأ حياته حياة فتوة وفروسية، تعرفه الخيل والليل والبيداء، ويُحب الحرب والنزال، ويشتهي الطعن والقتال، قيل له وهو في المكتب: ما أحسن وفرتك؟ فقال:
كما نشأ طموحًا إلى أقصى حد في الطموح، يعتد بنفسه كل الاعتداد، ولا يرى له في الوجود ندًّا ولا مثيلًا، قال في صباه:
يقول: إن قومه من خير العرب بيتًا، ومع هذا يجب أن يعتز قومه به لا أن يعتز هو بقومه وبيته:
إلى جانب هذا الاعتزاز بالنفس استصغار للناس ونفوسهم وشئونهم:
امتلأت نفسه بهذه العقيدة حتى في صباه، فوضع لنفسه هذا المنطق الساذج البسيط: «إذا كنت خير الناس فلم لا أكون نبيهم أو على الأقل ملكهم» فبدأ ينفذ برنامجه في سهولة ويسر ظانًّا — وهو فتى غرير — أن الدنيا تحكم بمثل هذا المنطق البسيط، ولم يعلم بعدُ أن منطق الدنيا أعقد من منطقه، نعم إنه سيلاقي في هذا شدادًا وصعابًا، ولكن لا بأس فهو مسلح بكل ما يحتاج إليه ذلك من سلاح:
ولكن حوادث الدهر علمته شيئًا فشيئًا أن الزمان أكبر من همته، وأنه لا يكفي أن يكون خير الناس في زعمه ليكون نبي الناس أو ملك الناس، ومن أجل هذا تدرجت مطامحه وأخذت في النقصان؛ فقد بدأ يطلب النبوة، فلما فشل فيها بدأ يطلب الملك، فلما فشل فيه بدأ يطلب ولاية أو إقليمًا في مصر ففشل في ذلك أيضًا، فأخذ يعتب على الزمان ويذمه ويلعنه.
بدأ النبوة فقال:
ثم صدمه الزمان بالأسر والحبس فعدل عن النبوة إلى طلب الملك، فأخذ في شعره يحقر ملوك زمانه ويقيسهم بنفسه فلا يرى لهم فضلًا عليه، وله عليهم كل الفضل، ويضع خطة أن العرب يجب أن يحكمها العرب لا العجم فيقول:
ويقول:
إذن يجب أن يكون الملوك من العرب، وإذن فليكن هو ملكًا، وقد طوف بالبلاد يتلمس السبيل لتحقيق مأربه ونيل مطلبه، ويقول في ذلك تلميحًا لا تصريحًا:
وقد حلم أن سيكون له جيش كبير يقوده بنفسه فيجوب البلاد ويفتح الأمصار ويخلع الملوك ويستولي على عروشهم فيقول:
•••
ثم رأى أن الزمان لا يسعفه إلى ما طلب ولا يعينه على ما أمل، فرحل إلى مصر وطلب من كافور أن ينيله ولاية فأغدق عليه ذهبًا فقال:
وقال:
ثم صرح بعد الكناية فقال:
حتى ولا هذه استطاع أن ينالها، وصدمته الحقيقة فاعترف بأنه «يود من الأيام ما لا توده»، وقد كان في صباه يقول:
عذبته الدنيا فجعلت نفسه نفس ملك، وهمته همة ملك، وشعره ملك الشعر أو على الأقل فيما يعتقد هو، ثم جعلته فقيرًا لا يملك من الدنيا شيئًا، ولا يرث من آبائه مالًا ولا ملكًا ولا جاهًا، وكان يأمل في صباه أن تتحقق نبوته، فالنبوة لا تحتاج إلى مال، فلما يئس طلب الملك، والملك يحتاج إلى مال، فطلبه بشعره ولكن لم تذل نفسه كما ذلت الشعراء، فكان يرى أنه يُعطي لممدوحيه أكثر مما يأخذ منهم، فهو يمنحهم شعرًا خالدًا وهم يمنحونه عرضًا زائلًا، وكان يتجلى ذلك في عتابه أو هجائه يوم يعتب على ممدوحه أو يهجوه.
فتبًا لهذا الزمان الذي وضعه هذا الوضع، منحه طموح الملوك ولم يجعله ملكًا، وحرمه المال ولم يحرمه النفس، فلم يوائم بين نفسه وحاله يرى أن الناس لو عقلوا لثاروا ولم يرضوا على ما هم فيه من بؤس وشقاء ولملكوا عليهم خيارهم — ولعله يعني نفسه — ولكنهم خاضعون مستسلمون يقيمون على الذل ولا يأنفون من عار.
اعتداد بالنفس لا حد له، وطموح ليس بعده طوح، ونقمة على الزمان؛ لأنه لم يسعفه، ونقمة على الناس؛ لأنهم لم يحققوا أمله — هذا كله روح فلسفة المتنبي — وكل ما قاله من حكم وكل ما شرحه من حالة نفسية فهو صدى لهذا الوضع، وترجمة لهذه الأحداث، وتعبير عن شعوره بها.
أوضح ما تنتجه هذه الحال في نفس كنفس المتنبي «فلسفة القوة» وكذلك كان، فالمتنبي قوي في الحملة على الناس وعلى الزمان، تتجلى القوة في كل أقواله وفي جميع حالاته، وهذه القوة أكثر ما تكون في سنيه الأولى أيام كان يتنقل في البلاد ويدبر خطته ليحقق أمله، وقد ظل على هذه الحال إلى أن بلغ الرابعة والثلاثين؛ ثم ضعفت بعض الشيء يوم اتصل بسيف الدولة يتبعه حيثما كان ويمدحه في الحل والترحال، وأثر في نفسه فشله عنده فرحل إلى مصر وبها كافور، وشتان بين سيف الدولة في عربيته وفروسيته وكافور في عجمته وعبوديته، ولكنه الزمان الغادر رماه بأقسى ما لديه حتى جعله مادحًا كافورًا، فهو في مدحه يغالب نفسه ويلعب في كثير من المواقف بالألفاظ ليصوغ مدحًا يشبه الذم، فإذا تحرر من ذلك وأخذ في هجائه عادت إليه قوته وكأنه استرد حريته، فهو قوي في نفسه لا يهاب الدهر ولا يكترث لأحداثه:
وهو قوي في احتقاره اللذات الوضيعة وطموحه إلى أعلى غايات المجد:
يأبى أن يُضعف نفسه بالغزل والخمر فإنهما يحولان دون المجد:
وهو قوي في هجائه، فهو إذا رمى أصمى، وإذا مس أدمى، يطوِّق من يناله الذم، ويقلده الخزي ويُلزمه عارًا لا تمحوه الأيام.
وهو قوي في دعوته للناس أن يثوروا ويؤسسوا مملكتهم على حد السيف:
وهو قوي في احتقار الناس؛ إذ لم تعل همتهم كهمته، ولم يرتفعوا عن السفاسف رفعته:
كل شيء في سبيل المجد لذيذ محبب إليه؛ فالقتل والموت والعذاب وقطع الفيافي عذب المذاق:
•••
•••
وأخيرًا ترى القوة تشيع في جوانب أساليبه وقوافيه، فإذا اشترك المتنبي وغيره من الشعراء في معنى من المعاني رأيت أبيات المتنبي غالبًا أرصن أسلوبًا وأجزل لفظًا وأقوى قافية وأمتن تركيبًا؛ لأنه يسبغ عليها من قوته ويزيد في شدتها من شدته وحدته؛ حتى لقد يقول المألوف والفكر الشائع الذي توارد عليه الشعراء في كل العصور فيخلع عليه بعض نفسه، ولونًا من حسه، فكأنما هو جديد وكأنه لم يُسبق إليه.
لعل موضع الضعف عنده أنه أنفق حياته في مدح الولاة والأمراء والملوك يصوغ الثناء لهم، وينظم عقود المدح فيهم، ويجهد عقله وخياله في اختراع معاني الكرم والبأس ونسبتها إليهم، ويرحل من بلد إلى بلد طلبًا لعطاياهم، ويقف على أبوابهم انتظارًا لمنحهم، ويتربص الفرص للقول فيهم، فإذا أقبل العيد هنأهم، وإذا مرضوا عوذهم، وإذا انتصروا في حرب شاد بفعالهم، وإذا انهزموا لطف من هزيمتهم، وإذا مات لهم ميت عزاهم، وإذا ولد لهم مولود بادر بتهنئتهم، وذلك ما لا يتفق كثيرًا ونفسه الكبيرة وهمته العالية التي يتحدث عنها؛ لو أنه ترفع عن هذا كله وقنع بأن يتغنى بشعره في وصف شعوره لواءم بين نفسه وشعره، ولكنه — على ما يظهر — لم يشأ عيشة الزهد، وإنما شاء عيشة الرفعة والشهرة بالملك أو بالولاية فرأى أن أن يتصل بالملوك للاستفادة منهم، والاستعانة على تحقيق غرضه بهم وبمنحهم وبإيجاد الصلة بينه وبينهم، ولكنه من حين لآخر يشعر بلذعة في أعماق نفسه من هذا الموقف فيفلسف التهنئة ويقول:
ثم هو لا يتنزل إلى مدح غير العظماء، وإذا أنشد شعره أنشده في علو وكبرياء، فإذا لم يتحقق غرضه أو أحس بتيه ممدوحه عليه ثار ثورة من جرحت عزته ونيل من كبريائه، وكأنما تجلت له الحقيقة وهي صعوبة الجمع بين نفس تمتلئ عزة وشاعر يقف شعره على المديح؛ وهكذا كلما جذبته شئون الحياة إلى الضعة والضعف أبت عليه نفسه، وحولته من ضعف إلى قوة ومن ضعة إلى رفعة:
•••
وبذلك فلسف الحياة كلها فلسفة قوة كما فلسف أبو العتاهية الحياة فلسفة زهد، فويل للضعيف، وويل للجبان، وويل لمن يخاف الحوادث، وويل لمن يهاب الموت: