فارس كنانة (٣)
اشتهر الأمير أسامة ودوى اسمه في الشام ومصر والعراق، عرفه أهل الحصن بالنجدة والشجاعة والكرم، وعرفه الصليبيون فارسًا نبيلًا يسير على أدق تقاليد الفروسية، وعرفه العالم الإسلامي بطلًا يُدافع عن الإسلام ويفتك بالصليبيين، ولكن …
كان أمير الحصن عمه «سلطان» أيضًا بطلًا فارسًا، حنا على أسامة وعلمه البطولة والفروسية، وكانت تعجبه مخايله، وكلما أتى عملًا أو فعلًا نبيلًا اهتز له فرحًا، وفي نفسه أن أسامة ولي عهده، وحامي الحصن من بعده، وكل قومه يرشحونه لذلك؛ كان هذا كله يوم كان عمه عقيمًا لم يُولد له، فأما وقد رُزق ابنه محمد، وشب ولُقِبَ بناصر الدين، فقد تحول هذا الحب إلى غيرة، وأصبح كالمرأة تغار من ضرتها، فأعمال أسامة النبيلة تزعجه، وفعالة تقض مضجعه، ويأتي أسامة يومًا برأس أسد قتله، ويظن أن هذا يبهج عمه، ويقول في سذاجة: «إني أخاطر نفسي لأتقرب إلى قلب عمي.» فتقول له جدته الخبيرة المجربة: «لا والله، ما يقربك هذا منه، ولكنه يزيده منك بعدًا ووحشة.».
ويتقرب قرناء السوء فيعلون من شأن محمد، ويُصغرون من شأن أسامة، ويختلقون ما لم يكن، ويشعلون نيران العداوة، فيوسوسون لأسامة بما يزيد غيظه، ويوسوسون «لسلطان» بما يحرج صدره، وتفسر الأقوال والأفعال تفسيرًا مزعجًا يزيد النار اشتعالًا، ويتحزب قوم «لسلطان» جهرًا، ويتحزب آخرون لأسامة سرًّا، وتُصبح معيشة أسامة في الحصن لا تُطاق، فيفكر في الرحيل، ويقول:
•••
•••
إلى أين؟
إلى دمشق، فأميرها يطلبه ويلح عليه في المجيء.
•••
كانت الشام والجزيرة في ذلك العهد مبعثرة، لا تؤلف وحدة، فكل بلد كبير عليه أمير مستقل يجبي أمواله، ويُدافع عنه برجاله؛ ففي دمشق أمير، وفي حلب أمير، وفي حمص وحماة أمير، وهكذا، وكانت العلاقة بين هؤلاء الأمراء علاقة عداء غالبًا، يتخاصمون ويتقاتلون، والصليبيون يجمعون أمرهم، وينسون الإحن بينهم، وتقوم الكنيسة بفض النزاع وتدعو إلى الوئام، وتطلب من أمم الغرب من فرنسيين وألمان وإنجليز أن يتحدوا ويتعاونوا لأنقاذ بيت المقدس من يد المسلمين، وتبذل الجهد للتوفيق بين روما والقسطنطينية، على شدة ما كان بينهما من نزاع وخصام؛ فتنجح الدعوة ويتصادق الخصمان، وتتجمع الجموع هاجمة على الشرق تنتزع من المسلمين بلدة بعد بلدة، والمسلمون يُقاتلون بلدانًا متفرقة لا كتلة واحدة؛ وقد يثور النزاع بين أمير مسلم وأمير مسلم، فيستنجد هذا بالصليبيين، ويستنجد هذا بهم أيضًا، فينصرون هذا وذاك؛ لأن في إضعاف كلٍ على أي حال تحقيقًا لغرضهم، ونيلًا لمقصدهم؛ فكانت البلاد الإسلامية تنتظر زعيمًا غيورًا قويًّا يضم الإمارات تحت سلطانه، ويُؤلف منها وحدة متماسكة، وقد وجدته أولًا في عماد الدين زنكي، ثم في ابنه نور الدين محمود بن زنكي، ثم في تلميذ نور الدين؛ صلاح الدين الأيوبي.
•••
كان أمير دمشق وقت أن دخلها أسامة شهاب الدين محمود بن بوري بن طغدكين ووزيره معين الدين أنر، وكلاهما يحب أسامة — وخاصة الوزير — ويفرح بإقامته بينهم لفروسيته ونجدته وغنائه في الحروب؛ فكان بطل دمشق كما كان بطل شيزر، يخرج للصيد مع الأمير، ويُقاتل أعداءه؛ ويرى الناس فيه أنه خير محارب في جند دمشق، وألمع درة في تاج الأمير؛ وتتوثق الصلة بينه وبين الوزير معين الدين، ويعيش على هذه الحال سبع سنوات؛ ثم ينقلب الناس على معين الدين، وتسوء حاله، ويذهب عزه، ويتأثر مركز أسامة بمركز صديقه، فتُنهب داره ويُسرق سلاحه، ويقر الوزير بالعجز عن مساعدته، وينصحه بمغادرة دمشق.
فإذًا إلى مصر، فهي تعرفه كما تعرفه دمشق.
•••
هذه مصر في أواخر العهد الفاطمي، وقد تعفنت فيها أداة الحكم؛ فالخليفة مسلوب الأمر، له الاسم ولوزيره الحكم، والأمراء يتقاتلون على الوزارة، فمن غلب نالها وألبسه الخليفة خلعتها، فإذا غُلِبَ عُزل وخلع الخليفة خلعته على الغالب؛ والجنود سودانيون منقسمون أحزابًا، وعرب متفرقون شيعًا، وأتراك ومغاربة تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، والخلفاء — وقد سُلبوا الحكم — فرغوا للذات وتدبير المؤامرات، فإذا كرهوا وزيرًا دبروا المؤامرات لقتله أو خلعه، والأمراء إذا طمعوا في الوزارة وأعيتهم جنودهم انتصروا بغيرهم؟ فهذا يُكاتب الفرنج يستنصرهم، وهذا يُكاتب أمراء الشام يستصرخهم، والخليفة يقتل ابنه؛ لأنه استوزر فاستبد بأبيه، وابن الوزير يحرَّض على قتل أبيه ويُمنَّى بالوزارة من بعده، والأمر فوضى والناس في كرب.
مالأسامة وهذه الفتن وهذه الدسائس وهذا الجو السام، وقد خُلق لا يستنشق إلا الهواء النقي على ظهر فرسه في صيد أو غزو، وقد تخلق بأخلاق الفروسية من شهامة ونبل؟ ولكنها الأقدار تحكم على الوردة أن تُرمى في مستودع الأقذار؛ على أنه لم يكن بعيدًا عن الدسائس كل البعد؛ فقد شاهدها في بلاط عمه «سلطان»، وشاهدها في بلاط أمير دمشق ووزيره، ولكنها كلها صورة مصغرة لما سيلقاه في مصر، في البلاط الفاطمي.
•••
دخل «أسامة» مصر سنة ٥٤٩هـ وقد نيف على الخمسين، في خلافة الحافظ لدين الله الفاطمي، ولم يكن أسامة بالمغمور ولا بالمجهول، فاستقبله الخليفة وأنزله منزلًا كريمًا، وأغدق عليه من نعمه المتواصلة، وقد بهرت أسامة فخفخة القصور وزينتها، وذهبها وفنها وصورها وتماثيلها، وحراسها ورسومها، مما لم ير مثيله في دنياه، ولا حلم به في منامه؛ ولكن تبين له بعدُ أنها صورة جميلة ولا روح، ومظهر أنيق ولا حياة، ومتحف آثار يدل على مجد قديم ورثه نسل ذليل، ونضح على أسامة شيء من ذلك الزخرف، فعاش في دار من دور الأفضل ابن أمير الجيوش، وهي دار — كما يقول — في غاية الحسن، وفيها بسطها وفرشها وآلاتها من النحاس، ورفل في الحرير، وتبحبح في النعيم.
لقد أراد «الحافظ» أن يتخذ منه فارسًا بطلًا، يستعين به في أزماته، ويستخدمه في مهماته، ويغدق عليه من خيراته، ويشركه في لذاته، ولكن هل أخلدت نفس أسامة إلى النعيم، ووجدت راحتها في الراحة؟ لا، لا، ولقد مثل نفس الدور الذي مثلته من قبل ميسون بنت بحدل الكلبية البدوية لما تزوجها معاوية ونقلها من بادية كلب إلى قصور دمشق، وقد أفزعها النعيم فصرخت:
•••
•••
كذلك صرخ أسامة فقال:
ولكنه أقام على مضض، يشقى في النعيم؛ إذ كان من طبعه أن ينعم في الجحيم.
فها هو مقرب إلى الخليفة الحافظ، تُفتح له أبواب القصر إذا حضر، ويُتفقد إذا غاب، ويركب الفرس بسرج من ذهب، وما كان لأحد أن يركب أيام الحافظ بسرج من ذهب غيره.
ومع هذا فلا ينسى فروسيته، فقد كان للحافظ جوارح كثيرة من البُزاة والصقور والشواهين البحرية، وكان عليها رجال يخرجون بها للصيد في كل أسبوع مرتين، فكان أسامة يخرج معهم، فيصيدون طيور الماء وطيور البر ونوعًا من البقر وحشيًّا كان يُسمى بقر بني إسرائيل — أصغر من البقر وأشد منه عدوًا — وفرس البحر، وكان في النيل كثيرًا (ويحدثنا أنها مثل البقرة الصغيرة، وعيناها صغيرتان، لها أنياب طوال في فكها الأسفل، صياحها مثل صياح الخنازير).
مات الحافظ وخلفه ابنه الظافر وعمره سبع عشرة سنة، فزاد الأمر سوءًا، وتنازع الأمراء على الوزارة، وكثرت الدسائس، واضطر أسامة أن يدخل في المعترك ويغمس يده في المفاسد.