فارس كنانة (٤)
هذا الخليفة الفاطمي «الحافظ» يموت وله ابنان كبيران، يعدل عنهما، ويعهد بالخلافة لأصغر أولاده سنًّا، وهو في السابعة عشرة من عمره، ويُوصي بالوزارة لأمير مغربي اسمه ابن مَصَال، ويلقب الخليفة الجديد الصغير بالظافر.
وهذا الظافر فتى رُبِّي تربية ناعمة، لا يعرف غير اللهو واللعب، والسكنى إلى الجواري وسماع الأغاني، فأما تدبير الأمور فللوزير ابن مصال.
والخليفة يُحب ابن مصال، ويُحب بقاءه، وولاة الأقاليم كلهم طامع في الوزارة، فيأبى ابن السلار الكردي الأصل ووالي الإسكندرية والبحيرة، فيجمع جنده وسلاحه، ويهجم على القاهرة، ويقتل ابن مصال، ويتربع في دست الوزارة، والخليفة مضطر إلى إقراره وهو له كاره.
وفي جند ابن السلار ابن زوجته عباس، رجل مغربي عربي الأصل من تميم، وله ولد جميل اسمه نصر، من خلان الخليفة الظافر وندمائه، فيوعز الخليفة إلى نصر وعباس بقتل ابن السلار ليكون عباس في الوزارة مكانه، ويتم ذلك ويقتل ابن السلار ويستوزر عباس، ثم بعد مدة يسأم الخليفة وزيره الجديد عباسًا، فيوعز إلى ابنه نصر أن يقتل أباه ليحل محله، ويتردد نصر ثم يُطلع أباه على ذلك، فيتآمران على قتل الخليفة فيقتله نصر، ويدخل عباس القصر، فيتهم أخوي الخليفة بقتله، ويقتلهما ويولي طفلًا صغيرًا هو ابن الظافر ويلقبه بالفائز، وسنه خمس سنين، وتهيج مصر على عباس وابنه، ويكاتب نساء القصر طلائع ابن رُزيك الأرمني الأصل ووالي المنية، ليحضر فينتقم من قاتلي الخليفة، فيحضر وينتصر، ويهرب عباس وابنه إلى الشام، فيُقتل عباس في الطريق، ويُقبض عل ابنه نصر، فيُرسل إلى القصر، فيُمَثَّل به ويُعلَّق على باب زويلة.
•••
هذه صورة سينمائية للأحداث التي حدثت في مصر أثناء إقامة «أسامة» بها، ما موقفه؟ كيف تصرف؟ كيف يستخدم فروسيته والفروسية لا تعرف العمل في الخفاء؟ الحق أنه موقف مربك للرجل الصريح.
لقد أصبح «أسامة» وله جنود ومماليك وأعوان، يجلس في مجلس الأمراء للتشاور فيما يعمل، ويقربه الولاة إليهم، ويتمناه كلٌّ في صفه لنجدته وغنائه.
لقد كان من أنصار القصر يوم كان الحافظ يتولى الخلافة؛ لأنه رب نعمته، ولأنه رجل؛ ولكنه انحرف عن القصر لما رأى من لهو الظافر ولعبه وتهتكه، وناصر ابن السلار، يُحارب في صفه ويُقاتل بجانبه، فكرهه القصر؛ لأنه يُناصر عدوه؛ وكان ابن السلار رجلًا مقدامًا شجاعًا يُحب رجال العلم، ولكنه قاسٍ لا يرحم، يُعاقب أكبر عقوبة على أصغر جريمة، فأحبه أسامة لشجاعته، وأغضى عن قسوته، وأمن ابن السلار إليه وأنس به، وبعثه بمهمة حربية إلى نور الدين محمود بن زنكي ليتفق معه على تكوين جيش لمحاربة الصليبيين في الشام ليُخفف ضغطهم على مصر، وقام أسامة بمهمته وحارب الصليبيين في عسقلان وبيت جبريل، وظل يُقاتل حتى أحس ابن السلار بحرج مركزه في مصر، فاستدعاه ليكون بجانبه ففعل.
فلما قُتِلَ ابن السلار واستوزر عباس وجدنا أسامة بجانبه وبجانب ابنه نصر يستشيرانه في أدق الأمور حتى فيما أوعز به الخليفة إلى نصر أن يقتل أباه، فينهاه عن ذلك، ويُحذره غضب الله ووخز الضمير؛ ولا بد أن يكونا قد أطلعاه على قتل الخليفة، مقابلة للمؤامرة بمؤامرة، ومن هنا اتهمه كثير من المؤرخين باشتراكه في المؤامرة، وليس ذلك ببعيد عليه؛ وعذره أن الخليفة الغِر هو البادئ بتحريض الابن على أبيه، فالجزاء من جنس العمل، ولكن عباسًا أسرف فقتل الأبرياء من إخوة الظافر، وهو عمل لا يبرره شيء، فكان على أسامة أن ينفض يده منه ويقطع صداقته، ولكنه لم يفعل.
لقد دخل طلائع بن رزيك مصر وكان لأسامة صديقًا أيضًا، وكان أسامة يُحبه، وعرض عليه طلائع أن يكون بجانبه وله المشاركة في عزه وجاهه، والدنيا مقبلة عليه؛ ولكن عباسًا في أشد أوقاته حرجًا يلجأ إليه ويطلب منه أن يصحبه في الخروج من مصر حتى لا يغتاله مغتال؛ ويحار أسامة بين صديق تُقبل عليه الدنيا وصديق تُدبر عنه، والذي تُقبل عليه لم يُلوث يده بالقتل، وإنما ينصر المظلوم، والذي تُدبر عنه قد سفك الدماء البريئة، ولكنه في شدة وقد استنجد ليحفظ حياته؛ وأخيرًا بعد تردد طويل وشقاء ضمير اعتذر لطلائع الفائز وخرج من مصر مع عباس البائس.
•••
عشر سنين في مصر هي أسوأ حياته، لقد خُلق لقتال الصليبيين فقضاها في مصر في قتال بعض المصريين لبعض المصريين، وخُلق للعيشة القاسية، فعاش في مصر عيشة ناعمة، وخُلق للصراحة فعاش في المؤامرات، وخُلق لا يأبه للمال فأتاه المال في مصر من حيث لا يحتسب؛ ولكن الله عاقبه على أنه لم يعش كما خُلق، فكان خروجه سلسلة كوارث؛ يصحب عباسًا في الطريق، ويترك أسرته في حماية طلائع بن رزيك، فيكاتب القصر وبعض أهل مصر الفرنج والعربان أن يكمنوا لعباس ومن معه في الطريق، فيخرجون عليهم، ويُقتل عباس ويُؤسر نصر ويُرد إلى مصر مخفورًا، وينجو أسامة بأعجوبة بعد أن يُصاب في رأسه بضربتين بالسيف يفقد بهما وعيه، وأخيرًا جدًّا يصل إلى دمشق في أسوأ حالٍ.
ثم يُصاب في أسرته وماله.
لقد استراح قليلًا واسترد قوته وقد نيف على الستين، ولا يزال جنديًّا محاربًا له قوة الشباب، فالتحق بجيش نور الدين محمود بن زنكي، وبذلك عاد إلى موقفه الطبيعي، وكاتبه طلائع يطلب منه أن يعود إلى مصر، وإذ كان جنديًّا يُحب القتال في الثغور فقد عرض عليه طلائع أن يُوليه أسوان، ويفتح بجنده الحبشة، وبذلك لا يناله سوء من استيحاش القصر منه، فاستشار في ذلك نور الدين، فقال له: «أما كفاك ما لقيت من مصر وفتنها؟».
فاعتذر لطلائع وسأله أن يُرسل إليه أسرته بحرًا، ولكن طريق البحر أيضًا في يد الصليبيين، فحل نور الدين الإشكال، بأن يكتب إلى «بلدوين الثالث» ملك أورشليم ليمنحه أمانًا لأسرة أسامة، فمنحه الأمان كتابة.
•••
هذه أسرة أسامة في خمسين نسمة بين رجال ونساء، ومعهم أموالهم وحليهم وجواهرهم وذهبهم وفضتهم، وسيوف أسامة وسلاحه، وقيمتها كلها ثلاثون ألف دينار، ومعهم أيضًا مكتبة أسامة التي اقتناها من خير مخطوطات مصر، وفيها أربعة آلاف مجلد، كل ذلك ينزل في مركب في دمياط ومعهم أمان بلدوين، حتى إذا وصلوا إلى عكا أرسل «بلدوين» رجال بالفئوس يكسرون المركب ويأخذون ما فيها، ويحتج بعض رجال أسامة بالأمان، فلا يُلتفت إليهم، ويأخذ كل ما معهم، ويترك لهم خمس مئة دينار تُوصلهم إلى بلدهم؛ ويحمد أسامة الله كثيرًا على سلامة أهله وولده، ويحز في نفسه قليلًا ضياع المال وكثيرًا ضياع الكتب؛ وبذلك يُختم فصل من الرواية عنوانه «أسامة في مصر».
•••
ها هو في الرابعة والستين وقد عاد فارسًا من فرسان المسلمين، يُقاتل في جيش نور الدين؛ والأزمان التي عركته في مصر عركت أهله في حصن شيرز، فقد مات عمه سلطان، وولي الحصن ابن عمه الذي كان يُنافس أسامة.
والسنة سنة ٥٥٢ هجرية، وقد ازين الحصن لحفل ختان ابن الأمير، واجتمع في الدور الفسيحة آل ابن منقذ كلهم، والراقص يرقص والزامر يُزمر والطبال يُطبل، والقوم في هرج ومرج، والسرور بالغ بهم غايته، وإذا بالأرض تزلزل زلزالًا عنيفًا، فيتسابقون إلى باب الدار، فترمح فرس الأمير أولهم فيقع، وينسد الباب وتقع الدار على من فيها ويهلك كل أهل أسامة، ويأتيه الخبر فتنهد قواه ثم يستردها بإيمانه ويقول:
وكذلك خربت أكثر بلاد الشام، فحماة والمعرة وحمص وكفر طاب؛ وأخطر ما في الأمر أن الزلزال هدم أسوار البلاد والقلاع، وانكشفت البلاد للصليبيين، فقام نور الدين يُعيد الأسوار ويُقيم القلاع، ووضع يده على حصن شيزر وعمر أسوارها ودورها وأعادها جديدة.
•••
سبعون … خمس وسبعون … ثمانون … هو في حصن كيفا، وقد دب إليه الضعف، وارتعشت منه اليد:
•••
هذا صلاح الدين بطل المسلمين يأتي بالأعاجيب من فعال البطولة، ويستنزل من الإفرنج الحصن بعد الحصن … آه … لو كنت شابًّا.
•••
علَّمت الأحداث «أسامة» أن يُؤمن الإيمان كله بالقدر، وأي شيء يدعو إلى الإيمان بالقدر كالحرب والصيد؟ هذا حي تدل كل المظاهر على أنه سيحيا فيموت، وهذا حي تدل كل الدلائل على أنه يموت فيحيا؛ وهو نفسه يقف مواقف يرى فيها الموت محققًا ثم ينجو، ويستهين بمواقف لا يرى فيها شيئًا من الخطورة فيُصاب.
وكان له حس دقيق بهذه الأمور، فهو يراها ويلتفت لها ويعجب منها، ويحمله ذلك كل على الإيمان بالقدر خيره وشره.
رمى مرة — وهو صبي — عصفورًا بسهم فلم يصب المرمَى، ثم ارتد السهم فأصاب عصفورًا آخر كان يطل برأسه من عشه — ولم يكن أسامة رآه — فقتله.
وهو وصاحبه مرة يهزمان ثمانية فرسان، ثم يهزمهما «رُوَيْجل».
ورجل يقتل أسدًا، ثم تقتله عقرب.
و«نَدَى القُشَيري» الفارس يطعنه فارس صليبي فيقطع شريانًا في صدره، ويخرج الرمح من جانبه الآخر، وكل الظن ألا يصل إلى بيته حيًّا، فيسلم ويصح، وتلتئم جراحه، ويبقى سنة إذا نام على ظهره لا يقدر على الجلوس إلا إذا أسنده اثنان، ثم يزول ما يشكو منه، ويعود مقاتلًا كما كان.
و«عَتَّاب» البطل المغوار، الضخم الجسم، الفخم الصوت، الذي يفعل الأفاعيل بالأعداء ويدور اسمه على كل لسان لشجاعته وفروسيته، يدخل بيته فيجلس على أريكة عليها غطاء، ويعتمد في جلوسه على يده، فتدخل فيها إبرة، فوالله لقد كان يئن أنينًا يسمعه من بالحصن لعظم خلقته وجهارة صوته، ثم يموت، و«ندى» لا يموت.
ومعلم مكتب في قرية يعرض له أمر يحمله على الخروج من المكتب، وبعد مفارقته بقليل تزلزل الأرض ويقع البناء على الأطفال، فيموتون كلهم وينجو المعلم.
وكان «أسامة» يُقاتل الإسماعيلية مرة، حتى إذا انتهى القتال سمع رجلًا يصيح: «الرجال، الرجال»، فبادر هو وصحبه وسألوه عن صياحه، فأشار إلى إصطبل قديم مظلم، وقال: أسمع هنا صوت رجال، فدخلوا فوجدوا رجلين من الإسماعيلية فقتلوهما، ووجدوا إسماعيليًّا ورجلًا آخر من رجالهم يتقاتلان، فقتلوا، الإسماعيلي وحملوا صاحبهم إلى المسجد وبه جراحات عظيمة وهو لا يتحرك ولا يتنفس، ويظن كل من رآه أن قد مات، ثم أخذ نفسه يتردد، فخاطوا جراحه في رقبته وجسمه، ثم عاد إلى صحته كما كان.
وأصبح «أسامة» يومًا وهو واقف قرب الحصن، فرأى ثلاثة شخوص مقبلة، أما اثنان فكالناس، وأما الثالث بينهما فلم يتبينه، حتى إذا قرب رأي رجلًا قد ضربه إفرنجي بسيفه في وسط أنفه، فقطع وجهه إلى أذنيه وقد استرخى نصف وجهه حتى تدلى إلى صدره، وبين النصفين من وجهه قريب من شبر، فدخل البلد وخاط الجَرَّاح وجهه وداواه، والتحم الجرح وشُفِيَ، وسموه ابن غازي «المشطور» من أجل ذلك.
وهو بنفسه عبرة العبر في ذلك، فكم قاتل أسودًا ثم كادت تقتله ضبع، وكم أخطأ التقدير فخرج عليه الكمين وهو يظنه في مأمن، وهو يُقاتل على فرس يظهر بعدُ أنه من أردأ الأفراس، ولا يظن نفسه تنجو ثم ينجو، ويخرج عليه العرب والفرنج في وادي موسى فيقتلون عباسًا ومن معه ويسلم هو، إلى كثير من أمثال ذلك.
كل هذه المناظر وأمثالها أسلمته إلى الإيمان بالقدر إيمانًا كإيمان العجائز، والإيمان بالقدر سلاح ذو حدين، فأحيانًا يدعو إلى التواكل والخمول وترك الأمور تجري كما تشاء، وعدم الإيمان بالربط بين الأسباب والمسببات، وهذا أقبح وجهيه، وأثلم حديه، وهو الذي تلجأ إليه النفوس إذا ضعفت والقلوب إذا ماتت، وأحيانًا يدعو إلى الشجاعة وركوب الأخطار في غير خوف، والإقدام في غير فزع، فالأعمار مقدرة، والإقدام لا يقصرها، والإحجام لا يمدها؛ وهذا التفسير الأخير هو الذي كان يعتنقه المسلمون في الصدر الأول من حياتهم، والذي كان يعتنقه أبطال المسلمين في كل عصر.
اسمع «أسامة» يقول: «إن ركوب أخطار الحروب لا ينقص مدة الأجل المكتوب.» «ولا يظن ظانٌّ أن الموت يُقدمه ركوب الخطر، ولا يُؤخره شدة الحذر، ففي بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقتلت الأسود، وضُربت بالسيوف، وطُعنت بالرماح، وجُرحت بالسهام؛ وأنا من الأجل في حصن حصين.».
•••
إن كان «أسامة» في الثمانين لا يصلح لحمل السيف، فيده تستطيع أن تحمل القلم، وإن كان درس الصيد في صباه علمه الفروسية، فدرس الأدب في صباه وفي فترات راحته طول عمره علمه التأليف في الأدب، فهو يعكف من قبيل الثمانين إلى ما بعد التسعين على المطالعة والدرس والتأليف.
وهو — فيما وصلنا من تأليفه — واسع الاطلاع، حسن الالتفات، صحيح التقدير، ظريف الروح، ظريف الاستخدام لما يحيط به من ظروف.
•••
قد صور لنا في كتابه الاعتبار، وقليل في لباب الآداب صورة دقيقة لنظرة المسلمين إلى الصليبيين في عصره، وأوضح لنا كثيرًا من قوانين الفروسية عند المسلمين والإفرنج، وهو لا يستحل ذكرهم من غير أن يعقب عليه بخذلهم الله أو لعنهم الله، ومع هذا لا بأس من أن يتخذ من بعضهم أصدقاء، فهو يكره منهم فكرة الصليبية، ويُصادق بعضهم لصفاتهم الشخصية.
ويقص قصصًا كثيرة من أعمال فرسان من الفرنج وفرسان من المسلمين، كانوا يأتون بالعجائب في حروبهم وبطولتهم وفروسيتهم؛ ويحكي أن فارسًا من الفرنج هزم أربعة من فرسان المسلمين فوبخهم أهل الحصن وعابوهم وفضحوهم وازدروهم، «فكأن تلك الهزيمة منحتهم قلوبًا غير قلوبهم وشجاعة ما كانوا يطمعون فيها، فانتخوا وقاتلوا واشتهروا في الحرب، وصاروا من الفرسان المعدودين بعد تلك الهزيمة.» إلى كثير من قصص المغامرات التي تستخرج الإعجاب بالفرسان من الجانبين.
وينظر إلى الصليبيين نظرة بدوية عربية، فينقدهم في عدم الغيرة على نسائهم، فيقول: «وليس عندهم شيء من الغيرة، يكون الرجل يمشي هو وامرأته فيلقاه رجل آخر، فيأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغهما من الحديث، فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث وتركها ومضى.» ويروي نوادر أخرى من هذا القبيل.
ويذكر أنهم شديدو العصبية لجنسهم ودينهم، فقد أُسرت فتاة جميلة، وأُدخلت إلى دار والد أسامة، فأهداها إلى الأمير شهاب الدين صاحب قلعة «جعبر» فأعجبته، وولدت له ولدًا سماه «بدران» وجعله أبوه ولي عهده، ومات الوالد، وتولى بدران البلد، فغافلت أمه الناس وخرجت إلى «سروج» وهي في يد الفرنج، وتزوجت بأسكاف من بني جنسها؛ فكانت هي زوجة الأسكاف وابنها أمير قلعة «جعبر».
ومنهم من يُظهر الإسلام ويُصلي ويصوم، ويتزوج مسلمة، ثم إذا أمكنته الفرصة فر هو وأولاده وتنصروا بعد الإسلام والعبادة.
ويصف فرحهم بأعيادهم، ومرحهم في سباقهم.
ويقارن بين الطب عندهم والطب عند المسلمين، فيقول: إن طب الفرنج منه ما هو سخيف، فقد رأى فارسًا من فرسانهم طلع له دُمَّل في رجله، فأحضر له طبيب مسلم وطبيب منهم، فأما الطبيب المسلم فوصف له ما كاد يشفيه، وأما طبيبهم فقال له: أيهما أحب إليك، أن تعيش برجل واحدة، أو تموت برجلين؟ فقال: بل أحيا برجل، فأحضر فارسًا وفأسًا، وأمره أن يضرب رجله بالفأس ضربة واحدة يقطعها، فضربه فسال مخ الساق، ومات من ساعته، ومنه ما هو خرافي، كامرأة أصابها الصداع في رأسها فقال طبيبهم: «إنها امرأة في رأسها شيطان قد عشقها.» فأخذ موسى وحلق شعرها، وشق رأسها صليبًا، وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح، فماتت في وقتها، ومع هذا فلهم أطباء مهرة حاذقون؛ فقد شاهد ملكًا من ملوكهم رمحه حصان في ساقه فتلفت رجله، وفتحت في أربعة عشر موضعًا وكلما ختم موضع فُتح موضع، ولا تنفع فيه المراهم، فجاء طبيب إفرنجي فأزال تلك المراهم، وجعل يغسلها بالخل الحاذق حتى بَرِئت؛ كما شاهد طبيبًا آخر يُعالج «عقد الخنازير» في مهارة، ولكن أطباء العرب كانوا أمهر؛ ومن أجل هذا كان كثيرًا ما يبعث الفرنج في طلب أطباء من العرب.
وعلى الجملة فلم يعجبه الفرنج من الناحية الأخلاقية والاجتماعية إلا من ناحية شجاعتهم؛ وقد أجمل ملاحظاته في قوله: «وكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقًا من الذين تبلدوا — يعني توطنوا — وعاشرو المسلمين.».
فيالله للمسلمين! أين كانوا من الفرنج وأين أصبحوا منهم؟ فشد ما يُخطئ من يعد الأمر أمر طبيعة ودم وجنس! إنما الأمر أمر «تربية».
وناحية أخرى يستطيعها «أسامة» في مثل سنه، وهي أن يُعين المسلمين برأيه ويُفيدهم بتجاربه، وهذا لا يقل شأنًا عن شجاعته وكفاحه.
ومع هذا فله ابن هو عضد الدولة أبو الفوارس يشترك في الحرب مع صلاح الدين ويحيا أسامة حياته الحربية فيه، فهو قطعة منه وقبس من ناره، وليمد هو بالرأي صلاح الدين، فيُحدثنا بعض المؤرخين أن صلاح الدين استدعى أسامة من حصن كيفا «وأنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه ضيعة من أعمال المعرة، وذاكره في الأدب ودارسه، وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غياهبه، وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته وحل مشكلاته».
•••
خمس وثمانون … تسعون
«لما توقلت ذروة التسعين، وأبلاني مر الأيام والسنين، صرت كجواد العلاف، لا الجواد المتلاف، ولصقت من الضعف بالأرض، ودخل من الكبر بعضي في بعض، حتى أنكرت نفسي، وتحسرت على أمسي، وقلت في وصف حالي:
•••
في الحادية والتسعين يُؤلف لباب الآداب، ويُؤلف ويُؤلف، ويقول: «ما للعلم غاية يدركها الراغب، ولا نهاية يقف عندها الطالب، هو أكثر من أن يُحصر وأوسع، من أن يُجمع، ولولا أن النفس إذا غولبت غَلَبت، وإذا زُجرت لَجَّت وأبت، لكان اشتغال من بلغ من السنين، إحدى وتسعين، بأعمال البر والثواب، أجدى عليه من الاشتغال بتأليف كتاب، بعدما بالغ الزمان في وعظه، بتأثيره في قواه وسمعه وبصره لا بلفظه، وأنذره تغير حاله، بدنو ارتحاله، فهو مقيم على وفاز، ميت في الحقيقة حي بالمجاز.».
… خمس وتسعون — ست وتسعون.
عجز عن حمل القلم، كما عجز قبلُ عن حمل السيف.
•••
وفي ليلة من ليالي رمضان سنة ٥٨٤هـ في دمشق، والجو خريف والسكون رهيب، أسلم «أسامة» روحه لخالقه، وهو يدعو لصلاح الدين بتمام النصر، ويسأل الله لنفسه الغفران.