ألعصا أم القضا؟
رأيت وأنا أدرس حياة «أسامة بن منقذ»، أن الأستاذ «فيليب حتى» لما نشر كتاب «الاعتبار» عدد كتبه وقال: إن منها كتابًا اسمه «العصا»، وإن الأستاذ أحمد شاكر عند نشره كتاب «لباب الآداب» عدد أيضًا كتب أسامة، وقال: إن منها كتاب «القضا»، وقال: إن الأستاذ فيليب حتى سماه كتاب «العصا» خطأ، وصوابه «القضا».
وحرت إذ ذاك بين الرأيين، هل اسم الكتاب «العصا» أو «القضا»؟ ورجحت أن يكون «العصا»؛ لأنها أنسب لحياة الفارس، وهو بعيد عن حياة القضاء، فبعيد أن يُؤلف فيه؟ وقلت: لعل الأستاذ شاكرًا؛ إذ كان قاضيًا وله اتصال وثيق بالقضاء وتعود نظره قراءة كلمة القضاء أكثر من تعوده العصا رجح الرأي الأخير، وخطأ الأول، أو لعل له حجة لم يدل بها.
ومرت الأيام، ومررت على وراقي في الأسبوع الماضي أبحث فيما عنده من الكتب، وشريت منه ما شريت، وكان عنده كمية من الورق (الدشت) — ولا أدري ماذا يُسمى ذلك في اللغة الفصحى — فطلبتها، فأعطانيها.
واليوم أخذت أقلب فيها فوجدت أوراقًا شتى من كتب لم أدر ما هي، ورسائل صغيرة بعضها قيم جدًّا، لعلي أُحدث القراء حديثًا آخر عنها، ورأيت كراسة صغيرة كُتب عليها «كتاب العصا لأسامة بن منقذ»؛ ومع الأسف استطعمها الفيران فأكلت أطراف بعض ورقها؛ وهي تقع في ثلاثين صفحة، لعل من الطريف أن أصفها للقراء.
لقد وضع الجاحظ في كتابه «البيان والتبين» بابًا طويلًا سماه «كتاب العصا»، وهو يدور على الشعوبية الذين عابوا على العرب اعتمادهم في خطاباتهم على القناة والعصا، وقالوا: «ليس بين الكلام والعصا سبب، ولا بينه وبين القوس نسب، وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر ويعترضا الذهن أشبه … وحمل العصا بأخلاق الأكرة والرعاة أشبه، وهو بجفاة الأعراب وعنجهية أهل البدو أشكل.» … إلخ، فرد عليهم الجاحظ في كلام كثير واستطراد طويل قولهم، مبينًا مزايا العصا ومحاسنها، ومستشهدًا بعصا موسى، وعصا سليمان، موضحًا مزاياها، وفيم تُستخدم، ومم تُؤخذ خيارها؛ وأن العصا للخطيب تأهب للخطبة، وتهيؤ للإطناب، فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديًا أخرى، وهي أوقع في نفوس السامعين، وعون للخطيب على الإفاضة، كالرايات في الحروب والأعلام، والقلانس للقضاة، والقناع للرؤساء والعظماء، وآلات الموسيقى للمغني، وكإشارات المتكلم برأسه ويده، وتقطيعه ضروب الحركات على ضروب الألفاظ وضروب المعاني، إلى مثل هذا.
أما رسالة «العصا» لصاحبنا أسامة، فقد بدأها بسبب تسميتها عصا، قال: إنما سُميت العصا عصا لصلابتها، مأخوذ من قولهم: عَصَّ الشيء صَلُبَ، وعَصِي الشيء وعَسِي إذا صلب؛ والعصا: الجماعة، يقال: شق فلان عصا المسلمين؛ أي جماعتهم؛ وفي الحديث: «إياك وقتل العصا»، يُريد المفارق للجماعة فيُقتل … إلخ.
وأول من خطب على العصا وعلى الراحلة قس بن ساعدة الأيادي.
والعرب تقول: فلان ممن قُرِعَت له العصا، إذا كان يرجع إلى الصواب، وينقاد إلى الحق، ويستقيم عن زيغه إذا نُبِّهَ.
وتقول: فلان صلب العصا، إذا كان ذا نجدة وحزامة.
وتقول إذا تفرقت الخلطاء، واختلفت آراء العشيرة ومرج الأمر: انشقت العصا.
وتقول للمسافر إذا آب واستقرت به داره: ألقى عصا التَّسيار.
ثم أخذ يروي مختارات من الشعر والنثر، مما جاء فيها العصا؛ فالحجاج قال: والله لأعصبنكم عصب السلمة، ولاُلْحوَنَّكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل.
والمتلمس يقول:
وقيس بن ذَريح يقول:
والعرب تقول: فلان شق العصا إذا كان لا يدخل تحت حكم ولا طاعة.
ومهيار يقول:
ثم يذكر فصلًا في أحداث حدثت تدور حول العصا، كالذي روي أن قتيبة بن مسلم (الفاتح العظيم) لما تسنم منبر خراسان سقط القضيب من يده، فتطير الصديق، وتفاءل العدو، فقال قتيبة: ليس الأمر كما سر العدو وساء الصديق، بل كما قال الشاعر:
وقص قصصًا نجته فيها العصا من الموت، وهو في قلعة شيزر، إلى نحو ذلك، ولعل أظرف فصل في الرسالة هو الفصل الأخير، وهو أطولها وموضوعه «عصا الكبر» وقد ظهرت على المؤلف عاطفة الحزن والأسف على ما اعتراه في كبر سنه من ضعف بعد قوة، وحمل العصا بعد حمل السيف، وقد ألَّف هذه الرسالة وهو كبير السن، فأكثر من إيراد الشعر في هذا المعنى إنشاء وإنشادًا؛ فمن ذلك ما رواه قال: أنشدني العميد أبو الحسن بالموصل سنة ٥٢٦:
وأنشدني القاضي الرشيد أحمد بن الزبير بمصر سنة ٥٣٩:
ويقول هو نفسه:
وقال:
وقال:
قال: وأنشدني الأمير السيد شهاب الدين العلوي الحسيني بالموصل سنة ٥١٥ لبعض المغاربة:
ولعل في هذا القدر كفاية في إثبات أن الكتاب في «العصا»، لا في «القضا»؛ ولعله يدعو إلى التفكير في إصلاح الكتابة التي تخلط بين العصا والقضا.