العلم والدين١
مما نلاحظ في تاريخ الإنسان أنه تسوده موجات متعاقبة في عصوره المختلفة وأممه المتعددة؛ فأحيانًا تسوده موجة الشعر كالذي كان عند العرب في عصر الجاهلية، واليونان في عصر هوميروس، وأحيانًا تسوده موجة الفلسفة كالذي كان عند اليونان في عصر سقراط وأرسطو وأفلاطون؛ وأحيانًا موجة الدين كالذي كان في العالم الإسلامي والعالم الأوروبي في القرون الوسطى.
وكان من خصائص القرن التاسع عشر سيادة موجة العلم حتى طغت على كل ما عداها.
وقد كانت هذه الموجات في العصور الماضية موجات محلية لا موجات عالمية، فكنت ترى أمة يسودها الشعر، وأخرى تسودها الفلسفة؛ أما وقد ارتبط العالم الآن برباط محكم، وانكسرت الحدود، وكادت تنعدم المسافات فقد أصبحت الموجات عالمية، لذلك لما علت موجة العلم في القرن الماضي في أوروبا وضعفت فيها موجة الدين تأثر العالم كله بهذه الظاهرة، وطغت موجة العلم على الشرق والغرب، وضعف الدين في الشرق والغرب؛ وربما كان ضعفه في الغرب اجتهادًا وضعفه في الشرق تقليدًا؛ لأن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب كما يقول ابن خلدون.
وقد ساد العلم وضعف الدين في أوروبا إثر حركات عنيفة قام بها العلماء من القرن السابع عشر، فوضعوا لأنفسهم منهجًا علميًّا أساسه ملاحظة الظواهر وتحليلها تحليلًا عقليًّا، وربط هذه الظواهر بعضها ببعض، ووضع الفروض في حلها وامتحانها وتجربتها، وإبعاد ما تدل التجربة على خطئه، وإثبات ما تدل التجربة على صحته، حتى إذا تم الاقتناع به أُضيف إلى دائرة المعلومات واُتخذ أساسًا لبناء غيره عليه وهكذا؛ وتحرروا في منهجهم هذا من كل شيء إلا الملاحظة والتجربة والبرهان، فلم يعبئوا بأقوال القدماء كجالينوس وأرسطو، ولا بما ورد في الكتب الدينية، ولا بما قررته الكنيسة، ولم يسلموا بشيء إلا ما جُرِب في «المعمل»، فأداهم هذا المنهج إلى استكشاف آلاف من المسائل استخدموها في الحياة اليومية وبناء الحضارة الأوروبية، وعرفوا ما لا يُحصى من قوانين الطبيعة، ولما كان كل مظاهر الحياة اليومية متأثرًا بهذه المستكشفات العلمية زاد الناس احترامًا للعلم وتقديرًا له وإعجابًا به، وكان من أثر ذلك شغف الناس بالأرض دون السماء، وبالعالم المادي لا الروحي، وبهذه الحياة لا بما بعدها.
وكان أن هاجم العلماء في بحثهم العلمي مسائل تتصل بالدين من قريب أو من بعيد؛ فآمن الناس بأقوالهم فيها كما آمنوا بأبحاثهم العلمية الأخرى، فكان لذلك أثره في ضعف موجة الدين في أوروبا، ولنقص عليك طرفًا منها.
فمن أهم ما زلزل الناس تعاليم كوبرنيكس في النظام الشمسي، فقد قلب قيمة الأشياء رأسًا على عقب، كان الناس يعتقدون أن الأرض مركز العالم، وأن الشمس والكواكب تدور حولها، وأن النجوم خُلقت للأرض، والأرض خُلقت للإنسان، فكل العالم وسيلة ومتعة للإنسان، فجاءت تعاليم كوبرنيكس فبرهنت على أن الأرض وما عليها ليست إلا هنة حقيرة في العالم، وأنها تدور حول الشمس لا أن الشمس تدور حولها؛ فحطم ذلك من أنانية الإنسان وحطم من عظمته، وقام رجال الدين ينكرون عليه تعاليمه لمعارضتها للنصوص الدينية.
وتلاه «دارون»، فأكمل القضاء على شعور الإنسان بعظمته، فدعا إلى تسلسل المخلوقات بعضها من بعض، وأن ليس الإنسان نوعًا مخلوقًا بذاته، وأن العالم من جماد ونبات وحيوان وإنسان وحدة مرتبط بعضها ببعض، ومترقية بعضها من بعض؛ فتغيرت بذلك النظرة إلى العالم، والنظرة إلى الإنسان، وخلعت على العالم نظرة ميكانيكية يرقى بها الحقير إلى ما فوقه بحكم البيئة وتنازع البقاء وبقاء الأصلح، حتى كأن العالم يصنع نفسه، وكان لهذه التعاليم أثرها في اصطدامها بظواهر آيات الكتب المقدسة.
وجاء علماء الجيولوجيا بعد علماء الفلك، وبعد نظرية دارون، فأخذوا يبحثون في بناء الأرض على قاعدة انفصالها من الشمس، وعلى قاعدة تسلسل الأنواع وما يستلزم ذلك من ملايين السنين في تكوينها وصلاحيتها للحياة، وتدرج الأنواع، وجاء بعدهم علماء الحياة، فجدوا في البحث عن الحياة وتطورها، وهكذا، فكان لهذا كله أثر في الدين، وعلى الأقل في ظواهر آياته.
•••
وكما تقدم البحث في العلوم الطبيعية على هذا النحو تقدم البحث في التاريخ، فاستكشفت الآثار القديمة، وعُرفت أهم لغاتها، وقُرئت نصوصها، ووضع للتاريخ منهج على نمط منهج العلم؛ وتوجه بعد ذلك علماء التاريخ ينقدون الوثائق القديمة، فوصلوا مثلًا إلى أن شعر هوميروس ليس شعرًا لرجل واحد ولا لعصر واحد، وإنما هي أشعار لعصور متعاقبة لشعراء متعاقبة، وبحثوا تاريخ اليونان والرومان والأمم القديمة، فوصلوا إلى أن بعض ما دون عنها أساطير لم تصح، وبعضها حقائق تصح.
وبنفس هذه الوسائل، وبنفس هذا المنهج توجهوا إلى «الكتاب المقدس» من توراة وإنجيل يبحثونه وينقدونه، فبحثوا سفر التكوين وبقية الأسفار، كيف كُتبت؟ ومتى كُتبت؛ ونشروا على الناس نتائج أبحاثهم، ينكرون بعضًا ويؤمنون ببعض، وينقدون الأسلوب والأحداث، ويستنتجون عصورها إلى آخر ما قاموا به؛ فكان لذلك رجة عنيفة أيضًا في نفوس الناس، وخاصة المثقفين.
وزاد الأمر إشكالًا والناس انحيازًا إلى العلم موقف رجال الكنيسة، فقد تمسكوا بنصوص الكتب والشروح والآثار في باطنها وظاهرها، وجملتها وتفصيلها، وأنكروا على العلماء نظرياتهم، واضطهدوهم أيام كانت السلطة في أيديهم، وحَكَّم الناس العقل في موقف رجال العلم ورجال الكنيسة، فرجحوا جانب العلم، فطغت موجة العلم على موجة الدين، ووقف الكثيرون من الدين موقف الإنكار أو عدم الاكتراث أو أداء بعض شعائره كما تُؤدى المواضعات الاجتماعية من غير روح ومن غير اعتقاد، فكان هذا طابع القرن التاسع عشر في أوروبا، ومنها سارت الموجة إلى الشرق وأنحاء العالم، ظنًّا منهم أن أوروبا تقدمت في الحضارة بتقديس العلم مكان تقديس الدين، فجاروهم في ذلك.
•••
ولكن: كان لرجال العلم خطؤهم كما كان لرجال الدين خطؤهم.
فهم قد أفرطوا في الإيمان بقوانين العلم مع أن هذه القوانين في تغير مستمر وإن كان بطيئًا؛ إن القوانين العلمية مبنية على جملة من القضايا تعد حقائق، ولكن بعض هذه القضايا عرضة لظهور خطئها، فيخطئ بخطئها القانون المبني عليها، فاستكشاف قضايا جديدة أو حقائق جديدة قد يلغي قانونًا كان مسلمًا به أو يُعدِّله أو يُرقيه، فالعلم في حركة مستمرة وتغير مستمر، ويجب أن يكون العالم واسع النظر، واسع الصدر لكل ما يستكشف من جديد، مستعدًا لقبول ما تثبت صحته، مستعدًا لتغيير وجهة نظره وتعديل إيمانه بالحقائق، وأحيانًا يستكشف ما هو أساسي في العلم، فيكون ثورة على كثير من النظريات والقضايا، وأحيانًا تستكشف حقائق جزئية يترتب عليها تغييرات جزئية؛ هذا هو تاريخ العلم، فالإفراط في الإيمان بقضاياه على أنها حقائق أبدية، غلطة كغلطة رجال الدين في تحجير النصوص.
وأمعن من ذلك في الخطأ أن كثيرًا من العلماء اعتقدوا أن المنهج العلمي من ملاحظة وتجربة وبرهان هو المنهج الوحيد لكل شيء، ولا شيء غيره، وأن كل شيء في العالم يحل بالعلم وبمنهج العلم، وفاتهم أنهم بمنهجهم العلمي قد اتجهوا اتجاهًا صحيحًا نحو عجلة العالم، يفحصونها ويجربونها ويمتحنونها، ولكنهم لم يتجهوا نحو محرك العجلة، وقد لا يستطيع العلم بمنهجه أن يبحث المحرك؛ والدقيق النظر الواسع الفكر لا يقف في بحثه عند العجلة ودورانها، بل يبحث ما وراءها، لا يقف عند المادة، ولكن يبحث ما وراء المادة.
إن العلم منهج صحيح للمادة، ولكن ليس الصحيح لغير المادة، هو منهج صحيح من جملة مناهج، ولكنه ليس المنهج الوحيد الصحيح، إن جمع المشاهدات وإجراء التجارب عليها والاستقراء والحكم به أحد طرق العقل للوصول إلى الحقيقة، ولكن وراءه طرق أخرى للوصول إلى الحقيقة أيضًا.
إن شئت فانظر إلى الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين، كيف يدركون من العالم ما لا يدرك العقليون، ثم ينقلون إلينا ذلك الشعور بشعرهم وموسيقاهم وتصويرهم فتهتز عقولنا هزة عميقة لا يبلغها قول علمي، ولا بحث فلسفي، بل أدرك هؤلاء الفنانون من حقائق العالم ما لم يُدركه الفلاسفة والعلماء إلا بعد ذلك بأزمان، وقديمًا قالوا: «إن الفن إرهاص للفلسفة.».
هذه حقائق واقعة في العالم لا يمكن إنكارها، وليس منهجها هو المنهج العلمي المعروف، فمن الخطأ الإيمان بالمنهج العلمي وحده، إن منهج هذه الفنون الاعتماد على الإلهام وصفاء النفس وتفتح القلب، وهو منهج صحيح أيضًا كالمنهج العلمي، له دائرته وله سبحاته التي لا تُنكر، والاقتصار على المنهج العلمي في فهم العالم كذي رجلين يتعارج.
على هذا المنهج أيضًا جرى الذين ملأ قلوبهم الشعور الديني من أنبياء ومتصوفة صادقين؛ فهؤلاء قد أدركوا — بما لهم من إلهام — من حقائق العالم وخالقه ومحركه ما لا يقل شأنًا عما أدركه العلماء بمنهجهم، وأثروا في تاريخ الإنسان ما لا يقل عما أثره العلم، وإن هذا الإلهام وسيلة صحيحة من وسائل الوصول إلى الحق كما أن التجربة والملاحظة وسيلتان كذلك، ولكلٍ دائرته ولكل اختصاصه، نعم قد يكون الإلهام في بعض النفوس خداعًا وكذبًا، وقد تصعب التفرقة بين ما هو إلهام وما هو مجرد خيال؛ ولكن كل وسيلة من الوسائل حتى الوسائل الحسية قد تفسد فلا توصل إلى الغرض، وهذا لم يقدح في الوسائل السليمة، فكما أن هناك شاعرًا مزيفًا، وموسيقيًّا ملهمًا وموسيقيًّا مصطنعًا، كذلك هناك نبي ومتنبئ، ومتصوف ومجنون.
إنا إذا أردنا أن نصل إلى حقائق العالم، إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من حقائق العالم، وجب أن نستخدم كل ما نستطيع من ملكاتنا، وليست ملكات الإنسان مقصورة على القوة العقلية، فلديه الشعور ولديه الإرادة، فلِمَ يستخدم القوة العقلية وحدها وهي آلة العلم ولا يستخدم الشعور أيضًا وهو وسيلة أخرى من وسائل المعرفة؟ وقد أنصف المتصوفة فسموا نتيجة استخدام المنطق «علمًا» وسموا نتيجة استخدام الشعور والذوق والكشف «معرفة»، وسموا الأول عالمًا والثاني عارفًا، وقد دلت التجارب على أن الإنسان في هذه الحياة — مهما قوي عقله، ومهما آمن بعلمه — لا يسيره عقله أو علمه فقط، وإنما يسيره كذلك شعوره، وهو يحكم على كل مظاهر الحياة وعلى الأعمال، ويرسم خطته في الحياة ويحكم على غيره في تصرفاتهم بمقتضى عقله وشعوره لا بعقله وحده، وهو في ذلك ليس مخطئًا، وإنما هو مسير في ذلك بحكم طبيعته وفطرته، ومعنى هذا أن الإنسان يُدرك حقائق العالم بعقله وشعوره معًا، ويستعمل لهذا منهجه وذلك منهجه ولا محيد له عن ذلك، وأدرك هذا المعنى قوم من صفوة العلماء فسمحوا لعقلهم أن يجول في دائرة العلم إلى أقصى حد ممكن، وسمحوا لمشاعرهم ودينهم كذلك أن تجول في دائرتهما، واستفادوا من قوة عقلهم وعلمهم، فكبحوا من مشاعرهم الجامحة، ولم يسمحوا لدينهم أن يُقيد مجال علمهم، كما استفادوا من قوة مشاعرهم فوسعوا ضيق نظر العلم، وكسروا من حدة غروره.
ومهما قال علماء النفس في وحدة القوة النفسية في الشخص، فهناك من شئون الحياة ما يتطلب إعمال الإرادة، ومنها ما يتطلب الشعور، ومنها ما يتطلب العقل، ثم هذه الملكات موزعة على الناس توزيعًا عجيبًا، فمنهم قوي الإرادة ضعيف العقل، ومنهم قوي العقل ضعيف الشعور، ومنهم ضعيف العقل قوي الشعور؛ وقديمًا رمزوا للعقل بالرأس وللشعور بالقلب، فمن قوى رأسه كان أقرب في الحياة للمنهج العلمي، ومن قوى قلبه كان أقرب للمنهج الشعوري والديني، والفني؛ وإذ كان في العالم ما يواجه كل ملكة من هذه الملكات الثلاث فليس من العقل أن نتطلب حقائق العالم بقوة العقل وحده ونشل سائر الملكات، وإنما العقل أن نستعمل كل ملكاتنا في إدراك حقائقه، كل في اختصاصه، كما تدرك مظاهره بحواسنا، كل حاسة في اختصاصها.
فرجال العلم لهم أن يستكشفوا ما شاءوا من عجلة العالم، ويُلاحظوا ويُجربوا ويُبرهنوا ما شاءوا؛ ولهم تمام الحرية فيما يبحثون، والفنانون لهم أن يستكشفوا من جمال العالم، ويستلهموه ما شاءوا، وينقلوا من صفاته وجماله وإلهامه ما لا يقل شأنًا عن مستكشفات العلماء، والأنبياء والمرسلون والمتصوفة، يبلغون من إدراك محرك العالم وقيم معنوياته ما يفوق مستكشفات العلم وإلهامات الفن.
•••
ولست أرى سببًا جوهريًّا يحمل على هذا العراك العنيف بين العلم والدين إلا تعصب رجال العلم في دعواهم أن علمهم يختص بكل شيء، يقدر على حل كل عقدة، وأن ليس وراء العلم مطلب، ولا غير دائرته دائرة، وإلا تعصب رجال الدين في عدم إيمان بعضهم بالعلم في دائرته، وعدم تفرقة بعضهم بين ما هو أساس في الدين وما هو على هامشه، وجمود بعضهم على أقوال الأقدمين كأنها وحي منزل.
فإن زال كل هذا من الطريق لم يكن صراع، وإنما كان تعاون، فالعلم يُكمل الدين والدين يُكمل العلم، وكلاهما يكشف عن قسم من حقائق هذا العالم، وكلاهما غذاء صالح لملكات الإنسان المختلفة المتنوعة، حتى تتعادل ملكاته كلها وتتوازن وتسير إلى غايتها؛ فالعلم الحق والدين الحق كلاهما غايته حب الحقيقة، وإن اختلف منهجاهما ووسائلهما، وكلاهما يصل بالإنسان إلى كماله، وإلى فهم ما يحيط به، هذا في ماديته، وهذا في روحانيته.