ابن الشبل البغدادي وأبو العلاء المعري
الشهرة حظ كحظ المال، غني جاهل، وفقير عاقل، وما ينهال انهيالًا على من لا يستحق، وقد لا نعرف السبب، ومحروم بائس ولديه كل أسباب الغنى؛ كذلك الشهرة، مشهور لا نعرف لشهرته علة، ومغمور يستحق كل شهرة.
وهذا ينطبق على ابن الشبل البغدادي: أديب كبير، وفيلسوف حكيم، ضن عليه المترجمون فلم يرووا لنا أخباره، وضاع بين الأدب والفلسفة، فلم يشتهر شهرة الأدباء ولا شهرة الفلاسفة، لم أعثر له على ترجمة تشرح حياته إلا نحو خمسة أسطر في «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، ومثلها في «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة؛ فهما يقصان علينا أنه كان حكيمًا فيلسوفًا، وأديبًا بارعًا، وشاعرًا مجيدًا، وأنه ولد ونشأ ببغداد، وتُوفي بها سنة ٤٧٤، ثم رويا شيئًا من شعره، وهذا كل ما قالاه وكل ما عثرت عليه بعد البحث، حتى لم يكف الناس أن يظلموه بتعفية آثاره فعمدوا إلى خير قصائده وأشهرها، التي مطلعها «بربك أيها الفلك المدار» فسلبوها منه ونسبوها إلى ابن سينا؛ وكذلك الدنيا «إذا أقبلت على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه».
كل ما عثرت عليه من شعره نحو مئة وخمسين بيتًا؛ ولكن ليس الشعر بالعدد، ولا التقويم بالكمية، فقد يُروى لشاعر بيت واحد يُساوي دواوين، ولو أنصف الناس لعدوه شاعرًا كبيرًا، وقد يكون لشاعر ديوان في أجزاء وهي كلها لا تُساوي بيتًا، ولو أنصف الناس لأهملوه وأهملوا ديوانه.
ابن الشبل البغدادي — كما تدل عليه هذه الأبيات — شاعر ممتاز من جنس الشعراء القليلين الذين جمعوا بين الشعر والفلسفة، أمثال دانتي وملتن في الشعر الغربي، وأبى العلاء وعمر الخيام في الشعر العربي؛ ولكن الأخيرين رُزقا الحظوة في شعرهما فسار ذكرهما في الناس، وعرفهما الشرق والغرب، وخمل ابن الشبل فجهل في الشرق والغرب.
كان ابن الشبل شاعرًا حائرًا حيرة أبي العلاء، كلاهما يبحث عن الحق بعقله فتضطرب الدلائل وتختلف الأعلام، فيصرخ بالشعر من حيرته، وكانا متعاصرين تقريبًا، تأخرت وفاة ابن الشبل عن وفاة أبي العلاء بخمسة وعشرين عامًا، فهذا شاعر حائر في بغداد، وهذا شاعر حائر في معرة النعمان: هل العالم خير أو شر؟ إن في العالم لذائذ ومسرات، فهل نستمتع بها أو نرفضها؛ ما الدين وما تعاليمه؟ ما القدر وكيف يتفق والثواب والعقاب؟ هذه الأسئلة ونحوها أثارها كلٌّ منهما، لا إثارة فيلسوف فحسب ولا شاعر فحسب، بل إثارة شاعر فيلسوف معًا، ينظر كلاهما النظرة الفلسفية العميقة، ثم لا يخضع لنظم الفلسفة وعباراتها وترتيب مقدماتها ونتائجها وفصولها وأبوابها، ويوقع كلاهما أفكاره على النغمة الموسيقية الشعرية، مازجًا عاطفته بفكرته وخياله بمنطقه، بل عندي أن ابن الشبل أصح شاعرية وأرق موسيقية، وأجزل أسلوبًا من صاحبه أبي العلاء في اللزوميات، لقد أتعب أبو العلاء نفسه بالتزام ما لا يُلزم، وبتظاهره بمعرفته الواسعة بمادة اللغة، أما ابن الشبل فسهل جار مع الطبع، لا يتكلف ولا يلتزم ما لا يُلزم ولا يُحب الغريب.
•••
حار كلاهما في السماء ونجومها، والأفلاك ودورانها، هل تعقل أو لا تعقل؟
وهل هي مخيرة أم مسيرة؟ وهل تسير لغاية أو تخبط خبط عشواء؟ فأما ابن الشبل فقال:
وأما أبو العلاء فقال:
وقال:
وكلاهما ناقم على العالم لِمَ وجد؟ وما الغرض منه وما فائدته وقد امتلأ بالشرور وأُفعم بالرزايا؟ فأما ابن الشبل فيقول:
ويقول:
ويقول أبو العلاء:
ويقول:
وكلاهما يعتب على آدم فعلته، ويحمله تبعة شقائنا في هذا الكون، فأما ابن الشبل فيقول:
ويقول أبو العلاء:
وكلاهما يحار في علة الوجود وفي التكليف مع الجبر، فيقول ابن الشبل:
ويقول:
ويقول أبو العلاء:
ويقول:
وكلاهما يحار في «البعث والنشور» فيقول ابن الشبل:
ويقول أبو العلاء:
ويقول:
ويقول:
هذا إلى كثير من وجوه الشبه بينهما في الحيرة والنظرة الفلسفية للحياة، وتصوير ذلك كله تصويرًا شعريًّا؛ ولكن شيئًا واحدًا جوهريًّا يخالف بينهما تمام المخالفة، ويجعل نظرتهما للحياة متغايرة؛ فأبو العلاء بطبيعة مزاجه وعاهته وفشله قال: إن الحياة باطلة فلأزهد فيها، وابن الشبل بحكم ظروفه التي لم تُروَ لنا قال: إن الحياة باطلة فلأنعم ما استطعت بها، مقدمتان متساويتان لنتيجتين متضادتين، كالكهرباء الواحدة تستعمل في التبريد وفي التدفئة، تارة تكون مروحة وثلاجة، وتارة تكون مدفأة ونارًا.
فأما أبو العلاء فغنى على أوتار حزينة، يلعن الدنيا ويلعن الناس ويلعن نفسه، ويفر من الدنيا فراره من الجرب، ويزهد في كل ملذاتها من نساء وخمر وأكل شهي، ويفرض على نفسه فروضًا قاسية من عزلة ورهبانية وصيام حتى عن الطيبات من الرزق، فلا يأكل السمك؛ لأنه أُخرج من البحر ظلمًا، ولا اللحم؛ لأنه عُذب حيوانه ذبحًا، ولا يفجع الطير في نفسها وأولادها، ولا عسل النحل الذي جمعه بجده من الأزهار فيقول:
ويقول:
ويقول:
ويقول:
وأما ابن الشبل، فيرى بطلان الحياة فيضحك منها ولها، ويتغزل غزلًا ظريفًا، ويدعو إلى انتهاب اللذات قبل فوات الأوان، فيقول في غزله:
ويقول:
وله اللفتات النفسية اللطيفة كقوله:
والتشبيهات المبتكرة كقوله:
ويقول في انتهاب اللذات:
•••
وهكذا كانا لطيفين في موافقاتهما، لطيفين في مفارقاتهما — رحمهما الله.