نزعة صوفية ومزاج رمزي (١)
كان لي صديق — رحمة الله عليه — له نزعة صوفية ومزاج رمزي، كان لا يرى الأشياء كا نرى، بل يرى كل شيء رمزًا لمعنى، وكان لا يسمع كما نسمع، بل كانت كل كلمة يسمعها تُوحي إليه بمعان تنسجم مع نزعته ومزاجه.
كنت أسايره مرة في شارع من شوارع الإسكندرية، فطلع علينا فجأة بائع جرائد يقول: «البصير، البصير»، فقال صاحبي: «سبحانه وتعالى».
وأسمعته يومًا أبياتًا لأبي تمام، حتى إذا وصلت إلى قوله:
استعادني البيت، ثم رأيته يكرره حتى دمعت عيناه، وقص عليَّ في اليوم التالي أن البيت ظل عالقًا بذهنه حتى شطره وخمَّسه وسبَّعه، ولم يذكر لي أي المعاني رمز إليها هذا البيت حتى بعثته على ذلك كله.
وله في ذلك طُرف كثيرة لا أُطيل بذكرها.
وسميت ذلك مزاجًا؛ لأن هذا النموذج من الناس أقرب إلى أن يكون خلقة من أن يكون اكتسابًا، وإلى أن يكون استعدادًا فطريًّا من أن يكون تعليمًا ومرانًا، هذا المزاج لا بد من قدر منه للشاعر والموسيقي والفنان والصوفي، وإن اختلف حظهم منه واختلفت نواحي تلقيهم وأدائهم.
هؤلاء كلهم يرون أن الدنيا كلها جمال مُقَنَّع، فلا بد أن نكشف القناع لنرى الجمال، وأن حقائق العالم مستورة، وأن مظاهره ليست إلا أعلامًا يُستدل بها على خفاياه، وأن قيمة العالم في باطنه، وليس ظاهره إلا رمزًا له، وأن الجمال المكشوف ليس جمالًا، والحقيقة العارية لا تلذ النفوس الكبيرة، وأن البحث عن الحقيقة ألذ من الحقيقة نفسها، وأن جمال الجميل في بعده، تنظر إليه وكأنك لا تنظر، وتقرب منه كأنك لا تقرب، ومعالجته ينبغي أن تكون من جنس طبيعته، تدل عليه وكأنك لا تدل، بالرمز وبالإيماء، وباللمحة تجعلك تسبح في خيالك، وبالإشارة تستدل بها على الطريق بجهدك؛ ومن أجل هذا كان الفرق بين تعبير العلم وتعبير الشعر والموسيقى والتصوف؛ فتعبير العلم واضح محدود، يفهمه الناس بوضوح، ويفهمونه عل السواء متى تحقق شرط الذكاء، أما الشعر والموسيقى والتصوف فتعبير في غير استقصاء، ورمز في غير جلاء، كلُّ يرمز بما يهوى، وكلٌّ يفهم كما يشاء، حسب مزاجه وظروفه ونفسيته، ومن أجل هذا أيضًا كانت اللغة أداة طيعة للعلم وأداة مسكينة للفن والتصوف.
يقول في ذلك ابن الفارض في تاثيته الكبرى:
وهو معنى جميل في أسلوب غير جميل.
لقد مالت بعض الأديان القديمة إلى هذه النزعة الرمزية، كما ترى في ديانة قدماء المصريين بصورهم ورموزهم، وفي ديانة قدماء اليونان بأساطيرهم، وعند قدماء الهنود في قصصهم وعبادتهم.
ولكن يظهر أن الإسلام لم يمل إلى هذه النزعة، وخاصة في أيامه الأولى، كما لم يمل إليها دعاة الإصلاح الديني في النهضة الأوروبية؛ ومع هذا لم يخل أهل دين من الأديان منها حسب مزاج معتنقيه؛ فكان في النصرانية رمزيون ومتصوفون؛ وكان في الإسلام هذا النزاع الحاد بين الفقهاء والصوفية، وبين أهل الشريعة وأهل الحقيقة، وأهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل العقل وأهل الذوق؛ وكلها ألفاظ تُعبر عن شيء واحد، وهو أن مزاجًا يميل إلى العقل والاقتصار على التصريح، وأن لا شيء وراء ظاهر القرآن وظاهر الدين، وأن هناك مزاجًا رمزيًّا لا يرى الاقتصار على الظاهر، وأن وراء كل ظاهر باطنًا، وأهم من العقل الذوق، ووراء المشهورات خفيات، ووراء التفسير التأويل.
هؤلاء الرمزيون يعتمدون على قلوبهم أكثر مما يعتمدون على عقولهم، وعلى أذواقهم أكثر من منطقهم، وعلى خيالهم وإلهامهم أكثر من تفكيرهم، وعلى عواطفهم أكثر من مقدماتهم ونتائجهم، وعلى حبهم أكثر من بحوثهم.
قلت لصاحبي هذا يومًا: إن الحب يفسد الحكم ويعمي ويصم.
قال: إنك لا تُدرك الحق إلا بالحب، ألا ترى أن الأم أعرف الناس بأبنائها؛ لأنها تعرفهم بعاطفتها وذوقها وحبها، على حين أن غيرها يعرفهم بعقله وإن شئت فقل يجهلهم بعقله؟ أولا ترى أن الشاعر يتخير بذوقه بحوره وكلماته وقافيته وصوره، فإذا حكم فيها العقل وحده، يدرك جمالها ولم يتذوق حسنها؟ إن ذوقنا الذي نعتمد عليه في إدراك موسيقى الشعر ونغماته وجماله هو الذي يجب أن نعتمد عليه في إدراك موسيقى العالم ونبضاته وجماله، ألا ترى الأحلام اللذيذة كيف تنبعث في ظلام الليل الحالك فتلعب ألعابًا سارة وتتقدم بصور جميلة ترمز بها إلى حقيقة تاريخ الإنسان وما جرى له من أحداث وما تعلق به قلبه من أماني ومخاوف؟ كذلك الإنسان الصاحي إذا وهب المقدرة على فهم الرمز يرى الحياة صورًا رمزية جميلة متعاقبة متلونة ترمز إلى حقيقة العالم ومراميه.
قلت له: إن الفهم عن طريق الرمز مسألة شخصية ذوقية لا يمكن ضبطها ولا الاشتراك فيها؛ فكلٌّ يفهم من الشيء رمزًا لمعنى قد لا يوافقه فيه الآخر، فقد يفهم أحدهم البحر رمزًا للعظمة والسلطان، وقد يفهمه آخر على أنه رمز للغيظ وثوران الغضب، وقد يفهمه ثالث على أنه رمز للخطر المحدق، ذلك أن للشيء صفات متعددة، وكل صفة ترمز لمعنى، فأي المعاني يُراد؟ ثم هذا أمر وليد الخيال والخيال لا حد له، فقد يمعن حتى يأتي بالأوهام ويكون شأنه شأن المتشائم الموسوس، كالذي يُحكي عن ابن الرومي أنه خرج من داره فرأى حانوت خياط قد صنعت درفتاها كهيئة لام ألف ورأى تحتها نوى تمر، فقال: إن هذا يرمز إلى أن «لا تمر»، وكان بعض العابثين به يقرع عليه الباب فيقول مَن؟ فيقول: «مرة بن حنظلة» فيتشاءم من ذلك يومه ولا يخرج من بيته؛ وكالخيالات التي تبعثها الخمر أو الحشيش أو الأفيون، فيخلقون دنيا غير دنيا الناس، ويتخيلون فيها ما يُضحك وما يُبكي، ويعتمدون في كل ذلك على خيالهم الخادع ووهمهم الكاذب؛ فلو أقررنا هذه الرمزية أفسدنا التفاهم، ألا ترى أن من يعتمدون على اللغة وعلى منطق العقل يسهل تفاهمهم؛ لأن لألفاظ اللغة معاني محدودة لا يتسرب إليها الخطأ إلا من طريق الجهل؛ والعقل له منطق محدود وشروط معينة يعرف بها وجه الخطأ والصواب؛ أما طريقتكم الرمزية والذوقية فلا ضابط لها، ومن أجل هذا صعب فهم كلام الصوفية؛ لأن صاحبه يعبر عن ذوقه هو ومواجيده هو، فلا يفهمه إلا من مُنح ذوقًا كذوقه ومواجيد كمواجيده، ولا يشاركه في فهم رموزه إلا من كان في حالة مزاجية تشبه حالته، فالمعقول — إذا أنتم أردتم التفاهم — أن تستعملوا القدر المشترك بين الناس من اللغة والمنطق، وإلا فلا تستعملوا اللغة، إنكم باستعمالكم اللغة أفسدتموها برموزكم، فأخذتم كلمات الخمر والحب والغزل المعروفة المتفاهمة، ووضعتموها لأشياء صوفية رمزية لا ضابط لها فكانت غامضة الدلالة، ومن تصدى لشرحها وقع في نفس الغموض الذي وقع فيه أصلها؛ ذلك لأنكم استعملتم اللغة في غير ما وضعت له، وأطلقتم لخيالكم العنان فحمَّلتم الألفاظ والأساليب ما لا تطيق، فلا أنتم عبرتم عن أنفسكم تعبيرًا صحيحًا، ولا أنتم تركتم اللغة من غير إفساد.
تبسم ضاحكًا من هذا القول وصمت قليلًا ثم قال: إن كلًّا من الذوق والعاطفة والخيال له حالة يكون فيها صحيحًا سليمًا، وحالة يكون فيها مريضًا؛ فالعقل قد يمرض فيكون جنونًا، والذوق قد يمرض فيجد الحلو مرًّا، والعاطفة قد تمرض فتغلي أو تبرد، والخيال قد يمرض فيكون وهمًا، فاعتمادنا على الذوق كاعتمادكم على العقل، كلانا يعتمد على صاحبه في حال صحته، والذوق إذا صح أرشد إلى خير مما يُرشد إليه العقل، وأين التفاهم والاتفاق في عقولكم؟ ها أنتم تخضعون للعقل فانظروا مصيركم، هل يتفاهم عقلاؤكم؟ وهل تتفقون في مجالسكم وأحاديثكم وتصرفاتكم؟ إن لكل إنسان عقله كما أن لكل إنسان ذوقه، وهل تظن أن العقل أداة صالحة لفهم الحقيقة؟ وما هذا العقل الذي تمجده؟ إنه خادم الغرائز والشهوات، إنه ليس منظمًا لحياتنا اليومية، إنه ليس قائدًا لسلوكنا، إنما هو تابع لأغراضنا، إنه يخدم الحق والباطل؛ والمحاميان في قضية واحدة يجدان منطقًا يخدم مطالبهما المتناقضة، لولا الذوق والعاطفة يُلطفان من حدة العقل في هذه الحياة ما صلحت، ما الوطنية وما القومية وما حب الآباء لأبنائهم؟ إنها سخافات في نظر العقل المجرد، ولكنها تحكم الدنيا وتُسيِّر العالم، الفرق بيننا — نحن الصوفية — وبينكم أنتم العلماء أننا نعتمد على نفوسنا وتعتمدون على حواسكم، نطهر أنفسنا ونصفيها فيلمع فيها نور الحق، وتدورون أنتم حول العالم الخارجي تودون معرفة الحق عن طريق حواسكم، وهيهات أن تصل الحواس وما يتبعها من عقل ومنطق إلا إلى الظواهر الخارجية، إذا أردت أن تعرف شيئًا فإما أن تلف حواليه وإما أن تتغلغل في باطنه، فالأولى هي طريقتكم والمعرفة بها معتمدة على حواسكم، وتقويمها راجع إلى مشتهياتكم، ومحدود بزمانكم ومكانكم وظروفكم، أما طريقتنا نحن فتجلية مرآة نفوسنا حتى تنطبع فيها الحقيقة مجردة عن الزمان والمكان والظروف والتشهي، إنا نعتمد على البصيرة وتعتمدون على البصر، إنكم بحواسكم عددتم الأشياء حسب مظاهرها، ونحن وحدنا الأشياء حسب حقيقتها، فالخلاف بينها في العرض لا في الجوهر، فالحقيقة واحدة والأشكال متعددة، وربما صدكم التعدد عن رؤية الواحد؛ وليست الشرور والرذائل إلا مظاهر عارضة للحقيقة الواحدة، وليس هناك في الحقيقة تقسيم لخير وشر …
وإلى هنا اندفع في قوله، وشطح في تفكيره، فكاد يغيب عن وعيه، ولم أفهم ما يقول، وأبعد في رمزه فلم أتابعه في سيره، وانتهزت أول فرصة أرده فيها عما لم أفهم إلى ما أفهم.