حوار في أسرة
كانت أسرة وسطًا, لم يفسدها الفقر, ولم يبطرها الغنى؛ تتمثل فيها الإنسانية بصفوفها, فأب وأم وابن وبنت؛ كان الأبوان من الجيل الماضي بأخلاقه وميوله, وتقاليده وعقائده, يكرهان البهرجة والرياء, ويغاران على سمعتهما كل الغيرة, ويحرمان على أنفسهم كل اللذائذ إلا ما أحل الله, ويدبران مالهما على قدر مطالب الحياة, ولا يسمحان لأنفسهما أن يقترضا لأى سبب وفي أي ظرف.
حتى شب الابن وشبت البنت في ظروف غير ظروفهما, وحياة غير حياتهما وجيل غير جيلهما، نشأ بين أغاني الراديو ومناظر السينما ومشاهد التمثيل, وفي بحبوبة الحرية وبهرجة السفور والاعتداد بالشخصية, ونظرا إلى أبويهما نظرهما إلى التاريخ القديم وآثار القرون الوسطى, تُحترم لقدمها لا لصالحيتها, وتُبجل لدلالتها على زمنها لا لرقيها، ونظر الأبوان إليهما نظر الآمل ضاع أمله, والسلطان خرج الأمر من يده, والمربي فشل في تربيته؛ فهم إن جمعتهم أسرة فأهواؤهم متفرقه وقلوبهم موزعة وآراؤهم متباينة, وإن ضمهم بيت واحد فلضرورة الحياة لا وحدة المشرب.
•••
كانت ليلة سعيدة تلك التي اجتمعوا فيها على مائدة المنزل يتصالحون بعد خصام، ويتعاتبون بعد نفار، ويتصارحون بعد الكتمان، وحضر وليمة الصلح قريب للأسرة يحترمه الجميع لسعة عقله وصدق نظره وحسن حديثه، قد منحته الطبيعة ما منحت البلسم لمداواة الجروح وما منحت الدواء لشفاء الداء، متقدم في السن ولكن عقله من عقول المستقبل لا الماضي ولا الحاضر، خبير بالماضي بما قرأ، وبالحاضر بما شاهد، وبالمستقبل بما استنتج، له جاهه في المنصب وجاهه في المال وجاهه في العلم وجاهه في الخلق، فإذا تكلم أنصت الجميع وأطاع الجميع، رأيه الحق وقوله الفصل.
قال الأب لابنه: كم تعبت في تربيتك، وعانيت الأمرين في العناية بك، وسهرت الليالي لمرضك، وهجرت راحتي لراحتك، وضيقت على نفسي في الإنفاق لأُوسع عليك، وحرمت نفسي من اللذائذ لأوفرها لك، فإذا جاء زمن تعليمك في المدرسة فكم بذلت جهدي لتنجح، وأنفقت مالي لتكون رجلًا، وترقبت النتيجة كل عام في وجل من رسوبك؛ وعلى الجملة إن تعد نعمي عليك لا تحصيها، فقد ضحيت كل شيء لي في سبيلك، وأغمضت عيني عن كل شيء وراء هذه الدار لأجلك؛ أفحين شاب رأسي وضعفت قوتي، وحين صرت رجلًا تهدر كل هذه التضحيات، وتكافئ الجميل بالقبيح، والإحسان بالجحود؟
قال الابن: لقد أكثرت يا أبي من ذكر التضحية والإحسان، والجميل والمعروف، فهل فعلت شيئًا أكثر مما يجب عليك وعلى كل أب أن يفعله؟ إنك تُفسد ما أديت من واجب بالمن به، وتُذهب جمال التضحية بذكر اسمها، إنك تريدني أن أكون ذيلًا لك أتبعك في حركاتك وسكونك وميولك، فهل هذا يتفق والطبيعة؟ إن زمني غير زمنك، وآمالي غير آمالك، ونظرتي إلى الحياة غير نظرتك، إن الثمرة إذا نضجت فارقت شجرتها، إنني شاب أخضع لقوانين الشباب ويجري فيَّ دم الحياة، وتملؤني الآمال وتستهويني المغامرات، فمحال أن تخضع إرادتي لإرادتك، وليس لك مني إلا احترامك وإجلالك، لا بد لي أن أعيش حسب طبيعتي وشخصيتي وزمني وأملي؛ حتى أحقق غرضي أنا في الحياة لا غرضك لي، ولأن أشكرك على أن أبحت لي حرية العمل خير من أن أشكرك على أن تعاملني معاملة طفل كبير يحتاج إلى الرعاية دائمًا، بل إن تركت لي الحرية فأنا أشكرك وعملي الحر الطليق يشكرك، ويعترف لك بفضل أنك نزلت عن استبدادك وسلطانك، وسايرت الزمن في تغيره الطبيعي وتقدمه المستمر، ثم لا تخش من خطئي إن أخطأت، فسأتعلم من خطئي أكثر مما أتعلم من تحذيرك، وأستفيد من فشلي أكثر مما أستفيد من نصائحك، ولأن أكون رجلًا يخطئ خير من أن أكون حجرًا لا يخطئ، وليس أضيع من ابن سُلبت إرادته، ولو كان السالب لها أباه، ولا أفشل من إنسان أُحيط بالرعاية التامة فمنعته الرعاية من أن يُجرب بنفسه الحياة، دعني أتعلم السباحة في بحر الحياة، ولا بأس إن غرقت، فسأغرق حتمًا إن لم أتعلم العوم، وسأغرق احتمالًا إن تعلمته.
دهش الأب من هذا الحديث الصريح الجريء، وأطال التفكير.
فانتهزت الأم فرصة هذا السكوت وخاطبت ابنتها: إن موقفي معك موقف أبيك من أخيك … لقد وقفت حياتي على العناية بك، وكم خفق قلبي حزنًا لألمك وسرورًا لسرورك وعددتك صورة مني، واتخذتك في الحياة أملي، وأنست بك أكثر من أنسي بأخيك؛ لأنك من جنسي، أعرف شعورك كما أعرف شعوري، وتدور برأسك الأفكار التي كانت تدور برأسي، وتتحركين بالعواطف التي كانت تُحركني، وقد اختصصتك بأسراري وآمالي وآلامي، وحرمت نفسي من الخير لخيرك، وتحملت الآلام لراحتك ونعيمك، والآن وقد صرت شابة لم أر قلبك يتناغم مع دقات قلبي، ولا عطفك يُساير عطفي، وأرى شخصك في البيت وأحلامك وآمالك خارج البيت، وأرى حبًّا مني لا يُقابل بحب منك، وحناني لا يُجازَى بحنانك.
قالت البنت: أصارحك يا أمي أني أحترمك أمًّا، ولكن لا تنتظري أن تكوني معقد أملي ومجال حبي، إنك إن تطلبي ذلك تطلبي محالًا في الطبيعة، إن كان الحب أنواعًا فنوع منه أساسه الاحترام والاعتراف بالجميل، وهذا لك مني، ولكن هناك نوع آخر من الحب أسمى وأرقى وأصفى، وهذا أمنحه لمن يكون زوجي، إن الرابطة بيني وبينك رابطة الدم، والرابطة بيني وبينه رابطة الروح، إني ألجأ إليك حتى ينضج هذا الحب، كما تبقى الثمرة على شجرتها حتى تنضج، وألجأ إليك — لا قدر الله — إذا فشل هذا الحب، ففيك العزاء، سأحافظ على شرفي من أجلي وأجلك وأجل أبي، وسأحافظ على الوفاء لك لمعروفك عندي، ولكن ليس من حقك أن تطلبي مني الحب الروحي الخالص الذي لم تعده الطبيعة إلا للأليف، إذا طَلَبْتِ إجلالًا واحترامًا فهذا حق لك جزاء تضحيتك، وإذا طَلَبْتِ حبًّا ساميًا خالصًا روحيًّا فليس ذلك لك ولا تُجابين إليه؛ إذ ذاك لا تتكلمين باسم التضحية ولكن باسم الأنانية.
دُهِشَت الأم كما دُهِشَ الأب من قبل، وساد الجميع سكون عميق.
ثم بدأت الزوجة تقول لزوجها: ما دمنا وصلنا إلى هذه الدرجة من الصراحة ومن العتاب، فلأصارحك بما في نفسي، لقد أصبحت حياتي معك عناء في عناء، حُرِمت متاع الدنيا لإدارة البيت ومطالبك ومطالب أولادك، وأُصبت بالأمراض، وأنا طول النهار موزعة بين نظافة البيت وإعداد الأكل إلى ما لا يُحصى من مطالب، فلا يجيء وقت النوم إلا وقد دار رأسي، وفتر جسمي وكَلَّ عقلي؛ وقد أصبح البيت سجنًا أبديًّا مظلمًا، ليس له نافذة إلى العالم؛ ومع هذا كله لا أرى منك اعترافًا بحُسن صنيع ولا إقرارًا بجميل، ولا مظهرًا لحب، ولا تقديرًا لقديم؛ وأصبحت المعيشة كآلة تدور بلا زيت، وزيت الحياة هو العطف والحب، وقد فُقِدَا، فلستُ أسمع إلا أوامر جافة، ونواهي حازمة قاسية، متى يأتي الموت ففيه راحتي؟
قال الزوج: وهل أنا أقل منك في حمل الأعباء واحتمال الرزايا؟ فلا أزال أسعى وأكد سدادًا لمطالبكم، وحرصًا على راحتكم، وليس لي نصيب مما أجمع إلا أقل من نصيب أحدكم؛ ولو كنت وحدي لكنت سعيدًا، أنعم بملذات الحياة ولا أحمل عبء الواجب، وأعيش كالفراشة تنتقل من زهرة إلى زهرة، ثم تتطلبين أن أظهر لك بمظهر الحب كأيامنا الأولى، ونسيتِ أن الزمن له حكمه، فالحب إن لم ينطفئ هدأ، والنار تشتعل ثم تكون رمادًا، وطول العشرة يُذهب الكلفة ويَذهب بالتصنع، وأنت تغارين أن أضحك مع الضيوف ولا أضحك معك، وأمزح مع الأصدقاء ولا أمزح معك، وتُحاسبينني على أني أتكلم في التليفون برقة لا تبدو في خطابي معك؛ وفاتك أن التصنع عبء ثقيل يتكلفه المرء مع الغريب، وثوب مصطنع مع الناس؛ فكيف تكلفينني أن أتصنع دائمًا وأُرائِي دائمًا؟ ألا ترينني أتجمل في ملبسي إذا خرجت وأتبذل إذا رجعت؟ أتريدينني مُرائيًا حتى في البيت، ومُتصنعًا حتى معك؛ فأين إذًا سعادة المعيشة على الفطرة، ثم لا تُكثري من ذكر التضحية، فتضحيتك لا تُساوي شيئًا بجانب تضحيتي، ومتاعبك تافهة بجانب متاعبي؛ أين عمل اليد من عمل العقل، وأين مطالب الأولاد من مطالب الرؤساء، وأين تعب الإنفاق من تعب الكسب؟
•••
ساد الجميع سكون رهيب، وانتهى الأكل ولم يشعروا أنهم أكلوا، وانتهت الأصناف ولو سألتهم ما دروا ماذا طعموا؛ لأن الحديث التهم عقولهم وأفكارهم، وتسلط على كل حواسهم، ثم انتقلوا إلى حجرة أخرى وانتظروا كلام الشيخ الحكيم.
بدأ الشيخ يقول: لعل أسرتكم هذه من خير الأسر شعورًا بالتبعة وأداءً للواجب، وإن متاعبكم التي سمعت الليلة بعضها ليست شيئًا بجانب ما أعلم من أسر تحطمت، وبيوت خربت، وأمراض فتكت، وكانت أمراضها أشكالًا وألونًا: هذه مرضها في ربِّها، سَكِرَ وقامر حتى خرَّ البيت على رأسه، وهذه مرضها في ربِّتها، أسرفت في ملذاتها وملاهيها حتى انهار البنيان عليها، وهذه مرضها في أبنائها وبناتها، أسرفوا على أنفسهم وجرفهم تيار المدنية حتى أصبح البيت شعلة من نار، لا يستقر لأهله قرار.
أما أنتم فمرضكم على هامش الأسرة لا في صميمها، والأعراض قريبة العلاج سهلة الدواء، ويُخيل إلي أنها ترجع إلى سببين: أولهما: أن الأبوين لم يُدخلا في حسابهما عامل الزمان، فلكل زمن تقاليده، ولكل جيل مطالبه؛ ومحال أن تتجاهلوا فعل الزمن وتغيير الأحداث وتطور الناشئة، فمنشأ كثير من النزاع تحجر عقول الآباء وقلة مرونتها، ومحاولتها إخضاع الحاضر للماضي، وهو ما تأباه الطبيعة، إن أبناءكم مخلوقون لزمن غير زمانكم، فإما أن تحسبوا في سلوككم حساب زمانهم، وإما أن يثوروا عليكم، ألا ترون أن أثاث البيت من عشرين عامًا لا يصلح أن يكون أثاث بيت اليوم، وأن البدع في ملابس أمس غير البدع في ملابس اليوم، وأن طراز البيوت منذ أعوام غير طرازها الآن، وأن التربية والتعليم ومناهجهما ونظمهما منذ عهد قريب غيرهما في عهدنا؟ فلماذا تؤمنون بهذا كله ولا تؤمنون بتغير طباع الأولاد وعاداتهم وتقاليدهم، وتودون أن تسلكوا معهم سلوك آبائكم معكم، على أن الفرق كبير بينكم وبين آبائكم وبينكم وبين أبنائكم! فقد حدثت في العالم ثورة قلبت الأوضاع وكسرت الحدود، ولا أمل في المسالمة وحسن العلاقة بينكم وبين أبنائكم إلا أن تفهموا الواقع وتُسايروا الزمان؛ نعم إن الأبناء يجب أن يعذروكم في نظرتكم ويُقدروا حسن نيتكم، ولكن من العسير أن يفهموا ذلك ولما تنضج عقولهم وتكتمل مشاعرهم.
وثاني الأمرين أني لمست في حديث كل منكم طغيان الشعور ﺑ «أنا» وضعف الشعور ﺑ «نحن»؛ إن «أنا» مبعث الاحتكاك والنزاع والخصام، فمتى برزت «أنا» في الميدان قابلتها «أنوات» أخرى تُعاكسها وتُحاربها، أما «نحن» فليس لها محارب؛ لأنها تعبير عن الجميع، إذا قلت: أنا ضحيت؛ قال الآخر: أنا ضحيت، وإذا قلت: أنا فعلت، قال الآخر: أنا فعلت، ولكن إن قلتم جميعًا «نحن» لم تكونوا في حاجة إلى «نحن» أخرى تُعارضها.
إنكم في أسرتكم كالهواء في منزلكم، وأشعة الشمس تغمر حجركم، والروحانية ترفرف عليكم، إنها تسعكم جميعًا من غير نزاع، فكونوا كالهواء سعة، وأشعة الشمس امتدادًا، والروحانية شمولًا، تضمر «أنا» فيضمر النزاع، ويضمر المَنُّ بالتضحية، إن «أنا» مظلمة ظلمة السجن، ضيقة ضيق القبر، و«نحن» شاملة شمول الشمس، منعشة إنعاش النسيم، سمحة سماح الكريم.
•••
نزل كلام الشيخ بردًا وسلامًا على الجميع، كما استقبلوه بالتبجيل والتعظيم، وعاد كل إلى مأواه يُفسِّر كلام الشيخ بما يهواه، وكل يُغني على ليلاه.