نزعة صوفية ومزاج رمزي (٣)
لست أنسى رمضانًا من الرمضانات منذ عشرين عامًا كنا نجتمع فيه في بيت صديق لنا تخرج من مدرسة الطب حديثًا، وكان من بيت كبير أنعم الله على أبيه بالثراء وبنعمة الإيمان وبمحافظته على تقاليد البيوت القديمة، فكان رمضان في بيته منظرًا جميلًا من مناظر المسلمين قبل أن تغزوهم المدنية الحديثة، ترى على باب البيت عند الإفطار طائفة كبيرة من الفقراء يُوزع عليهم الطعام قبيل الغروب، وتسمع أذان المغرب والعشاء من داخل البيت، ويفطر على المائدة كل يوم أشكال وألوان من أصدقاء رب البيت ومعارفه، وتُقام صلاة المغرب والعشاء والتراويح في حجرة هُيئت على شكل مسجد، ويتعاقب ثلاثة من أحسن القراء صوتًا بتلاوة قراءة القرآن إلى السحور.
فكنا نجلس كل ليلة نثير الموضوعات المختلفة حيثما اتفق، دينية أحيانًا وسياسية أحيانًا وأدبية أحيانًا؛ ويشترك في الجدل كل الحاضرين على اختلاف نزعاتهم.
لست أنسى ليلة لا أدري لماذا علقت أحاديثها بذهني أكثر من غيرها كان سمارها هذا الطبيب وصديقنا الصوفي وشيخًا أزهريًّا ومدرسًا في دار العلوم وكاتب هذه السطور.
كان بدء الحديث أن سمعنا المقرئ يقرأ قصة آدم وخلقته من طين ثم أكله من الشجرة وخروجه من الجنة.
فقال الطبيب:
هذا ما يحيرني؛ لقد علموني في المدارس أن الأرض التي نعيش عليها كانت كرة ملتهبة يلفها دخان كثيف ثم أخذت تبرد شيئًا فشيئًا على ملايين السنين، واستقرت قشترتها طبقة صخرية ليس عليها حي ولا تصلح لحي؛ ثم أخذ المطر الغزير يتساقط عليها من هذا الدخان الذي يلفها حتى أثر في هذا الصخر الجرانيتي وفتت قشرته، وجرفه الماء طميًا للوديان المنخفضة، وجرى الماء فكون هذه البحار.
ثم استطاعت الشمس أن تنفذ أشعتها من هذا الضباب وهذا الدخان فطلعت على بر لم يجف وبحر يتدفق.
وبعد هذا كله حصلت معجزة لم يستطع العلم حلها وتفسيرها إلى الآن، وهي وجود الخلية الأولى تدب فيها الحياة طافية على وجه الماء، وتناسلت هذه الخلية وتكاثرت وحملها التيار إلى أمكنة مختلفة وفي بيئات مختلفة فتأقلم كلٌّ حسب بيئته، وكان مما حمله التيار بعض خلايا دفعها إلى البر فتكونت حسب بيئتها فكانت نباتًا، وبعضها ظل في البحر فتأقلم فكان زواحف، ثم تنوع النبات وتنوعت الزواحف ومرت ملايين السنين على هذه المخلوقات تُجاهد في الحياة وتُعدِّل نفسها وفق محيطها، ويعمل فيها قانون الانتخاب وبقاء الأصلح حتى ارتقت الخلية النباتية فكانت شجرة، وتطورت بعض الحيوانات المائية إلى حيوانات برية بحرية، ثم إلى حيوانات برية صرفة، وتكونت أعضاء تنفسها وفقًا لتطورها حتى وصلت في رقيها إلى الحيوانات الثديية.
وكان بعض هذه الحيوانات الثديية أرقى من غيره فاستطاع بمحاولات كثيرة ومران طويل على الصيد ونحوه أن يتركز على رجليه بعد أن كان يتركز على أربع، وأن يحفظ توازنه، وأن يخلص يديه للعمل فنجح أخيرًا في ذلك ووقف على قدميه وخلصت له اليدان وما زال يرقى حتى كان إنسانًا بدائيًّا ثم إنسانًا بدويًّا ثم إنسانًا حضريًّا.
وما الإنسان الأول إلا آدم تدرج في خلقته من سلم منظم الدرجات تبتدئ من الخلية الساذجة وتنتهي بالإنسان، فكيف يتفق هذا الذي تعلمناه وأقاموا لنا البراهين على صحته مع ما أسمعه الآن من قصة آدم، وأنه خُلق من طين، وأنه خرج من الجنة إلى الأرض … إلخ.
الحق أننا تهيبنا لهذا القول ومرت برهة من الزمن نتذوق كلامه ونُفكر في الرد عليه.
فانبرى له صديقنا الأزهري وقال: إن هذا القول يشبه ما سمعته عن مذهب «دارون» وقد قرأت كتابًا قيمًا في الرد عليه للسيد جمال الدين الأفغاني اسمه «الرد على الدهريين»، وقد فند فيه هذا القول، وبين فساد من زعم تسلسل الأنواع وتدرجها في الخلقة تبعًا لظروفها وأقاليمها، وأذكر من وجوه الرد عليه ما قاله من أن هناك في غابات الهند أشجارًا مختلفة، ونباتات متعددة، كلها تنبت في بيئة واحدة وتُسقى من ماء واحد، ومع ذلك تختلف اختلافًا كبيرًا في أنواعها وأشكالها وزهرها وطعمها ورائحتها، فما الذي أوجب هذا الاختلاف إن كان الأمر أمر البيئة، وأذكر أنه حكى عن دارون أن قومًا كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما استمروا على عملهم قرونًا ولدت كلابهم من غير أذناب، فرد عليه السيد جمال الدين بعادة الختان عند اليهود والمسلمين قرونًا طويلة ومع ذلك لا يُولد الآن مولود مختتن إلا قليلًا، وأيضًا لو صح هذا المذهب لكان بين أيدينا الآن صور لا تُحصى من اختلاط الأنواع، مع أنَّا نرى الأنواع مستقلة تمامًا غير مختلط بعضها ببعض، وحتى لنرى أنه إذا ازدوج نوعان مختلفان أُصيبا بالعقم؛ ومع هذا إذا كانت هذه الأقوال والآراء فروضًا كلها وجب أن نرفضها إذا تعارضت مع النص الذي يذكر أن الإنسان خُلق وهو جنس وحده، وقد خُلق من طين وسكن الجنة قبل أن ينزل إلى هذه الأرض.
وتحدث صاحبنا من «دار العلوم» فقال: إني لا أرى تضاربًا بين ما حكاه الدكتور وبين آيات القرآن الكريم؛ فقد سمعت الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يحكي أن ابن عباس وأناسًا معه كانوا يرون أن الأرض كانت عامرة قبل آدم، وأن الأرض كانت مسكونة بخلق قبله، ثم خلفهم آدم وقال: إن الأرض كانت معمورة بأقوام ثم انقرضوا وخلفهم آدم، كما تنقرض أمة وتخلفها أمة، يهلك الله صنفًا وينشيء آخر، والنوع واحد، ولا يزال الهالك يترك أثرًا للباقي يحدث فيه فكرة ويثير في نفسه عبرة، ويكون ذلك سلمًا له إلى رقي مستمر.
وقد قال أبو العلاء المعري:
فلا مانع أن تكون الأوادم التي قبل آدمنا هي سلسلة التطور التي حدثت حتى كان آخرها في الرقي آدمنا زوج حواء.
أما الجنة فإن كان جمهور المفسرين على أنها في السماء فقد قرأت في تفسير النيسابوري أن أبا القاسم البلخي وأبا مسلم الأصفهاني ذكرا أنها كانت في الأرض، وفسرا الهبوط منها بالانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا؛ لأن الجنة التي هي دار الثواب لا يدخلها إبليس ولا هي محل معصية، وهي جنة الخلد، لا يخرج منها من دخل فيها، وخلقته من الطين مفهومة؛ لأن الطين مادة الحياة وعليه اعتماده فيما يأكل من نبات وحيوان؛ فهذا كله يتفق وما حكى لنا الدكتور، ولا أرى تنافيًا بين الدين والعلم.
قال صاحبنا — ذو النزعة الصوفية والمزاج الرمزي — أما أنا فكما تعهدون، لا أرى في هذه القصص إلا رمزًا، إن خلق آدم وجعله في الأرض خليفة وقول الملائكة: إنه سيفسد فيها ويسفك الدماء ليس إلا رمزًا إلى أن عالم الحياة في الأرض قد سار سيرته كما شاء له الله، ثم حان الزمن لخلق نوع من المخلوقات جديد هو الإنسان الذي من طبيعته الإفساد والإصلاح وسفك الدماء وصيانتها وتقلبه في شئون الحياة حسب عواطفه وعقله وقلبه، وإذ كان أرقى أنواع المخلوقات في الأرض فهو المسيطر عليها وخليفة الله فيها «وعلمه الأسماء كلها» جعل من طبيعته الاستعداد لمعرفة الأشياء خيرها وشرها، ومنافعها ومضارها.
وحواء رمز للنصف الثاني من الجنس البشري وهو الأنوثة، كما أن آدم رمز الذكورة في طبيعته الإنسانية، وقد خُلقت من ضلع من أضلاعه؛ أي: أنها جزء منه تحمل طبيعته.
والأكل من الشجرة وانقلاب عيشهما الرغد إلى عيش الشقاء ملازم لطبيعة الإنسان، لقد كانت المخلوقات قبلهما لا تعرف خيرًا ولا شرًّا، وليس لها ضمير يحثها على الخير ويُؤنبها على الشر، فلما ارتقت حتى وصلت إلى الطبيعة البشرية أدركت خيرًا وشرًّا، وتحرك فيها الضمير يحاسب ويثيب ويعاقب، واستلزم هذا الشقاء والخروج من جنة النعيم كما قال المتنبي — ما أسعد العيش لو أن الفتى حجر — لم يكن قبل الإنسان ذنب ولا خطيئة، ثم كانا لما كان العقل وكان الضمير وكان آدم وكان الإنسان، فلما استعدا لارتكاب الذنوب وعرفا الخير والشر خرجا من جنة عدن؛ حيث السعادة الفطرية والحياة من غير تكليف؛ إلى الأرض التي فيها الفساد وسفك الدماء وإعمال العقل وانتباه الشعور.
رحب صديقنا الدكتور بهذا التأويل؛ لأنه يتفق وعلمه ودراسته، ولكنا أمطرناه وابلًا من الأسئلة عن إبليس والملائكة والجنة وشجرة التين وما إلى ذلك، فكان يجيب عنها في لباقة تدل على خصب الخيال ومهارة ملكة الرمز عنده وغرابة أطواره ونفسيته، إلى أن قال: إن هذا القصص في الكتب الدينية من توراة وإنجيل وقرآن مملوء بضروب من البيان، من استعارة وكناية ومجاز لم يفهمها إلا الراسخون في العلم، أما من عداهم فوقفوا عند ظواهرها ولم يفطنوا إلى إشاراتها.
– ثم قال: لعلي أستطيع أن أُقرِّب إلى أذهانكم هذه الصور بحديث الإسراء والمعراج، وما ورد فيه من براق وما إليه، فإني أفهمها على أنها سياحة روحانية، والبراق ونحوه مما ورد في القصة ليست إلا رموزًا لحالات نفسية وحركات روحية، وأفاض في ذلك بما لم أذكره الآن.
سألوني رأيي فحرت في أمري، وتولاني الإعجاب بهم جميعًا، من منهج علمي عند الطبيب، وإيمان صادق عند الأزهري، ونزعة لطيفة للتوفيق بين العلم والدين عند المدرس، وخيال بديع عند الصوفي، ووعدتهم أن أُفكر فيما قالوا إلى الغد ثم أُدلي برأيي.
وختم المقئون قراءتهم وانصرفنا بعد حديث ممتع وسمر لذيذ وجدل هادئ.