ست النساء١
كان على قطر من أقطار الهند ملك عظيم الشأن، له الجنود والبنود، والقوة والسلطان، والعز والجاه.
وكان عادلًا في رعيته، يُحسن سياستهم، وتدبير أمورهم؛ ويحب العدل، ويمقت الظلم، ويعرف مداخل الأمور ومخارجها، ولكنه مظلم الروح، مادي النزعة، فاسد العقيدة، يعبد الأصنام، ويُقدم لها القربان، ولا يؤمن بثواب ولا عقاب، ولا بخلود روح، ولا بمملكة نفس، وإنما الدنيا الحاضر، واللذة المال والجاه، والنعيم صنوف الترف.
وكان له وزير روحي، يهزأ بالأصنام ويحتقرها، ويؤمن بالروح ومبادئها، ويقر بالجزاء الأوفى، ويعتقد أن السعادة في رضا الضمير، والعمل الصالح، وسمو النفس عن السفاسف، وأن للروح مملكة فيها النعيم والشقاء، وأن نعيمها خير أنواع النعيم، وشقاءها شر أنواع الشقاء.
ولكنه لا يجرؤ على مكاشفة الملك بذلك لشدته وجبروته، ولأن قلبه مغلق لا ينفتح لمثل هذه المعاني؛ وكان يرثى لحاله كلما رآه يسجد للصنم، ويُسرف في الترف، ويظن أن المجد في النفوذ والجاه، والتغلب على ما جاوره من أقطار؛ ويتحين الفرصة لنصحه وتفتيح قلبه، ودعوته إلى روحانيته، ولكن هذه الفرصة لا تسنح، والملك يتمادى في تفاخره، وخيلائه وزهوه، وعزته وأنفته، ورياسته واستطالته؛ ويمعن في الخطة التي رسمها له آباؤه، ويخضع لعرف زمانه وإلفه.
وأخيرًا حدثت المعجزة: طلب الملك من الوزير في ليلة أن يخرجا متنكرين لتفقد أمور الرعية، كيف يعيشون، ويشقون أو يسعدون؛ فطافا ما طافا، ورأيا ما سرهما أحيانًا وساءهما أحيانًا، حتى وصلا إلى ظاهر المدينة، فرأيا — على بعدٍ — بصيصًا من نور، فقصداه فرأيا عجبًا.
لقد تخفيا فلم يشعر بهما أحد، وتخيرا مكانًا يريان منه كل شيء، ولا يراهما أحد.
رأيا دِمنة قذرة الرائحة، بجانبها مأوى كأنه مغارة، فرشت فيه ثياب مهلهلة، تنبعث منه أبخرة متعفنة، يضيئه سراج من خرقة بالية غمست في زيت كأنه دُردي، وفيه جرة لا يعرف لونها من قذرها، وسلة من خوص فيها كسر جافة، وعيدان من فحل وكراث؛ وفي داخله رجل وامرأة، أما الرجل فمشوه الخِلقة، يلبس ثوبًا مرقعًا ويجلس على ثوب مثله، وعلى رأسه شملة ممزقة، وعلى فخذه قصبة شد عليها عود، وهو ينقر عليها نقرًا غير متزن ولا منسجم، ويُغني بشيء يشبه الشعر وليس بشعر، يتغزل فيه بصاحبته وجمالها، وفتنتها وسحر عيونها، وورد خدودها، ولطف قوامها، وأنها أجمل من رأت عينه، وأنها فتنة الدنيا ونعيم الحياة.
وأما المرأة فشوهاء مقوسة، لا تُرى عينها من قذاها، ولا تعرف لون ثيابها من ألوان رقعها، قد أمسكت بيدها غربالًا باليًا، وشدت عليه جلدًا غير مدبوغ، واتخذت من ذلك دفًّا تتابع به نغمات صاحبها، وتناغم عليه نقرات عوده، فإذا انتشيا قاما ورقصا، فإذا أتما دورهما حياها بطاقة من فجل، وردت تحيته بطاقة من كراث، وهي في كل ذلك تدعوه بسيد الرجال، وهو يدعوها بست النساء:
وقف الملك والوزير مبهوتين من هذا المنظر، متعجبين مما فيه هذان الصعلوكان من فرح وسرور، ولذة وحبور.
لقد غاظني — أيها الوزير — منهما غرورهما، كيف يعدان بؤسهما نعيمًا وشقاءهما سعادة، ونقمتهما نعمة، وقبحهما جمالًا، وغربالهما دفًّا، وخشبتهما عودًا، وفجلهما وكراثهما زهرًا، ثم يسألان من الله أن يُديم عليهما نعمته!
لأنتقمن منهما انتقامًا يسلبهما نعمتهما، ويُنغص عليهما عيشهما.
سأعذبهما عذابًا لم يعذبه أحد، وسأستخرج منهما غرورهما بالخيال فأشهدهما الحقيقة، وسأنزع منهما الأوهام فأريهما الواقع، وسأقص جناحها الذي يطيران به إلى السماء ليلتصقا بالأرض.
سآخذ هذين المغرورين فأدخلهما قصري، وألبسهما من ثيابي، وأطعمهما من أكلي، وأشهدهما مجالسي، وأبسط لهما من سطوتي، وأسبغ عليهما جاهًا من جاهي؛ وسأشعرهما بلذة حياة كحياتي، وسأُري المرأة كيف يكون جمال الرجال، وأُري الرجل كيف يكون جمال النساء؛ وسأقيمهما في ذلك كله أيامًا حتى يتعوداه ويألفاه ويتطبعاه، ثم أردهما إلى حالهما، فما يهنآن بعيش، ولا يشعران بنعيم.
تعشقوا الفضيلة وهاموا بها، وكانت لذتهم الأولى، اغتنوا أو افتقروا، نُعِّموا أو عُذِّبوا؛ فهم في فقرهم يسعدون وفي عذابهم ينعمون!
أهم ما يشغلهم أن يعرفوا نفوسهم، وقد تطلبت منهم تلك المعرفة أن يعرفوا أبدانهم وعقولهم وروحهم، وعلاقة نفسهم ببدنهم، وعلاقة العالم بنفسهم، وفي ضوء هذا حددوا مطالبهم في الحياة، ووسائل طلبهم، وما يأتون وما يذرون، ووقفهم ذلك المنظر على عالم من المعارف لا تنتهي، ولذائذ روحية لا تحد.
وكان نهاية بحثهم وتفكيرهم الإيمان بإله فوق المادة هو خالق هذا العالم، وقد استدلوا بوحدة العالم — مهما اختلفت مظاهره السطحية — على وحدة خالقه، واتصلت نفوسهم به، فاتخذهم أمناء وحيه، وسفراء بينه وبين خلقه.
فلما وصلوا إلى ذلك احتقروا الأصنام، ورأوا أن عبادتها — يا ملكي العظيم — لا تليق إلا بالسذج ومن لا عقل لهم، فأعرضوا عنها، وعبدوا إلههم الذي دلتهم عليه نفوسهم، ووجدوا لذتهم الحقة في تفكيرهم في إلههم وفي أنفسهم، وفي العمل وفق ما اعتقدوا من حق، وما آمنوا من مبادئ.
وهؤلاء القوم إزاء اللذات الحسية وأعراض الحياة الدنيا — من عز وجاه وسلطان — صنفان مختلفان تبعًا لاختلاف مزاجهم؛ فأما قوم فأعرضوا عن هذه اللذائذ جملة، فلا الأكل يستغويهم، ولا النساء تستهويهم، ولا أي شيء من متع الحياة يغريهم، ولا يهمهم إلا أن يعيشوا في أنفسهم لأنفسهم، وليس هؤلاء خير الطائفتين؛ وأما الآخرون فرأوا أن لا بأس من لذائذ الحياة بقدر، ولا بأس من عز وجاه وسلطان يُستخدم في تحقيق العدل وحمل الناس على الخير، وهؤلاء نظرهم أصح، والخير على أيديهم أتم, وهو أصلح للحياة, وأصلح للقيادة, وهو أسعد من الأولين؛ إذ يستمتعون بجمال العالم, وبالخير يجري على يدهم, وبشعورهم أنهم قوة في توجيه العالم وإسعاده.
أولئك — يا ملكى العظيم — ينظرون إلى اقتصارنا على اللذائذ الحسية نظرنا إلى لذائذ هذين المسكينين، ويرثون لحالنا رثاءنا لحالهما، ويجدون الفرق بيننا وبينهم أبعد من الفرق بيننا وبينهما، ولا يودون يومًا أن ينزلوا إلى درجتنا، وأن يكون حظهم حظنا، ويحمدون الله على ما أوتوا، ويسألونه السمو إلى الدرجات العلا.