الأدب الاجتماعي
أعني به الأدب الذي يجب أن يتأدب به الفرد من حيث هو عضو في مجتمع، وعضو في أمة، فكل إنسان له شخصيتان: شخصية فردية، وعليه إزاءها واجبات فردية، وشخصية اجتماعية، وعليه إزاءها واجبات اجتماعية.
والإنسان تتوزعه عاطفتان: عاطفة حب ذاته، وعاطفة حب أمته، والشخص البدائي هو الذي ينظر إلى كل الأمور مراعيًا شخصه فقط، والشخص الراقي هو الذي ينظر إلى ذاته وإلى أمته، ويُعطي هذه حقوقها وهذه حقوقها؛ بل هو إذا ارتقى جدًّا رأى خيره في خير أمته، وخير أمته في خيره، وتوحد الأمران.
هذا الشعور بالواجبات الاجتماعية لا يُخلق مع الإنسان يوم أن يُولد، ولكن المجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يكوِّنه ويربي عنده شعوره بالأمة بجانب شعوره بذاته، وذلك بواسطة التربية في الأسرة وفي المدرسة وفي الحياة الخارجية في المجتمعات، هنالك روح للمجتمع هي التي تُسيطر على الفرد فتعلمه أن يحد من أنانيته وألا يقيس الأمور كلها بشخصه، وهي التي تُعلمه النظام والترتيب، وهي التي تمده بالقوة ليكبح جماح حبه الشديد لنفسه، وهي التي تمده بالمعاني السامية ليشعر بأمته ويغار عليها ويعمل لخيرها.
فإذا كانت روح الأمة قوية استطاعت أن تطبع الأفراد بطابع قوي لخدمتها والتفكير فيها والعمل لخيرها، وإذا كانت روح الأمة ضعيفة قويت روح الأنانية في الأفراد ولم يفكروا إلا في أشخاصهم.
والحق أننا ينقصنا كثير من قوة الروح الاجتماعية من حيث أننا إمة، وهذا من أهم الفروق بين أمم الشرق وأمم الغرب، فلكل من الشرق والغرب مزاياه وعيوبه، ومن أظهر عيوبنا ضعف الشعور الاجتماعي، ضعف الشعور «بنحن» وقوة الشعور «بأنا».
من مظاهر ذلك عدم نجاحنا في الأعمال الاجتماعية — غالبًا — كاللجان والنوادي والجمعيات والأحزاب والنقابات ونحو ذلك؛ وسببه أن هذه مجتمعات لا يمكن أن تنجح إلا إذا توارى إلى حد كبير الشعور بأنا، وظهر إلى حد كبير الشعور بنحن.
وأساس فشل هذه الجمعيات عدم تربيتنا تربية اجتماعية يتناسى فيها الفرد ذاته وأنانيته، ولهذا إذا نجح عمل اجتماعي عندنا فلأنه تحول من عمل اجتماعي وعمل مجتمع إلى عمل فرد قوي الشخصية قوي الإرادة تجمعت فيه كل الشخصيات، أو فرد نشيط كفء يعمل كل العمل والأفراد الآخرون يتكلون عليه، وبذلك يخرج عن كونه عمل جمعية في الحقيقة إلى عمل فرد مظهره مظهر جمعية.
فنحن إلى الآن لم نتعلم عمل الجمعيات، حيث تُوزع الواجبات على أفراد الجمعية وتُنظم الأعمال، ويعرف كل عضو ما له وما عليه ويقوم به، وتلتقي هذه الأعمال كلها في شكل متضامن منظم.
لا علاج لهذا إلا التربية التي تشعر الفرد بمسئوليته نحو مجتمعه.
يدل على هذا المعنى قصة سمعتها عن المرحوم الشيخ محمد عبده، فقد سافر مرة إلى أوروبا، ومع صديق له، صعد هذا الصديق مرة إلى ظهر السفينة فوجد الشيخ محمد عبده يبكي فعجب من ذلك وسأله عما يبكيه؟ فأخفى عنه السبب أولًا، فلما ألح عليه قال: وجدت بنتًا صغيرة تجري وتلعب، ثم وقفت عند شجرة من الأشجار الصغيرة الموضوعة في الأصص فقطفت منها زهرة، فجاءت مربيتها الإفرنجية وأنَّبتها على عملها، وأبانت لها أن هذه الشجرة وزهرتها ليست ملكها، بل هي لإمتاع من في السفينة جميعًا، وأن كل إنسان في السفينة له الحق في المتعة بها، وأنت بقطفك هذه الزهرة قد تعديت على حقوق كل من في السفينة ومن يركبها بعدُ، وحرمتهم لذتهم، ثم أخذت تلقي عليها درسًا في الملكية الخاصة والملكية العامة، قال الشيخ محمد عبده: تذكرت؛ إذ ذاك علماءنا ورجالنا ونساءنا في مصر، وعجزهم عن فهم هذه المعاني وتفهيمها لأبنائهم وبناتهم فدمعت عيني.
هذا ضرب من أهم ضروب الأدب الاجتماعي وهو الشعور بحق الغير، ومنفعة الغير، ومراعاة شعور الغير، وهو معنى نحن في أشد الحاجة إليه اليوم.
لو نما هذا الشعور لوجدت لدينا آلاف الجمعيات الناجحة للخدمة العامة، هذه تمد البائس الفقير، وهذه تُربي الأطفال المشردين، وهذه تُساعد المرضى، وهذه تُثقف عقول الجاهلين، وهذه تُعين الطلبة العاجزين عن المصروفات الدراسية، وهذه لإسعاف المنكوبين، ولو نما هذا الشعور لرأيت كل فرد قادر يزكي عن قدرته العلمية أو المالية أو الخلقية بشيء من مقدرته لخدمة الهيئة الاجتماعية، إجابة لشعوره بواجبه لأمته.
ومن مظاهر ضعف هذا الأدب الاجتماعي فوضى المجتمعات عندنا، سواء كان الاجتماع لمحاضرة علمية أو أدبية، أو حفلة غنائية أو موسيقية، أو مشاهدة سينما أو رواية تمثيلية؛ يفهم كل فرد أن المحاضرة له وحده، أو السينما أو التمثيل له وحده، ولا يفهم مطلقًا أن هذه المحاضرة أو هذه الحفلة له وللناس، فتراه يتكلم مع جاره بصوت عالٍ ولو تأذى الجمهور، ويضحك ويهوش ولو تضايق من حوله، ولو كان عنده شعور اجتماعي بأن له ما للآخرين وعليه ما عليهم ما أتى بشيء من هذا، ولراعى شعورهم كما يحب أن يُراعى شعوره، ولفهم أن الحرية التي يتشدق بها ليست أن يفعل ما يشاء بغير قيد ولا شرط، بل الحرية الممنوحة له مقيدة بقيود أولها ألا يُؤذي غيره، وأن يكون له منها مثل ما لغيره.
مظاهر هذه الفوضى نراها في كل شيء: في هذه المجتمعات التي ذكرناها، وفي الشوارع، فكل سائر يعتقد أن الشارع ملكه وحده، يرمي فيه بالأوراق التي يستغني عنها كما يشاء، ويسير في أي جانب كما شاء، وتراه عند شباك «التذاكر»، فكل يعتقد أن له الحق وحده أن يأخذ أول تذكرة ولو جاء آخر رجل، وأن الأمر أمر مزاحمة وقوة جسم، ولباقة حركة، ولا عبرة بالسبق، ولا بأي اعتبار آخر.
إن الحرب الحاضرة كشفت لنا عن نقص شنيع في هذا النوع من الأدب الاجتماعي، فمشكلة الدقيق، ومشكلة السكر، ومشكلة الأرز، وغيرها من مشاكل التموين ناتجة عن نقص الأدب الاجتماعي أكثر منها نتيجة لنقص المواد الغذائية، فكم من الناس لا ينظرون إلا إلى أنفسهم فيخزنون ما قدروا عليه من غير مراعاة لغيرهم من المحتاجين، وكم من التجار الجشعين الذين ينتهزون الفرصة ليربحوا ربحًا غير معقول ولو هلك الجمهور؛ ولو كان في الأمة أدب اجتماعي راقٍ لخفف كل هذه المصائب، ولا يمكن لأية حكومة ولا أية سلطة أن تنجح في حل هذه المشاكل نجاحًا تامًّا ما لم يسعفها الأدب الاجتماعي، وما لم يشعر الفرد بنحن بجانب شعوره بأنا، وما لم يفهم أن له حظًّا من الخير بجانب حظوظ الناس، وأنه يجب أن يتحمل شيئًا من المتاعب كما يتحمل الناس.
حتى الأمور التافهة الصغيرة التي تصل بالأدب الاجتماعي لا تُؤدى كما ينبغي فهذا يُرسل إليك خطابًا فلا ترد عليه، وهذا يُهدي إليك كتابًا فتتهاون في شكره، وهذا يُسدي إليك معروفًا فلا ينال منك كلمة ثناء عليه وتقدير لعمله كأن كل الناس مسخرون لخدمتك وحدك، كما يُسخَّر العبيد للسيد من غير حاجة إلى كلمة شكر.
وقد مرت الأمم الأخرى بمثل حالتنا التي نحن عليها الآن، ولكن عالجتها بأمور كثيرة — فأولًا — عالجتها بنظام الجندية، فكل فرد لا بد أن يمر بالجندية زمنًا ما، وفي هذا الزمن يتعود الرجولة والنظام، ويتعلم درسًا هامًّا في الأدب الاجتماعي، وهو أنه لا يعيش وحده، وأنه جزء صغير من جيش كبير، وأن عليه عبئًا يجب أن يحمله هو ولا يحمله سواه، وأن شخصه جزء من فرقته، خيرها خيره وشرها شره، وأنه يتحرك بحركتها ويسكن بسكونها، وأن عليه واجبات وله حقوقًا؛ وهكذا يتعلم الروح الاجتماعية التي تلازمه إذا خرج من الجندية، وقد شاهدت هذا المعنى في طلبة من الجامعة جُندوا فتغيرت روحهم وأصبحوا أطوع للنظام وأكثر تقديرًا للحقوق والواجبات، وأشد شعورًا بمسئوليتهم نحو أمتهم.
ثم إلى جانب الجندية وجهوا التربية في الأسر وفي المدارس نحو تفهيم هذا الأدب الاجتماعي، حتى أشعروا كل فرد أنه جزء من كل، ففي الأسرة علموا الأبناء أن يعيشوا في البيت عيشة اجتماعية، كل فرد يشعر أن خير الأسرة كلها خيره وشرها شره، وأن ميزانية البيت ليست لأحد وإنما هي لكل أحد، لا يتمتع بها واحد أكثر من غيره، وأن الفرد الناجح في الأسرة يصيب نجاحه الأسرة كلها، وفشل فرد منها يصيب الأسرة كلها؛ وفي المدرسة رسموا الخطط المتعددة لتعويد الأطفال أن يعملوا في شكل جمعيات، هذه جمعية للعب، وهذه للأشغال، وهذه للكشافة، وهذه للفنون، وهذه للعلوم، وهكذا، ونظموا هذه الجمعيات تنظيمًا دقيقًا، وقووا الروح التي تُسيطر على كل فرد حتى يندمج في جمعية يشعر بشعورها، ويعتز بعزتها، ويهون بهوانها.
فلما خرجوا من البيت على هذا النظام، ومن المدرسة على هذا النظام، ومن الجندية على هذا النظام، خرجوا إلى الحياة العامة وهم متشبعون بهذا الروح؛ فنجحت نقاباتهم، وأنديته، وأحزابهم، وجمعياتهم؛ لأنهم نشئوا عليها من صغرهم، ورُبوا تربية اجتماعية من طفولتهم، وأصبحت «نحن» بجانب «أنا» تمامًا لا تُفارقها ولا تتخلف عنها.
ثم إن معيشتهم في وسط الآلات والمصانع علمتهم أن كل فرد كجزء من الآلة إذا تعطل ترس تعطلت الآلة كلها، ولا يمكن لآلة أن تنجح إلا إذا أدى كل جزء ما عليه، متعاونًا مع باقي الأجزاء، فأوحى هذا كله إلى نفوسهم العمل الإجماعي والأدب الاجتماعي.
أما بعدُ؛ فإن أخلاقنا الفردية لها مزاياها وعيوبها ككل أمة أخرى، إنما الآداب الاجتماعية هي أهم ما ينقصنا، وهي وحدها — مع الأسف — عنوان الأمة ومظهرها أمام من يحكم لها أو عليها؛ فهم لا يحكمون علينا بأخلاقنا الشخصية، بمقدار ما يحكمون علينا بمظهرنا في الشارع وفي المجتمعات، إنهم يرون البائس الفقير جدًّا بجانب الغني جدًّا، فيعلمون أن الغني قد فقد الخلق الاجتماعي، وهم يرون نوادينا وجمعياتنا فيحكمون منها على مقدار رقينا، إن الأمر في نظري لا يحتاج إلا إلى تكوين جيل واحد يبذل فيه الزعماء والقادرون كل قوتهم لتكوين هذا الأدب الاجتماعي والخلق الاجتماعي في نفوس الناشئين، وأخذهم بالحزم والقوة حتى يتعودوه، وأنا ضامن أن الأجيال المقبلة تسير بعدُ على هذا النظام من نفسها.