حب الهجرة
من أخلاق الأمم القوية «حب الهجرة» فالأمة التي تعتز بقوتها وتشعر بعظمتها، يُحب أفرادها أن يسيحوا في الأرض، إما لنشر دينهم وعقيدتهم، وإما لإعلاء شأن وطنهم، وإما لطلب الرزق إذا ضاق في بلدهم، وإما ليزدادوا علمًا بأحوال البلاد الأخرى، فيفيدوا العالم ببحوثهم واستكشافهم، وإما ليستزيدوا من مناظر الطبيعة وجمالها فيغذوا بذلك ملكاتهم الفنية من شعر وقصص وتصوير وما إلى ذلك من أغراض.
أما الأمم الضعيفة المغلوبة على أمرها فتألف مكانها، ولا تُحب أن تُفارق عشها مهما برح بها الفقر، ومهما ساءت معيشتها، فأهلها يفضلون أن يموتوا في بلادهم أذلة فقراء، على أن يموتوا خارجها أعزة أغنياء.
أمامي الآن صفحة رائعة من صفحات المسلمين أيام نهضتهم كيف رحلوا وكيف تنقلوا في البلاد المختلفة ينشرون دينًا أو يطلبون علمًا أو يُكافحون في التجارة، ويلقون في ذلك الصعاب من غير ملل ولا ضجر.
وكانت الحكومات الإسلامية تتعاون على تنظيم هذه الرحلات فتُنشئ الرِّباطات في كثير من المراحل، وفي مختلف الطرق، وفيها يجد المسافر ما يحتاج إليه، والرباط في أصل وضعه نقطة «عسكرية» كبيرة لحفظ الحدود أن يتسرب إليها جند الأعداء أو جواسيسهم، فأضافوا له غرضًا آخر، وهو معونة المسافرين والراحلين، وتزويدهم بما يحتاجون إليه، ولما اشتدت الرغبة في الرحيل قام قوم من علماء الرحالين يُؤلفون كتب الدليل، وفيها كل ما يحتاج إليه المسافر من تبيين المسافات بين البلاد وأخلاق أهلها وعاداتهم واعتقاداتهم وخير ما عندهم من أنواع السلع، والمتاجر والمصنوعات، والحاصلات الزراعية، والمكاييل والمقاييس والأوزان، وما فيها من ثغور بحرية ونهرية، وأسماء المشهورين من الناس في كل قطر، وبين أيدينا الآن كتب كثيرة من هذا القبيل ككتاب «أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم» للبَشَّاري الشهير بالمقدسي؛ ويقول: إنه سافر كثيرًا في البحار فقطع ألفي فرسخ، وإنه سافر إلى الصين وسرنديب وركب بحر الأندلس، غير ما جابه من البلدان الإسلامية برًّا، وكذلك «كتاب المسالك والممالك» للإصطخري، و«المسالك والممالك» للبكري، و«المسالك والممالك» لابن خرداذبه، و«كتاب البلدان» لابن الفقيه، وغيرها وغيرها، وكلها أدلة للمسافرين.
وقد أسس المسلمون في أيام عزهم مراكز تجارية هامة يحضر إليها التجار بسلعهم وأموالهم من مختلف الأقطار، وبها المخازن والفنادق والسماسرة والوكلاء يبيعون ويشترون ويصدرون إلى مختلف الأقطار، وكان هناك صيارفة المال ولهم وكلاء يصرفون الصكوك ويحررون الحوالات لوكلائهم في الأقطار الأخرى، وكان من أهم تلك المراكز «جاوه» وكانت مركزًا هامًّا للبضائع الصينية، و«عدن» و«كازرون» و«العريش».
وقد ذهبوا إلى بلاد روسيا فبلغوا «كوتابه»، وذهبوا إلى أقصى السودان فوصلوا «كوكوا»، وذهبوا إلى التتر لجلب السمور، ووصلوا إلى «خانقوا» وهي التي تُسمى الآن «كانتون».
وفي كل هذه البلاد كانوا حيثما نزلوا يتعلمون لغة أهلها وعاداتهم وينشرون فيها لغتهم ودينهم، ويمتزجون بأهلها بالمزاوجة، فلا يمر جيل أو جيلان إلا ويندمجون في الشعوب التي يرحلون إليها.
وقد حكى لنا المسعودي في تاريخه قصصًا كثيرة عن هؤلاء الرحالة كابن وهبان الذي كان غنيًّا كبيرًا وتاجرًا عظيمًا، وكان من أهل البصرة، فرحل إلى سيراف، ثم رحل منها إلى الهند بتجارته، إلى أن انتهى إلى بلاد الصين، ورحل إلى بلد الملك وأعمل الحيلة حتى قابله، وأعظمه ملك الصين، وأمر أن تُعد له دار من دياره ينزل فيها، وأن تُقضى له حوائجه، ثم عاد بعدُ إلى البصرة بعد أن نجح في تجارته وحدث أهلها بما رأى وما عرف، وحث قومه على الرحلات وتنظيم التجارات.
وكانت رحلاتهم البحرية لا تقل روعة عن رحلاتهم البرية، فأنشئوا المراكب الكبيرة للملاحة في البحر الأبيض والأحمر والمحيط الهندي، حتى وصف بعضهم سفينة كانت تحمل بضعة آلاف راكب وفيها حوانيت للبيع، مع أنها كانت مراكب شراعية، وكانوا أحيانًا يستحضرون خشب السفن من البندقية وفيها غواصون لسد الثقوب إن حدثت، وبعض السفن كان يحمل حمام الزاجل ترسل معه الأخبار إلى البلاد، وكانت مراكب المسلمين تقطع البحر الأبيض عرضًا في ستة وثلاثين يومًا.
وقال المسعودي: «وقد ركبت عدة من البحار كبحر الصين والروم والقلزم واليمن، وأصابني فيها من الأهوال ما لا أحصيه كثرة، فلم أجد أهول من بحر الزنج.»، وكانت أقصى ما تصل إليه المراكب في هذا البحر موزنبيق.
أقام المسلمون بهذه الرحلات والمراكبُ شراعية تعتمد على الريح، وليس لهم آلات دقيقة لتحديد الجهات، وكانوا يقطعون المسافة من البصرة إلى الصين في شهور طويلة مع احتمال العطب، ومع ذلك لا ينقطعون عن السفر، ولا تعوقهم الشدائد طلبًا للرزق أو المجد.
وهناك أمثلة أخرى للهجرة للعلم كالذي ذكره الإدريسي «أنه في القرن الرابع الهجري خرج جماعة من مدينة لشبونة كلهم أبناء عم، وأنشئوا مركبًا وتزودوا فيه، ثم ركبوا بحر الظلمات واقتحموه ليعرفوا ما فيه من الأخبار والعجائب، وليعرفوا إلى أين انتهاؤه، وهم يسمون المغرَّرين.».
ومثل العالم الكبير أبي الريحان البيروني، أصله من خوارزم، ولكن أهل بلده كانوا يُسمونه الغريب لطول غربته وكثرة أسفاره، كان ذا عقل علمي جبار في الرياضيات والفلك، رحل إلى الهند بعد أن مهر فيما خلفه اليونان من رياضة وهندسة وهيئة، فأكب على ما عند الهند من ذلك ووعاه ونقده، وقارن بين ما للهند وما لليونان، وأبان عيوب هؤلاء وهؤلاء، كما درس حالة الهند الاجتماعية وألف في ذلك الكتب الكثيرة، فألف في الجواهر كتابًا اسمه «الجماهر في الجواهر»، وألف كتاب «تاريخ الهند»، وكتاب «ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة»، وألف في الفلك كتاب «التفهيم في صناعة التنجيم».
وهؤلاء المحدِّثون، طافوا الممالك الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها يتقصون ما ورد من الأحاديث، ويجمعون ما تفرق في البلاد، ويأخذون عن شيوخ الأقاليم، ويتفهمون معاني الأحاديث وفقهها، ويفخر المفتخر منهم بأنه رحل من مصر إلى الشام إلى الحجاز إلى العراق إلى خراسان في طلب العلم.
هذه أمثلة قليلة جدًّا من رحلات المسلمين في أيامهم الأولى، أيام عزهم ومجدهم وقوتهم، سافروا للدين، وسافروا للدنيا، وسافروا للعلم.
وفي عصورنا الحديثة من الأمثلة الرائعة حقًّا ما فعله السوريون؛ إذ هاجروا إلى الولايات المتحدة فنجحوا في الأعمال الاقتصادية؛ بل وكونوا لهم أدبًا عربيًّا ممتازًا.
أفبعد هذا يصح أن نرى هذه الظاهرة العجيبة في كثير من الأمم الشرقية، ظاهرة الخمول والالتصاق بالأرض، وعدم الرغبة في الرحلات والأسفار بعد أن سهلت وسائلها، ومهدت طرقها، وبعد أن ضاق العيش على كثير من أممها في أرضها؟ أليس من العجيب حقًّا أن يكون كل «موظف» خارج القاهرة يملأ الجو بكاء وعويلًا ليُنقل إلى القاهرة، ويحتال بكل الوسائل، ويسعى كل السعي، ويستعمل كل أنواع الرجاء ليسكن في القاهرة، كأن الأقاليم الأخرى ليس لها حظ من الموظفين، وليس لها حق في أن تُدار شئونها؟ وهؤلاء الفلاحون مكدسون في بقعة من الأرض راضون بإقامتهم مع البؤس والفقر، فإذا عرضت عليهم أن يرحلوا إلى غيرها — حيث الأرض واسعة، وميدان العمل متسع، والأمل منفتح — وجدت إعراضًا وتفضيلًا للإقامة مع الفقر على الرحيل مع احتمال الغنى، وترى الشباب المتعلم يتخرج اليوم من مدرسة أو جامعة، وهو يتطلب وظيفة ويتطلب معها أن يكون في القاهرة وإلا رفض الوظيفة، وتجد الأم تبكي، والأب يبكي، إذا أُرسل ابنه إلى بعثة أو عُين في وظيفة بعيدًا عنهما بساعات، وتسوء حالة الآباء والأبناء من لوعة الفراق، وتعرض وظيفة في الشام أو العراق بضعف المرتب فيرفضها الكثيرون ويرضاها الأقلون؟ إن الأمم التي تطلب عزها، وتسعى لرفعة شأنها لا بد أن يتحمل أفرادها الجلد والصبر والشجاعة وركوب الأخطار في الأسفار، ولا أخطار اليوم ولا صعاب كأمس يوم كان آباؤنا ينتقلون على الحمير والبغال والجمال، ويقطعون المسافة القصيرة في الأزمنة الطويلة والطرق غير مأمونة والسبل غير ممهدة.