في المدرسة
كل شيء في العالم يتقدَّم ويتغيَّر حسب تطور الأمم ونظمها الاجتماعية وحاجاتها وأغراضها في الحياة، فكما تغيرت مصانع النسيج من مغازل يدوية إلى مصانع ميكانيكية تبعًا لتقدم الأمة في الصناعة، كذلك يجب أن تتغير مصانع الأجسام والعقول والأخلاق تبعًا لتقدم الزمن وحاجات الأمم، وكذلك كان، فالمدرسة القديمة تطورت تطورات مختلفة، وخدمت أغراضًا متنوعة حسب آمال الأمة وظروفها، فالأمة يجب أن تحدد أغراضها التي ترمي إليها، ثم تصوغ مدارسها على وفقها.
لقد كانت التربية في عهد اليونان الأقدمين ترمي إلى خلق جسم قوي معد للحروب وللدفاع عن البلاد وللفتوح، فكانت مدارسهم مصنعًا لتأدية هذا الغرض، وتحول غرض التربية في أثينا إلى إيجاد طبقة عقلية تُعنَى بالفلسفة وفهم الطبيعة وما وراء الطبيعة، فأنشئت المدارس يعلم فيها أفلاطون وأرسطو على هذا النمط لتحقيق هذا الغرض، وجاء عهد الرومان فكان أهم غرض رئيسي لهم التعليم الحربي في فنونه ونظمه وترتيباته، والتعليم البلاغي في تحرير الخطب وفصاحة اللسان، فكانت مدارسهم تُعد لهذين الغرضين، وفي العصور الوسطى غمرت الناس الموجة الدينية فصبغت المدرسة هذه الصبغة، وكان كل شيء يُعلَّم لغرض الدين، حتى العلوم اللسانية والعلوم العقلية.
ومن نحو أربعة قرون غمر الناس — وخاصة أوروبا — موجة عقلية، فانطلق العقل يبحث ويُفكر، واصطبغت المدرسة هذه الصبغة العقلية تبحث وتُفكر وتُجرب التجارب في المعامل، وتأبى أن تأخذ شيئًا من العلم قضية مسلمة حتى يقوم البرهان على صحتها.
وفي هذا القرن وأواخر القرن السابق أخذ علماء التربية يُفكرون في أن يضموا إلى تربية العقل تربية اليد، فأخذت المدارس تُعنَى بهذه الناحية من رسم وتصوير وأشغال يدوية وما إلى ذلك، وأخيرًا جدًّا تنبهوا إلى وجوب إضافة تربية القلب إلى تربية العقل واليد، بوضع برامج يكون الغرض منها تحسين العلاقة بين أفراد الأمة الواحدة وبين الأمة والأمم الأخرى، لما رأوا من أن شرور العالم ومصائبه ناشئة من سوء العلاقات، إما بين أفراد الأمة الواحدة بعضهم وبعض، وإما من سوء علاقات الأمم بعضها ببعض، وأن الكوارث الطبيعية من فيضان وزلزال وبركان لا تُساوي شيئًا بجانب ما يحدث من الإنسان للإنسان من ظلم وإجرام وإفقار، فلما شعروا بذلك بدءوا يُدخلون في المدرسة مبدأ تربية القلب، ولكن — مع الأسف — عُنوا بتربية حسن العلاقة بين أفراد الأمة الواحدة بما أدخلوا من دراسة التربية الوطنية، ولما يعنوا العناية الكافية بتربية القلب من ناحية الإنسانية، وربما كان من أكبر أسباب ما يُصيب العالم الآن من ويلات عدم توازن عناصر التربية، فقد تقدم جدًّا العنصر العقلي وما تبعه من مخترعات، فالقوات المحركة والكهرباء والراديو والطائرات وآلاف المخترعات هي كلها نتيجة العلم، أو بعبارة أخرى نتيجة عنصر العقل، وكذلك هي كلها نتيجة لعنصر اليد، ولكن تخلف جدًّا عنصر القلب؛ إذ لم يدخل في برامج التربية إلا حديثًا، وما دخل منه دخل ضيفًا محدودًا بحدود الوطنية.
قصة قرأتها اليوم، وهي أن عالمًا كان يفخر أمام فيلسوف هندي بما تقدمَه العالم وما اخترعه من مخترعات؛ فقال ذلك الحكيم: نعم أيها العالم، إنكم استطعتم أن تجولوا في السماء كالطير، وأن تسبحوا تحت الماء كالسمك، ولكنكم لم تستطيعوا أن تسيروا على وجه الأرض في أمن وطمأنينة كالحيوان.
فلو قلل من شوط العقل في برامج المدرسة وأخذ شيء من نشاطه الكثير في تربية القلب لكان العالم أسعد، وهذا ما نُشاهده كل يوم، فمتعلم لا قلب له شر على الأمة ألف مرة من جاهل له قلب.
ما وظيفة المدرسة؟ لقد كثرت الإجابات على هذا السؤال، وخيرها في نظري هو إعداد الأطفال والشباب لينسجموا مع المدنية التي وُلدوا فيها.
إن الطفل يُولد عاجزًا كل العجز عن أداء أي واجب من واجبات الحياة، ضعيف الجسم، ضعيف العقل، غير مسلح بأي سلاح، مملوءًا بالغرائز الضارة غير المهذبة، ليس فيه من مزية إلا أنه يتكون من مادة خامة صالحة للتربية، فتأتي التريبة وتصوغ هذه المادة وتجعل منها — إن صلحت — إنسانًا عاقلًا نافعًا صحيحًا مهذبًا منسجمًا مع مدنيته، لهذا كان لا بد لكل أمة من غرض محدود ومثل أعلى تنشده، مشتقًا هذا الغرض وهذا المثل من ظروفها وأحوالها ومدنيتها، ثم تصوغ الأطفال في المدارس صياغة تُحقق هذه الغرض، وتجعل منهم أعضاء نافعين لجمعيتهم، وتحيطهم بجو من العلم ومن النظام ومن الشعائر والتقاليد يُساعد على بلوغ الغاية المنشودة، لهذا يجب على المدرسة إعداد الناشئين من نواحيهم المختلفة وقواهم المتعددة.
ثم من وظائف المدرسة الإعداد للحياة، فكل أمة لها مركزها الخاص، ولها مرافق متعددة تختلف كثرة وقلة حسب موقفها الاجتماعي من مرافق صناعية وزراعية وتجارية وما إلى ذلك.
فكل أمة عليها أن تدرس حاجاتها ومرافقها المختلفة وتُحدد ما يتطلبه كل مرفق من النسبة العددية، وما يتطلبه كل مرفق من الثقافة والإعداد، ثم تعد الناشئين في مدارسها لمواجهة الحياة العملية في مرافقها المختلفة.
يجب أن يكون التعليم في المدارس نافعًا، ومعنى نفعه إعداد الشاب للحياة المستقبلة التي سيواجهها في حياته العملية، ويجب أن يوجه التعليم النظري إلى هذا الغرض النفعي العملي.
قد كان تعليم المهنة قديمًا في المدرسة العملية، فكان ابن النجار يتعلم النجارة من دكان أبيه، وابن الحداد والفلاح والتاجر كذلك، فكان التعليم متجهًا إلى غرض مرسوم، ولكن ضاع هذا، وما كان يمكن أن يستمر في مدنيتنا، وكان ينقصه الثقافة العقلية والخلقية من حيث إن المتعلم إنسان، وحلت محل ذلك كله المدارس، ولكنها تغالت في الناحية النظرية، وأهملت الشيء الأساسي، وهو الإعداد للمهنة وللحياة العملية.
إن المدرسة الحقة والتربية الصحيحة هي التي تنظر إلى شيئين لا بد منهما؛ أولهما: حاجات الأمة إلى أنواع المهن والحرف ونسبها العددية، وما تحتاجه كل مهنة وحرفة من ثقافة خاصة؛ وثانيهما: نوع استعداد الناشيئن، هذا نبوغه في يده، وهذا نبوغه في إدارته، وهذا نبوغه في الأعمال المالية، وهذا نبوغه في عقله؛ ثم يتجه التعليم على هذين الأساسين: أساس الغرض وأساس الاستعداد، ويتجه التوزيع كذلك، ويوجه الناشئون كذلك، فإذا كل يعمل حسب ما خُلق له، وإذا كل يعمل حسب حاجات الأمة، وإذا الناشئ يتضح له مستقبله ويعلم إلى أي طريق هو مسوق.
وهي مهمة عسيرة جدًّا شعر بصعوبتها أكثر رجال التربية، وبذلوا الجهد في حلها، وأدركت الأمم الحية هذه الغاية السامية فبدأت توجه المدرسة وجهتها الصحيحة.
إن كان هذا النظر صحيحًا فما أغرب ما نسير عليه الآن وقبل الآن، إننا نعلم التعليم الأولي ورياض الأطفال ليسلم كل ذلك إلى التعليم الابتدائي، والتعليم الابتدائي كله بألوفه المؤلفه يسلم للتعليم الثانوي إلا القليل النادر، والتعليم الثانوي بألوفه المؤلفة كذلك يسلم إلى التعليم الجامعي، إلا في القليل النادر، كأن التعليم كله يقصد به الجامعة، فأين الزراعة العملية، والصناعة العملية، والتجارة العملية، ومرافق الحياة كلها العملية؟
إن التعليم الجامعي في الأمم ليس إلا للخلاصة من الأمة، للقادة، للباحثين، للنظريين، فكيف يتجه التعليم كله إليه ويُحضر له، ويصبغ الناشئون كلهم أو أغلبهم بصبغته؟
هذا قلب للوضع وخطأ في التفكير، إن الذين يتعلمون في الجامعة لا يصلون إلا إلى نحو ١٠٪ من مجموع المتعلمين، فكيف نُضحي تسعين لأجل عشرة؟
لا بد — إذن — أن يقصر الإعداد للتعليم الجامعي على عدد خاص يُقاس بحاجة الأمة، ويُقاس باستعداد الناشئ، وفيما عدا ذلك يجب أن يُنظر إلى كل نوع من أنواع التعليم على أنه غرض لا وسيلة، ومعد للحياة لا معد للجامعة، ونتيجة هذا تنويع التعليم وتنويع البرامج وتنويع الغرض وتنويع الإعداد حسب مطالب الحياة المصرية.
لقد وضعتنا الظروف وضعًا شاذًّا فكان التعليم كله للوظائف الحكومية، ثم تحول تحولًا آخر بعض الشيء فأصبح التعليم للجامعة، وكلاهما خطأ، فيجب أن يكون لا للوظيفة الحكومية ولا للجامعة، ولكن لمرافق الحياة ومطالب الأمة واستعداد الناشئ.
كل ناشئ يجب أن يُسلح لنوع مما تحتاجه الأمة على اختلاف حاجاتها لا أن يكون غرض الجميع «شهادة»، يجب أن يكون غرض كثير من الطوائف أن يكونوا صناعًا مهرة أو تجارًا مهرة أو زراعًا مهرة، أو ما شئت من مختلف المهن والحرف، ثم يجب أن تتعدد المدارس وتتنوع حسب هذه الأغراض.
من توابع هذا الخطأ تقاليدنا في توزيع الشرف، وشعورنا أن أكبر شرف يمنحه الجمهور لموظف الحكومة أو لخريج الجامعة، فيجب أن تُهدم هذه القيم ويُوزع الشرف توزيعًا جديدًا، ويوجد شعور عام بأن شرف المهنة الحرة كشرف الوظيفة الحكومية أو أكبر منه.
يجب أن نفعل في التعليم ما نفعل في المستشفى، كل مريض له علاجه الخاص ودواؤه الخاص، وليس هناك مجنون يُعالج المرضى المختلفين علاجًا واحدًا، فما بالنا نصب الناشئين في قالب واحد مع التباين في استعدادهم وملكاتهم ومع حاجات الأمة المختلفة ومطالبها المتعددة؟
إن التعليم في المدارس يجب أن يكون تفتيحًا للحياة وإعدادًا للعمل، لا تضحية للناشئين لشرف موهوم وغرض مجهول، ويجب أن تُوزع الجداول في المزرعة حسب حاجة الأرض إلى الماء لا حسبما اتفق.