أدب الابتهال
هذا نوع من الأدب راقٍ جدًّا في الأدب العربي، ولكن لم يلتفت إليه مؤرخو الأدب، أحببت عرض نماذج منه لنتبين قوته وروحانيته وبلاغته.
والابتهال في اللغة التضرع، والاجتهاد في الدعاء، والإخلاص لله فيه؛ ومن ثم استمد روحانيته وقوته من موقف المبتهل حيث يتحرر من شئون الحياة الدنيا وأعراضها ومشاكلها ومشاغلها، ويتفرغ إلى ربه، ويناجيه، ويسمو عن المادة وحقارتها؛ فكان بذلك أدب روح لا أدب مادة.
وقد صدر هذا الأدب في العصور المختلفة من عصر النبي (ﷺ) إلى اليوم، كلما شعر الإنسان بعجزه لجأ إلى ربه؛ وهو موضع دراسات طريفة في تطوره ونواحيه.
اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم إني أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع.
ووقفت لأبي حيان التوحيدي على جملة ابتهالات في الغاية من الجودة والحسن والقوة أقتطف منها ما يمثلها.
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بلائك، وأسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمتك شعاري ودثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني؛ والانقياد لك شأني، وشُغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري.
اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا، وغل صدورنا، وفتنة أنفسنا، وطموح أبصارنا، ورفث ألسنتنا، وسخف أحلامنا، وسوء أعمالنا، وفحش لجاجنا، وقبح دعوانا، وتلزُّق ظاهرنا، وتمزق باطننا؛ اللهم فارحمنا وارأف بنا، واقبل الميسور منا، فإننا أهل عقوبة وأنت أهل مغفرة، وأنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا، ومن قبل ذلك وبعده؛ فأطب عيشنا بنعمتك، وأرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك، وخذ بازمتنا إلى بابك، وأذقنا حلاوة قربك، واكشف عن سرائرنا سواتر حجبك، ووكل بنا الحفظة، وارزقنا اليقظة، حتى لا نقترف سيئة، ولا نُفارق حسنة، إنك قائم على كل نفس بما كسبت، وأنت بما نخفي وما نُعلن خبير بصير.
اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد إلا زايلته الطمأنينة، وأسلمه اليأس، وأوحشه القنوط، وتردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق، وأمل قد حفت به الخيبة، وسرٍ قد أطاف به الشقاء، وعلانيةٍ قد أناف عليها البلاء؛ عقله عقل طائر، ولبه لب حائر، وحكمه حكم جائر، لا يروم قرارًا إلا أزعج عنه، ولا يستفتح بابًا إلا أرتج دونه، ولا يقتبس ضرمًا إلا أُجِّج عليه؛ عثرته موصولة بالعثرة، وحسرته مقرونة إلى حسرة؛ إن سمع زيف، وإن قال حرف، وإن قضى جزف، وإن احتج زخرف، ولو فاء إلى الحق لوجده ظلًّا ظليلا، وأصاب تحته مثوى ومقيلا … وأنت الذي فعلك يدل عليك الأسماع والأبصار، وحكمتك تُعجِّب منك الألباب والأسرار، لك السلطان والمملكة، وبيدك النجاة والهلكة، فإليك المفر ومعك المقر، ومنك صنوف الإحسان والبر؛ أسألك بأصح سر، وأكرم لفظ، وأفصح لغة، وأتم إخلاص، وأشرف همة، وأفضل نية، وأطهر عقيدة، وأثبت يقين، أن تصد عني كل ما يصد عنك، وتصلني بكل ما يصل بك، وتحبب إليَّ كل ما يُحبب إليك، فإنك الأول والثاني، والمشار إليه في جميع المعاني، لا إله إلا أنت.
اللهم إني أسألك جِدًّا مقرونًا بالتوفيق، وعلمًا بريئًا من الجهل، وعملًا عريًّا من الرياء، وقولًا موشحًا بالصواب، وحالًا دائرة مع الحق، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس موصولًا بثبات يقين، وصحة حجة بعيدةً من مرض شبهة؛ حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصلةً بالأمثل فالأمثل، وعاقبتي عندك محمودةً بالأفضل فالأفضل، حياة طيبة أنت الواعد بها، ونعيم دائم أنت المبلغ إليه، اللهم لا تخيِّب رجاء هو منوط بك، ولا تُصْفِرْ كفًّا هي ممدودة إليك، ولا تُعذب عينًا فتحتها بنعمتك، ولا تذل نفسًا هي عزيزة بمعرفتك، ولا تسلب عقلًا هو مستضيء بنور هدايتك، ولا تُخرس لسانًا عودته الثناء عليك؛ فكما كنت أولًا بالتفضل فكن آخرًا بالإحسان، الناصية بيدك، والوجه عانٍ لك، والخير متوقع منك، والمصير على كل حال إليك، ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة وحلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن، إنك على ذلك قدير.
اللهم قيض لنا فرجًا من عندك، وأتح لنا مخلصًا إليك، فإنا قد تعبنا بخلقك، وعجزنا عن تقويمهم لك، ونحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك؛ لأنه لا طاقة لنا بدهمائهم، ولا حيلة لنا في شفائهم.
اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك، وآمنا مما خوفتنا حتى نقر معك، وأوسعنا رحمتك حتى نطمئن إلى ما وعدتنا، وفرق بيننا وبين الغل حتى لا نعامل به خلقك، وأغثنا بك حتى لا نفتقر إلى عبادك، فإنك إذا يسرت أمرًا، تيسر، ومهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك، ولا تجر عنا مرارة سخطك، قد اعترفنا بربوبيتك عبوديةً لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا؛ والإقبال علينا، والرفق بنا يا رحيم.
هذا قليل من كثير مما في الأدب العربي من هذا الباب، وهي كما ترى تتدفق قوة وتفيض روحانية وتسمو معنى، إلى رصانة بلاغية، وموسيقى دينية، فلو عُنِيَ بها مؤرخو الأدب كما عُنوا بالأدب المادي من الغزل، والمديح، والفخر، والهجاء، لظهر الأدب العربي بصورته الكاملة من مادة وعقل، وشهوة وروح! ولعلي أعود بعدُ إلى هذا الموضوع.