سلطان العلماء (١)
هذا لقب لقبه به تلاميذه لما رأوا من سعة علمه، وعظمة خلقه، فسار اللقب في الناس، وأصبح في البلاد سلطانان: سلطان الدولة، وسلطان العلماء، وكان السلطانان أحيانًا ينسجمان ويتصالحان، وأحيانًا يتصارعان ويتصادمان؛ فيكون لصراعهما منظر رهيب كمنظر الجيوش إذا تقاتلت، والسباع إذا تصاولت، والديكة إذا تهارشت، وأكثر ما يدعو المنظر إلى الإعجاب إذا رأيت المحارب غير المسلح يغلب المحارب المسلح، وسلطان الدنيا بجنوده يخضع لسلطان الدين وليس له جنود ولا بنود إلا قوة الخلق، وقوة الحق، وقوة اليقين.
عُمِّر «سلطان العلماء» هذا عمرًا طويلًا عريضًا، فقد عاش ثلاثة وثمانين عامًا، والأعوام وإن اتحدت في الطول فهي تختلف في العرض، فهناك أعوام طويلة لا عرض لها، وهناك أعوام طويلة عريضة، وهناك أعوام عقيم، وأعوام ولود، وأعوام «عالِمنا» هذه أعوام خصبة طالما ولدت الأحداث العظام، والخطوب الجُلّى؛ فقد شاهدت دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهدت دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزها، وشاهدت بعض الحملات الصليبية على الشرق ومقاومته لها، وشاهدت حملة التتار على الممالك الإسلامية واكتساحهم لها، ووقوف مصر أمامهم تصد هجماتهم وتكسر شوكتهم، وشاهدت سقوط الخلافة العباسية في بغداد وانتقالها إلى القاهرة.
ذلك كله شاهدته حياة «عالِمنا» الدمشقي، فقد وُلد سنة ٥٧٧، وتوفي سنة ٦٦٠هـ، لقد نشأ في دمشق فقيرًا يعمل بيديه ليكسب عيشه ويحصل قوته، يبيت في مسجد دمشق؛ إذ لم يجد له مأوى، وظل على هذا حتى صار شابًّا، ثم حُبِّب إليه أن يتعلم وهو كبير فقير، فمارس العلم وسرعان ما نبغ فيه، ولفت النظر إليه، وجمع إلى العلم التصوف، فيأخذ العلم عن شيوخه، والتصوف عن رجاله، ويكسبه العلم سعة في عقله وصقلًا لذهنه، ويفيده التصوف صفاء في قلبه، ونورًا في روحه، وقناعة وطمأنينة في نفسه، وزهدًا في نعيم الدنيا، وحبًّا لله وطلبًا لرضاه؛ فهو إذا تكلم رأيت علمًا غزيرًا من دراسته، ورأيت إخلاصًا من تصوفه، ورأيت هيبة وجلالًا، ونفوذًا لكلامه إلى قلوب سامعيه من قوة يقينه وصفاء روحه، وإذا بعالِمنا «عبد العزيز بن عبد السلام، أو عز الدين بن عبد السلام» الذي كان يعمل بيديه نهارًا، ويفترش أرض المسجد ليلًا، خطيب الجامع الأموي وإمامه، وقبلة الناس ومنارهم، ومعقد رجائهم.
لقد رمى بنظره بعد أن نضج عقله، فرأى حال الدولة تدعو إلى الأسى، هذه الأسرة الأيوبية تقسَّم أبناؤها المملكة، ففرع في مصر، وفرع في دمشق، وفرع في حلب، وفرع فيما بين النهرين، وفرع في حماة، وفرع في حمص، وفرع في جزيرة العرب، وبين بعضهم وبعض إحن وعداء، وحزازة ودماء، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للوثوب، ولا قبل لهم بذلك كله إلا أن تذهب حزازاتهم، وتتوحد كلمتهم، وتصفو قلوبهم، ويعدوا ما استطاعوا من قوة؛ فاتخذ عالمنا هذا منهجه في الخطب على المنبر، وفي الوعظ، وفي نصح الأمراء، فها هو يدخل على الملك الأشرف موسى بن العادل بدمشق وهو يتأهب لغزو أخيه السلطان الكامل في مصر، فيقول له: هذا أخوك الكبير ورحمك، وأنت مشهور بالفتوح والنصر على الأعداء، والتتر قد خاضوا بلاد المسلمين، فخير لك ألا تقطع رحمك، وأن تتوجه إلى نصر دين الله وإعزاز كلمته، وأن تحول وجهتك في مقاتلة أخيك إلى مقاتلة أعداء الله وأعداء المسلمين، وأن تتقرب إلى الله قبل ذلك بإصلاح داخل مملكتك، فتبطل المكوس، وترفع المظالم، وتمنع الخمور والفجور، فيُصغي السلطان إلى نصيحته ويعمل بها، ويقول له: جزاك الله خيرًا عن إرشادك ونصيحتك، ثم أصلح ما في الداخل وحول وجهته إلى الخارج، وقدم السلطان للشيخ ألف دينار يستعين بها على شئون الدنيا، فردها الشيخ في لطف وقال: إن هذه نصيحة لله وللدين، فلا أُكدرها بشيء من الدنيا، وذاعت نصيحة الشيخ وزهده في المال، فزاد مقامه علوًّا ومكانته رفعة.
•••
لكن في كل عصر سخافات تستوجب الضحك، لولا أنها تحدث في مأتم، فهؤلاء ضيقو العقول من الحنابلة — والدولة كلها معرضة لخطر الغزو من عدوين لدودين قويين: وهما التتار والصليبيون — يعيدون فتنة خلق القرآن والكلام فيها كما كانت أيام المأمون والمعتصم والواثق؛ فهم يزعمون أن كلام الله القديم هو ما نقرؤه بألسنتنا، ونكتبه بمدادنا، ونخطه في أوراقنا، وترمقه عيوننا، والأشعرية من أهل السنة يرون أن كلام الله الأزلي القديم ليس بحرف ولا صوت، وإنما ألفاظنا وكتابتنا ومصاحفنا دلالة عليه، فيجب احترامها لدلالتها على كلامه، كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته.
وتقوم الثورة في هذا بين الحنابلة والأشعرية، ويتبادلون السب والضرب، فهنا في دمشق مجادلات حارة ومناقشات حامية: هل الحروف والأصوات كلام الله؟ وهناك على مقربة منهم في صفوف الصليبيين دعوة حارة أخرى لتنظيم الآلات، وإعداد المعدات، وتوحيد الصفوف؛ هنا كلام وخصام في الكلام ودعوة إلى الانقسام، وهناك عمل وإعداد وسيوف وقنابل ودعوة إلى الوئام.
ويشتد النزاع بين الحنابلة والأشعرية: المكتوب والمقروء كلام الله؛ ليس المكتوب والمقروء كلام الله. كلمات يعلو بها صوت الناس في المساجد والشوارع والبيوت، ويتزعم فريق الأشعرية عالِمنا، وأعوان السلطان منقسمون كذلك إلى قسمين، والسلطان يسمع من هؤلاء اتهامًا ومن هؤلاء اتهامًا: هؤلاء يتهمون الأشعرية بأنهم يستهينون بالمصحف، وهؤلاء يتهمون الحنابلة بأنهم مجسدة، ويعكف العلماء من هؤلاء وهؤلاء على تأليف الرسائل واستنباط الأدلة، وأخيرًا يحار السلطان بينهم فيأمر بقطع الكلام في هذا الموضوع بتاتًا، ويأمر الشيخ عز الدين بأمور ثلاثة: ألا يُفتي، وألا يجتمع بأحد، وأن يلزم بيته، فلما جاء الملك الكامل في مصر وسمع ما جرى قال للملك الأشرف: ما فعلت أكثر من أنك سويت بين أهل الحق والباطل، وحرضه على القول برأي الأشعرية ونصرة الشيخ عز الدين، ففعل وشدد على الحنابلة فسكنوا، وانتهت المشكلة بعد أن أخذت من قوتهم وأكلت من تفكيرهم، وعاد عز الدين إلى مجده وسلطانه.
•••
أخذ الشيخ يدعو دعوته الأولى إلى أن يتحد سلاطين الأيوبيين وتتحد كلمة المسلمين، ويخطب في ذلك على منبر دمشق ويختم خطبته — في العادة — بقوله: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا، تُعز فيه وليك، وتُذل فيه عدوك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهَى فيه عن معصيتك.» والناس وراءه يبتهلون ابتهاله ويدعون بدعائه حتى ترتفع أصواتهم إلى عنان السماء.
وكان يقول: «كل جندي لا يُخاطر بنفسه فليس بجندي.» و«المخاطرة بالنفوس مشروعة لإعزاز الدين.» و«ينبغي لكل عالم إذا أُذِل الحق وأُهمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما، ومن آثر الله على نفسه آثره الله، ومن طلب رضا الله بما يسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بما يسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، وفي رضا الله كفاية عن رضا كل أحد.».
هذا بعض ما كان يقوله الشيخ، ولكن من كان يظن أن هذا القول الصريح الذي لا مجمجة فيه ولا إبهام يُؤَوَّل بأنه يريد به نصرة بعض الأيوبيين على بعض، ومن كان يظن أن هذه الدعوة التي يبذلها الشيخ إلى الاتحاد تنتكس ولا يُستجاب لها، وتنتهي بأن الملك الصالح إسماعيل يُصالح الصليبيين على أن يُسلم لهم صفدا والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين لينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب، ومن كان يظن أن الشيخ لا تُسمع دعوته، فيرى المسلمين في دمشق يبيعون السلاح للصليبيين ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين؟
لقد صرخ الشيخ من أعماق قلبه مستنكرًا هذا الأحوال، مستغيثًا بالله من هذه المخازي والأهوال؛ فاعتقل وعُذب، فما بالى باعتقال ولا بعذاب، وجاءه رسول من قبل الصالح إسماعيل يحتال عليه كما يحتال الشيطان ويوسوس له ويُخوفه ويُمنيه؛ وأخيرًا يقول له: «ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وأكثر منها إلا أن تطأطئ رأسك للسلطان وتقبل يده.».
هاج الشيخ وغضب واحمر وجهه، وصاح في الرسول: «يا مسكين، والله ما أرضاه أن يُقبل يدي فضلًا عن أن أُقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.».
هؤلاء ملوك المسلمين في الشام يعبثون بحقوق المسلمين، ويسلمون الصليبيين الحصون والقلاع، ويسمحون لهم بشراء السلاح من بلادهم اليوم ليحاربوهم به غدًا، والشيخ في اعتقاله في خيمته، يحز في قلبه الألم مما صار إليه حال المسلمين، فيعكف على القرآن يتلوه وعلى العلم يدرسه، ويمر الملك الصالح إسماعيل الذي فعل تلك الأفاعيل مع ملك الفرنج من الصليبيين على الشيخ في خيمته، فيفتخر الملك ويزهى بعمله ويقول:
«هذا أكبر قسوس المسلمين، اعتقلته؛ لأنه أنكر عليَّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة وعن مناصبه، ثم أخرجته من دمشق، وأبعدته هنا في بيت المقدس، كل هذا لأجلكم وحبًّا في رضاكم.».
قال ملك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لتشفعنا به وتبركنا بماء طهوره.
وانتصرت العساكر المصرية فأُطلق سراح الشيخ، فأبى أن يكون في دمشق، حيث رأى ما رأى.