محمد رب بيت
فكرة باطلة سادت أفكار بعض الناس في معنى «الرسالة»، فخلع بعضهم عليها أحيانًا بعض أوصاف الألوهية، وأحيانًا بعض أوصاف الرهبانية، من مبدأ البعثة إلى اليوم، وكان النبي (ﷺ) يُحارب هذه الفكرة كما يحارب الألحاد ويُعلن ويُكرر في كل مناسبة أنه «بشر رسول» لا «ملك رسول».
من مبدأ البعثة اجتمعت صناديد قريش بمكة فقالوا لمحمد: «لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا ولا أقل مالًا ولا أشد عيشًا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليُفجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل، فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكًا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، ولتسأله فيجعل لك جنانًا وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، ويُغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولًا، فإن لم تفعل فاتخذ إلى السماء سُلَّمًا ترقي فيه وتأتي معك بنسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.».
فقال محمد: «سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا.».
لقد أخطئوا؛ إذ نسوا أنه بشر لا يقدر على الإتيان بهذه الأشياء ولا يستطيع اقتراحها لما فيها من التعنت والتحكم، وليس للرسول أن يتحكم على الله فيطلب منه خرق قوانينه التي أدار عليها ملكه.
وخطأ آخر مثله وقع فيه بعض المسلمين؛ إذ خلعوا عليه بعض أوصاف الرهبانية، فقد روي في الحديث أن بعضهم كان يسأل عائشة ماذا كان يفعل رسول الله في بيته ظانين تبتله، فكانت تجيبهم أنه يفعل في بيته ما يفعله الرجل الكريم بأهله «وسألها رجل ما كان رسول الله يصنع في أهله، قالت كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة».
وجاء ثلاثة نفر إلى بيوت أزواج النبي فقال أحدهم إني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال ثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
لقد كان محمد إنسانًا يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويتاجر ويتزوج، وكان رسولًا عرف الله ودعا إليه، اختارته العناية الإلهية ليكون سفيرًا بين الله وخلقه، فله جانبه الإنساني فهو يضرب في الأرض يسعى ويكد، وتتوارد عليه العواطف الإنسانية، وله جانب روحاني يتصل فيه بربه، ويتلقى رسالته ويبلغها خلقه، يحيا كما يحيا الناس ويجري عليه حكم الموت كما يجري على الناس، ويتصل بالله كما يتصل الرسل، ويُؤدي رسالته كما يُؤدي الرسل، فمن زعم أنه فوق قوانين البشر فقد أخطأ، ومن جحد رسالته فقد أخطأ.
وهو في أداء رسالته أمين معصوم، وهو في إنسانيته يفعل ما يفعل الرجل الكامل، يتطلب معالي الأمور ويترفع عن سفاسفها، وينشد المثل الأعلى، ويتجمل بالمروءة، ويشعر بعظم التبعة، وتطهر نفسه فلا يتصنع، ويفعل في السر ما يفعله في العلانية، ويملؤه الشعور بأن الله خالقه وأن الله يراه، وأن الله يأمره وينهاه، فيأتي ما يأتي من الخير، ويذر ما يذر من الشر لا رغبة ولا رهبة، ولكن حبًّا في الله، ومن أحب أطاع؛ فكان المثل الأعلى للناس في جانبه الإنساني، وجانبه الروحاني، في معاملته وفي بيته وفي دعوته، وفي عبادته، وفي تضحيته، وفي إخلاصه.
•••
لقد كان لمحمد (ﷺ) بيت في مكة قبل الهجرة، وبيت في المدينة بعد الهجرة، والبيتان مختلفان في مظاهرهما.
ففي مكة ظل من غير زواج إلى الخامسة والعشرين، وهي سن متأخرة بالنسبة لحالة العرب الاجتماعية إذ ذاك، ولكن دعا إلى هذا التأخير فقره، وما الفقر بعيب، فلما أُتيح له الزواج تزوج، وكان الزواج مؤسسًا على أساس صحيح، من معرفة الزوج للزوجة في خُلُقها وخَلْقها ونسبها، وكانت الزوجة تعرف زوجها كذلك، فأحر أن يكون هذا الزواج موفقًا، لقد عرفت خديجة محمدًا في تجارتها، وكانت تبعث بالرجال يُتاجرون لها بالمال في الشام كما يفعل أغنياء قريش، فبعثت محمدًا في ذلك فعرفها وعرفته بعد أن سمعت به وسمع بها، وخبر كل حال الآخر عن قرب، ثم كان أن عرضت عليه أن يتزوجها بعد أن خطبها كثير من رجال قريش فأبت عليهم، ولعلها قرأت فيهم الطمع في مالها ورأت فيه التعفف عن مالها، كما كانت من أولئك النساء القلائل اللائي يقرأن المعاني في الرجل أكثر مما يقرأن المادة والمظاهر، «فأرسلت إليه نفيسة بنت أمية» دسيسًا إليه، فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ قال: ما في يدي شيء، قالت: فإن كُفِيتَ ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟ قال: فمَن؟ قالت: خديجة، فأجاب.
كانت خديجة امرأة مكتملة، في الأربعين من عمرها من قريش أمًّا وأبًا، تزوجت في شبابها رجلًا من خيار بني تميم اسمه أبو هالة فولدت منه ابنين هما هند وهالة، ثم مات عنها فتزوجها قرشي اسمه عتيق بن عابد فولدت له بنتًا اسمها هند ثم مات عنها كذلك، وقد عاش الثلاثة، ولعل مالها جاءها من قبل زوجيها، فكانت ذات مال وذات تجارة في حياة أبيها.
ثم تزوجت محمدًا في الخامسة والعشرين من عمره.
•••
في بيت، في حي التجار بمكة، كانت تسكن هذه الأسرة خديجة وأولادها الثلاثة ومحمد، وصبي صغير كانت اشتدت الأزمة بأبيه، فرجاه أهله أن يأخذوا عنه بعض أولاده يعينونه في تربيتهم فأخذ محمد أحدهم، وكان هذا الصبي علي بن أبي طالب، كما كان يسكنه مولى لهم هو زيد بن حارثة، فتعادل البيت بصبيانها وصبيه، وتعادل الكسب بمالها وعمله، وظل هذا البيت سعيدًا خمسة وعشرين عامًا، يتبادل فيه الزوجان الحب والألفة والتعاون، فلم نسمع مرة بخلاف ولا مشادة ولا غضب، رُزقت منه بأولاد لم يعش منهم إلا بنات أربع، ربين في هذا الوسط الوادع السعيد، وقد اعتاد العرب في هذا الزمن أن يعددوا زوجاتهم، وخاصة في سني شبابهم، ولم يعدوه عيبًا، ولا تعده النساء كذلك، ولكن محمدًا لم يفعل هذا حبًّا في خديجة وحرصًا على رضاها، ولأنه يشعر أنه مهيأ لأمر عظيم يتطلب التقلل من مشاغل الدنيا.
كان يشغله التفكير في أمر قومه، وضلالهم في عبادتهم، وفساد نظامهم، وكان مقتنعًا كل الاقتناع بأن ما عليه قومه ضلال لا شك فيه، وما يعبدونه باطل لا محالة، ولكن ما هو الحق؟
وكانت تبدو عليه نزعة دينية حائرة تتلمس الحق وتصبو إليه، وكان يبث خديجة كل ذلك فتفهمه وتُشجعه وتُعينه، ولقد شوهدا ومعهما علي في الكعبة يعبدون الله على نحو خاص غير ما تفعله قريش، كان هذا يملك عليه نفسه، فكانت خديجة له أكبر عون، فلما حُببت إليه العزلة، ورأى أن يمضي في عزلته الليالي في غار حراء كانت هي التي تعد له زاده، وتفهم نفسه وتُعينه على غرضه، ولما جاءه الوحي لأول مرة ورجع إلى خديجة يرجف فؤاده، كانت هي التي دثرته وأذهبت روعه وأخذته على ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان رجلًا متنصرًا عالمًا بالأديان فطمأنه أنه الوحي، فكانت أول إنسان آمن برسالته وصدقه في قوله؛ لأنها رأت منه ما لم يره أحد، رأته في بيته على فطرته وسجيته فلم تقع منه على كذبة، ولم تقف منه على رياء، ولا يعرف أحد أحدا كما يعرفه أهل بيته، فهناك المظهر الحقيقي والإنسان على سجيته، ورأت مقدمات الوحي خطوة خطوة فسهل إيمانها بالنتيجة؛ ولا تسل عن عظمة هذا الموقف يوم يتجلى للعظيم الحق فيجد في الوجود إنسانًا بجانبه يُؤيده ويُثبته.
ثم لما أعلن الدعوة لقومه ولقي منهم شر أنواع العنت كانت هي التي تُخفف بحديثها وأسلوبها كربه وتُؤنس وحشته، قال ابن إسحاق: «كان (ﷺ) لا يسمع شيئًا يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة، إذا رجع تُثبته وتُخفف عنه وتُصدقه وتُهون عليه أمر الناس.»، وكان من فضل الله أن كانت بجانبه العشر السنين الأولى من الدعوة وهي أشق السنوات عناء وجهادًا وكفاحًا.
لذلك لم يكن محمد (ﷺ) من الحب والوفاء والتقدير والإعظام لأحد ما أكنه لزوجته خديجة، فلما قالت له عائشة قد رزقك الله خيرًا منها، قال: لا والله ما رزقني الله خيرًا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس.
ولما توفيت في الخامسة والستين من عمرها في العام الذي تُوفِّي فيه عمه أبو طالب سُمِّي العام «عام الحزن»، وكان شديد الحنين إليها والذكرى لها فكان من حين إلى حين يبعث بعض الهدايا إلى صديقاتها، إحياء لذكرها، ودخلت عليه مرة — وهو بالمدينة — أختها هالة، وكان رسول الله نائمًا فلما سمع صوتها انتبه من نومه لفوره وقال: هالة هالة هالة! ترحيبًا بها، وهيامًا بذكر أختها، وإعظامًا لأحب الناس إليه.
•••
أما في المدينة فقد كان لبيت محمد (ﷺ) شأن آخر، لقد دعاه موقفه في الدعوة، وتأييدها بالمصاهرة والنسب، وطبيعة الحالة الاجتماعية في عصره، وظروف كثيرة — ليس هذا موضع ذكرها — إلى أن يعدد زوجاته، هذه عائشة بنت صاحبه أبي بكر، وهذه حفصة بنت صاحبه عمر، وهذه أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش، وهذه صفية بنت حيي بن أخطب سيدة قومها من يهود بني النضير، وهذه زينب بنت جحش مطلقة مولاه ومتبناه زيد بن حارثة؛ وعلى الجملة فكن خمس قرشيات وأربع عربيات من غير قريش، بين هلالية وخزامية وأسدية وواحدة من بني إسرائيل، فكان سبب الزواج أحيانًا تأليف قوم، أو توثيق رابطة، أو تشريعًا جديدًا يُخالف ما كان عليه العرب، أو عطفًا على أيم مات عنها زوجها في جهاد في الإسلام.
وكان النساء في المدينة غير النساء في مكة، فهن في مكة مضغوط عليهن، مستسلمات لأزواجهن، من العار أن يرددن لهم قولًا، بحكم بأس رجال قريش وشدتهم وسطوتهم، وعلى العكس من ذلك نساء المدينة، فلهن قسط وافر من الحرية، يُراجعن أزواجهن، ولهن رأي يُسمع، ومطالب تُجاب، واستتبع هذا شيئًا آخر وهو غلبة الجد الدائم على رجال قريش ونسائهم، وحب الفرح والمرح في نساء المدينة ورجالها، ففي الحديث أن عمر بن الخطاب قال: «كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم.» وفيه: أن عائشة زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي: أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، وتعليل ذلك من الوجهة الاجتماعية يطول.
أفرد رسول الله لكل زوجة بيتًا، ومع هذا فالعواطف الطبيعية للنساء لا يمكن محوها، ولا من الخير زوالها، والإنسان إنسان مهما كان، كل منهن كان يحرص أن يكون له من رسول الله أكبر نصيب في حبه، كل تغار إن شعرت بعطف أكبر على ضراتها، وكل يُحاسب على النظرة والابتسامة، ولكلٍّ نوع من المزايا تُدل بها، وأخيرًا انقسمن إلى حزبين: حزب فيه عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وصفية وسودة، وحزب فيه أم سلمة وزينب وميمونة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية.
ثم مشكلة أخرى طبيعية، فعائشة أحب زوجة إلى رسول الله لمزاياها، وفاطمة بنته من خديجة، وطبيعي ما يكون بين البنت ماتت أمها وتزوج أبوها غيرها وبين زوجة أبيها، ويزيد ذلك في نفس الزوجة الجديدة أنها لم تلد، والبنت تزوجت وولدت، والرسول يُحب زوجه ويُحب بنته ويُحب أولاد بنته.
هذه كلها مشاكل مستعصية، ما كان يمكن التغلب عليها والمعيشة الهانئة معها لولا حكمة من الرسول فوق كل حكمة، وكان من نعم الله حدوث هذه المشاكل وظهورها، فقد استوجبت من التشريع الإسلامي قدرًا كبيرًا، وكان هؤلاء الزوجات — وخاصة عائشة — مدارس يتلقى فيها الصحابة والتابعون علمهم عنهن وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ فيروون الأحاديث في مختلف الموضوعات من علمهن، ويحكين لهم ما شاهدن وما سمعن، وما تصرف فيه الرسول من مشاكل وأحداث أمام أعينهن، وأدبه فيما بينهن، حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية مأخوذ عن عائشة، ورُوي لها في كتب الصحاح ألفان ومئتا حديث، قال لها عروة يومًا: يا أماه! لا أعجب من فقهك أقول زوج رسول الله، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر، وكان من أعلم الناس بذلك، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو وأين هو؟ قالت: أي عُرَيَّة! إن رسول الله كثرت أسقامه عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات فكنت أعالجها، فمن ثَمَّ.
عدل بينهن في المعاملة على أدق وجه، واعتذر من عدم العدل بينهن في الحب فإنه لا يملكه وقال: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»، وكان إذا صلى العصر زار نساءه جميعًا وتحدث لكل منهن ثم بات في بيت من لها الليلة، وأحيانًا يجتمعن في بيتها، وإذا خرج إلى سفر أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها.
إلى أسلوب في المعاملة ظريف ونمط في المعاشرة لطيف، يلعب الأحابيش فتُحب عائشة أن ترى لعبهم فتستند على منكب النبي فلا يسأم حتى تسأم، ويُسابقها فتسبقه حتى إذا سمنت سابقها فسبقها فقال: هذه بتلك، ويقول: «إن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله» وكان اليوم يوم عيد فدخل أبو بكر على عائشة فوجد عندها جاريتين تضربان بالدف، فانتهرهما أبو بكر فقال رسول الله: دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد.
ويُحب الأطفال ويُقبلهم ويُلاعبهم ويجلسهم في حجره، ويأتي أعرابي بدوي فيقول: يا رسول الله أتُقبل الصبيان؟ والله ما نُقبلهم، فيقول رسول الله: ما أملك أن الله نزع من قلبك الرحمة.
•••
أزمة كانت تستيقظ من حين لآخر فوضع لها حدًّا حاسمًا، كان رسولًا وكان مثلًا للناس، وفهم رسالته حق الفهم، أتى ليبلغ عن الله رسالته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير ويُحذر من الشر، وليست رسالته أن يجمع ثورة أو يؤسس لنفسه ملكًا، ولا يتأتى أن يُؤدي رسالته على أكمل وجه حتى يزهد في المال وعرض الحياة، ولو التفت إلى المال لم يُطع هذه الطاعة، ولا أُجيب هذه الإجابة، ولالتفت الأتباع إلى المال، ولم يأبهوا للدعوة، ولفات على الناس درس التضحية، ولذلت نفوس الفقراء واضطغنوها في أنفسهم، وما أكثرهم، ولعز الأغنياء في الدين بغناهم لا بتقواهم، إذن فليتخل عن كل مظاهر الدنيا والترف في العيش، وليعش عيشة أبسط رجل، وكذلك كان، فلم يمتلئ جوفه شبعًا، ويبيت بعض الليالي طاويًا، ويمر الشهر ما يستوقد أهله نارًا، يعيشون على التمر والماء، ولا يرون الرغيف المرقق ولا الشاة السميط، ويموت ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، ويأتيه مال مرة من الغزو فيقسمه ألف بعير على أربعة أنفس، ويسوق مئة بدنة فينحرها ويطعمها المساكين ولم يدخر لأهله شيئًا، فكان فقره إيثارًا لا عوزًا.
لو كان الشأن شأن نفسه فقط لهان الأمر، عظيم يُضحي لربه ولدعوته فيجد من سعادة التضحية أضعاف ما يجد الشحيح بماله وترفه، ولكن ما شأن زوجاته ولم يبلغن في السمو سموه، ولا يفهمن المثل فهمه، ولا يشعرن بالتبعة شعوره؛ ها هن أولاء يطلبن شيئًا من السعة في العيش، وشيئًا من النعيم الذي ينعم به حتى صغار المسلمين، وهو يردهن ردًّا جميلًا، فلما كثر الطلب واشتد اللحاح كان الموقف الحاسم يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ١ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا، فبدأ يُخير النساء بين الطلاق والعيشة التي تتفق ودعوته، وبدأ بعائشة فاختارت ربها ورسوله وكذلك فعل سائر نسائه، وحسم الأمر ووطن أنفسهن على الصبر، وكان لهن في رسول الله أسوة.
وتُوفي رسول الله وظل نساؤه أمهات المؤمنين يرجعون إليهم في المشاكل، ويستفتونهن فيما دق من مسائل، يأخذ عنهن مؤرخو السيرة تاريخهم، والمحدثون حديثهم، والفقهاء فقههم، هذه عائشة يروي عنها عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو موسى وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس، وآخرون كثيرون، وقد عمرت حتى بلغت السادسة والستين، وتوفيت في عهد معاوية بعد أن كانت مرجع الناس في الفتيا، وخاصة في أدق المسائل الزوجية بما استفادت من رسول الله، وكذلك كانت حفصة بنت عمر رُويت عنها الأحاديث الكثيرة، وإن لم تبلغ مبلغ عائشة، وكان يروي عنها أهل بيتها كأخيها عبد الله وابنه حمزة وزوجته صفية، وعمرت إلى أن بلغت الستين، وماتت كذلك في خلافة معاوية، وعمرت أم سلمة إلى أن بلغت الرابعة والثمانين، وكانت آخر أمهات المؤمنين موتًا، وهكذا، فكان حول كل منهن تلاميذ من أهلها وأقاربها وغيرهم يروون عنهن، ويأخذون عنهن آراءهن فيما حدث من الفتن العظام بعد مقتل عثمان، ولم ينسين أبدًا درس الزهد وبساطة العيش وبذل المال كما علمهن رسول الله، فقد فُرض لهن الفرض العظيم بعد الفتوح فكن يتصدقن به ولا يدخرن منه، هذه عائشة أتاها مئة ألف درهم ففرقتها في يومها، وكانت صائمة ولم تتذكر أن تشتري لحمًا بدراهم تفطر عليه، وهذه زينب بنت جحش كانت مع ما يأتيها من عطائها صَنَاع اليدين تصنع بيدها وتخيط، وتتصدق بكل ذلك في سبيل الله، ووصفتها عائشة ضرتها فقالت: «لم تكن امرأة خيرًا منها في الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقربها إلى الله.».
صلوات الله عليه وعليهن أجمعين.