ثلاث رسائل للمؤلف
-
(١)
عكاظ والمربد.
-
(٢)
ثقافة الجاحظ.
-
(٣)
الفتوة في الإسلام.
(١) عكاظ والمربد
من أبعد الأماكن أثرًا في الحياة العربية عكاظ والمربد، وقد كان أثرهما كبيرًا من نواح متعددة؛ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الأدبية، ودراستهما تضيء لنا أشياء كثيرة في تاريخ العرب.
ولكن يظهر لي أنه لم يُعن بهما العناية اللائقة، فلا نرى فيما بين أيدينا إلا كلمات قليلة منثورة في الكتب يصعب على الباحث أن يصور منها صورة تامة أو شبهها، ومع هذا فسنبدأ في هذه الكلمة بشيء من المحاولة في توضيح أثرهما وخاصة من الناحية الأدبية.
(١-١) عكاظ
في الجنوب الشرقي من مكة، وعلى بعد نحو عشرة أميال من الطائف، ونحو ثلاثين ميلًا من مكة؛ مكان منبسط في وادٍ فسيح به نخل وبه ماء وبه صخور، يُسمى هذا المكان«عكاظ»، وكانت تُقام به سوق سنوية تُسمى «سوق عكاظ»، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الكلمة، فقال بعضهم: اشتقت من «تعكَّظ القوم» إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وقال غيرهم: سُميت عكاظًا؛ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة؛ أي: يعركه ويقهره، كما اختلفت القبائل في صرفها وعدم صرفها؛ فالحجازيون يصرفونها وتميم لا تصرفها، وعلى اللغتين ورد الشعر:
قال دريد بن الصمة: «تغيبت عن يومي عكاظَ كليهما».
وقال أبو ذؤيب:
•••
وكان للعرب أسواق كثيرة محلية كسوق صنعاء، وسوق حضرموت، وسوق صحار، وسوق الشحر، لا يجتمع فيها — غالبًا — إلا أهلها وأقرب الناس إليها.
- (١)
أن موعد انعقادها كان قُبيل الحج، وهي قريبة من مكة وبها الكعبة، فمن أراد الحج من جميع قبائل العرب سهل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي بغشيانه عكاظ قبل الحج، وبين الغرض الديني بالحج.
- (٢) أن موسم السوق كان في شهر من الأشهر الحرم؛ على قول أكثر المؤرخين١ «والعرب كانت (في الشهر الحرام) لا تقرع الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيمًا له، وتُسمِّي مضر الشهر الحرام الأصم لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه٢» وفي انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم، وإن كانوا أحيانًا قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام فاقتتلوا، كالذي رُوي في الأخبار عن حروب الفجار كما سيجيء، ولكن — على العموم — كان القتل في هذا الشهر مستهجنًا، قال ابن هشام: «أتى آتٍ قريشًا فقال: إن البَرَّاض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ … إلخ.»٣ وقد قال ذلك استعظامًا لقتله.
فترى من هذا أن بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها كانت تشترك في سوق عكاظ.
•••
وكان السوق يقوم بأعمال مختلفة اجتماعية إلى جانب أعماله التجارية، فمن كانت له خصومة عظيمة انتظر موسم عكاظ؛ كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: ألا إن فلان بن فلان غدر، فاعرفوا وجهه ولا تُصاهروه ولا تُجالسوه ولا تسمعوا منه قولًا، فإن أعتب وإلا جَعَل له مثل مثاله في رمح فنصب بعكاظ فلعن ورجم، وهو قول الشَّمَّاخ:
ومن كان داعيًا إلى إصلاح اجتماعي أو ديني كان يرى أن خير فرصة له سوق عكاظ، والقبائل من أنحاء الجزيرة مجتمعة، فمن قبل الدعوة كان من السهل أن يكون داعيًا في قومه إذا عاد إليهم، فنرى قس بن ساعدة يقف بسوق عكاظ يدعو دعوته، ويخطب فيها خطبته المشهورة على جمل له أورق فيُرغِّب ويُرهِّب، ويُحذِّر ويُنذر.
فيقف أشراف العرب يفخرون بمناقبهم ومناقب قومهم … فبدر بن معشر الغِفَاري … كان رجلًا منيعًا مستطيلًا بمنعته على من ورد عكاظ، فاتخذ مجلسًا بسوق عكاظ وقعد فيه وجعل يبرح على الناس ويقول:
فيقوم رجل من هوزان فيقول:
وعمرو بن كلثوم يقوم خطيبًا بسوق عكاظ وينشد قصيدته المشهورة:
ودريد بن الصِّمَّة يمدح عبد الله بن جدعان بعد أن لاحاه فيقول:
فمن هذا كله نرى كيف كانت عكاظ مركزًا لحركة أدبية ولغوية واسعة النطاق، كما كانت مركزًا لحركة اجتماعية واقتصادية.
نظام سوق عكاظ
وكانت الأشراف تمشي في هذه الأسواق ملثمة، ولا يوافيها (عكاظ) شريف إلا وعلى وجهه برقع، مخافة أن يُؤسر يومًا فيكبر فداؤه، فكان أول من كشف طريف العنبري، لما رآهم يطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح من وطن نفسه إلا على شرفه، وحسر عن وجهه وقال:
وكان على سوق عكاظ كلها رئيس: إليه أمر الموسم وإليه القضاء بين المتخاصمين، قال أبو المنذر: «وتزعم مضر أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم.» وكان من اجتمع له ذلك منهم بعد عامر بن الظرب العداوني سعد بن زيد مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره:
تاريخ عكاظ
من العسير جدًّا أن نُحدد بدء عكاظ، فلم نجد في ذلك خبرًا يصح التعويل عليه، يقول الألوسي في بلوغ الأرب «إنها اتخذت سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة.» ولكن إذا بحثنا في الأحداث التي رُويت في عكاظ وجدنا ذلك غير صحيح، فهم يروون — كما قدمنا — أن عمرو بن كلثوم أنشد قصيدته في عكاظ، وعمرو بن كلثوم كان على وجه التقريب حول سنة ٥٠٠م.
ويظهر أن أصحاب هذه النزعة الثانية وهم الذادة هم الذين سموا هذه الحروب حرب الفجار؛ لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء، وهم الذين تغلبوا فيما بعد ونجحوا في وقف هذه الحروب «ودعوا الناس أن يعدوا القتلى فيدوا من فضل، وأن يتعاقدوا على الصلح فلا يعرض بعضهم لبعض» وربما كان من أثر ذلك حلف الفضول، وقد عُقد في بيت عبد الله بن جدعان هذا.
فعكاظ عاصرت العصر الجاهلي الذي كان فيه ما وصل إلينا من شعر وأدب، وجرت فيها أحداث تتصل بحياة النبي ﷺ قبيل مبعثه، ومهدت السبيل قبيل الإسلام لتوحيد اللغة والأدب، وعملت على إزالة الفوارق بين عقليات القبائل، وقصدها النبي ﷺ يبث فيها دعوته، وعاصرت الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي، ولكن كانت حياتها في الإسلام أضعف من حياتها قبله، وبدأ ضعفها من وقت الهجرة لما كان من غزوات وحروب بين مكة والمدينة أو بين المؤمنين والمشركين، فلما فُتحت الفتوح رأى العرب في أسواق المدن المتحضرة في فارس والشام والعراق ومصر عوضًا عنها، ثم كانت ثورة أبي حمزة الخارجي بمكة، فلم يأمن الناس على أموالهم فخربت السوق، وختمت صحيفة لحياة حافلة ذات أثر سياسي واجتماعي وأدبي كبير.
(١-٢) المِرْبَد
أما المربد فضاحية من ضواحي البصرة، في الجهة الغربية منها مما يلي البادية، بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال، كان سوقًا للإبل قال الأصمعي:
وقال في اللسان — في مادة ب ص ر — وقال ابن شميل: «البصرة أرض كأنها جبل من جص وهي التي بنيت بالمربد، وإنما سميت البصرة بصرة بها.».
وليس يهمنا هنا أثره التجاري، وإنما يهمنا شئونه السياسية والأدبية وهما مرتبطان بعضهما ببعض أشد الإرتباط، فلا داعي للتفريق بينهما، فقد كانت الأحزاب السياسية تنتج أدبًا من خطب وشعر، وكانت الخطب والشعر تُقوي الأحزاب السياسية وتُساعد في تكوينها والحروب بينها.
المربد في عصر الخلفاء الراشدين
وهكذا ينتقل المربد إلى مجمع حافل فيه الدعوات السياسية مؤيدة بالحجج والبراهين وفيه معرض البلاغة من خطب طويلة وجمل قصيرة متينة، وفيه الجدل والمناظرة وبحث أهم الأحداث في ذلك العصر، وهو مقتل عثمان بن عفان وتحديد المسئولية في قتله، ولم تفد هذه الحرب اللسانية فانتقلت إلى حرب بالسلاح وأصبح المربد ساحة للقتال.
المربد في عهد بني أمية
وكان الأمويون على وجه العموم يعيشون عيشة عربية ويحتفظون بعربيتهم، إن أخذوا شيئًا من الحضارة صبغوه بصبغتهم وحولوه إلى ذوقهم وكذلك فعل عرب البصرة؛ أرادوا أن يكون لهم من مربد البصرة ما كان لهم من سوق عكاظ في الحجاز فبلغوا غايتهم، وأحيوا العصبية الجاهلية، وساعد الخلفاء الأمويون أنفسهم على إحيائها لما كانوا يستفيدون منها سياسيًّا، فرأينا ظل ذلك في الأدب والشعر، ورأينا المربد في العصر الأموي يزخر بالشعراء يتهاجون ويتفاخرون، ويعلي كل شاعر من شأن قبيلته ومذهبه السياسي، ويضع من شأن غيره من الشعراء ومذاهبهم السياسية.
كان كل من جرير والفرزدق يلبس لباسًا خاصًّا ويخرج إلى المربد ويقول قصائده في الفخر والهجاء، والرواة يحملون إلى كليهما ما قاله الآخر فيرد عليه، قال أبو عبيدة: وقف جرير بالمربد وقد لبس درعًا وسلاحًا تامًّا وركب فرسًا أعاره إياه أبو جهضم عباد بن حصين، فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشي وسوار وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير، والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما فلما بلغ الفرزدق لباس جرير السلاح والدرع قال:
ولما بلغ جريرًا أن الفرزدق في ثياب وشي قال:
وما زالا كذلك يتهاجيان ويقولان القصائد الطويلة الكثيرة حتى ضج والي البصرة فهدم منازلهما بالمربد فقال جرير:
وكان الناس يخرجون كل يوم إلى المربد، يعرف كل فريق مكانه فيجلس فيه فينتظر شاعره، فقد روى الأغاني أيضًا أن جريرًا بات يشرب باطية من نبيذ ويهمهم بالشعر في هجاء الفرزدق والراعي، فما زال كذلك حتى كان السحر وقد قالها ثمانين بيتًا في بني نمير فلما ختمها بقوله:
ونرى بجانب هؤلاء الفحول أعني جريرًا والفرزدق والأخطل طائفة أخرى من كبار الرُّجَّاز يقصدون المربد وينشدون رجزهم، فالعجاج الراجز يخرج إلى المربد عليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها، ويقف بالمربد على الناس مجتمعين، ويقول رجزه المشهور:
ويهجو ربيعة فيأتي رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم ويستحثه على الرد عليه، فيخرج أبو النجم إلى المربد ويقول رحزه.
ورؤية الرجاز ينشد رجزه:
ويجتمع حوله فتيان من تميم فيرد عليه أبو النجم في رجزه.
كذلك نرى ذا الرمة يقف بالمربد وعليه جماعة مجتمعة وهو قائم وعليه برد قيمته مئتا دينار، وينشد ودموعه تجري على لحيته:
وهكذا كان المربد في العهد الأموي معهدًا كبيرًا أنتج أدبًا غزيرًا من جنس خاص، وكاد هذا الشعر يكون امتدادًا للشعر الجاهلي، لاتحاد الأسباب والبواعث، فأما الشعر الغزلي كشعر عمر بن أبي ربيعة وأمثاله فليس له كبير أثر في المربد؛ لأنه فوق النزال والمهاجاة والمفاخرة، فليس مجاله حياة المربد التي وصفناها.
المربد في العصر العباسي
بقي المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضًا آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي، ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب ما هم فيه جميعًا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم، وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس من حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يُؤدي غرضًا يتفق وهذه الحياة الجديدة.
وبذلك كان المربد مدرسة من نوع آخر تغير برنامجها في العصر العباسي عن برنامجها في العهد الأموي، وأدت رسالة في هذا العصر تُخالف رسالتها في العصر السابق.
آخر الأخبار عن المربد
وتوالت فيه الحرائق وعُوتب شاعر البصرة أبو الحصين بن المثنى على أنه لم يقل شيئًا في حريق المربد، مع أن المربد من أجل شوارعها، وسوقه من أجل أسواقها، فقال ارتجالًا في آخر حريق لها:
ويقول ياقوت «إن المربد كان سوقًا للإبل، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وهو الآن — (عاش ياقوت حتى سنة ٦٢٦هـ) — بائن عن البصرة، بينهما نحو ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك كله عامرًا، وهو الآن خراب، فصار المربد كالبلدة المفردة في وسط البرية.».
ثم عفا أثر المربد، ولم نعد نجد له ذكرًا ذا قيمة، وأخنى عليه الذي أخنى على عكاظ، ومات بموته معهدان أدبيان اتصلت حياة الثاني منهما بحياة الأول فقاما نحو سبعة قرون، يخرجان شعرًا وأدبًا ونقدًا كان من خير تراث العرب.
(٢) ثقافة الجاحظ
لست أعلم أحدًا في عصر الجاحظ بلغ مبلغه في سعة ثقافته وعمقها، فلقد شملت كل معارف زمانه تقريبًا على اختلاف ألوانها وتعدد منابعها؛ حتى ليُخيل إليَّ أننا لو جمعنا كل كتبه ورسائله، ووزعنا ما فيها، ورتبناها على الحروف الأبجدية، لخرج لنا من ذلك دائرة معارف تمثل أصدق التمثيل معارف العصر العباسي الأول.
دائرة معارف تشمل الرجال، والأدب، والبلاغة، وعلوم الدين، والتاريخ، والطبيعة، والكيميا، والفلسفة، واللاهوت، والاجتماع، والاقتصاد، والصناعة، والتجارة، والحيوان، والنبات، والفن، والفكاهة، ولعله لا ينقصها إلا الرياضة: «الحساب، والجبر، والهندسة»؛ فيظهر لي أنه قصر فيها تقصير المعلم الأول (أرسطو).
وظل يُحصل هذه المعلومات المتنوعة المختلفة وينشرها قرنًا كاملًا تقريبًا، وقد منحه الله ذكاءً نافذًا وصبرًا غريبًا، وذهنًا لاقطًا، وحافظة أمينة، وزمنًا مباركًا، فتيسر له من ذلك كله ما لم يتيسر لأحد غيره في عصره.
ولكن كيف حصَّل هذه المعارف وما هي الوسائل التي انتهجها في تحصيلها؟
- (١)
فكان في فجر عهده بالتعليم ثلاثة نجوم لامعة في اللغة والأدب: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو زيد الأنصاري، وكان لكل منهم ظاهرة.
فأما الأصمعي فكان عالمًا واسع العلم باللغة، وواسع العلم بالشعر العربي، يحفظ الكثير من قصائده وأراجيزه، له نغمة لطيفة في إنشاده، وكان فوق ذلك يعرف مُلَح العرب ونوادرهم وفكاهاتهم، يُنادم الخلفاء والأمراء بها فيُضحكهم وينال من عطائهم.
وكان أبو عبيدة لا يصل إلى درجة الأصمعي في اللغة والشعر والنوادر، ولا كان خفيف الروح خفته، ولكن كان واسع العلم بأنساب العرب، يعرف القبائل وتسلسلها ومثالبها ومفاخرها؛ وكان واسع العلم بأيام العرب، وما كان بين قبائلها من حروب، ومن انتصر ومن انهزم؛ وكان يعرف أخبار الأمم وأحداثها التاريخية؛ وكان فوق ذلك رجلًا داهية ماكرًا أميل إلى النزعة الشعوبية.
وأما أبو زيد الأنصاري فكان رجلًا طيب القلب أولع بغريب اللغة، وكان ثقة صادقًا، يتحرى في روايته وعلمه أكثر مما يتحرى الأصمعي وأبو عبيدة، ويُسميه سيبويه الثقة، فإذا قال: حدثني الثقة فإياه يعني، ويصفه الجاحظ في كتاب الحيوان بما يُفهم منه أنه ثقة وليس بناقد، فما يحكيه فهو صادق في حكايته، ولكنه حاطب ليل، يروي ما يسمع ولا يعرضه للامتحان.
•••
هؤلاء الثلاثة هم مثقفو الجاحظ في ناحية من ثقافته، أعني ثقافته اللغوية والإخبارية، والأدبية، وقد تشرب منهم جميعًا، وأخذ ما عندهم وتأثر بأرواحهم، فلعل روح الأصمعي الفكهة المضحكة المسامرة شعت على تلميذه الجاحظ فكاهة ودعابة، وقد توسع فيها بما تمده طبيعته وطبيعة عصره، وأخذ من أبي عبيدة مكره ودهاءه مع سعة علمه؛ فكان واسع الحيلة واسع العلم يستطيع أن يكتسب رضاء الوزيرين المتعاديين على التعاقب، ابن الزيات وابن أبي دؤاد، ثم يظهر أنه لم يأخذ من أبي زيد إلا علمه بغريب اللغة، وقد أهمل غفلته فلم يتأثر بها ولم تُوائم نفسه.
- (٢)
وأخذ الجاحظ النحو على أبي الحسن الأخفش، وكان الجاحظ تلميذه وصديقه، والأخفش — هذا — كان المرجع الأوحد في كتاب سيبويه، فعنه روى ومنه أخذ، وكل الطرق التي رُوي فيها كتاب سيبويه ترجع آخرًا إلى الأخفش، وكان الأخفش من أعلم الناس بطرق الكلام والجدل، يُناظر الكسائي فيفحمه، فيتقيه الكسائي بالمال يبذله له، فأفاد الجاحظ منه نحوه وطرقًا من جدله وأساليبه في الإفحام.
- (٣)
وأتم الجاحظ ثقافته اللغوية والأدبية في «المربد»، وهو — كما رأينا — مجمع الشعراء ومصدر اللغة والأدب.
فكان الجاحظ يرحل إليه و«يتلقف منه الفصاحة» كما يقول «ياقوت»، فتم له بذلك اللغة والأدب بالمشافهة وبالأخذ عن العلماء.
- (٤)
وله ناحية أخرى دينية، من ذلك أنه تثقف في الحديث فأخذ عن بعض رجاله، وقد حكى في كتاب الحيوان أنه كان يخرج سحرًا في طلب الحديث، وحكى أنه وقعت له موقعة مع عدة كلاب ضخام نبحته في السحر.
وكان من أهم شيوخ الجاحظ في الحديث «حجاج بن محمد المصيصي» وهو محدِّث كبير من أكبر تلاميذ ابن جريج ومن أكبر شيوخ أحمد بن حنبل، وكان حجاج شيخًا ثقة صدوقًا، مات سنة ٢٠٦هـ ثم اختلط عقله في آخر عمره فكان يقول: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عيسى بن مريم عن خيثمة، فنُهي المحدثون عن الأخذ عنه، وقد روى الجاحظ عنه بعض الأحاديث، وقصد الجاحظ بعض المحدثين لأخذ الحديث عنه مثل ما روى: «حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال: دخلت على عمرو بن بحر الجاحظ، فقلت له حدثني بحديث فقال: «حدثنا حجاج بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، كما كان من شيوخ الجاحظ أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وقاضي الرشيد، فقد روى عنه الجاحظ بعض الحديث.
- (٥) ثم تثقف ثقافة الاعتزال، وكان أهم أستاذ له في ذلك «النظام»، وثقافة الاعتزال أوسع الثقافات برنامجًا، فقد كان الاعتزال يتطلب من رجاله مطالب عسيرة، يتطلب:
- (أ)
علمًا واسعًا بالديانات الأخرى من يهودية ونصرانية ومجوسية ومانوية وغيرها؛ لأن المعتزلة نصبوا أنفسهم للدعوة إلى الإسلام، ورأوا أنه لا يتيسر لهم ذلك على الوجه الأكمل إلا بمعرفة دقيقة بدينهم وبدين غيرهم، والاستعداد التام للدخول في الجدل والمناظرة دفاعًا وهجومًا، فعرفوا الأديان الشائعة في عصرهم وعرفوا مواضع المهاجمة فيها، وتسلحوا بأسلحة خصومهم.
- (ب)
واضطرهم ذلك إلى معرفة الفلسفة اليونانية؛ لأن خصومهم من اليهود والنصارى، كانوا قد اتخذوها أداة للدعوة إلى دينهم، والنصرة على خصومهم فتسلحوا بالمنطق والميتافيزيقا الأرسططاليسية.
وكانت فلسفة أرسطو فيها دراسة للحيوان فدرسوه، وفيها طبيعة فدرسوها، وفيها سياسة فنظروا فيها؛ ولكنهم صبغوا ذلك كله بروحهم الديني، فإذا بحث أرسطو في الحيوان بحثًا مجردًا بحثها المعتزلة للدلالة على قدرة الله وعلى إبداعه، واتخذوا منها دليلًا على بطلان الإلحاد وفساد الشرك، فقائلهم بشر بن المعتمر يقول القصائد الطوال في الحيوان وعجائبه ويختم ذلك بقوله:
سبحان رب الخلق والأمرومنشر الميت من القبرفاصبر على التفكير فيما ترىما أقرب الأجر من الوزروأرسطو نظر في الطبيعة نظرًا علميًّا بحتًا، ونظر فيها المعتزلة نظرًا علميًّا ودينيًّا معًا:
لو فكر العاقل في نفسهمدة هذا الخلق في العمرلم ير إلا عجبًا شاملًاأو حجة تُنقش في الصخر - (جـ)
بل نظروا إلى الفرق الإسلامية الأخرى كما نظروا إلى غير المذاهب الإسلامية فجادلوهم وخاصموهم واحتجوا عليهم بالقرآن كما احتجوا على أرباب الأديان بالعقل.
كل هذا دعاهم إلى أن يتثقفوا ثقافة في منتهى السعة، ثقافة في الإسلام نفسه، وثقافة في الأديان الأخرى، وثقافة فلسفية في المنطق واللاهوت والطبيعة والكيميا والحيوان والنبات وغير ذلك.
قالوا بسلطة العقل وقال قائلهم:
لله در العقل من رائدوصاحب في العسر واليسروحاكم يقضي على غائبقضية الشاهد للأمرفنازلهم رجال النقل فاستعدوا لهم:
وقالوا بالإيمان والتوحيد، فنازلهم رجال الإلحاد والشرك فاستعدوا لهم، وهكذا كثرت خصومهم فكثر استعدادهم وكثرت أسلحتهم، فاتسعت ثقافتهم إلى أقصى حد.
وكان الجاحظ من رجالات المعتزلة البارزين، فكان رأسًا في المعتزلة فكان لا بد أن يكون رأسًا في الثقافة.
- (أ)
- (٦)
هذا كله نمط واحد من نمط ثقافة الجاحظ، وهو الأخذ عن المشايخ كل في فنه، فاللغة على رجالها، والحديث على رجاله، والاعتزال على أئمته، وكان له منبع آخر من الثقافة وهو اعتماده على الكتب يقرؤها بنفسه لنفسه، وكان العلماء؛ إذ ذاك يكرهون من يأخذ العلم عن الكتب ولا يثقون به ويسمونه الصحفي؛ أي: أنه يأخذ العلم عن الصحيفة لا عن الأستاذ، ولكنه لا عيب في ذلك بعد النضوج وأخذ الأصول عن المشايخ.
وقد عكف الجاحظ على قراءة الكتب وصبر عليها واستفاد منها فوائد لا تُحصى، قال أبو هفان: «لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان؛ حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.».
غرام بالعلم غريب يحمله على أن يستأجر المكتبة من صاحبها ثم يسهر عليها لياليه ليستوعب ما فيها.
- (٧)
ومنبع ثالث من منابع ثقافته يستخدمه الجاحظ أحسن استخدام وأدقه وأوسعه، ولا أعلم له في ذلك نظيرًا ممن قبله أو عاصره؛ ذلك أنه أنغمس في الحياة الواقعية واستفاد منها ما أمكنه، وجعل منها موضوعات لأدبه؛ فإن كان سقراط قد استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فالجاحظ قد استنزل الأدب من السماء إلى الأرض.
كل شيء يقع تحت حسه موضع لدرسه وموضع لأدبه؛ فالحيوانات والنباتات، والصناع والصنائع والمجتمعات والفكاهات، والرحلات والكرماء والبخلاء والأغبياء والأذكياء؛ وعلى الجملة كل شيء وقعت عليه ملاحظته، فكأنه منح من الحواس، ما لم يمنحه الناس.
دقت ملاحظته في طبائع الأشياء وفي نفوس الناس وفي طبيعة المجتمعات فاستخرج من كل ذلك أدبًا، على حين أننا نقرأ أدباء عصره كابن قتيبة وغيره فلا نكاد نجدهم يمسون حياتهم الواقعية في شيء.
يُجرب بنفسه في كل حقير وجليل، ويُمعن في التجربة، ويصوغ ذلك كله أدبًا جميلًا.
•••
ففي الأمور الطبيعية — مثلًا — يُراقب الديك هل إذا كان وحده في قرية يصيح أو لا يصيح، ليعلم هل يصيح الديك بالتجاوب أو بطبيعته، ويُراقب الدجاج هل تكثر أفراخها إذا كثر عددها أو تقل أفراخها، ويبحث في الخيرى (وهو النبات المعروف عندنا بالمنثور) لماذا ينضم ورقه بالليل وينتشر بالنهار.ويلاحظ قتالًا بين قط وفأر كان عنده في بيت الحطب، وانجلت المعركة عن هرب الفأر بعدما فقأ عين القط.
ويُراقب بَرْنِيَّة زجاج فيها عشرون عقربًا وعشرون فأرًا، وما نتيجة لسع العقرب للفأر وكيف ورم، ويُريد أن يغرس الأراك في بيته على النمط الذي حكوه في زراعته ليُجرب قوله بنفسه.
ويذهب إلى أهل الحرف المختلفة يسألهم عن معلوماتهم في اختصاصاتهم فيقول: «سألت بعض العطارين من أصحاب المعتزلة عن فأرة المسك فقال: ليس بالفأرة وهو بالخشف أشبه، ثم قص عليَّ شأن المسك وكيف يُصنع.» ويذهب إلى الحوائين ويسألهم عن معلوماتهم في الحيات، ويقرأ في كتاب الحيوان لأرسطو أن ريح السَّذَاب يشتد على الحيات فيذهب الجاحظ ويُحضر أفعى ويلقي عليها السذاب ثم يقول: «فما كان السذاب عندها إلا كسائر البقل.» إلى كثير من أمثال ذلك.
ومن الناحية النفسية — مثلًا — يبحث في مناغاة الطفل للنار ويقول:«إن الطفل لا يُناغي شيئًا كما يُناغي المصباح، وتلك المناغاة نافعة له في تحريك النفس فتهيج الهمة وتبعث على الخواطر في فتق اللهاة وتشديد اللسان والسرور الذي له في النفس أكرم أثر.» ويصف شعوره الدقيق بالجمال فيقول: «إنه إذا رأى الديك والدجاجة أو الذئب أو الكلب تشرب الماء وكان عطشان يذهب عطشه من قبح شرب هذه الحيوانات، وإذا رأى شرب الحمام وكان ريان يشتهي أن يكون في ذلك الماء معه لجمال حسنه.» إلى كثير من أمثال ذلك أيضًا.
ويبحث في الغَيرة عند الرجل هل هي طبيعية فيه أو هي شيء تصطنعه المدنية، وما الفرق بينها وبين الأنفة والحمية.
وأما الناحية الاجتماعية فقد أبدع فيها كل إبداع؛ يصف نوادي القمار، والخاطبات بين النساء والرجال، وحياة الفتيان، وطمع النجار، وطائفة المعلمين والمغنين، والشرب والشراب، إلى ما لا يُمكن أن يُستقصى.وقد منحه الله عمرًا طويلًا ولسانًا كذلك طويلًا، فما أكثر ما جرب، وما أجود وصفه لتجاربه.
- (٨)
وقد ساعده على هذه التجارب تنقله في أوساط اجتماعية مختلفة؛ فهو ناشئ فقير يبيع الخبز والسمك في الأسواق ليكسب قوته، ويكسب بجانب ذلك دراسته العملية للأسواق، وهو في حلقة الدروس بين رجال علم وأدب ورجال دين؛ ثم هو كاتب في ديوان الرسائل مختلط بأهل الديوان، يعرف أخبارهم ومناحيهم في الحياة، ثم هو نديم للوزير ابن الزيات يُسامره ويُؤاكله ويقع تحت نظره كل صنوف الحياة الأرستقراطية، ويتصل بالفتح بن خاقان أقرب المقربين إلى المتوكل: ويشهد العداء الحار بين الوزيرين ابن الزيات وابن أبي دؤاد ويكتوي بنار الخصومة بينهما، ويُقبض عليه ويُوضع في القيد، ثم يُطلق سراحه بدهائه، كل هذا أطلعه على جوانب الحياة من ألفها إلى يائها.
ثم يرحل من البصرة إلى بغداد، ومن بغداد إلى دمشق وحمص، ويدرس البلد الذي يرحل إليه في عمق، حتى براغيث حمص والفرق بينها وبين براغيث العراق، وحتى لا يجد في حمص عقارب فيتساءل عن سبب ذلك، فيقولون له: إن بها طلسمًا يمنع من وجود العقارب بها، فلا يرضيه هذا التعليل، ويُعلله باحتمال وجود حيوانات بها تهرب منها العقارب، أو عدم صلاحية الجو لها أو نحو ذلك.
كل هذا إذا كان أمام عقل جبار كعقل الجاحظ، وقلم متدفق كقلم الجاحظ أخرج لنا ثروة ضخمة هائلة كثروة الجاحظ.
- (٩)
تثقف الثقافة العربية أدبية ودينية فشرب منها حتى الثمالة، وتثقف الثقافة الفارسية الأدبية منها والدينية؛ وعرف لغتها فنقل منها الكلمات والجمل بنصها في كتبه، وأخذ يُفسر معانيها، وتثقف اليوناينة ونقل منها فيما كتب في حيوان وفلسفة وطب وفراسة، وحتى حكى عنهم حكاية الممرورين منهم، ومزج ذلك كله مزجًا غريبًا لا كمزج الماء بالزيت ولكن كذوب السكر في الماء، وأخرج من ذلك شرابًا حلوًا سائغًا للشاربين.
يعرض للموضوع فيحكي فيه قول العربي الجاهلي، ويتبعه بقول أرسطو الفيلسوف اليوناني، ثم قد يتبعه بقول المجوس الفارسي، وقد يقف بعد ذلك يقص تجاربه الشخصية، ويُحكِّم الواقع والتجارب في كل ما قالوا، وينتهي من ذلك كله إلى نتيجة يحسن السكوت عليها.
في العلماء من استطاع أن يختزن ويملأ مخازنه بالسلع ثم لم يستطع بعد ذلك أن يعرض سلعه على جمهور الناس، فهو وخالي المخازن سواء، كلاهما لا يستفيد منه الجمهور شيئًا، أما الجاحظ فقد وفق في الحالين جميعًا، وفق في التحصيل حتى امتلأت مخازنه، ووفق في العرض حتى اجتذب الجماهير، فكان كالتاجر الماهر في الإعلان عن سلعه، الماهر في كيفية عرضها على الأنظار، ووُفق في القانون الذي وضعه هو؛ إذ قال: «وينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يُكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.» ولذلك رُزق الحظوة عند القراء وبلغت شهرته الآفاق، قال رجل لأبى هفان: لم لا تهجوا الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يُخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.
فثقافته التي ثقفها قد هضمها وأخرجها للناس خيرًا مما أخذها، أخذها متفرقة وأخرجها مجتمعه، أخذها من منابع مختلفة وعرضها في جدول واحد، أخذها مادة لا حياة فيها، وأخرجها مادة حية بنفسه، حية بآرائه وفكاهته، حية باختياره الموضوعات المناسبة للقول؛ فيثير عواطف السامعين ويزيد انتباههم.
لقد اتجهت تآليفه اتجاهات متعددة، ووسعت مواضيع شتى سعة من جنس سعة ثقافته.
-
فهو يؤلف في التاريخ ككتابه في الإمامة، وكتاب تصويب عليٍّ في تحكيم الحكمين … إلخ، بل يُؤلف في فلسفة التاريخ، فله كتاب اسمه «كتاب الأخبار وكيف تُجمع».
-
ويُؤلف في الرد على المخالفين وفي الفِرق، ككتابه في الرد على النصارى والرد على اليهود، وكتابه في الزيدية والرافضة.
-
ويُؤلف في الأخلاق، كرسالته في الحاسد والمحسود، ورسالته في كتمان السر، ورسالته في الكرم.
-
ويُؤلف في الحيوان، ككتابه المشهور، وفي النبات ككتابه المسمى كتاب الزرع والنخل.
-
ويُؤلف في نظرية المعرفة ككتابه المسمى «كتاب المعرفة»، وكتابه في الرد على أصحاب الإلهام.
-
ويُؤلف في البلاغة والأدب، كالبيان والتبيين، وكتاب صناعة الكلام.
-
ويُؤلف في الاجتماع بأوسع معانيه، ككتابه في المعلمين، وفي الفتيان، وفي اللصوص، وفي الجواري، والمحامين (الوكلاء والموكلين)، والصناعات، وغش الصناعات، وذوي العاهات، والنساء، والسود والبيض، والصرحاء، والهجناء، والعرجان والبرصان.
-
ويُؤلف في الاقتصاد، مثل كتابه تحصيل الأمول؛ وكتابه في الخراج.
-
ويُؤلف في الجغرافيا كتاب البلدان؛ ولا يفوته الطب، فيُؤلف كتابه في نقض الطب.
•••
هذه بعض نواحيه، وهي في منتهى السعة والتعدد.
نعم إنه غلب عليه في معالجة هذه الموضوعات الناحية الأدبية لا الناحية الفنية أو العلمية الصرفة، فهو يُؤدب كل شيء تكلم فيه حتى الزرع والنخل، والأسد والثعلب، ولكن شأنه في ذلك شأن علماء العصر الحاضر أرادوا أن يقطروا العلم للجمهور فأدبوه وجعلوه في شكل قصة، وفي أسلوب أدبي مشوق، فقد فعل الجاحظ قبل أحد عشر قرنًا ما نحاول عمله اليوم من مزج العلم بالأدب، وقد كان الأدب قبله في كثير من أنواعه ليس إلا شقشقة لفظية.
ثم نقل حدود الأدب إلى أبعد مدى، فبعد أن كان الأدب مقصورًا على الأقوال اللبقة الجميلة جعله شاملًا لكل موضوعات الحياة.
رحم الله الجاحظ، فقد تثقف فأجاد في ثقافته، وعرض معارف الناس لوقته فأجاد في عرضه.
(٣) الفتوة في الإسلام
لكل كلمة تاريخ يُشبه تاريخ الرجال وتاريخ النظم السياسية، وتاريخ الكلمات قد يكون معقدًا ملتويًا غامضًا، كما يحدث في غيره من أنواع التاريخ، فيجتهد الباحث في استعراض النصوص الكثيرة في العصور المختلفة، ليستخلص مها تقلبات الكلمة في أوضاعها المختلفة؛ وهذا ما أُحاوله في كلمة الفتى والفتوة.
ثم نراهم نقلوا الكلمة نقلة أخرى، فاستعملوها لا للدلالة على القوة، فقد يكون الشاب ضعيفًا فاتر القوى ويسمى بالوضع الأصلي شابًّا وفتى، فاستعملوها للدلالة على القوة؛ لأن الشباب عنوان القوة، قال ابن قتيبة: ليس الفتى بمعنى الشباب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال، يدل على ذلك قول الشاعر:
ويقول آخر:
فالفتوة — على هذا — معناها القوة؛ لأن الشباب مصدرها عادة، ومن هذا المعنى — على ما يظهر — تسميتهم الليل والنهار باسم الفتيان، ومن أقوى من الليل والنهار في إذلال كل عزيز وإضعاف كل قوي؟ ومنه قول الشاعر:
ثم مَن أحق منهما بأن يسميا فتيين، وقد سُمِّيا قبل بالجديدين؟ ففتوة الناس مرحلة قصيرة المدى، وفتوة الليل والنهار متجددة أبدًا.
ثم رأيناهم نقلوا معنى الفتى نقلة ثالثة، من ذلك ما قال الجوهري: الفتى السخي الكريم، وقال الزمخشري في الأساس: الفتوة هي الحرية والكرم.
قال عبد الرحمن بن حسان:
فكأنهم في هذا لاحظوا المعنى أكثر مما لاحظوا المادة، لاحظوا المعاني التي تُكسب صاحبها القوة المعنوية من حرية وكرم أكثر مما لاحظوا القوة الجسمية، وهذا — عادة — هو ما يحدث في الأوصاف، كالشجاعة، كانت لا تُطلق إلا على القوة البدنية، ثم لما أمعن الناس في الحضارة اخترعوا ما سموه الشجاعة الأدبية، يعنون بها الجهر بالحق مع التعرض للأخطار.
وفي هذه النقلة يظهر أن الكلمة أصبحت خاضعة للبيئات المختلفة، تُلبسها كل بيئة ما تنشده المثل الأعلى للفتى، فطرفة يرسم لنا صورة للفتى كما يتصورها هو وبيئته فيقول:
فهو يقول: إذا ما سأل القوم عن «فتى» ينجدهم في الملمات لم يجدوا الفتوة متوافرة فيَّ أحد توافرها في، ثم علل استيفاءه للفتوة بأنه سرعان ما يهوي إلى ناقته يضربها بالسياط، لتسرع في السير للإنجاد، فتتبختر في مشيتها كما تتبختر سيدة ترقص بين يدى سيدها، هذه أولى الصفات.
وثانية، وهي أنه لا يلجأ إلى التلاع مخافة حلول الأضياف، فهو واسع الرحب في قرى الضيوف؛ كما هو سريع النجدة في قتال الأعداء، وهو — إلى ذلك — في حياته جاد هازل يدلي برأيه بين عظماء القوم عندما يجد الجد؛ لأنه شريف النسب عالي الحسب، فإذا فرغ الجد ودعا داعي اللهو فهو في الحانات يشرب، وندماؤه أحرار كرام تتلألأ ألوانهم وتشرق وجوههم وتغنيهم مغنية لابسة بردًا أو ثوبًا صُبغ بالزعفران، فالفتوة في نظره ونظر أمثاله شجاعة وكرم وإتلاف للمال في الجد والهزل وعدم الاعتداد بالحياة في سلم أو حرب، وقد شرح هذه الخصال بعدُ في قوله:
… إلخ.
أما زهير الحكيم الرزين الوقور فيرى رأيًا غير رأي طرفة الشاب الغر اللاهي، فهو يرى أن الفتى إنما هو من استكمل الفصاحة في لسانه، والقوة في حنانه، وأن الشيخ لا أمل فيه للإصلاح، وأن الفتى هو موضع الأمل في الصلاح:
وعلى كل حال فطرفة وزهير يتفقان في أن من صفات الفتى الشجاعة وقوة القلب، وأن الفتوة وصف من أوصاف الشباب، ويختلفان في أن طرفة يرى من الفتوة اللهو والاستمتاع بالحياة، وزهيرًا يرى الفتوة في الجد والعقل والفصاحة، ومصدر الخلاف أن طرفة كان فتى تتملكه العاطفة، وزهيرًا كان شيخًا رزينًا حكيمًا مجربًا، وربما ظل النظران في الإسلام كما كانا أيام طرفة وزهير كما سنرى.
وعلى كل حال فقد استعملت كلمة الفتى في الجاهلية مطلقة ومضافة، فإذا أُضيفت تعين مدلولها مدحًا وذمًّا، فقد يقولون: فتى صدق، وفتى سوء، قال مسكين الدارمي:
وقال المرار بن منقذ:
وإذا أُطلق استعمل في المدح، وأكثر ما يدل على الشباب والشجاعة والكرم.
ولم يكن للفتوة نظام كالذي عُرف بعدُ في الإسلام، وكل ما نراه أنهم يستعملون — مثلًا — «فتيان القبيلة» يعنون بها شبانهم الأبطال، فيقولون: فتيان قريش، وفتيان تميم، قال المرار بن منقذ:
وقال المُزَرِّد:
كذلك لا نعلم لباسًا خاصًّا للفتيان، ولكن رُوي لنا أن أبطال العرب في الحروب كانوا يتخذون لهم شعارًا، قال الحصين بن الحمام:
وفسروا «المعلم» بأنه الذي يجعل لنفسه علمًا في الحروب يُعرف به، يفعل ذلك ليُعرف فيثبت ولا ينهزم مع من انهزم، لخوف العار إذا انهزم بعد أن عُلم، وقد رووا أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يوم بدر أعلم نفسه بريش نعامة، فقال بعض المشركين: من المعلم بريش نعامة، فقيل: حمزة، فقال: «ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل.».
واستعمل القرآن «فتى» وصفًا لإبراهيم (ﷺ): قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، واستعمله وصفًا لأهل الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ؛ وقد فُسر في الموضعين بالشباب، وقد جاء الإسلام باستعمال خاص لكلمة فتى، ذلك أنه لم يرض أن يُسمى الرقيق المملوك عبد فلان وأمة فلان، وكره العبودية تضاف لغير الله، فاختار لهما اسمًا محبوبًا وهو الفتى والفتاة، جاء في الحديث: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي»، وعلى هذا المعنى ورد قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ، وقوله: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ، وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ.
وأُطلقت الكلمة على الرقيق حتى سئل أبو يوسف عمن قال: «أنا فتى فلان»، فقال: هو إقرار منه بالرق، وكأنه اختير خير الألفاظ الدالة على الحرية للدلالة على الرق طلبًا لحسن معاملة الرقيق، حتى فيما يطلق عليهم من لفظ.
ولكن ظلت كلمة الفتى تُستعمل في المعنى الأول، وهو الشجاعة والفروسية في الشباب، فقالوا: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي»، وكان علي كما جاء في الإصابة «قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والإقدام».
ولما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان شهمًا نبيلًا، صلى عليه عمر بن عبد العزيز، ثم قال: اليوم مات فتى العرب، وقال يزيد بن مفرغ:
ونجد في العهد الأموي أمرًا يستوقف النظر، فقد ذكر الأغاني في ترجمة حنين الحِيرى كلمات في الفتوة تستحق الإمعان، وكان حنين هذا مغنيًا نصرانيًّا من الحِيرة، وكان في أيام هشام بن عبد الملك، ومن شعره الذي كان يُغني به:
وقال في موضع آخر عن حنين فيما حكى عن نفسه: «خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها، وأرتاد من أستفيد منه شيئًا، فسألت عن «الفتيان» بها وأين يجتمعون، فقيل لي: عليك بالحمامات، فجئت إلى أحدها فدخلته فإذا فيه جماعة منهم، فأنست وانبسطت وأخبرتهم أني غريب، ثم خرجوا وخرجت معهم، فذهبوا بي إلى منزل أحدهم؛ فلما قعدنا أُتينا بالطعام فأكلنا، وأُتينا بالشراب فشربنا، فقلت لهم: هل لكم في مغنٍّ يغنيكم؟ قالوا: ومن لنا بذلك.» … إلخ.
- (١)
أن هناك فئة تُسمى الفتيان كانوا في الحيرة وكانوا في حمص، ولا بد أنهم كانوا في غيرهما، ولكن لم تأت مناسبة تستدعي ذكر غيرهما.
- (٢)
وأن هؤلاء الفتيان ليسوا كل شباب، وإنما نوع خاص منهم يظهر من عبارته أنهم من المياسير، وممن لهم حظ في السماع والشراب وما إليهما.
- (٣)
وأنهم كان لهم مجتمعات خاصة يُعرفون فيها بالبلدة، يسأل عنها الغرباء أمثال حنين الفتى المغني فيقصدهم لقضاء أيام بينهم؛ فهؤلاء الفتيان يضيفون حنينًا وأمثاله، ويُقدمون إليهم ما يحتاجون له من مأكل ومشرب ومبيت، ويقضون أوقاتهم في حديث وسماع.
- فأولًا: كانت تستعمل للدلالة على المروءة من نبل وكرم وما إليهما، من ذلك ما
جاء في كتاب أدب النديم لكُشَاجِم: «أن رجلًا من أصحاب محمد بن عبد
الله بن طاهر دعاه للطعام عنده، دعوة احتفل لها، فلما حضر محمد طالبه
بالطعام فمطله، ليتكامل ويتلاحق على ما أحبه من الكثرة والحفلة، حتى
تصرم أكثر النهار؛ ومس محمدًا الجوع، فتنغص عليه يومه، وأراد محمد
السفر فشيعه هذا الرجل حتى إذا دنا منه ليودعه قال له: «أيأمر الأمير
بشيء؟»؛ قال: «نعم! تجعل طريقك في عودتك على محمد بن الحارث، فاسأله أن
يعلمك الفتوة» فمضى حتى دخل إلى محمد فقال له: «بعثني إليك الأمير
لتعلمني الفتوة»؛ فضحك وقال: «يا غلام! هات ما حضر»، فأتى بطبق كبير
عليه ثلاثة أرغفة من أنظف الخبز وأنقاه، وسكرجات وخل وملح من أجود ما
يُتخذ من هذه الأصناف، وابتدأ يأكل، فجاءته فضيلة باردة من مطبخه
وتداركها الطباخ بطباهجة وأحدث له بعض فنجان جام حلوًا، فانتظم له أكل
خفيف ظريف في زمان يسير وبغير احتشام وانتظار.».
فهو يستعمل الفتوة في الكرم في سماحة من غير تكلف، ومن هذا القبيل ما قاله أبو البلهاء في يزيد بن مزيد الشيباني يرثيه:
نعم الفتى فجعت به إخوانهيوم البقيع حوادث الأيامسهل الفناء إذا حللت ببابهطلق اليدين مؤدب الخداموإذا رأيت صديقه وشقيقهلم تدر أيهما ذوو الأرحام - وثانيًا: نرى الصوفية استحسنت كلمة «الفتوة» وما تدل عليه من معاني النُّبل
والسماحة، فأدخلته في معجم كلماتها وعدته من فضائلها، وأول ما نجد ذلك
في الرسالة القشيرية، فقد عقد القشيري بابًا سماه «باب الفتوة» بجانب
باب الحياء والصدق والحرية، وقال في تعريفها: «أصل الفتوة أن يكون
العبد ساعيًا أبدًا في أمر غيره.» ونقل عن الفضيل أنه قال: «الفتوة
الصفح عن عثرات الإخوان.» وقال بعضهم: «الفتوة ألا ترى لنفسك فضلًا على
غيرك.» وجروا على عادتهم في الأدب الرمزي فقالوا: «إن إبراهيم سُمي في
القرآن فتى؛ لأنه كسر الصنم، وصنم كل إنسان نفسه، فالفتى في الحقيقة من
خالف هواه ونفسه.»، وهكذا أحيا الصوفية كلمة «الفتوة» ونقلوا عن كبارهم
كلمات فيها، فالحارث المحاسبي يقول: «الفتوة أن تَنصف ولا تُنصف.»،
وقال غيره: «الفتوة إظهار النعمة وإسرار المحنة.»، وسئل أحمد بن حنبل:
ما الفتوة؟ قال: «ترك ما تهوي لما تخشى … إلخ.»، ولهم في ذلك الحكايات
الظريفة في الفتوة كعادتهم، من ذلك أن صوفيًّا تزوج امرأة ثم ظهر عليها
الجدري قبل الدخول بها، فتعامى الصوفي حتى لا يجرح شعورها، فلما ماتت
فتح عينيه، فقيل له في ذلك؛ فقال: «لم أعم، ولكن تعاميت حذرًا من أن
تحزن»؛ فقيل له: «سبقت الفتيان»، ومن ذلك ما حكوه أن إنسانًا يدَّعي
«الفتوة» خرج من نيسابور إلى بلدة نسا بخراسان، فاستضافه رجل ومعه
جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من أكل الطعام خرجت جارية تصب الماء على
أيديهم، فأبى الفتى النيسابوري وقال: «ليس من الفتوة أن تصب النساء
الماء على أيدي الرجال».
وحكوا أن جماعة من الفتيان زاروا فتى، فدعا غلامه ليقدم الأكل لهم، فأبطأ الغلام، فسأله الرجل: «لم أبطأت؟» فقال الغلام: «كان عليها نمل، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل فيها، ولم يكن من الفتوة طرد النمل عن السفرة، فلبثت حتى دب النمل»؛ فقال له صاحب البيت: «قد دققت يا غلام في الفتوة».
ولبث الصوفية بعد ذلك يتجادلون جدالًا ظريفًا في تفسير كلمة الشيخ، هل عاب على الغلام أو مدحه؟ وهل هذا العمل من الفتوة أو لا؟ وهل الخوف من إيذاء النمل بالطرد يجب أن يُراعى ولا يُراعى الخوف من إيذاء الضيوف بالانتظار؟ إلى غير ذلك.
وعقد الشيخ محيي الدين بن العربي فصلًا طويلًا في كتابه الفتوحات الملكية عنوانه: «معرفة مقام الفتوة وأسراره»، قدمه كعادته بأبيات من الشعر فيها:
إن الفتوة ما ينفك صاحبهامقدمًا عند رب الناس والناسإن الفتى من له الإيثار تحليةفحيث كان فمحمول على الراسما إن تزلزله الأهوا بقوتهالكونه ثابتًا كالراسخ الراسيلا حزن يحكمه لا خوف يشغلهعن المكارم حال الحرب والباسانظر إلى كسره الأصنام منفردًابلا معين فذاك اللين القاسيوقد بناه على قصة إبراهيم، وأنه جاد بنفسه للنار إيثارًا للحق.
وعلى الجملة فقد أدخل الصوفية «الفتوة» في مذهبهم وصبغوها بصبغتهم، وجعلوها مقامًا من مقاماتهم، ومُلئت بها كتبهم، ونقلوها من المعنى الدنيوي إلى المعنى الديني، كالزهد والإيثار وضبط النفس وحملها على الحق، مهما استتبع ذلك من المكاره.
•••
-
فتوة يصح أن نُسميها فتوة مدنية أو دنيوية
-
وفتوة دينية أو صوفية
ثم يتعود ركوبها على اختلاف أنواع سيرها؛ ثم الصيد عليها وهكذا، وكذلك وضعوا التعاليم للقسي والنشاب والتروس وما إليها.
وكانت الوقائع بين المسلمين والروم في الثغور منشأ لظهور ضروب من الفروسية تستدعي الإعجاب، كما كانت الحروب الصليبية مصدرًا كبيرًا كذلك، وفي كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ الشيزري، و«الروضتين» لأبي شامة، و«سيرة صلاح الدين» لابن شداد أمثلة كثيرة من هذا الضرب تأخذ باللب.
ما سراويل الفتوة؟ وما شكلها؟ وما نظام الفتوة الذي وضعه؟ لا أعرف تفصيل ذلك.
وقد ذكر المقريزي في كتابه السلوك عبارة تُشبه هذه في خلافة الناصر، وزاد عليها بأنه كان من ضمن هذه الشعائر شرب كأس الفتوة.
وقد ذكروا أن كأس الفتوة هذه ليست نبيذًا ولا خمرًا، وإنما هي ماء وملح.
أما الفتوة الصوفية فقد تمت كذلك على توالي العصور، وخير المصادر التي بين أيدينا تشرح حالها ومظاهرها رحلة ابن بطوطة، الذي وُلد في طنجة سنة ٧٠٣هـ وساح في مصر وفارس والشام وجزيرة العرب والصين والتتر والهند وأواسط إفريقيا وإسبانيا.
يُؤخذ من هذا كله أنه في بلاد الأناضول وما حولها كان في كل بلد جماعة من الفتيان، يعيشون عيشة اشتراكية، فكل ما جمعه أحدهم من عمله أو صناعته دفعه لرئيسهم وهو «الأخي»، وهو يُنفق عليهم، وهم يعيشون في زاوية عيشة دينية مرحة، فيها ذكر وفيها تلاوة قرآن وفيها غناء وفيها رقص، وأن هذا إنما يكون لمن ليس لهم أسرة، فهم عزاب أو نحوهم، وليسوا يعيشون فقط لأنفسهم، وإنما يعيشون كذلك للضيوف وللبائس والفقير.
وكان من انتشارها أن كثر استعمالها وتحدث الناس بها، وتجادل العلماء في شأنها.
يدل على ذلك استفتاء رُفع إلى «ابن تيمية» المتوفى سنة ٧٣٨هـ — يُلقي هذا السؤال ضوءًا على الفتوة ونظامها — فقد سئل عن «جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون الشخص منهم (لباس الفتوة)، ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء، ويشربونها ويزعمون أنها من الدين … ويقولون: إن رسول الله ألبس علي بن أبي طالب لباس الفتوة، ثم أمره أن يُلبسه من شاء، ويقولون: إن هذا اللباس أُنزل على النبي (ﷺ) في صندوق ويستدلون عليه بقوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ، فهل هو كما زعموا، أو هو كذب واختلاق؟ … ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله عن عبد الجبار، ويزعم أن ذلك من الدين، فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي يُسمي بها بعضهم بعضًا من اسم الفتوة ورءوس الأحزاب والزعماء لها أصل أم لا؟ … ويقوم رئيس القوم إلى الشخص الذي يلبسونه، فينزع عنه اللباس الذي يلبسه ويُلبسه الذي يزعمون أنه لباس الفتوة، فهل هذا جائز أم لا؟ … وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ … وهل أحل أحد من الصحابة أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم هذه الفتوة المذكورة؟».
وقد أجاب «ابن تيمية» عن هذه الأسئلة فقال: إن لباس الفتوة وإسقاء الملح والماء باطل لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله ولا أحد من أصحابه، ولا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين، والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة وفيه من لا يُعرف … وما ذكر من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يُواري السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ، والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبي (ﷺ) تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه … إلخ.
وأما الشروط التي يشترطها شيوخ الفتوة، فما كان مما أمر الله به: كصدق الحديث وأداء الأمانة وأداء الفرائض واجتناب المحارم ونصر المظلوم وصلة الأرحام والوفاء بالعهد، أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى وبذل المعروف، وأن يجتمعوا على السنة، ويُفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك، فهذه يؤمن بها كل مسلم، سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشترطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله؛ مثل التحالف الذي يكون من أهل الجاهلية أن يصادق كل صديق الآخر في الحق والباطل، ويُعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يُعاديه، سواء كان الحق معه أو مع خصمه، فهذه شروط تُحلل الحرام وتُحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله، فهو باطل.
ثم قال ابن تيمية: وأما لفظ «الفتى» فمعناه في اللغة «الحدث»، كقوله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وقوله تعالى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين، صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق، كقول بعضهم: «الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظمًا، وموادة لا مسايرة.»، وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى؛ وأمثال ذلك، فهذه أمور حسنة مطلوبة محبوبة سميت فتوة أم لم تسم.
وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ؛ فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيمهم فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًّا كان مذمومًا على ذلك، وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب؛ أي: تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا: مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء أكان على الحق أو الباطل؛ فهذا من التصرف الذي ذمه الله تعالى ورسوله؛ فإن الله روسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن الفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.
•••
وهذان النوعان من الفتوة — أعني الفتوة الصوفية والفتوة المدنية — ظلا يعملان ويتطوران إلى عصرنا هذا: فالفتوة الصوفية تحولت في تركيا إلى قوة دينية، كالولاية النقشبندية تساير قوة السلاطين السياسية أحيانًا وتناهضها أحيانًا، حتى أبطلتها تركيا في ثورتها الحديثة، وتحولت في الشرق إلى خانقاه وتكايا، أصبحت فيما بعد مأوى للعجزة ومن يريد أن يعيش عيشة عزلة عن العالم، ففقدت بذلك معناها الأول، وتحولت من قوة إلى ضعف ومن نجدة إلى خمول.
ولقد أدركنا لعهدنا في صبانا في كل خط وناحية من أخطاط القاهرة ونواحيها جماعة من الشباب يسمون «الفتوات»، وهم من أرباب الصنائع والمهن الحقيرة عادة، وممن يلبسون الجلاليب الزرقاء ويتعممون على «الطاقية»، قد عُرفوا بالقوة الجسمية والشجاعة والفتوة، وعلى رأسهم زعيمهم، وبينهم وبين «فتوات» الخط الآخر نزاع غالبًا، وقد يخرج «فتوات المنشية» لمحاربة «فتوات الحسينية» في جبل المقطم بالطوب والحجارة والعصى، وقد يقع بينهم جرحى وقتلى ويعد ذلك يومًا له ما بعده، ويكون بين فتوات الحيين «ثأر»، وقد ينتج من ذلك أن «فتوات» الحسينية — مثلًا — يعلمون «بزفة» لأحد فتوات المنشية، فيتربصون لهم حتى إذا خرجت «الزفة» تعرض لها الأعداء، وأعملوا فيها الضرب والتخريب.
وقد قضت الحكومات النظامية على هذه الأعمال.
وحبذا لو سُمِّي نظام الكشافة باسم «نظام الفتوة»، فكنا بذلك قد أعدنا ذكريات العهد القديم وأحيينا اسمًا تاريخيًّا حيا في الإسلام قرونًا طوالًا.