سلطان العلماء (٣)
التاريخ يعيد نفسه، فقد نبتت فكرة استعانة الخلفاء بالموالي من الأتراك وغيرهم في العصر العباسي، يجندونهم أيام الحرب، ويتخذونهم زينة لهم وأبهة لملكهم أيام السلم، يخضعون بهم الخارجين عليهم لما عرف من بأسهم، ويتخذونهم عدة لهم في أيام شدتهم، وبدأ يفعل ذلك المهدي والرشيد، واستكثر منهم المعتصم، حتى ضاقت بهم بغداد، فاتخذ لهم مدينة سامرا، وما زالوا يقوون ويستولون على شئون الدولة شيئًا فشيئًا حتى صاروا كل شيء، ولم يبق للخلافة شيء.
كذلك فعلت الدولة الأيوبية، فاستكثر منهم صلاح الدين الأيوبي وأخوه العادل، ثم من أتى بعدهم، حتى بالغ الصالح نجم الدين أيوب في ذلك، وحتى كان كل عسكره من هؤلاء الموالي، ثم ضاقت بهم القاهرة كما ضاقت بغداد بإخوانهم من قبل؛ فاتخذ الصالح أيوب لهم مكانًا في الروضة إزاء المقياس، ثم استفحل أمرهم أيضًا، فكان لهم الملك والسلطان، وزالت على أيديهم دولة الأيوبيين.
كان هؤلاء الموالي من ترك وتركمان وأرمن وروم وجركس وغيرهم، وكانوا يصلون إلى أيدي الأيوبيين إما عن طريق الأسر في الحروب، وإما عن طريق تجارة الرقيق، وكانت تجارة رابحة واسعة منظمة، تستخدم في ذلك البر والبحر، ويورد النخاسون من الرقيق أشكالًا وألوانًا؛ فهؤلاء جنود ضخام شداد يصلحون للقتال في البر والبحر، وهؤلاء غلمان حسان يملكهم الأمراء ويلازمونهم، وهم يتجملون بالملابس ويتزينون تزين النساء، ويفتنون الناس بجمالهم وزينتهم، وهؤلاء جوارٍ كاللآلي، عيون نجل وشعور شقراء وبياض مشرب بحمرة وقدود حسان، والبريد كل حين يحمل ما يتمنى الأمير من مماليك وجوار، والمراكب تحمل المئات من هؤلاء وهؤلاء.
وقد كثرت في تلك الأيام هذه التجارة؛ لأن غزو التتار قد هيج هذه البلدان، وأوقع بالترك والجفجاق والروس والأرمن، فشرد السكان، وخرجوا هائمين على وجوههم، فمنهم من قُتل ومنهم من سُبي، وكثير ممن سُبي شحن إلى مصر بلاد الغنى والترف والرخاء، وهي التي تقوم الجندية وتقوم الجمال.
يأتون كلهم إلى مصر ولا يعلمون شيئًا من العربية ولا من الإسلام ولا من تقاليد الأمة، فيأخذ الأيوبيون في تعليمهم كل ذلك، والجند يمرنون على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والرمي في البر والبحر، والغلمان والجواري يمرنون في القصور حتى ترق حاشيتهم وتتهذب طباعهم وتصقل عاداتهم؛ فما هو إلا قليل حتى يملكوا زمام الأمور في الحكومة، وزمام الأسر في البيوت، ويرقى المملوك حتى يكون السلطان أو نائب السلطان، وترقى المرأة حتى تكون شجرة الدر، ثم هؤلاء المماليك ينقسمون أقسامًا ويتشعبون شعبًا، ويختلفون نسبًا؛ فهؤلاء العزيزية مماليك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وهؤلاء الصالحية نسبة إلى الصالح نجم الدين … إلخ، وكل فرقة تتعصب لسيدها وتتحزب ضد خصمها.
•••
أصبح الناس في مصر في ذلك العهد — عهد آخر الدولة الأيوبية وعهد المماليك — ينقسمون قسمين متميزين: عنصر المماليك من أتراك وأرمن وما إليها، وفي يدهم أغلب المناصب الحكومية وأمر الجيش، ومنهم أغلب الجنود، وعنصر الشعب المصري، وهؤلاء هم الفلاحون والتجار والصناع، وعلى الجملة هم القائمون بالحركة الاقتصادية في البلاد، وأحيانًا يجند منهم جنود إذا اشتد الأمر وجد الجد، وهناك طبقة العلماء، وهؤلاء يكادون يكونون حلقة الاتصال بين الطبقتين الأوليين؛ فطبقة الشعب تحتاجهم في أخذ الدين والعلم عنهم والاستشفاع بهم عند الولاة والأمراء، وإيصال شكاياتهم وتبليغ رغباتهم وما إلى ذلك، وطبقة الأمراء تحتاجهم في بعض المناصب الحكومية كالقضاء والخطابة والإمامة، وتحتاجهم في تنفيذ رغباتهم؛ لأنهم مسموعو الكلمة عند الشعب، فالشعب يُطيعهم من قلبه ويُطيع الأمراء من خوفه، والأمر إذا جاء من قبل الدين فالناس له أطوع، وقيادهم له أسلس، من أجل هذا كانت تلتقي في العلماء رغبات الشعب ورغبات السلاطين والأمراء؛ فإذا ضج الشعب من شيء وسطوا العلماء، وإذا احتاج الأمراء إلى مال من الشعب وسطوا العلماء، وكان كثير من العلماء يخضعون للولاة والأمراء أكثر مما يخضعون لله، فهم يتحسسون رغباتهم ليجاروهم في أهوائهم، ويؤولون أوامر الدين ونواهيه حسب مطالبهم، ويقلبون صفحات كتب المذاهب ليعثروا على قول لأحد الفقهاء يُجاري رغبة الأمراء، وقليل منهم قد باع دنياه لآخرته، ورضا الأمراء لرضا ربه، فلا يهمه ماله بقي أم صودر، ولا تهمه حريته أطلق أم سجن، بل لا تهمه نفسه حي أم قتل.
وكان صاحبنا عبد العزيز بن عبد السلام من هذا القليل الذي فني في الحق وأخلص لدينه، فلا يقدر عاقبة نفسه، وإنما يقدر عاقبة أمته وموقفه بين يدي ربه.
•••
لقد اشتد التتار في الغزو واجتاحوا البلاد، ووصلوا إلى «عين جالوت»، ولا بد لمصر أن تقف أمامهم وترد كيدهم؛ ولكن العدو شديد وعدده وفير، والقوة لا تُدفع إلا بالقوةـ والعدد بالعدد والعُدة بالعُدة، وهذا يتطلب أن تبذل الأمة أقصى ما تستطيع من المال في سبيل المكافحة، والعلماء هم الذين يستطيعون أن يقنعوها بالإنفاق من طريق الدعوة الإسلامية والغيرة الدينية.
فهذا الملك المظفر سيف الدين قطز يجمع العلماء بحضرته، وعلى رأسهم عبد العزيز بن عبد السلام، ليتدبروا في المال كيف يجمعونه، والعاطفة الدينية كيف يستفزونها؛ فيقف الشيخ ويقول: «يجب أولًا أن تخرجوا ما في بيوتكم من حلي لا حصر لها، وما في بيوت أمرائكم وجنودكم من الثياب المزركشة والمناطق المذهبة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة في أيديكم وأيدي أتباعكم ومماليككم، ثم تذيبوها وتضربوها نقودًا وتنفقوا منها على إعداد الجيش وتموينه؛ فإذا تم ذلك واحتجتم إلى مال بعدُ فكلنا على استعداد — إذًا — أن نطلب من الناس أن ينفقوا، ومن العامة أن يخرجوا عما في أيديهم، أما أن تُبقوا على ما في أيديكم من أنواع الترف والسرف، ونطلب من الناس أن يتبرعوا بما في أيديهم من ضرورات الحياة فلا، يجب أن يسوى الأمراء بالرعية فيما يملكون، فإذا تساووا وجب الإنفاق من الجميع.» وإذا قال الشيخ لا فلا، ولا رجعة فيها، والأمة وراءه.
فاضطر الملك أن ينفذ ما قال، فخرجت الأكداس المكدسة من الحلي والثياب المزركشة، واُنتزع الذهب والفضة من السيوف والأواني، وصيغا سِكّةً فكفت وأغنت، ولم يحتج إلى أن يُمس الناس في شيء من أموالهم.
•••
ثم كانت الحادثة العجيبة الجريئة التي أقامت الدنيا وأقعدتها، هؤلاء جماعة من المماليك دُفعت أثمانهم عند الشراء من بيت المال ثم لم يعتقوا، والشيخ في منصب القضاء والمشرف على بيت المال، والمسئول عن مال المسلمين وصحة الأحكام الشرعية، وهؤلاء المماليك أصبحوا أمراء بارزين وبيدهم الحل والعقد، ومنهم من بلغ أن يكون نائب السلطنة، وجاههم عريض وأمرهم نافذ؛ ولكن الشيخ لا يأبه بذلك كله، ويُحدث أزمة حادة قل أن يكون لها مثيل، أعلن الشيخ أنهم أرقاء لا يصحِّح لهم بيعًا ولا شراءً ولا زواجًا، فتعطلت مصالحهم؛ فهم إن ملكوا لا يُسجل لهم ملكًا، وإن تزوجوا لا يُعقد لهم زواجًا، ثم هم أهينوا في أنفسهم وشرفهم وجاههم بدعوى رقهم؛ ولكن الشيخ واقف وقفة الأسد لا يلين ولا يتزحزح.
– وما الحل أيها الشيخ؟
– الحل أن يباعوا في الأسواق ويتزايد الناس في شرائهم، ومن ملكهم إن شاء أعتقهم وإن شاء استرقهم، وثمنهم يدخل في بيت مال المسلمين كما خرج منه.
– هذا غير معقول، نائب السلطنة يُباع؟ ومن هم أسياد البلد يصبحون عبيدًا كالسلع يباعون ويشترون، هذا ما لا يكون ولا يدخل في عقل!
الشيخ: هذا حكم الله وكلنا عبيده وعبيد أحكامه، وأنا القيم على تنفيذها.
والمسألة كل يوم تتسع وتتحرج، وينقسم الناس حزبين: طبقة الأرستقراطية والحكام والسلطان في جانب، والشعب وعلى رأسه الشيخ في جانب، والمجالس تُعقد والأزمة تُستحكم، والحلول تُعرض، والشيخ يأبى إلا بيع الأمراء.
•••
غضب السلطان واحتد على الشيخ، وأعلن أنه لا يعمل برأيه.
ها هي الحمير تعد، ومتاع الشيخ يُزَم، والشيخ يعتزم الخروج من مصر كما خرج من قبل من الشام، ويطير الخبر، فيعتزم كثير من الأعيان والعلماء والتلاميذ الخروج مع الشيخ والرحيل معه متى رحل، والإقامة معه حيث يُقيم؛ وإذا البلد في حركة عجيبة وفوران شديد؛ وإذا طائفة كبيرة من العلماء والصلحاء والتجار بنسائهم وأولادهم وأمتعتهم يستعدون للرحيل، وإذا العزم يصبح تنفيذًا، فها هي قافلة كقافلة الحج تخرج من مصر.
وينظر السلطان فيرى أن خير من في البلد راحل من مصر، وأن مصر لا تصلح بعد خروجهم، وأن من بقي بعدهم باقٍ على مضض، فكيف يستقيم ملك مع هذا كله؟ فإما أن يرجع الشيخ وإما أن يضيع الملك.
لا بد مما ليس منه بد، هذا السلطان يخرج مسرعًا ويلقى الشيخ في طريقه فيستسمحه ويرجوه في العودة، فيأبى الشيخ إلا أن ينفذ البيع في الأمراء، فيقبل السلطان ويعود الشيخ.
•••
علم نائب السلطنة أنه سيباع فيمن يُباع؛ فهاج وغلى الدم في عروقه، واعتزم ألا يتم ذلك بأي وسيلة، فركب فرسه وجرد سيفه، وقصد إلى الشيخ يحتز رأسه وقرع الباب، وأُبلغ الشيخ أن نائب السلطنة حضر وسيفه مسلول يُريد قتله؛ فنزل الشيخ في هدوء واطمئنان وثبات، وهو يقول: «أنا أقل من أن أقتل في سبيل الله.» فما رآه نائب السلطنة حتى تمازجت في نفسه مشاعر مختلفة: هيبة الشيخ ووقاره، والخوف من نقمة الناس وهياجهم عليه حتى لقد يفقد نفسه، والرحمة على شيخ مسن لم يقل ما يقول شهوة لنفسه، ولكن إرضاء لدينه، فيبست يده على سيفه، وتخاذلت عزيمته وعاد كما أتى.
•••
هذا هو مجلس البيع يُعقد، وهؤلاء هم الأمراء يُنادى عليهم، وهذا هو الشيخ يقبل ثمنًا ويرفض ثمنًا، حتى يبلغ ثمن المثل، وهذا هو يقبض المال، وهذا هو يودعه في بيت مال المسلمين، وهذا هو يبلغ ذروته في المجد والعظمة، ويحتل في نفوس الناس مكانًا لا يحتله أحد من بعده.
لقد مات الشيخ فخرجت مصر تشيعه، وتشيع الصلابة في الحق، والعظمة في الدين والإخلاص للعقيدة.
ويطل الظاهر بيبرس، فيرى مصر وراء جنازة الشيخ وقلبها يتفجع لفقده، فيلتفت إلى بعض خواصه ويقول: «اليوم فقط طاب ملكي.».