الموسيقى
إن سألنا العلماء عن الموسيقى أجابونا بأنها فن تركيب الأصوات بطريقة تُشنِّف الأسماع، أو قالوا لنا: إنها فن الأصوات وارتباطها باللحن والوزن والانسجام.
وإن سألنا الشعراء قالوا لنا: إن الموسيقيَّ لينظم بالأصوات كما ينظم الشاعر بالحروف، وإن سألنا علماء النفس البسيكولوجيين أجابونا بأنها: قوة فتَّانة ساحرة، وفنٌّ يُعبِّر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق، وأبلغ من البيان، وأقرب منهما تناولًا للأذهان.
وقد اتفق علماء النفس على أن الكلام غير كافٍ للتعبير عن الشعور تعبيرًا تامًّا، وأن الموسيقى وحدها هي القادرة على سد هذا النقص.
وإني أُورد مثالًا سهلًا يُبين لنا كيف تُعبر الموسيقى الإلقائية بلفظ واحد عن عدة عواطف.
يُشنِّف المعنى أسماعنا فنريد أن نُعبر له عن إعجابنا فنقول له: الله! ونلفظها بنغمة مخصوصة، ونطيل المد الواقع قبل الهاء. وإذا فاجأت طفلك وهو متربع فوق التراب بثوبه الجديد الذي اشتريته بدينارين؛ فإنك تستنكر فعلته وتقول له: الله الله! بنغمة أخرى، وفتح هاء الأولى لوصلها بالثانية مع مد متوسط، وإن فاجأك أحد بخبر مُكدِّر قلتَ: الله! بنغمة مغايرة، ناطقًا اللام المشددة بقوة عظيمة وحاذفًا المد.
الموسيقى نعمة من أجلِّ النعم، لا ينكر فضلها أحد؛ إذ هي غذاء الأفئدة، ومُهذِّبة النفوس، ومُفرِّجة الكروب، ومسكنة الآلام. يصفها الأطباء للعصبيين الذين يفتك بهم الأرق، فإذا سمعوها عند نومهم هدأت أعصابهم الثائرة، وجلبت لهم نعاسًا هنيئًا. وتُستعمل في بيماراستانات أوروبا، فيهرع إليها المجانين، ويَسْكُن اضطرابهم وهياجهم وقت التوقيع.
لم يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده، بل هيمن على الحيوان؛ إذ نشاهد أن الخيل والحمير وغيرها كثيرًا ما تجفل وقت شربها، فيُصفِّر لها راعيها فتطمئن وتشرب.
ونرى الإبل حينما يتملكها النَّصَب، من وعثاء السفر وهجير البادية، فتتثاقل خطاها، وتميل أعناقها، فيَحدوها سائقها بشجي الحداء، فتنشط وتسرع السير وهي مُشْرئبَّة الأعناق متهللةً مستبشرةً.
إنني أسرد لكم بعض ما قاله كبار علماء الموسيقى مصداقًا لقولي، وإظهارًا لشرفها الجم، قال لوثير المصلح الديني الشهير — وكان موسيقيًّا فاضلًا: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرةً الموسيقى، وأمنحُها الشرف الثاني.»
وقال «بيتهوڤن» نابغة الموسيقيين: «الموسيقى وحيٌ أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة. إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى؛ عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان، ولا يستطيع وُلُوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.»
وقال «ڤاجنر» المُوسيقِيُّ الطائرُ الصيت: «القلب هو الصوت، وما الموسيقى إلا لغته الفنية، بل الهوى الذي يفيض ويسيل من الأفئدة.»
وقال غيره: «الموسيقى لغة غزيرة المعاني، خفية الأسرار، توقظ التقوى، وتخاطب الشعور مباشرةً بغير واسطة.»
إن أنعمنا النظر في الفنون الجميلة؛ كالشعر والموسيقى والتصوير والحفر والتمثيل والرقص، لوجدنا أن الموسيقى أكثر تداولًا وانتشارًا حتى بين الأمم الوحشية، فأصبحت كأنها من لوازم الحياة.
لا توجد أمة متمدينة أو وحشية إلا والموسيقى منتشرة بينها، وإذا تصفحنا التاريخ وجدناها في العصور الخالية. وأقدم دليل هو صورة محفورة على الأحجار تمثل شخصًا يوقع على آلة موسيقية تسمى «هارب» وُجدت في بلاد الكلدانيين، وعثر عليها المسيو «سرزيك» في قصر «تللو» على الشاطئ الأيسر من قناة تربط الدجلة بالفرات. وقد قرر تاريخها أفاضل العلماء مثل «پواتييه» بثلاثين قرنًا قبل الميلاد، ولا مشاحَّة في أن الموسيقى أقدم من الشعر، وهي التي نفحته بقوانينه الخاضع لها.
ترتبط الموسيقى بأجمل العلوم، ويتسنى طرق أبوابها من جهات مختلفة، وفضلها لا يلبث أن يظهر من جميع الوجوه؛ إذ تتعلق بالطبعي والفسيولوجي، فإن كانا مزودين بطرق التحاليل والبحث العالية حددا نواميسها، وكشفا لنا فيها عالمًا مُفعمًا بالعجائب. وترتبط بالفيلسوف الذي يستطيع أن يُبين لنا أنها تسعد النفوس بشريف العواطف وجليل الفكر، وتتعلق بالمؤرخ الذي يظهر لنا تقدمها وما صادفها من التقلبات، وعلاقاتها بالتاريخ العام للأخلاق والعادات، ودورها في حركات المدنية، وترتبط بعلماء الجمال فتنفحهم مقرًّا رفيعًا غريبًا يدرسون فيه آيات جمالها وأشكالها.