الموسيقى الشرقية في تركيا
لا ريب أن تركيا الآن هي كعبة الموسيقى الشرقية، ومنها نهلت البلاد الشرقية — حسب اجتهادها — المقدار الذي تسيغه من الموسيقى.
أزهرت الموسيقى الشرقية في تركيا، واقتعدت مقامًا رفيعًا تُغبط عليه، وظهر فيها كثير من عظماء الفن العاملين.
وقد ظهر في هذا العصر نابغة يفتخر به قومه، بل الشرق أجمع؛ إذ خدم الموسيقى الشرقية خدمةً قصَّر عنها معاصروه ومن سبقه من جميع رجال الفن، ألا وهو رءوف بك يكتا، رئيس ديوان الباب العالي ومؤلف رسالة الموسيقى التركية بدائرة معارف لافنياك — وهي تشتمل على ٢٢٠ صحيفةً في أكبر حجم، ولم يترك كبيرةً ولا صغيرةً، ولا شاردةً ولا واردةً إلا أحصاها في هذا الكنز الباهر — زد على ذلك نظامه الراقي، وترتيبه البديع بقلم فرنسي لا يقل بلاغةً عما كتبه الفرنسيون بجانبه عن موسيقات البلاد الأخرى.
وأعظم من ذلك أنه حل كل معضلة في الفن، وأوضح المقاييس الرياضية أيَّما إيضاح. وقُصارى القول: إن كل من له إلمام بسيط بفن الموسيقى واطَّلع على رسالته لا يَسعُه إلا أن يقول: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» ومن أعماله المجيدة أنه دافع عن الموسيقى الشرقية دفاعًا مجيدًا، وهو من الحزب القائل برفع الحواجز والسدود بين الموسيقى الشرقية والغربية حتى يتزاوجا، وتخرج الموسيقى الشرقية من خدورها بعد رقيها؛ لتقتعد مكانًا رفيعًا لها في البلاد الغربية.
ابتدأ هذا النابغة يتلقى دروس الغناء على المرحوم زكائي دده، الملحن الشهير، ثم أخذ النظريات والأصول الموسيقية على أكبر حجة في عصره؛ وهو الشيخ عطاء الله أفندي، رئيس المولوية بيرا، وكان بشهادة رءوف بك متبحرًا في العلوم الأخرى، ويحسن الفرنسية والإيطالية، ويضرب بالعود والقانون بأسلوب ساحر. ولم تمضِ سنة على رءوف بك حتى أخذ جميع ما عند أستاذه من الفن، ثم انكب على الكتب الموسيقية القديمة، ودرس أغلب ما فيها؛ مثل: كتاب الموسيقي الكبير للفارابي، وكتابي الشرفية والأدوار لصفي الدين عبد المؤمن البغدادي، وكتاب الفتحية للاذقي، والقسم الموسيقي من كتاب الشفاء لابن سينا، وكتاب درة التاج للقطب الشيرازي وغيرها.
ثم انتقل إلى الموسيقى الغربية، فدرسها دراسةً متينةً. ويظهر لمن تصفح رسالته أنه اطلع على أهم كتب تاريخ الموسيقى الفرنسية والألمانية والمجلات المهمة. ولقد استشهد في رسالته بنحو أكثر من عشرين كتابًا قيمًا.
ابتدأ يحرر القسم الموسيقي في جريدة أقدام، فنشر أول بحث له في ٢٩ ديسمبر سنة ١٩١٢، وكان وقتئذ في الخامسة والعشرين من عمره، فشهر عليه حُسَّاده حربًا قلميةً عوانًا، فأسكتهم جميعًا واعترفوا له بالفضل.
ظهر في الآستانة عدد عظيم من كبار العلماء في الموسيقى، وأشهرهم في العصر الحاضر عطاء الله أفندي، رئيس مولوية بيرا الذي سبق ذكره، وقد توفي منذ بضع سنين، وجلال الدين أفندي، رئيس مولوية يني كي، ومن الملحنين كثير؛ مثل: عثمان بك، وعاصم بك، وطاطيوس، وسليمان باشا، ونجيب باشا، ودلال زاده، وحاجي عارف بك، وخطيب زاده، وزكائي دده، ورفعت بك، وسعد الدين بك، وخليل أفندي، وناظم بك، وسندا حافظ، وصبحي زهدي بك، وحليم أغا، وسعيد بك نوح وغيرهم، وقد توفي البعض منهم، ومن مشاهير الضرَّاب: جميل بك الطنبوري — وقد توفي منذ سنتين تقريبًا — وكان يضرب على جميع الآلات، ويعد أعظم ضارب للطنبور، ونشأت بك، وهو أمهر مَن ضرَب بالعود، واخترع عودًا صغير الحجم، قوي الصوت، يعادل البيانو تقريبًا في صوته، وسامي بك، وحاجي عارف بك القانوني والملحن، وإحسان بك، وأغوبوس أفندي وغيرهم. وقد مات البعض منهم أيضًا.
ومن مشاهير المغنين ذوي الأصوات الرخيمة والصناعة العظيمة: نصيب هانم. وقد وُهبت صوتًا نادر المثال في جماله وقوته ورنينه، وفنًّا متينًا، وحافظ عاشر أفندي، وحافظ سامي أفندي، وحايم أفندي وغيرهم.