نشأة الموسيقى العربية
تنشأ الموسيقى مع العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي؛ إذ الإنسان مطبوع بفطرته أن يبحث أولًا عن ضرورياته، ثم عن حاجياته التي هي أهون من الضروريات، فإذا خلا باله، واطمأن ضميره؛ تفنن في الكماليات والملذات، وأفضلها عند جميع الأمم الموسيقى. وقد نشأت وأزهرت في بلاد فارس قبل ظهورها في بلاد العرب بقرون، فاهتم بها الأكاسرة، وأحلوها المحل الأرفع، ودونوا أصولها وقواعدها وقوانينها حتى أصبحت منبعًا سائغًا نهل من موارده الشرق بأجمعه.
وأما العرب فظهر عندهم أولًا الشعر؛ يؤلفون فيه الكلام أجزاءً متساويةً على تناسبٍ بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلًا يكون كل جزء منها مستقلًّا بمعنًى يؤديه، لا ينعطف على الآخر، ويُسمُّونه بالبيت. فترى الشعر العربي في وزنه وانسجامه، وحركاته وسكناته المعدودة، وقوافيه المتحدة الرنانة موسيقيًّا بمعنى الكلمة، لا يحتاج من يريد أن يُلحِّنه إلى مجهود عظيم. وهذه المزايا لا توجد في الشعر الأجنبي، وتدل على أن العربي مُوسيقيٌّ بطبيعته وفطرته.
ابتدأت الموسيقى العربية بالحداء؛ إذ تغنى الحُداة منهم لإبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا، وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبةً بسيطةً، وكانوا يسمونه بالسناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار، فيُطرب ويَستخفُّ الحلوم. وكانوا يسمون هذا الهزج. وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصناعات. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم حتى جاء الإسلام، وفتحوا الفتوحات، واستولوا على الممالك، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه، بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش، ورقة الحاشية، واستملاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم.