العصر المزهر للموسيقى العربية
ازدهرت الموسيقى في عصر بني أمية، وخطا الفن خطوات واسعات نحو التقدم والجمال، وظهر في وقت واحد فحول المغنين والملحنين؛ مثل: ابن سريج، ومعبد، والغريض، وابن محرز، ومالك، وحنين الحيري، وابن عائشة، وعزة الميلاء، وجميلة وغيرهم.
لم يقتصر تعضيد الموسيقيين على الخلفاء، بل سرى إلى الأشراف والنبلاء والسراة، ونخص بالذكر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فإن سائب خاثر ونشيطًا الفارسيين كانا منقطعين إليه ومُلازِمين له، وكانت له مجالس طرب عظيمة يدعو إليها مشاهير المغنين ممن سبق ذكرهم، ويبذل لهم العطاء، وكذلك السيدة سكينة — رضي الله عنها — كانت مشغوفةً بالغناء والموسيقى، وذات ذوق سليم فيهما، وكانت تغدق البذل والهبات للمغنين، وكانت ذات كرم حاتمي، وحينما يكون عندها حفلة طرب تفتح دارها لجميع الناس دون قيد ولا شرط، ولقد سقط عرش دارها مرةً حينما اكتظت الدار بالسامعين، ومات في هذه الحادثة حنين الحيري. وقد ذكرنا ذلك في موضعه.
وإننا نخصص جزءًا صغيرًا من بحثنا هذا للتكلم على المشاهير من فحول المغنين الذين ازدهر بهم عصرهم، ورفعوا شأن الموسيقى العربية.
ابن مِسجَح
سعيد بن مِسجَح مولى بني جحح، مكيٌّ أسودُ مُولَّد مُغنٍّ مُتقدِّم من فحول المغنين وأكابرهم، وأول من صنع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية، وانقلب إلى فارس وأخذ بها غناءً كثيرًا، وتعلم الضرب ثم قدم إلى الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب، وغنَّى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك ولحَّنه، وتبعه الناس بعدُ.
وقد جاءته هذه الفكرة حينما احترقت الكعبة، وجلب لها ابن الزبير بنَّائين من الفرس، فسمع غناءهم فرَاقَهُ، فقلبه في شعر عربي. وهو الذي علم ابن سريج والغريض. ولقد عاش حتى لقيه معبد، وأخذ عنه أيضًا الغناء في أيام الوليد بن عبد الملك.
طويس
طُوَيْس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، وهو مولى بني مخزوم. ولد يوم مات النبي ﷺ، وكان ظريفًا عالمًا بأمر المدينة وأنساب أهلها، وهو أول من تغنى بالمدينة غناءً يدخل في الإيقاع. وعمَّر حتى مات في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ابن سُرَيْج
هو عبد الله بن سُرَيْج مولى بني نوفل بن عبد مناف، من فحول المغنين، وكان آدم، أحمر ظاهر الدم، سناطًا؛ لا تنبت لحيته، في عينيه حول وعمش، أصلع الرأس. عاش خمسًا وثمانين سنة، وكان لا يُغني إلا إذا أسبل القناع على وجهه. وقد غنَّى في زمان عثمان بن عفان — رضي الله عنه — ومات بعد قتل الوليد بن يزيد.
وهو أول من ضرب بالعود على الغناء العربي، وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة.
وقد أخذ الغناء عن ابن مسجح، وانقطع إلى عبد الله بن جعفر، وبعد وفاته لزم الحكم بن المطلب، أحد بني مخزوم، وكان من سادة قريش ووجوهها.
وقد اختلف الرواة في المفاضلة بين معبد وابن سريج، والظاهر أن ابن سريج لتقليده النساء في الغناء ظن مريدوه أنه أفضل من معبد. وإن الشعر لأصدق من الروايات المختلفة، وقد ذكرنا البيت في موضعه وهو:
معبد
هو معبد بن وهب مولى بن قطر، وكان أبوه أسود؛ فلذلك جاء معبد ابنه خلاسيًّا، وكان مديد القامة أحول. وقد أخذ الغناء عن سائب خاثر ونشيط الفارسيين وجميلة؛ أي في عصر معاوية بن أبي سفيان. وقد قال فيه الشاعر:
وقد ذكر إسحق الموصلي أن معبدًا كان من أحسن الناس غناءً، وأجودهم صنعةً وأحسنهم خلقًا، وهو فحل المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء.
وذكر إسحاق الموصلي أيضًا أنه قيل لمعبد: كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء؟ قال: أرتحل قعودي، وأوقع بالعصا على رحلي، وأترنم عليه بالشعر حتى يستوي لي الصوت.
ولما مات مشى في جنازته الخليفة الوليد بن يزيد وأخوه الغمر، وكانت سلامة القس، المغنية الشهيرة جارية الوليد، ممسكة بنعشه تبكي وتندبه بهذا الصوت الذي تلقته منه:
الغريض
لقب بالغريض لأنه كان طري الوجه نضرًا، غض الشباب، حسن المنظر، واسمه عبد الملك، وهو مولى العبلات. وكان يضرب بالعود وينقر بالدف، وكان في أول أمره خياطًا، ثم أخذ الغناء عن ابن سريج، وقد دفعته مولياته إليه ليعلمه الغناء، فلما رأى منه حسن صوته وظرفه خشى أن يأخذ غناءه ويغلبه عليه عند الناس، ويفوقه بحسن وجهه وجسده، فاعتل عليه وشكاه إلى مولياته، وجعل يتجنى عليه ثم طرده. وقد ابتدأ بالنوح ثم تدرج إلى الغناء، ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس. وكان ابن سريج لا يغني صوتًا إلا عارضه فيه الغريض لحنًا آخر.
كان غناؤه متشابهًا مع ابن سريج، وقد قالت السيدة سكينة — رضي الله عنها — لما سمعتهما يغنيان لحن:
والله ما أفرق بينكما، وما مثلكما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان، لا يُدرَى أي ذلك أحسن.
وكان الغريض أشجى غناءً، وابن سريج أحكم صنعةً. وقد مات في خلافة سليمان بن عبد الملك.
ابن محرز
هو مسلم بن محرز مولى ابن عبد الدار من قُصي. وكان يسكن المدينة مرةً، ومكة مرةً، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عزة الميلاء، ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر، ثم يشخص إلى فارس فيتعلم ألحان الفرس وغناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يُستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها، فمزج بعضها ببعض، وألف منها الأغاني التي صنعها في شعر العرب، فأتى بما لم يُسمع مثلُه، وكان يقال له: صنَّاج العرب.
وقد قال إسحاق الموصلي: إن ابن محرز هو أول من غنى بالرمل في العرب والفرس، وأول من غنى الرمل بالفارسية «سلمك» في أيام الرشيد؛ لأنه استحسن لحنًا من ألحان ابن محرز، فنقل لحنه إلى الفارسية.
وقد ابتدأ بأخذ الغناء عن ابن مسجح، وكان إسحاق يقول: الفحولُ: ابن سريج، ثم ابن محرز، ثم معبد، ثم الغريض، ثم مالك.
مالك بن أبي السمح
هو مالك بن أبي السمح، واسم أبي السمح جابر بن ثعلبة الطائي، وقد أخذ الغناء عن جميلة ومعبد حتى أدرك الدولة العباسية، وكان منقطعًا إلى بني سليمان بن علي، ومات في خلافة أبي جعفر المنصور. وكان يُنقح ألحان غيره من المغنين، وله ألحان خاصة.
ابن عائشة
هو محمد بن عائشة، وكان يفتن كل من سمعه، وقد أخذ عن معبد ومالك، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما، ومات في عصر الوليد بن يزيد.
حنين الحيري
هو حنين بن بلوع الحيري، مُختلَفٌ في نسبه؛ فقيل: إنه من العبَّاديين من تميم، وقيل: إنه من بني الحرث بن كعب، وكان شاعرًا رقيقًا مغنيًا فحلًا من فحول المغنين، وله صنعة فاضلة متقدمة، وكان مسيحيًّا يسكن الحيرة، ويكري الجمال إلى الشام وغيرها.
وفي صغره كان غلامًا يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان لطيفًا في عمل التحيات، فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان، ومياسير أهل الكوفة، وأصحاب القيان والمتطربين إلى الحيرة، ورأوا رشاقته وحسن قدِّه، وحلاوته، وخفة روحه؛ استَحْلوه، وأقام عندهم، وخفَّ لهم، فكان يسمع الغناء بشهية ويصغي إليه، فلا يكاد يُنتفع به في شيء إذا سمعه، حتى شدا منه أصواتًا فأسمعها الناس، وكان مطبوعًا حسن الصوت، واشتهوا غناءه والاستماع منه وعشرته، وشُهر بالغناء ومهر فيه، وبلغ منه مبلغًا عظيمًا، ثم رحل إلى عمر بن داود الوادي وإلى حكم الوادي، وأخذ منهما، وغنَّى لنفسه في أشعار الناس، فأجاد الصنعة وأحكمها، ولم يكن بالعراق غيره.
وكان المغنون في هذا العصر أربعة: ثلاثة بالحجاز؛ وهم: ابن سريج ومعبد والغريض، والرابع: حنين بالحيرة. وقد بلغ الثلاثة أن حنينًا غنى:
فتذاكروا بينهم وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شر منا؛ لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره! فكتبوا إليه ووجهوا له نفقةً، وقالوا في رسالتهم: نحن ثلاثة وأنت وحدك، فأنت أولى بزيارتنا. فشخَص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه، فلم يُرَ يومٌ كان أكثر حشرًا ولا جمعًا من يومئذ. ودخلوا، فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إليَّ! فقال له ابن سريج: إن كان لك منه الشرف والمروءة ما لمولاتي سكينة بنت الحسين — رضي الله عنهما — عطفنا إليك، فقال: ما لي من ذلك شيء، وعدلوا إلى منزل السيدة سكينة، فلما دخلوا إليها أذنت للناس إذنًا عامًّا، فغصَّت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة، فأكلوا منها ثم سألوا حنينًا أن يغنيهم صوته الذي أوله:
فغنَّاهم إياه — وكان من أحسن الناس صوتًا — فازدحم الناس على السطح ليسمعوه، فسقط الرواق على مَن تحته، فسلموا جميعًا وأُخرجوا أصحاء، ومات حنين تحت الهدم، فقالت السيدة سكينة: لقد كدَّر علينا حنينٌ سرورنا؛ انتظرناه مدةً طويلةً كأنَّا — والله — كنا نسوقه إلى منيته.