الخاتمة

لا ريب في أن فيكتور هوكو من أكابر الشعراء الذين نبغوا في العالم الإنساني كله في قديم الزمان وحديثه، وهو عند الفرنساويين شيخ الطريقة الرومانية، والشعر الغرامي المعروف باسم «ليريك»، كما أنه من فحول القصاصين ومؤلفي الروايات التمثيلية المشهورة باسم «درام».

غير أن الطريقة الرومانية التي كان لها المقام الأول في صناعة الأدب سقطت بظهور الطريقة الحقيقية التي أمامها إميل زولا.

وروايات فيكتور هوكو التمثيلية لم تبلغ درجة الإعجاز لا بالنظر إلى المؤلفات السابقة عليها، ولا إلى المؤلفات اللاحقة لها من هذا النوع، لعدم كشف فيكتور هوكو أسرار القلب الإنساني، وإظهار ما فيه من الإحساس الحقيقي، ومع ذلك فهو لم يزل أمام الشعر الغرامي، ومجدد أساليب النظم والنثر؛ ولذا لقبوه بأبي الشعر العصري واقتفى الشعراء أثره وسلكوا مسلكه، وكان الباعث على شهرته في العالم المتمدن كله من أوروبي وأميركي، وما يلحق بهما ثلاثة أمور: أحدها سياسي، وثانيها ديني، وثالثها علمي. نبغ فيكتور هوكو في عصر الانقلاب والتجدد وطال عمره وكثر عمله، وكان لقومه الحظ الأوفر من التقلبات السياسية والتبدلات الاجتماعية، واستوقفوا نحوهم أنظار العالم المتمدن بأسره، فكان هذا الشاعر لسان حال الأمة وترجمانها في كل انقلاب حدث فيها وتبدل طرأ عليها وغير حكومتها من ملكية مطلقة إلى جمهورية مفرطة، إلى إمبراطورية ديموقراطية، إلى ملكية مقيدة بقليل أو كثير من القيود، إلى جمهورية ثانية، إلى إمبراطورية ثانية، ثم إلى جمهورية ثالثة. فهذه التقلبات هيجت الأفكار العمومية، وكثرت الأحزاب السياسية، ودعت إلى استماع قول الشاعر الحكيم والتمثل بأشعاره في نوادي السمر الأدبية والسياسية على اختلاف الآراء وتبدل المشارب، ومتى تحدث أهل العاصمة بأمر سارت الركبان بحديثهم إلى الولايات وأطراف المملكة، ثم فشى في الممالك المجاورة، وجسمه البعد في المخيلات، فأصبح صداه في الخارج أشد من صوته في الداخل، وبعد أن استبد نابوليون الثالث بالحكم مال لأبهة الملك وعظمة السلطنة، وتفاخر بالصيت والشهرة واشتد حرصه على السمعة في البلاد الأجنبية، وانتشرت اللغة الفرنساوية على عهده في أكثر الممالك المتمدنة وصارت اللسان الرسمي المتداول بين الدول في المناسبات الديبلوماتية، وفي الاجتماعات السياسية والأدبية، وفي قصور الملوك والأمراء، وفي حفلاتهم وسهراتهم ومراقصهم، وعلى موائد ضيافتهم، وفي تحرير المراسلات والمعاهدات كما أصبحت اللسان الرسمي في نظارة الخارجية العثمانية، وفي كثير من دوائر الدولة العلية ومعاملاتها، ولم تزل إلى يومنا هذا.

فلما اقترن اسم فيكتور هوكو باسم نابوليون بسبب مدحه نابوليون الأول، وهجوه نابوليون الثالث زاد شوق الناس للاطلاع على أشعاره وقصصه في داخل فرنسا وخارجها، وراجت بضاعته في الأدب فلم يدع بابًا من أبواب الشعر إلا طرقه ولا مسألة إلا بحث فيها، ثم ساعدته الظروف بالانتصار على نابوليون الثالث بعد حرب السبعين الألمانية وتشكل الجمهورية الثالثة فزاد ذلك من أهمية الشاعر، وفي انتشار شعره وبالغ رجال الجمهورية في الاحتفاء به، والاحتفال له كاحتفال الإمبراطورية بشخص الإمبراطور.

أما السبب الثاني لشهرته فهو سهولة أشعاره ووضاحتها، وتصويرها المسائل العظيمة والأفكار الدقيقة، فأظهر بشعره فرحه وسروره بنعمة الحياة وابتهاجه بالمخلوقات، ورأى في أمنا الدنيا بقرة حلوبًا تدور على أبنائها بلبن سائغ للشاربين، وتكلم على أفراح العائلة وزينة البيوت بالأولاد ولذة اجتماع الأهل على المائدة، ومحبة الوالدين وحنوهما، وحض على الإحسان للفقراء والمساكين والشفقة عليهم، وبين اعتقاده بالله الغفور الرحيم ورجاءه بتقدم نوع الإنسان في الحضارة، وبتحسن الحياة البشرية والمعيشة الإنسانية بسبب انتشار الأفكار الجديدة، وتغلب الحق رويدًا رويدًا على القوة، والنور على الظلمة حتى تتساوى الناس في الحقوق، ويرتفع عنهم الضغط والاستبداد، ويزول من بينهم الظلم والاستعباد، وينتشر العدل ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا …

فجميع ذلك مما يرغب الجمهور في تلاوة أشعاره، وتعليمها للأولاد ونشرها في البيوت بين النساء والبنات، بخلاف أشعار المعري التي لا يذكر فيها إلا بخل أم دفر على بنيها بالحقوق ومبادرتهم لها بالعقوق. ولا يرى بقرة فيكتور هوكو تجود إلا بسم قطيب؛ أي ممزوج بحلاوة، ومع غنى المعري وثروته لم يلتذ بالمال والبنين، ولا بشيء من زينة الحياة الدنيا وزهد في أكل اللحوم وشرب المكيفات، وعمى بصره عن مشاهدة المناظر الطبيعية والرياض النضرة، وحيث كان لفيكتور هوكو اعتقاد ثابت في الله، ورجاء كبير في حسن المستقبل، وارتقاء الإنسان إلى دار السعادة عرف وظيفة الشاعر وبين ما يترتب عليه وعلى كل عاقل مفكر في الأمر من نشر الحقائق بين قومه وأبناء لسانه، وزعم أن الشاعر ينبغي أن يكون رسولًا للأمة، ونورًا يسعى بين يديها ليهديها الصراط المستقيم، فكأني بالمعري يقول له:

وإخوان الفطانة في اختيال
كأنهم لقوم أنبياء

ولم يكن فيكتور هوكو يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وتبرأ من أصحاب هذين الدينين، وقال: بأنهم اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، وأوصى بعدم دفنه على سنن واحد منهما وبعدم حضور أحد من رهبان النصارى ولا من أحبار اليهود في جنازته، كما أنه لم يكن يعرف حقيقة الدين الإسلامي، ولا أمعن نظره في آيات القرآن لما قدمنا ذكره من الأسباب وهو عدم توسع دائرة المعارف الإسلامية في عصره، والذي ذكره في شعره من القرآن هو بعض أمثال قليلة نقلها عن غيره بدون أن يبحث فيها بفكره، ومع ذلك ففيكتور هوكو موحد؛ اعترف في كثير من أشعاره باعتقاده بالله، وحسن رجائه باليوم الآخر، واهتدى للتوحيد بنظره في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار كما اهتدى إبراهيم جد الأنبياء — عليه وعليهم السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وهكذا قال فيكتور هوكو لقومه: إني بريء مما تعبدون، فلم يكن مشركًا بالله ولا كان منكرًا جاحدًا إنكار الشاعر فولتير وجحوده، بل ربما كان حنيفًا، والحنيف هو الذي يؤمن بالله ولا يتخذ شكلًا مخصوصًا للعبادة، وكان منهم أناس في جزيرة العرب قبل الإسلام مثل ورقة بن نوفل وغيره. فإذا أمعنا النظر في كلام فيكتور هوكو نراه من الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ونراه أيضًا كثير البغض في الجبابرة المستبدين، ويدعو الناس إلى عدم اتخاذ أرباب من دون الله، وقد ورد في القرآن الكريم في سورة آل عمران وهي السورة الثالثة والآية ٦٠ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. انظر إلى بلاغة هذا الكلام وتأمل قوله، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله تجد جميع الأدباء من قديم وحديث ومن عربي أو أعجمي عالة عليه في هذه البلاغة التي وصلت أعلى الدرجات، وهي المعبر عنها في صناعة الأدب بالإعجاز، وقد ورد لفيكتور هوكو كلام متشابه يدل على حيرته والحيرة مقام من مقامات العلم بالله، ولكنه لم يفتر عن القول: بأنه موجود موجود موجود، ولما ماتت بنته واشتد حزنه سب الله عدوًا بغير علم ثم رجع واستغفر لذنبه وشبه نفسه بالصبي الذي غضب ورمى البحر بحصاة، فهو لم يضر البحر في شيء ولكن فعله دليل على سفاهته وحمقه، فمثل الله كمثل البحر ولله المثل الأعلى، قال الحكيم الفيلسوف أرنيست رينان عن فيكتور هوكو وعن فولتير: بأنهما سارا على قطبين متخالفين ولم يتلاقيا إلا على محبة العدل والإنسانية.

والباعث الثالث على شهرة فيكتور هوكو هو كثرة علمه وغزارة معارفه، وعدا معرفته بدقائق اللغة الفرنساوية، وبعلم القوافي والعروض والموسيقى وما يلزم للشعر كان حكيمًا فيلسوفًا يضع كل شيء في موضعه، وكل معنى في قالبه ولم يغب عن علمه شيء من التاريخ والجغرافيا، وأسماء البلدان وله اطلاع على العلوم الرياضية وجميع المسائل الاجتماعية، وكليات القوانين البشرية والسياسية، وله اقتدار عجيب في التخيلات والتصورات والاختلافات، وإذا نظر في شيء تمكن من رؤيته بعين لم يتيسر لغيره من الشعراء الرؤية بها، فوقف على كنه الأشياء وحقيقتها، وعلى جميع ما يعرض لها من الصور والأشكال والألوان وبقية الخواص الظاهرة والباطنة، وإذا ذكر إسبانيا مثلًا لم يترك فيها مدينة إلا وصفها بالوصف اللائق بها سواء كان وصفًا جغرافيًّا أو طبيعيًّا أو تاريخيًّا بالنظر لمن اشتهر فيها، أو لما ينبت في أرضها أو لمرآها الطبيعي ومنظرها الخارجي، وذكر كذلك كثيرًا من مدن فرنسا وإيطاليا، وقال في جبل نارها فيزوف:

نابولي مرساها معطر بالأزهار يقف فيه فصل الربيع ولا يمرُّ
وجبل فيزوف الملتهب بالنار يغطيه بتاج متوقد
كأنه فارس من فرسان الحرب كثير الغيرة والحسد شهد عرسًا
فحسد أهله على أفراحهم ورمى بقلنسوته الحمراء وسط أزهارهم.

ولا يخفى أن ضباط العساكر الفرنساوية يزينون قلنسواتهم بالرياش الحمراء، وهي على هيئة جبل النار في حالة اشتعاله، وتصاعد الدخان واللهيب من جوفه، ومن عادة الإسبانيين إذا طربوا برؤية وجه حسن أو سماع نغم أو حضور مناطحة الثيران والبقر رموا بقبعاتهم إلى الأرض، ونخروا نخرة أو تأوهوا، وقد شاهدت هذه العادة في شباب بعض المدن الشرقية والسورية، ولعلهم أخذوها عن الإسبانيين بواسطة اليهود الذين لم يزالوا في بلاد الشرق يتكلمون اللغة الإسبانية رغمًا عن كل ما أجراه الإسبانيون فيهم من النفي والإجلاء والتعذيب في محاكم الانكيزيسيون، فهذه الأبيات على حد قول الشاعر العربي في حمص الأندلس وهي إشبيلية:

غدا النهر عقدك والطود تا
جك والشمس أعلاه ياقوته

وتقدم ذكر الأبيات فيما سبق.

فهذا مثال لأساليب فيكتور هوكو وتشبيهاته، وكان له ولع بالأمور العظيمة والمقامات العالية والمناظر الواسعة، والمعاني الدقيقة، فعرف لج البحر الذي لا يرى ساحله، وبُعد الفضاء الذي لا تدرك نهايته، وقلد أصوات الأشياء ووصف الجمادات وصفًا يخال منه للقارئ أنها حية تنطق؛ ولذا قالوا: بأن فيكتور هوكو أنطق الجماد ونفخ فيه بأساليبه الشعرية روح الحياة. وله ابتكارات بديعة وتشابيه ظريفة وتعبيرات لطيفة، ونجد لما ورد في كلامه من التشبيه والتخيل والبديع أمثالًا كثيرة في الشعر العربي والأندلسي تكلم عليها الباقلاني في إعجاز القرآن، والجرجاني في أسرار البلاغة المطبوع في جريدة المنار، ومن سلك مسلكهما من علماء اللغة والبلاغة، ولكن فيكتور هوكو يفوق بسعة الاطلاع والإحاطة بالمسائل. وأكثر شعراء العرب انحصرت أقوالهم في الدائرة التي هم فيها، فلم يخرجوا منها ولا تعدوا الأساليب التي وضعها شعراء الجاهلية، والذين خرجوا عن تلك الأساليب، واتسعت مداركهم قليلون مثل المتنبي والمعري الذي تكلم على كثير من المسائل الاجتماعية والسياسية، ونادى بالحرية والمساواة بين أفراد البشر وبين ماهية الحق والعدل، وشرح كثيرًا من المسائل الفلسفية، وأظهر شعوره وإحساسه بالوسط الذي ألقينا فيه، فكان سجنًا لنا لا خلاص منه إلا بالموت. فهو متحير في هذه العقيدة التي ضلت الأدباء في حلها.

ثم إن أهل النقد الأدبي من بلغاء الإفرنج يقولون: نعم إن فيكتور هوكو أنطق الجماد وتوصل بأساليبه الشعرية إلى وصف المناظر الطبيعية، وتصوير العصور الخالية والهيئة الاجتماعية بأحسن تصوير وأبدع وصف، فهذا لا ينكر، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة باطن القلب الإنساني ولا لإيجاد أوصاف حياة تامة ولا حياة طبيعية للأشخاص الذين اختلقهم، وأعاشهم على مرسح التمثيل؛ ولذا لم يكن أوحد الأدباء في تأليف روايات الدرام، فهو وإن أنطق الجماد لكنه أخرس البليغ، مثال ذلك أن أبدع ما في رواية إيرناني التمثيلية هو الفصل المنظوم على لسان الدون قارلو الذي انتخب إمبراطور لإسبانيا، وتلقب بشارلكين، فهذا الفصل هو بيت القصيد من هذه الرواية كما أن فصل القبلة أو النافذة هو بيت القصيد من رواية «سيرانو دو برجيراق»، التي اشتهر بتأليفها شاعر العصر أدمون روستان، وقد انتخب بالأمس عضوًا في الأكاديمية الفرنساوية، وموضوع هذا الفصل أن المعشوقة وقفت في النافذة (البالكون) وعاشقها واقف تحت النافذة يغازلها، ويطلب منها قبلة وهو يتلعثم في كلامه ولم يدر كيف يكلمها بلسان الأدب، فالشاعر سيرانو دو برجيراق خاطبها عنه، وأفصح في تعبيره عن حقيقة اللثم والتقبيل حتى لانت بكلامه وانجذبت إليه، وهناك تظهر قوة البيان وإن من البيان لسحرًا، فكلام شارلكين في رواية إيرناني هو من كلام الملوك، فينبغي أن يكون من ملوك الكلام، فلما حان زمن انتخاب الإمبراطور وترشح الدون قارلو لهذا المسند العظيم، وحصلت المؤامرة على قتله بدسائس فرانسوا الأول ملك فرنسا المتطلب أيضًا لهذا المسند، واتفق المؤتمرون على الاجتماع في الغار الذي فيه قبر شارلمان بمدينة اكس لاشابل من ألمانيا، اكتشف الدون قارلو؛ أي شارلكين، على مؤامرتهم وسبقهم إلى ذلك الغار، وكان الهيام بمحبوبته آخذًا كل مأخذ ومستوليًا على جميع حواسه، فكان يتلهب شوقًا وغرامًا إليها وقد قربت ساعة الوصال، ومعشوقة الملوك كما لا يخفى هي المملكة ولا يحبون أحدًا سواها، ويضحون كل عزيز عليهم في سبيلها، إذ لا أعز منها عليهم لا دين ولا ولد ولا زوجة ولا أب، فكم قتل الوالد ابنه والابن أباه للتوصل للملك، كما أن معشوقة الراهب العابد هي الكنيسة، وزوج الراهبة العابدة، وحبيب قلبها هو السيد المسيح — عليه السلام — وكذا يقال في الهائمين بحب الله والمفتونين بجمال نبيه المصطفى — عليه السلام — ونظموا في ذلك القصائد والدواوين البديعة، ففيكتور هوكو شخص في روايته إيرناني جميع ذلك، وعندما يرتفع الستار عن هذا الفصل من الرواية يرى الحاضرون الغار الذي فيه قبر شارلمان، وينزل إليه تحت الأرض بدرج متصل إلى بهو كبير عليه قبة، وفيه مخدع جعل فيه قبر شارلمان، ويظهر على المرسح شارلكين بلباسه الملوكي متمنطق بسيفه تلوح على وجهه علائم الاهتمام، فيزور القبر ويتكلم وحده بما يدور في خلده ويخطر في باله، وينظر إلى التاريخ نظرة عامة وإلى الذي ناله شارلمان بلبسه تاج قياصرة الرومان فتتوق نفسه وترتفع حواسه، ويرغي ويزبد كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج، فالحاضرون تشخيص الرواية لا يرون فيها عيبًا ولا نقصانًا، وأما أهل النقد الأدبي وهم أرباب الذوق في الكلام الذين اعتادوا التفريق فيه بين الغث والسمين كما اعتاد أرباب الذوق في الخمور التفريق بين خمر وأخرى لكثرة ذوقهم وطوافهم على معاصر الخمر وعلى الأقبية المخزون فيها أيضًا بوظيفتهم وصنعتهم التجارية يقولون: نعم إن شارلكين في هذه الرواية هو بيت القصيد وهو من ملوك الكلام، ولا ننكر فصاحته وبلاغته وإنما عيبه عندنا هو عدم وجود الروح فيه، فهذه النفس الناطقة التي أرانا إياها الشاعر على مرسح اللعب والتشخيص هي نفس المؤلف؛ أي نفس فيكتور هوكو وليست نفس المشبه به وهو شارلكين، فالحماسة التي أظهرها المؤلف في شعره ليست بطبيعية، ولا هي حقيقية بل عندية؛ أي من عند الشاعر، ولم تبنَ على الحجج والبراهين الأدبية التي اشترطها أصحاب الطريقة الحقيقية، وسماها إميل زولا «دوكيمان»، فأصحاب هذه الطريقة الجديدة يلومون فيكتور هوكو على تعظيمه الأمور، ويشبهون قريحته بمرآة مكبرة تكبر الشيء المعكوس فيها وتجسمه تجسيمًا خارجًا عن الحقيقة وعن العرف والعادة، ومن عادة فيكتور هوكو إرخاؤه العنان للقوة الواهمة والخيالية؛ ولذا نجد في مؤلفاته مثل كازيمودو، ومثل الرجل الضاحك من الأشخاص الموهومة التي لا توجد إلا في كتاب ألف ليلة وليلة، وما كان على نسقه.

ومما انتقد فيه على فيكتور هوكو من جهة الأخلاق تبدل رأيه السياسي، وتقلبه من ذات اليمين إلى ذات الشمال من حزب الملكية إلى حزب الجمهورية، ورأينا فيما تقدم جوابه على هذا الاعتراض بقوله: إن مدحنا الرجل بالثبات على رأى واحد في السياسة مدة طويلة ليس بمدح مستحسن، وإنما هو كمدحنا الماء الراكد وتفضيلنا إياه على الماء الجاري. والجواب الصحيح على هذا الاعتراض أن فيكتور هوكو مع ظهور معجزاته في المعاني ما هو إلا بشر غير معصوم تميل نفسه إلى شهواتها التي منها التقرب من الملوك وأُولي الأمر، ولكنا نجده محافظًا على الاعتدال في أمر الشهوات النفسية صبورًا متجلدًا عند الحاجة، وبينما نرى أمثاله وأقرانه من أدباء باريس لا يقنع أحدهم بعشر نسوة نجده اقتصر هو على اثنتين؛ أم أولاده والممثلة البارعة جوليت.

ومن غريب أمر هذا الشاعر أنه خالف القاعدة المطردة في عظماء الرجال، فكان في شبابه من حزب الملكيين المحافظين على بقاء الحال على ما كانت عليه، فانقلب من ذلك رويدًا رويدًا حتى صار في شيخوخته من حزب المفرطين في محبة الحرية المائلين للانقلاب، والارتقاء شديد العداوة للاستبداد وللمستبدين، وهذا خلاف المطرد في أخلاق الرجال، فإنهم كلما تقدموا في السن عدلوا عن حب التجدد والانقلاب والحرية، ومالوا للبقاء على حالتهم الراهنة.

ومن الأخلاق التي نهى عنها في شعره وأتى بمثلها في عمله أمر تربية الأطفال فإنه حرر كتبًا، ونظم أشعارًا كثيرة في حقهم، ولكنه لم يحسن ذلك بعمله وفعله، ومع علمه بأن عصى التأديب من الجنة لم يستعملها في تربية أولاده ولا أحفاده، وأطلق العنان لشهواتهم فإحدى بنتيه عرضت نفسها للخطر، فماتت هي وزوجها غرقًا، والثانية تزوجت على غير رضاه وسافرت للهند فنُكبت وأصيبت بعقلها، وحفيدته لم تطق معاشرة زوجها ولا قدرت أن تصبر على حكمه ففارقته وحكم بينهما بالطلاق، وابنه أفرط في اللذات فمات فجأة عند صاحبة له في بوردو، ولم يزل الناس يشيرون بالبنان إلى البيت الذي مات فيه.

ومما يشابه ذلك ما انتقد فيه على إمام الأدب عند العثمانيين وهو نامق كمال بك، وكان كثيرًا ما يلهج بالإصلاحات والحرية، فلما عين متصرفًا لجزيرة رودس انتقد عليه رقباؤه بأنه لم يجرِ فيها من الإصلاحات سوى رفع الكلاب من أزقتها وشوارعها، ومثل ذلك ما ينقل عن ضيا باشا وهو من مشاهير الأدباء العثمانيين، وكان رئيس الكتاب في المابين الهمايوني على عهد ساكن الجنان السلطان عبد العزيز، ثم نال رتبة الوزارة وعين واليًا لإحدى الولايات، وله نظم كثير ودواوين شعر من ذلك نظمه قصة المولد الشريف و«ترجيع بند» في التصوف ومحاسن الأخلاق، وكان لأشعاره رواج في الزوايا والتكايا وفي المدارس والجوامع، واتفق أن أحد طلبة العلم الصلحاء في مدينة بروسه كان كثير الإنشاد لها والترنم بها، فعاهد نفسه إذا ذهب إلى الأستانة ليزورنَّ هذا الشاعر الفاضل لا لطلب مأمورية أو إحسان منه، وإنما لمجرد التبرك بلثم يده والاسترشاد بنصائحه والاقتباس من فضائله، فلما جاء الأستانة زار الشاعر الوزير في بيته حتى إذا قارب غروب الشمس، ودخل وقت الكراهة فرأى ما لا يحب رؤيته العلماء المتعففون عن لذات الدنيا ونعيمها، فندم على سعيه وخرج وهو يقول: الشعراء يقولون ما لا يفعلون.

أما الثروة التي تركها فيكتور هوكو فقدرت بأكثر من ثلاثة ملايين فرنك ورث بعضها ولدا ابنه وهما حنه وجورج، والبعض الآخر ورثته بنته اديل (عادله) التي تزوجت على غير رضاه، وأصيبت بخلل في عقلها، وفوض أمر تنفيذ وصيته إلى أوغست فاكيري الشاعر، وهو أخ لزوج ابنته الثانية التي غرقت مع زوجها، وإلى الأديب بول موريس، وأوصاهما بنشر ما لم يطبع في حياته من مؤلفاته.

حررت هذا الكتاب في بوردو سنة ١٩٠٢م وقدمته لأمي أيضًا ببعض ما لها عليَّ من الحقوق، ورجائي بأن لا تحسب اغترابي عنها من العقوق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤