صوت الضمير: هل ما زال مسموعًا؟
من الصعب تصديق أن أسوأ الرجال قد يرتكبون أسوأ الأفعال دون أي إحساس أو ندم داخلي، وهو صوت ضمائرهم؛ لكن من السهل الاعتقاد بأنهم يُخمدون هذا الصوت ويتخلصون منه، وأنهم باعتياد ارتكاب الإثم قد يصيبهم الصمم بحيث لا يتمكنون من سماع هذا الصوت الضعيف.
صوت الضمير
لقد أتى اليوم الذي يجب أن أتجرد فيه أمام نفسي ويتمتم ضميري بداخلي قائلًا: «أين لساني؟ صحيح أنك قد ظللت تؤكد أنك لن تلقي عبء الكبر لأجل حقيقة غير مؤكدة. لكن انظر، فالأمور الآن مؤكدة، ومع ذلك ما زلت مهمومًا بنفس العبء …»
تحتاج شخصية ضمير أوغسطين الناضجة إلى صوت ناطق كي ينقل انفعاله الغاضب ونفاد صبره وحميميته وإلحاح رغباته الإصلاحية، وهكذا فقد استفاد الضمير مرارًا وتكرارًا من صوته وتعبيره على مدار مسيرته الطويلة المقنعة المؤثرة.
أنبني ضميري الآن … وظننت أن صوته يخاطبني قائلًا: «أيها التَّعِس! أتسأل عما فعلت؟ انظر للوراء إلى تلك الحياة البغيضة التي ضيعتها واسأل نفسك عما لم تفعله.»
ويصدم هذا الصوت كروزو ملقيًا به في حالة نفسية جديدة، وسوف يتمالك نفسه في نهاية الأمر عن طريق علاجٍ وصفه لنفسه يتكون من تناول التبغ وقراءة الإنجيل. وإذا نحَّينا الاختلافات الثقافية جانبًا، فما زال هذا الضمير يشترك في خصائص عديدة مع ضمير أوغسطين، فضمير كروزو على نفس القدر من التوبيخ والإلحاح، وهو يخبره بما يعلمه بالفعل لكنه ظل يتجاهله حتى أصبح واجبًا أن يصدم بمعرفته. ويدفع هذا الضمير كروزو في اتجاه بحث روحاني كان قد بدأه بالفعل، ومن تلك الناحية يبدو أنه امتداد لأفكاره الخاصة أو لملَكة عقلية كائنة فيه. وفي الوقت ذاته فهو يعلم أشياء لا يعلمها صاحبه ويتحدث بقوة ما كان كروزو وحده ليتمكن من استجماعها. ومن تلك الناحية فالضمير يحتل نفس موقع القوة الذي كان يحتله مع أوغسطين؛ حيث يمزج بين وعي دائم بالموقف وفهم مستمد من الخارج لما يجب فعله حياله.
ويتضح هذا الغموض في إجابة كروزو: «أصابتني تلك الأفكار بالخرس كالمشدوه، ولم أستطع أن أتفوه بكلمة، كلا، ليس من أجل التبرير لنفسي، بل نهضت حزينًا مستغرقًا في التفكير …» ولدينا هنا موقف مشابه للصراع بين أوغسطين وضميره على ما إذا كان يملك لسانًا، وهو موقف حواري تطلب فيه «نفسي» إجابة من «نفسي»، حيث يتحدث أحد الطرفين في حقيقة الأمر باسم كروزو القديم أو المعتاد ويتحدث الآخر باسم بزوغ الوعي الجديد (والذي يحتمل على الأقل أن يكون كثير المطالب). ويؤدي الضمير دور الذات الثانية التي تشبه كروزو لكنها ذات التزامات مختلفة أكثر تأكيدًا وتتحدث بصوته الخاص، لكنه صوتٌ غيرته مسئوليات التبشير والهيمنة.
وقف ماركهايم وحدق فيه بعينين مفتوحتين. ربما كانت هناك غشاوة على بصره، لكن هيكل القادم الجديد بدا كما لو كان يتغير ويرتعش مثلما تفعل هياكل التماثيل في ضوء الشموع المتراقص في المتجر. أحيانًا كان يظن أنه يعرفه، وأحيانًا أخرى كان يظن أنه يشبهه، ودائمًا كان يكمن في صدره ككتلة من الرعب الحي اعتقاده بأن هذا الكائن ليس من الأرض وليس من الله. ومع ذلك، كان هذا الكائن يبدو مألوفًا بشكل غريب وهو يقف ناظرًا لماركهايم وقد ارتسمت البسمة على شفتيه.
ومثلما في حالة ضمير كلٍّ من أوغسطين وديفو، يرتبط هذا الطيف بعلاقة حميمية مع ماركهايم، فهو بمثابة ماركهايم آخر، لكنه منفصل عنه أيضًا على نحوٍ ما. وبينما يصارع أوغسطين للحصول على ملكية لسانه، ويجد كروزو نفسه في جدال مع نفسه، يتوهم ماركهايم وجود طيف مشابه يرغب في الحوار معه، طيف خارق للطبيعة «شبيه» به يخاطبه بصوت يشبه صوته على نحو مخيف. لم يكن ستيفنسون أول من ابتكر ضميرًا متحركًا متحدثًا، فالضمير شخصية بارزة في بعض القصائد التي ترجع للقرون الوسطى مثل قصيدة ويليام لانجلاند التي تحمل عنوان «الفلاح بيرس»، وهو يظهر على خشبة المسرح باسمه في المسرحيات الأخلاقية التي كانت تُعرض في القرن الخامس عشر والسادس عشر. وفي كل تلك الأمثلة، يمتلك الضمير موهبة الخطاب الإقناعي.
صاح ماركهايم قائلًا: «أنت تساعدني؟ كلا، أبدًا، ليس أنت! أنت لا تعرفني بعد، حمدًا لله أنت لا تعرفني!» وأجاب الزائر قائلًا بنوع من الحدة أو الحزم الممتزج بالحنان: «بل أعرفك، وأعرف دخيلتك جيدًا.»
بدأت ملامح الزائر تخضع لتغير رائع جميل: فقد أشرقت وزادت نعومةً وغمرتها فرحة النصر الممزوجة بالحنان، وفي اللحظة نفسها التي أشرقت فيها بهتت وتلاشت.
يعد ستيفنسون أقل تأكدًا أو ثقة من أوغسطين أو ديفو في تقديره للضمير والولاء المنقسم أو المهمة المزدوجة التي يلتزم بها الضمير، فحديث ضمير ماركهايم حديث مُغرٍ لا يحاول إقناعه بالخلاص قدر ما يعد نوعًا من العقاب الذاتي، لكنه يقوم بذلك بالكلمات وبالحديث الإقناعي.
وعلى الرغم من أن تلك الأمثلة الثلاثة تختلف كثيرًا في فحواها، إلا أن كلًّا منها يتضمن شخصًا في موقف خطير مستعد لاتخاذ قرار حاسم جديد، سواءٌ الاهتداء في الحالتين الأوليين أو الاعتراف في الحالة الثالثة. وهكذا يمكننا أن نتحدث عن «زيارة» الضمير التي يقوم فيها الضمير بدور شخص آخر يملك معرفة خاصة أو «مطلعة» على المأزق الذي يمر به البطل. فمنذ بضعة عقود كتب برونو سنيل كتابه العبقري «اكتشاف العقل» الذي أبدى فيه ملاحظة ثاقبة بأنه عندما كان الإغريق القدماء يحتاجون إلى تفسير أحد التغيرات الكبرى في وجهة النظر أو تبني قرار جديد، كانوا يميلون إلى الاستعانة بزيارة خارجية من إله أو أي وسيط خارجي آخر — وسيط مطلع على الموضوع الحالي، لكنه أيضًا لديه معلومات جديدة أو بصيرة نافذة أو مجموعة من المطالب المعدلة — وكانت نتائج تلك الزيارة إما حوارًا يغير الرأي أو فرصة لإقناع الشخص المتردد أو الحائر بتغيير وجهة نظره. فقد تزور ربة الشعر على سبيل المثال أحد الشعراء كي تخبره بمادة جديدة أو مصدر جديد للإلهام، أو قد تقنع إحدى الآلهة تيليماخوس بالبحث عن والده. لدينا الآن العديد من اللغات الجديدة للعمليات النفسية التي لم تكن متاحة لدى الإغريق القدماء، بما فيها الصراع بين الروح والجسد في القرون الوسطى المسيحية أو الصراع الداخلي، والتحليل الذاتي والانعكاس لحركة الإصلاح الديني، والوعي الفرويدي بالدوافع غير المعترف بها. لكن الوصف الأقدم للعمليات العقلية يظل متاحًا أيضًا، وتتمتع خطابات الضمير بشبه واضح مع أكثر نماذج التفسير النفسي احترامًا، والتي يتلقى فيها الشخص الذي يواجه مأزقًا لا حل له زيارة من مُحاور مميز.
الحديث هو الوعي بالذات الذي يبقى لدى الآخرين … إنه الذات — وقد قسمت نفسها إلى قسمين — التي تصبح موضوعية حيال نفسها … محافظًا على نفسه كتلك الذات بقدر ما يندمج في الحال مع الآخرين ويصبح وعيهم بذواتهم.
يمكننا تطبيق وصف هيجل للحديث بأنه «الوعي بالذات الذي يبقى لدى الآخرين» بنفس الدقة على الضمير وكل ما لاحظناه عنه حتى الآن. فالضمير — كالحديث نفسه — يربط بين الذات الخاصة والعامة. لذلك، فإن الحديث هو الوسط الطبيعي للتعبير عنه.
وتكمن العديد من التعقيدات التي تحيط بالضمير في اعتماده على الحديث واللغة، فاللغة ملكية خاصة وملك للآخرين في الوقت ذاته. وإذا دخلنا عالم اللغة فنحن ندخل وسطًا ذا تاريخ وبيئة ذات ميول متوارثة لا نستطيع التحكم فيها تمامًا. فالكلمات على سبيل المثال يسبق وجودها وجود الاستخدامات المحددة التي نضعها لها، وهي غالبًا ما تملك معانيَ متضمنة لا تتأثر بأغراضنا. ويمكن مقارنة المعنى الذي تخدم به اللغة استخداماتنا — وإن كان ذلك مؤقتًا وبشكل غير كامل نظرًا لأنه يخدم سادة آخرين في الوقت ذاته — بموقف الضمير الذي يخاطب الاحتياجات والرغبات لكن باستقلال مزعج. وفي إدراكه الخاص لتلك القناة التواصلية بين الداخل والخارج — أي التقدير الخاص والتقييم العام — قد ينظر للضمير بوصفه حالة خاصة من الحديث نفسه: حديث داخلي يخدم سيدين — إذا جاز التعبير — وهما الذات والآخر. وبِناءً على ذلك فهو يظل أداة فعالة لإدراك الذات، لكنه أيضًا قوة عنيدة لا يمكن التنبؤ بأفعالها.
صوت ضعيف؟
في العقود المضطربة التي شهدها القرن السابع عشر، كتب إدوارد، إيرل كلاريندون (في الاقتباس الذي ذُكر في مطلع هذا الفصل) مشيرًا إلى أن الضمير قد يستمر في الحديث لكن بصورة ضعيفة أو واهنة. وقد يختفي صوت الضمير بطرق مختلفة، أحدها أن يسقط فريسة للعادة («عادة ارتكاب الخطيئة» كما يقول كلاريندون) أو الاستسلام المتكرر للنزعات المعارضة. بل الأسوأ من ذلك هو الشك، الذي يتضح في طريقة تناول ستيفنسون لضمير ماركهايم، في أن الضمير قد يكون غير جدير بالثقة أو فاسدًا أو أن نصائحه تصطبغ بمصالح أخرى. وكان الضمير دائمًا واثقًا من نفسه، لكن ضمير ماركهايم شديد الوعي والفصاحة والخدمة لمصالح الآخرين بدلًا من مصلحته الخاصة، وصوته هو صوت الحية الخبيث المغوي في الجنة أو صوت الشيطان وهو يغوي المسيح، صوت يغزو أفكار ماركهايم بطريقة تؤدي به إلى تدمير ذاته.
وتعد السخرية والولاء المشكوك فيه خصائص تشترك فيها تجسيدات متعددة للضمير في وسائل الإعلام الجماهيرية، وهي ضمائر تغوي وتشمت وتهدد بتدمير أصحابها بطرق أخرى. وأنا أعتقد أن هذا مثل «تأثير لامونت كرانستون»، وهو برنامج إذاعي كان يبث أيام طفولتي وكان يقدم شخصية كرانستون «الظل»، وهو شخصية معاصرة تجسد الضمير، وكان شعاره «من يعرف ما الشر الذي يكمن في قلوب البشر؟ الظل يعرف!» ويعقبه ضحكة ساخرة. وبالطبع كان الظل هو صاحب الموقف الأقوى؛ حيث كان ضحايا سخريته (مثل ماركهايم) من الآثمين بلا ريب. لكن شيئًا ما في الابتهاج الخبيث للضمير كان ينفي أن يكون هدفه تعزيز الكمال الأخلاقي. والظل بدوره له العديد من النسخ المقلدة في فئة أفلام الرعب الخاصة بالمراهقين والتي يتحدى فيها شخص غير مرئي أو متنكر ضحيته ساخرًا بشيء من قبيل «أعلم ما فعلت» أو تحديدًا «أعلم ما فعلت الصيف الماضي». ويمتلك الصوت الذي يتحدث من موقع قوة خارج الذات — لكنه ذو معرفة غير عادية بالذات — موهبة خاصة في إحداث الدمار والمتاعب الشخصية. وفي حين أنه يعلم عنا كل شيء، فهو يظل بمعزل عن مخططاتنا الهادفة للمصلحة الشخصية دون أية مبررات. وهكذا يمكن لإحدى الخصائص الدائمة للضمير — وهي أنه غير محبوب ولا يمكن رشوته أو شراؤه وأنه يظل بمعزل عن الأشخاص الذين يهتم بهم — أن تفسر تعطله الجزئي إلى حدٍّ ما.
ويستمر الضمير في عمل ما كان يعمله دائمًا، وعلى مستويات ثقافية متنوعة، لكنه أصبح يحظى باحترام أقل. وما زال نداؤه مسموعًا، لكن حديثه غالبًا ما يبدو خافتًا أو غامضًا أو فارغًا من المحتوى الأخلاقي المقنع الذي يستحق الإعجاب. وفي أوساط فلسفية محددة ما زال الضمير يملك صوتًا ونداءً، لكنه لا يستطيع الفرار من الشك في أن نداءه فارغ: فهو نداء من الذات للذات، للوعي الذاتي — كما كان الأمر دائمًا بطريقة ما — لكنه الآن نداء محاصر داخل الذات بطريقة ما، ولا تسمعه إلا الذات، وهو مجردٌ من أنواع المضمون الواضح التي بوسعها أن تضمن قوته وأهميته الاجتماعية. وفي النظام الخاص بفيلسوف القرن العشرين مارتن هايدجر، يعد نداء الضمير فارغًا بطبيعته، فهو أكثر اهتمامًا بالتمييز الذاتي للذات عن العامة من اهتمامه بأي مضمون أخلاقي مميز: «يوقظ الضمير الذات من ضياعها في الآخرين.» ويدعو نداء الضمير الذات إلى الوعي الأخلاقي، ومع ذلك يظل غير محدد فيما يتعلق بمضمون هذا الوعي (وربما كان ذلك ملائمًا للمعضلة التي تواجه مهنة هايدجر سيئة السمعة).
ويمثل صاحب الضمير المهووس بذاته اليوم — والذي يمكننا أن نقول إنه من أتباع مذهب هايدجر — شخصية كلامانس في رواية كامو التي تحمل عنوان «السقوط» (١٩٥٦)، وهي شخصية وصفها كامو في مكان آخر بأنها «نموذج دقيق لضمير نادم». ويتشكل ضمير كلامانس بسبب «صرخة» أطلقتها امرأة تلقي بنفسها في نهر السين، وهي صرخة «انتظرتني حتى اليوم الذي قابلتها فيه» و«كان عليَّ أن أخضع لها وأعترف بذنبي». وهي صرخة لم يكن كلامانس في بداية الأمر قادرًا على الاستجابة لها، والآن يمنعه عجزه عن الاستجابة لها — حتى معرفة من أين صدرت أو ماذا تريد منه بالضبط — من العودة إلى حياته الهادئة. ولا تعد محنته دعاية لقوة الضمير التخليصية، فنحن نقابله ونتركه وهو في حالة من الشلل والضعف.
لكن صوت الضمير ما زال يصارع الظروف كي يكون مسموعًا. كما في أغنية إمينم الشهيرة «الضمير النادم» التي يسمع فيها صوت الضمير، بل يقدم أيضًا بصورة محترمة، لكنه لا يحظى سوى بنجاح محدود. وقد ألَّف مغني الراب الأمريكي إمينم ممثل الثقافة الشفهية المعاصرة عرضًا تمثيليًّا متعدد الأصوات يتم فيه تشجيع العديد من ممثلي المجتمع الأقل تمتعًا بالضمير بواسطة إمينم (بوصفه متحدثًا باسم ثقافة الشارع والغريزة الأكثر انحطاطًا)، وتقييدهم من قِبل إمبراطور الهيب هوب والمتحدث الأكبر سنًّا د. دري (في دور الضمير).
وفي السيناريو الأول من بين ثلاثة سيناريوهات، نتعرف على شخصية إيدي وهو على وشك سرقة متجر كحوليات:
يائس من الحياة ومن الطريقة التي تجري بها الأمور،
فيقرر أن يسرق متجر كحوليات.
وفجأة استيقظ ضميره …
وتحاول الاستيلاء على النقود من الدرج،
من الأفضل أن تفكر في العواقب.
ويتدخل إمينم (في دور سليم شيدي) كي يقاوم نصيحة الضمير الصالحة، مقترحًا في تلك الحالة أن يسرق إيدي المال و«يطلق الرصاص على تلك العاهرة».
وللمفارقة، كاد ذكر الماضي العنيف لدري/الضمير يعيد إليه مصداقيته، لكن في نهاية الأمر أصبح كل ما يتعلق بالضمير مبتذلًا، بما في ذلك حقيقة ذهاب هذا الدور إلى دري، وهو شخصية موقرة لكنه أصبح الآن إحدى «الشخصيات الثانوية» في عالم الراب. وما زلنا نتعرف على صوته عندما نسمعه ونثني على منطقه المدروس، لكنه لم يعد يملك الأثر القديم الذي يسبب شحوب الوجه وارتجاف الساقين وكل الأعراض الأخرى التي كانت تصيب ضحايا الضمير في الماضي.
منافسو الصوت
يمكننا دائمًا تكبير الصوت الخافت للضمير، كما حدث في مسرحية شكسبير «ريتشارد الثالث». فعندما كان ريتشارد على وشك خوض معركة بوزوورث وتؤرقه الكوابيس، سمع ضميره يتحدث بألف لغة: «ضميري له ألف لغة، وكل لغة تأتي بقصص عديدة، وكل قصة تحكم عليَّ بالشر.» وحتى إذا كان الصوت مضاعفًا أو مرتفعًا، ففي بعض الأحيان لا يستطيع القيام بالمهمة وحده؛ إذ نحَّى ريتشارد ضميره جانبًا بوصفه «ليس سوى كلمة يستخدمها الجبناء» وهو بذلك نموذج يستدل به. وهو مهزوم أمام الضمير، لكن في حالات أخرى عندما يُخمد أو يخفض صوت الضمير قد تُستدعى مصادر اتصال أخرى. وكثيرًا ما كانت الكتابة والتصوير البصري يخدمان أهداف الضمير، على الرغم من أن علاقتهما به قد تكون أحيانًا تنافسية بالإضافة إلى كونها تعاونية.
تعد الكلمة المكتوبة حليفًا عنيدًا — وفي الوقت ذاته مهمًّا — للضمير، فلطالما كان للضمير صلة مؤكدة بالكتابة. ومنذ سِفر دانيال حيث كانت أصابع يد إنسان تكتب على حائط بلشاصر ملك بابل، كان اتخاذ المطلب الأخلاقي صورة مكتوبة فكرة منتشرة. وبلا ريب فاليد الخفية في سفر دانيال كانت تكتب نبوءة تتعلق بالإطاحة بالملك وليس أمرًا شخصيًّا. لكن رد الفعل الجسدي للملك الذي تتغير فيه ملامحه وتضطرب أفكاره وتصطك ركبتاه يبدي كل العلامات التي عادة ما تصاحب هجوم الضمير في المعتقدات المسيحية اللاحقة. وعلى الرغم من أن اللغة العبرية لم تكن بها كلمة واحدة مرادفة للضمير بعد، فسوف تُبنى الصلة الضمنية بين تلك الكتابة السحرية وإملاءات الضمير في نهاية الأمر ويعاد بناؤها. وفي أطروحة شهيرة يرجع تاريخها للقرن السابع عشر تحمل عنوان «فتح كتاب الضمير وقراءته»، يربط جون جاكسون بين كتابة دانيال «إملاءات الضمير على جدار، وهو جدار الضمير» وبين الجدار النحاسي الذي يقاوم الإدانة الذاتية غير الضرورية وأطروحة «فتح كتاب الضمير وقراءته» نفسها. وطوال تاريخه، سعى الضمير إلى أن يجعل نفسه ومبادئه شيئًا مدونًا أو مغروسًا في الذهن.
ورأيت الأموات صغارًا وكبارًا واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر، هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله.
الضمير كتاب، وهو أحد الكتب التي سوف تُفتح يوم الحساب وتوضع أمام الناس ويُحكم عليهم طبقًا لها.
يعلن إفريمان أن كتابه غير جاهز للعرض ويطلب اثني عشر عامًا كي يصلح من شأنه، وبالطبع فلن يُمنح تلك السنوات. ويظهر هذا التقليد الذي يجمع فيه كل ضمير مسيحي كتابه بنفسه في سجل دائم في وصف يوم الحساب على اللوحة الجدارية في كاتدرائية «ألبي» التي ترجع لأواخر القرن الخامس عشر، والتي نرى فيها الهالكين في حالة ضيق بالمجلدات التي تدينهم، وموكبًا من الناجين يعرضون كتبهم أمام العرش مفتخرين بها: «أمام العرش تُفتح الكتب.»
يعد القاسم المشترك بين تلك المعتقدات أن الضمير الفردي — بعد أن يجمع ملاحظاته في مجلد واحد شديد الخصوصية — يحول هذا المجلد والدليل عليه في نهاية الأمر إلى حساب عام. وفي قصيدته التي تحمل عنوان «الفلاح بيرس» التي يرجع تاريخها للقرن الرابع عشر، يقدم لنا ويليام لانجلاند ضميرًا يقوم بدور «كاتب الإله وموثقه»، حيث يؤدي عمله من حصن داخل الذات لكنه يدون الملاحظات حول سلوك الفرد كي تُعرض في محكمة الإله الأخيرة. وتشكل تلك الكتب الفردية كلها حلقات عديدة من مجموعة مقتطفات أدبية مجمعة يصفها روبرت بيرتون في كتابه «تشريح السوداوية» بأنها «دفتر ضخم كُتبت فيه كل خطايانا، وهو سجل يؤكد على أهميتها». ويثبط المتهِمون الآخرون من معنوياتنا، لكن «الضمير وحده هو من يُعَدُّ ألف شاهد يتهموننا».
وهكذا يعد الضمير الكاتب عاملًا منقسمًا بطبيعته وعميلًا مزدوجًا ومستشارًا مؤتمنًا في الوقت ذاته على مستحقات شخص آخر، وهو محاور يعود إلى مكانه كي يدون ما يعلمه عنا ويعرضه مكتوبًا أمام القاضي النهائي. وعلى غرار الصوت الذي يقع على الحدود بين الداخل والخارج، قد يفيد الضمير المكتوب صاحبه أو يضره. وتبدو تلك الازدواجية في كتاب أندرو جونز الذي يرجع تاريخه للقرن السابع عشر ويحمل عنوان «كتاب الضمير الأسود» الذي يقوم فيه الضمير بدور «نائب الله داخل الروح»، حيث يدون ملاحظات مكتوبة لأهداف مستقبلية: «ثمة ضمير داخل كل إنسان يرى كل أعماله ويراقبها ويحتفظ بسجل دقيق لها، وهكذا يصبح شاهدًا سواءٌ مع الروح أو عليها يوم الحساب.» وسوف تقدم شهادته مرة أخرى في صورة كتاب: «إن الضمير يلاحظ كل أعمالك … ويدونها كلها في هذا الكتاب الأسود.»
وتماشيًا مع نزعة السجل المكتوب للتملص من تحكم الكاتب أو حتى الفرار منه، يقوم الضمير (الذي يسدي النصيحة لسبب ويسجل لسبب آخر) بعملية سرية إلى حدٍّ ما من خلال مجموعة أدوار تتضمن خدع تجسس صريحة. وفي «رسالة العاطفة» التي كتبها إدوارد رينولدز في القرن السابع عشر، «يهدف الضمير … إلى مراقبة أفعالنا سرًّا» وتسجيل اكتشافاته بالحبر السري: «عندما تُعرض تلك الكتابة التي تبدو خفية وغير مقروءة كالحروف التي كُتبت بعصير الليمون أمام نيران الحساب الإلهي، فسوف تصبح شديدة الوضوح.» وعلى الرغم من الولاءات المختلطة لصناعها والاحتمال الدائم للتفسيرات المختلفة، تظل الكتابة في نهاية الأمر ثابتة لا يمكن محوها: فتأنيب الضمير «قد كتب بحروف يستحيل إزالتها ولن تُمحى أبدًا».
… كان قد سمع حوله الأصوات المستمرة لوالده ومعلميه يحثونه على أن يصبح كاثوليكيًّا صالحًا قبل أي شيء … وسمع صوتًا آخر يحثه على أن يصبح قويًّا شجاعًا صحيح البنية … لكن صوتًا آخر أمره أن يصبح مخلصًا لبلده … وصوتًا دنيويًّا يأمره بأن يرفع مستوى والده المتدني بجهده، وفي الوقت ذاته صوت رفاق المدرسة يحثه على أن يصبح زميلًا مهذبًا … وكان اللغط الذي تحدثه كل تلك الأصوات الجوفاء هو ما أدى به لأن يتوقف حائرًا.
قد يضاف للضمير الصوتي والمكتوب — وأحيانًا ينافسهما — المزيد من الدوافع الوثائقية والمرئية للاستجابة التي تعتمد على الضمير. وفي تلك الصورة، بدلًا من أن يتجسد الضمير في الكلمة المنطوقة أو المكتوبة، فإنه يتجسد بالتصوير: سواءٌ أكان تصويرًا بالرسم أم النحت أم صورة ملصقة في كتاب، لكن أيضًا وخاصة في الأشكال الأحدث والأكثر إلحاحًا بشكل فوري للنسخ الإلكتروني.
للدوافع المرئية للضمير تاريخ طويل، حيث تصف صور صلب المسيح التي ترجع لأواخر القرون الوسطى بالإضافة إلى التراث المشابه في فن الباروك وفن أمريكا الجنوبية بالتفصيل الدقيق معاناة المسيح من أجل التماس رد فعل إنساني نادم. وغالبًا ما كانت تلك الصور تجعل مطالبها أكثر وضوحًا بالنسبة للمشاهد عن طريق المزج بين وسائل العرض، بإضافة القصائد والكتابات التي تخبر المشاهد بأن تلك الآلام قد احتُمِلت لأجله، ومطالبته بإصلاح نفسه. وقد زينت قنطرة المذبح في العديد من كنائس القرون الوسطى برسوم تصور مشاهد الصلب تبدو فيها عينا المسيح المصلوب — على نحو مدهش — كما لو كانتا تنظران مباشرة إلى رعايا الكنيسة كلٍّ على حدة، داعيةً كلًّا منهم إلى اتخاذ رد فعل شخصي تجاه المعاناة المصورة فيها. وقد سعى كلٌّ من جويا وبارلاخ وكولويتز وديكس ومجموعة من الفنانين التشكيليين الآخرين إلى استثارة الضمير وإثارة المشاعر السلمية عن طريق تصويرهم السخي لفظائع الحروب.
تتقاسم رؤية صليب منحوت أو لوحة جدارية أو نقش أساسًا مشتركًا مع استقبال صورة فوتوغرافية أو أي صورة سينمائية أو رقمية أخرى، لكن الإنتاج الميكانيكي والإلكتروني يثير أيضًا قضايا جديدة متعلقة بالكثافة والسرعة و«المقياس» المجرد. وقد حسنت الأشكال الجديدة من التوافر والكمية وسهولة الإنتاج كثيرًا من حالة الصورة المرئية بوصفها منتجًا للضمير وحافزًا له. فالصور التي تُلتقط بواسطة الهاتف المحمول تنتشر حول العالم في دقائق أو ثوانٍ معدودة، ولا يمكن التنبؤ بتأثيرها لكنه قد يكون ضخمًا.
وتتفق تلك السرعة والوفرة في الإنتاج وسرعة التأثير تمامًا مع رؤية للضمير طالما كانت حاضرة ضمنيًّا، لكنها حققت هيمنة إضافية في القرون القليلة الأخيرة: أنه لا يعبر عن نفسه في صورة تفكير هادئ لكن في لحظة خاطفة من البصيرة المفاجئة المدركة بالحدْس. وعلى العكس من مُنَظِّر مثل جوزيف بتلر — الذي رأى في القرن الثامن عشر أن الضمير ناتج عن التفكير الجيد في «ساعة هدوء» — رأى آخرون أن الضمير مَلَكَة فطرية أو غريزية، مفاجئة في مخاوفها، وقاطعة في مطالبها، فعلى سبيل المثال مرت بطلة لوحة هولمان هانت المسماة «يقظة الضمير» بالتأكيد بهذه الهجمة من ضميرها. وتعد وسائل الإعلام الحديثة التي تتدفق فيها الصور فجأة ثم تختفي فجأة بالطبع متجانسة تمامًا مع تلك الرؤية للضمير بوصفه قناعة أكثر تسرعًا (مع أنها ليست أقل يقينًا).
تشترك الصور أو الصور الفوتوغرافية، حتى الإلكترونية التي تنتشر بسرعة البرق من الهاتف المحمول إلى الشاشة مع الصوت والكلمة في القدرة على استدعاء رد فعل طبقًا لما يمليه الضمير. وفي بعض الحالات قد يكون ما تستدعيه الصورة ناتجًا عن هدف ما — سواءٌ هدف المتحدث أو المؤلف أو المصور الفوتوغرافي الوثائقي. فعلى سبيل المثال، يصف روبرت كولز الدافع الوثائقي بأنه راسخ في ضمير المصور الفوتوغرافي الوثائقي، مثل جيمس أجي «الذي يشعر بالإثارة والتحدي نتيجة أوامر كلٍّ من وعيه الفني وضميره ومطالبهما». وهو يصف آلة التصوير بأنها «سلاح» و«أداة» و«استدعاء للخدمة» تستخدم كلها ببراعة بواسطة مصور فوتوغرافي له هدف معين ويحركه الضمير. لكن الصورة الفوتوغرافية فور التقاطها ونشرها تصبح لديها قدرة هائلة على الانفصال عن الهدف منها، أو حتى إذا أبدت هدفها الأصلي فلديها القدرة على العمل باستقلالية عن ذلك الدافع. ويتخيل المُنظِّر المعاصر إم جيه تي ميتشل أعمالًا فنية لها رغبات مستقلة ولها أغراض معينة من مشاهديها ولها نوع خاص من «تأثيرات ميدوسا». وكما يدرك ميتشل، فإن المصور الفوتوغرافي أيًّا كان هدفه يترك الصورة الفوتوغرافية كي تقوم بعملها. ويعد هذا صحيحًا بالطبع أيضًا بالنسبة للحديث فور أن يُقال والكتاب فور أن يُكتب، لكن الصورة التي تنتشر في الحال بسرعة البرق حول العالم يقل ارتباطها أكثر بأهداف صانعها. وأيًّا كانت نية صانعها، فسوف تُقبل الصورة في نهاية الأمر — أو لا — نتيجة لرد فعل المشاهدين. وهكذا يتلقى صوت الضمير إضافة مهمة من وسائل الإعلام المطبوعة والأحدث من ذلك … لكنه أيضًا يواجه خطر التغيير أو حتى الذوبان أثناء تلك العملية.
خفوت صوت الضمير: أبو غريب
فلنأخذ مثلًا حالة سابرينا هارمان، وهي السيدة التي التقطت معظم صور أبو غريب، وتظهر أيضًا في العديد من تلك الصور مؤدية حركتها الشهيرة (الإشارة بإبهامها للأعلى علامة على التشجيع) بجوار الجثث الممثل بها. وعند تقديم هذه الحالة للبحث، تبدو كما لو كانت تقترب من حالة تطرقنا إليها بإيجاز عدة مرات خلال هذا الكتاب، وهي حالة شخص بلا ضمير. لكن هارمان تُظهر نفسها بأنها صاحبة ضمير معاصرة، فما زالت تزعجها العديد من صوره، كما أنها ما زالت تشعر بالضيق في حالتها عديمة الضمير.
لا يمكنني أن أنسى هذا الأمر. أهبط الدَّرَج بعد أن أنفخ في الصافرة وأقرع على الزنازين بعصًا فأجد «سائق سيارة الأجرة» مكبل اليدين للخلف ومقيدًا في نافذته عاريًا، بينما وُضع لباسه الداخلي على رأسه ووجهه. كان يبدو كالمسيح، وكنت في بداية الأمر أضحك ثم ذهبت لإحضار آلة التصوير والتقطت له صورة. ثم أخذ أحد زملائي عصاي وبدأ في «لكز» عضوه التناسلي بها. وفكرت مرة أخرى في أن ذلك يبدو طريفًا، ثم صدمني الأمر: إنها صورة من التحرش. يجب ألا أفعل ذلك. فالتقطت المزيد من الصور تلك المرة من أجل «تسجيل» ما يحدث.
يبدو أن شيئًا من التأديب الذاتي وقع هنا، حيث تتكرر ردود أفعالها الأولية المرحة ثم تتحول إلى أنواع أخرى من التصرفات. وهي تؤجل المسئولية أو تتخلى عنها عند حملها آلة التصوير والتقاط الصور. وفي حقيقة الأمر تعد صورتها الأولى أحد الدلائل على الابتهاج «الوحشي» بالنصر الذي تصفه سونتاج في كتابها الذي يحمل عنوان «عن التصوير الفوتوغرافي» (١٩٧٧): «كنت في بداية الأمر أضحك ثم ذهبت لإحضار آلة التصوير والتقطت له صورة.» لكن دافعها بعد التفكير هو التقاط الصور «من أجل «تسجيل» ما يحدث». لكن هذا لا يمكن وصفه بأنه خطة لاستثارة الضمير في الآخرين. وهي تقول في موضع آخر: «كنت أرغب فحسب في توثيق كل ما أراه.» وفي موضع ثالث: «إذا جئتك وقلت لك «هذا ما يحدث» فلن تصدقني على الأرجح … لكن إذا قلت «هذا ماذا يحدث، وانظر لدي الدليل» فلا أعتقد أن بوسعك الإنكار.» والفكرة المتعلقة بهذا النوع من التوثيق أنه لا يحقق سوى نصف المرجو من هذه الاستجابة المبنية على الضمير؛ فهو لا يسمح باتخاذ أي إجراء إضافي، بل إنه يتطلب عدم اتخاذ أي إجراء، وكان الدافع لديها «مجرد عرض ما يحدث وما يُسمَح بفعله».
ونجد في عبارتها «ما يُسمَح بفعله» تلميحًا عن المشكلة الكبرى المتمثلة في الأزمة الأخلاقية التي انتهت إليها تلك الأحداث: إهمال كبار المسئولين وغياب المجتمع الرادع — بل الأسوأ من ذلك اشتراك المجتمع في الجريمة. ومع ذلك فإلى جانب المستويات الواضحة لندم هارمان المغرض ومحاولتها التهرب ملقية اللوم على أطراف أخرى، يمكننا تمييز محاولتها المتأخرة لالتماس موقف أخلاقي. ويقدم لنا الموقف مشهدًا مزدحمًا موحيًا تتدافع فيه النزعة نحو التوثيق المرئي مع الابتهاج بالنصر والمرح في غير موضعه، والنزعة الاستعراضية على الفيس بوك والسياحة والمذهب الحسي والتحرش الجنسي والسادية ومجموعة من الدوافع والمثيرات الأخرى. وبمعنًى آخر، يصعب الفصل بين الدافع لتوثيق الضمير وبين مجموعة من الحوافز الأخرى للتصويرات «المرئية». ومع ذلك يبدو أن التقاط الصور قد ساهم في تشكيل العقل الأخلاقي على الأقل بعض الشيء، حتى عندما بدأ نوعًا من التسلية.
كنت أتصفح الصور مراجعًا تلك التي التقطها زميلي في مدينة الحلة حيث كنا نقيم قبل أبو غريب عندما ظهرت تلك الصور الأخرى فجأة. وكي أكون صادقًا، ظننت في بادئ الأمر أنها صور شديدة الطرافة. أنا آسف، يمكن أن يغضب مني الناس إذا أرادوا، لكني لست فتى كشافة، فبالنسبة لي كانت رؤية ذلك الهرم من العراقيين العراة لأول وهلة أمرًا طريفًا للغاية، وعندما ظهر فجأة هكذا ضحكت قائلًا: «يا للهول! إنني أنظر إلى هرم من المؤخرات!» لكن بعض الصور الأخرى لم تكن مقبولة بالنسبة لي، وهي الصور التي يظهر فيها السجناء وهم يتعرضون للضرب أو التي يبدو فيها رجل عراقي عاريًا يجثو على ركبتيه أمام رجل عراقي عارٍ آخر، وبعض الصور الجنسية الأكثر إباحية لإذلال السجناء — لم يكن هذا مقبولًا بالنسبة لي. ولم أستطع التوقف عن التفكير في هذا الأمر، وبعد حوالي ثلاثة أيام اتخذت قرارًا بتسليم الصور.
قد ينشأ وصفه للصور بأنها «غير مقبولة» وإظهار تدخله الإصلاحي من دافع آخر بخلاف قوانين «الضمير»، وهو التزام البطل الأمريكي ﺑ «قانونه» أو شعوره بما إذا كان شيء ما لائقًا أم لا. وشخصيات مثل ناتي بامبو بطل روايات كوبر وهاكلبري فين — بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الغربيين المنعزلين مثل شخصيتَي شين وويليام ماني في فيلم «غير المغفور له» — تعود في نهاية الأمر إلى كتاب القواعد غير المدونة والمواثيق التي يجب ألا تُخالَف، ويمكننا رؤية تفسير داربي الموجز نسبيًّا لصنيعه في ضوء ذلك. ومع ذلك فصنيعه يحمل علامات الضمير، وخاصة الضمير المستثار عن طريق صورة تقدم دليلًا دامغًا على حدوث سلوك غير مقبول. ولا يستخدم داربي نفسه كلمة «الضمير» كي يصف تجربته، لكن المحاور والمؤلف ويل إس هيلتون يفعل، فقد استعان بها في عنوان مقاله «سجين الضمير».
ثمة شيء في الصور «لم يكن مقبولًا»، وكان بمثابة وخزة أو وسيلة للحث على فعل لم يكن داربي يفكر فيه في بادئ الأمر لكنه قام به في النهاية. وكأن شيئًا في عملية التسجيل يجسد الأحداث؛ ومن ثَمَّ فقد أتاح لهارمان أن ترى معاملة السجناء بهذا الشكل صورة من صور «التحرش». لكن أين منظور الضمير أو صوته من كل ذلك؟ لقد قلت إنه سوف يُكتم، وحدث ذلك بالفعل، لكنه قد يكون بالكاد مسموعًا في تعليقها عن «التحرش» — وهو مصطلح نقدي يبدو أنها لم تكن أول من استخدمه، ربما علق في ذهنها من دورة تدريبية سابقة غير مكتملة، أو ذكره محامي الدفاع. ويُسمع صوت الضمير خافتًا أيضًا في جملة هارمان المتكررة «يجب عدم فعل ذلك»، وهو صوت صادر من الخارج لكنه يُسمع في الداخل، صوت الحظر المتأخر. وبالطبع فإن الظهور المتأخر لصوت الضمير ينطوي على تنازل أخلاقي ما، يذكرنا بشرائط تسجيل المكتب البيضاوي في عهد نيكسون التي اقترح فيها تدبير مكائد شريرة أثناء مناقشة بعض الأمور المتعلقة بفضيحة ووترجيت، ثم تذكر أن الاجتماع قيد التسجيل فأضاف على عجل: «لكن هذا سيكون خطأً». وعلى الرغم من ذلك، فقد يكون صوت الحظر المتأخر أفضل من لا شيء.
تُرِك موظفو أبو غريب ليعملوا في فراغ اجتماعي ثقافي مُربِك، شبيه بذلك الذي وصفه الروائي ويليام جولدنج في روايته «أمير الذباب» والتي يتدهور فيها حال مجموعة من التلاميذ الإنجليز في ظل غياب الرقابة الاجتماعية. وكانت النزعة التوثيقية منقوصة، وعلى أحسن تقدير كانت هدفًا في حد ذاتها وليست مقدمة لفعل آخر، وكان اللجوء لوسائل الإعلام المطبوعة (عبر الحوارات الصحفية) بهدف التبرئة الذاتية أكثر منه للشهادة طبقًا لما يمليه الضمير. وأخطر ما في الأمر أن الصوت القائل «لا يمكنك القيام بذلك» يحل «محل» الضمير، لكنه لم يعد يسمى «ضميرًا» ويفتقر إلى السلطة الممنوحة للضمير في تعاليمه المتعددة. وهو لا يكفي أداة للمنع، ولم يعد يمثل «نداءً» بأي معنًى يمكن أن نتوقعه؛ حيث يوجَّه «نداء» الضمير — على الأقل في الحالة المثالية — إلى شخص فاعل من المحتمل أن يتصرف؛ أي شخص قد يُقدِمُ حقًّا على فعل شيء، بينما الأنشطة التي تمت في أبو غريب تحدث دون أي استجابة.
وبالطبع يعد سجن أبو غريب حالة محدودة، وهو أكثر مكان غير ملائم يمكن تخيله للاستماع إلى صوت الضمير أو البحث عن التوثيق طبقًا لما يمليه الضمير أو عوامل تحفيز مكتوبة للضمير. وقد عدت من هذا البحث الموجز ببعض الاكتشافات، لكنها اكتشافات ضئيلة بالفعل. وثمة أمثلة أكثر تشجيعًا يدوي فيها صوت الضمير على نحوٍ أكثر تأكيدًا في لحظات الأزمات الأخلاقية والقرارات المؤلمة. فقد ضحَّى لازانثا ويكراماتونج — وهو صحفي شجاع من سريلانكا — بحياته من أجل كشف الفساد، فكتب تقرير وداع كان شبيهًا بخطاب نعيه اختتمه قائلًا: «ثمة نداء أسمى من المنصب الرفيع والشهرة والربح والأمن، وهو نداء الضمير.» وأوضح فريد دابليو ثيل الابن — العضو الجمهوري بمجلس ولاية نيويورك — مفسرًا أسباب تصويته لصالح مشروع قانون متعثر يبيح زواج المثليين قائلًا: «ثمة صوت ضعيف داخلك يخبرك متى فعلت شيئًا صحيحًا ومتى فعلت شيئًا خاطئًا … وظل هذا الصوت الضعيف يزعجني.» وصرح سلمان تيسير حاكم إقليم البنجاب في باكستان في مقابلة تليفزيونية يوم الأول من يناير عام ٢٠١١ قائلًا: «إن لم أؤيد ضميري، فمن سيفعل؟» وذلك قبل ثلاثة أيام من اغتياله. كذلك أوضح آن كاو عضو الكونجرس الجمهوري الوحيد الذي صوَّت لصالح مشروع قانون الرعاية الصحية الأمريكي الذي أثيرت حوله معركة — والذي هزم في الانتخابات التالية — قائلًا: «كان عليَّ أن أتخذ قرارًا طبقًا لما يمليه عليَّ ضميري بِناءً على احتياجات أهالي دائرتي.» وثمة آخرون يتخذون يوميًّا قرارات صعبة من أجل الضمير، لكن صوت الضمير — كما حدث في أبو غريب — لا يُسمع غالبًا إلا خافتًا مشتتًا، وتخمد طاقته على التغيير وتتبدد وتضيع.
ربما كان الضمير دائمًا في أزمة، وسبب الأزمة قبل كل شيء هو الوسط الذي يعيش فيه ويُستدعى فيه فيصل أو يخفق في الوصول. لكن الضمير اليوم، نظرًا لانفصاله عن جذوره التقليدية في الفضيلة الرومانية والأخلاقيات المسيحية وفلسفة التنوير، وانجرافه في عالم يحفل بحوادث الانتهاك، قد يكون مهددًا أكثر من أي وقت مضى. لقد اعترفت بالفعل أن الضمير يعاني مما قد يطلق عليه «مشكلة هوية»، فهو لا يملك أي مضمون ثابت أو متأصل خاص به، وقد يُحفَّز للدفاع عن موقف ما أو الموقف المضاد له على حدٍّ سواء. وثمة مجتمعات أخرى أدت مهامها من الناحية الأخلاقية بلا أي ضمير على الإطلاق. فما الذي نفقده حقًّا إذن إن وجدنا أنفسنا بلا ضمير مثل شخصية أنطونيو في مسرحية شكسبير الذي لم يشعر قط بوجود هذا الكيان المقدس داخل صدره وكان يعتبره أقل أهمية من تورم إصبع قدمه؟
ليس الشخص المحافظ على الأخلاق بحاجة إلى مفردات الضمير أو تعاليمه كي يشعر بالصدمة والاستياء لرؤية إنسان عارٍ مقيد مغطَّى الرأس يتعرض للتعذيب بمعزل عن الدعم البشري وعرضة لكل أشكال السخط والسخرية، فبالطبع سوف يستنكر كل فرد محترم أخلاقيًّا في «أي» مجتمع ذلك المشهد معبرًا عن ذلك بالكلمات والمفاهيم المتاحة في ثقافته. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن القول إن التعاليم الغربية للضمير قد أيدت مرتكبي هذه الجرائم البشعة في سجن أبو غريب، سواءٌ في حالة المجندين الفاسدين الذين كان سلوكهم مخزيًا وحقيرًا إلى أقصى درجة، أو الضباط، أو تساهل الحكومة مع تلك الأفعال أو حتى تشجيعها لها. لكن يظل الضمير هو المجال الأخلاقي الذي تستند إليه في الغالب صرخات الغضب، وذلك بالنسبة للتعاليم الأنجلو أمريكية والأوروبية. وعندما تضعف تعاليم الضمير ويخفت صوته أو لا يُسمع مثلما حدث في أبو غريب، سوف نصبح الأفقر أخلاقيًّا.
كنت قد أشرت في نهاية الفصل السابق إلى أن قوة الضمير الخاصة تكمن في التزامه بالفعل الإصلاحي، وإذا ما قيَّمنا سجن أبو غريب بهذا المقياس، فسيتحتم علينا بالطبع أن نحكم على أبو غريب بالفشل الذريع. لم يتم عقاب أي مسئول عالي الرتبة؛ وأُغلق السجن ثم أعيد فتحه تحت رعاية جهة أخرى؛ وأقرت الإدارة الأمريكية الحالية صورًا جديدة من الاعتقال الجبري؛ ولا يعلم أحد ما الذي حل ﺑ «سائق سيارة الأجرة» الذي كان يتعرض للتعذيب. وكي يزدهر الضمير ويكون على مستوى أفضل تعاليمه وأقواها، يجب ألا يقتصر على أحاسيس بُغض الخطأ الفطرية، بل عليه أن يتعلم من جديدٍ القدرةَ على التعبير عن نفسه من خلال الأفعال أيضًا.