ومن يهدد السلام الاجتماعي في مصر؟
وماذا فعلت جمعية تضامن المرأة العربية أو مجلتها أو نشرتها لتهديد السلام الاجتماعي في مصر؟
وهل يمكن لأحد أن يتهم الجمعية بأنها تضر بمصالح البلاد، وتهدد السلام الاجتماعي في حين أنها كانت تبادر دائمًا للعمل على مقاومة الفتنة التي كانت تهدد وحدة الوطن والسلام الاجتماعي؟!
وعكس ما جاء في التقرير (السري جدًّا) لوزارة الشئون الاجتماعية، فإن جمعية تضامن المرأة العربية كانت تلعب دائمًا دورًا رياديًّا من أجل وحدة الوطن أو السلام الاجتماعي.
فقد بادرت جمعية تضامن المرأة العربية بالتحرك الشعبي في مواجهة هذه الفتنة عام ١٩٨٧م، ودعت إلى اجتماع شعبي كبير بالتعاون مع المنظمة المصرية لحقوق الإنسان (تحت التأسيس)، وعُقد الاجتماع في القاعة الكبرى لجامعة الدول العربية يوم ٢٣ مارس ١٩٨٧م وحضره ما يقرب من ٤٠٠ شخصية من المثقفين والمفكرين في مصر، رجالًا ونساءً، مسلمين وأقباطًا. ووصل منصة الاجتماع عدد من الرسائل من كبار الكتاب في مصر منهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم.
وبعد أحداث «أبو قرقاص» عام ١٩٩٠م، بادرت جمعية تضامن المرأة العربية مع الجمعية المصرية للتنوير بعقد اجتماع كبير في مقرها، حضره ما يقرب من مائتي شخصية عامة من مختلف الأحزاب والاتجاهات للدفاع عن الوحدة الوطنية. عُقد الاجتماع يوم ٢٢ مارس ١٩٩٠م وتلته عدة اجتماعات أخرى، ثم تشكلت الهيئة التأسيسية للجمعية المصرية للوحدة الوطنية من ١٤٩ شخصية مصرية من الرجال والنساء.
- (١)
د. عاصم الدسوقي؛ رئيسًا.
- (٢)
د. نوال السعداوي؛ نائب رئيس.
- (٣)
المستشار وليم قلادة؛ نائب رئيس.
- (٤)
د. فرج فودة؛ سكرتيرًا عامًّا.
- (٥)
أ. ماجد عطية؛ سكرتيرًا عامًّا مساعدًا.
- (٦)
د. علي فهمي؛ أمين الصندوق.
- (٧)
د. ميلاد حنا؛ عضوًا.
- (٨)
د. حازم الببلاوي؛ عضوًا.
- (٩)
د. جلال أمين؛ عضوًا.
- (١٠)
د. يونان لبيب رزق؛ عضوًا.
- (١١)
أ. محمد عودة؛ عضوًا.
- (١٢)
أ. نادية رمسيس؛ عضوًا.
- (١٣)
د. شهيدة الباز؛ عضوًا.
- (١٤)
أ. نعم الباز؛ عضوًا.
- (١٥)
د. حسن حنفي؛ عضوًا.
وكان يمكن لهذه المبادرة الشعبية غير الحكومية أن تلعب دورًا كبيرًا لعلاج تلك المشكلة التي بدأت تتزايد بشكل خطير وتهدد السلام الاجتماعي في مصر.
لكن وزارة الشئون الاجتماعية تربصت لهذه المبادرة وقتلتها في مهدها عن طريق رفض إعطائها التصريح الرسمي أو التسجيل اللازم للعمل والنشاط. فمن الذي يهدد السلام الاجتماعي في مصر؟!
ومن الذي يعرقل المبادرات الشعبية للمشاركة في حل المشاكل التي يتعرض لها الوطن؟
وهل يمكن علاج ما سميت مشكلة الفتنة الطائفية عن طريق الأمن والبوليس؟!
وهل يمكن أن تحل أي مشكلة دون أن نعرف أسبابها الحقيقية؟ ونسأل أنفسنا لماذا؟ هل التساؤل محرم؟!
إن قاموس الآداب العامة منذ طفولتنا يعتبر كلمة «لماذا» محرمة. والطفل الذي يسأل كثيرًا مشاغب وقليل التربية. وإذا سأل الطفل سؤالًا فقد يكون الجواب صفعة أو كلمة توبيخ أو على الأقل الصمت.
إن معظم مشاكلنا وأزماتنا ليست إلا أسئلة لم نحاول الإجابة عنها أصلًا، لأننا نخاف منذ الطفولة من التساؤل؛ خاصة إذا كان الأمر يتعلق بسلطة أكبر منا، وبالتالي تعودنا على عدم التساؤل أو اعتبار التساؤل نوعًا من قلة الأدب، وعدم مراعاة الآداب العامة.
ولأن المعرفة تبدأ بالسؤال، فقد فقدنا الوعي بأهمية أن نسأل لنعرف، واكتفينا بعلاج ظواهر المشاكل دون أسبابها، أو خلق أسباب وهمية لأزمات حقيقية.
وفي هذه المشكلة الملحة المتكررة التي أطلق عليها الفتنة الطائفية والتي تهدد السلام الاجتماعي فعلًا، ماذا حدث؟ وكيف عولجت؟ عن طريق الأمن والبوليس أم عن طريق البحث عن أسبابها الحقيقية وعلاجها؟!
لم نكن نرى أن سياسة الأمن أو البوليس، أو سياسة التغطية على الأسباب الحقيقية للأزمة هي الحل الصحيح.
كنا نرى أن الأمر يحتاج إلى وعي ومعرفة وصدق وصراحة في معالجة الأمور، وأن تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي والثقافي والإعلامي من أهم الأسباب المفجرة للأزمة. وأن علاج هذه الأسباب هو مسئولية السلطة الحاكمة، ومسئولية الجمعيات الأهلية والشعبية ولكن وزارة الشئون الاجتماعية وقانون الجمعيات كان يقف دائمًا عقبة أمام أي نشاط.
كنا ندرك أن الفقر والبطالة يدفعان أعدادًا متزايدة من الشباب المصري إلى اليأس والإحباط وعدم القدرة على العمل أو السكن أو الزواج أو حتى الترفيه البريء.
وإلى من يلجأ هؤلاء إذا عجزت السلطة الحاكمة عن تلبية حاجاتهم الضرورية؟ ألا يلجئون إلى السلطة الدينية الأعلى وهي: الله؟!
وكيف تعالج السلطة الحاكمة هذه المشكلة؟! عن طريق الأمن والبوليس؟ عن طريق تملق بعض الجماعات الدينية ضد جماعات أخرى دينية؟! أي إحداث فتنة داخل الفتنة! على غرار «فرق تسد»! أو عن طريق سحب سجادة الدين من تحت أقدامهم بمضاعفة الجرعات الدينية في أجهزة الإعلام والصحف؟
عن طريق تقديم كباش فداء لإرضاء بعض الجماعات الدينية المسيطرة داخليًّا أو في بلاد النفط؟!
يكفي أن نقرأ جزءًا من التقرير (السري جدًّا) الذي كتبه السيد المدير العام بوزارة الشئون الاجتماعية لندرك أن جمعية تضامن المرأة العربية أو مجلة نون قد أصبحت كبش فداء تقدم لإرضاء بعض القوى السياسية والدينية. ويحاولون حصرها في قلة قليلة يطلق عليها اسم القلة «المنحرفة»، وفي عهد السادات أُطلق عليها «قلة مشاغبة» أو «انتفاضة حرامية» أو «قلة متآمرة على صلة بجهات أجنبية».
إن المشكلة في جوهرها ليست قلة منحرفة وليست مجرد عداء بين بعض المسلمين وبعض الأقباط في الصعيد، ولكنها مشكلة عامة خطيرة، تشمل قطاعات تتسع من الشعب المصري.
وتحاول أجهزة الأمن أن تصور هذه المشكلة العامة على أنها مشكلة محدودة قاصرة على عداء ما، بين أسرة مسلمة وأخرى مسيحية، وهكذا يقدم بعض الأقباط كباش فداء لتمرير الأزمة، ووضع المرهم على الجروح. يصبح «العدو» هو «القبطي» وليس ذلك الفقر العام، أو الظلم العام المسئول عنه السلطة الحاكمة. يصبح «القبطي» العدو الأسهل منالًا!
(١) كبش الفداء والأحكام المعكوسة
كبش الفداء يكون دائمًا الأضعف، من الأقليات أو من الجنس الآخر الذي لا يحميه القانون أو الشرع. وهكذا تصبح «المرأة» كبش فداء أيضًا.
وكم قرأنا على لسان المسئولين في الدولة، وغير المسئولين عن الأزمات التي نمر بها — سواء كانت مخدرات وإدمان أو فساد الأخلاق أو رشوة أو انحراف الأبناء والبنات أو الاغتصاب — قولهم إن سببها هي «المرأة» لأنها لا ترتدي الحجاب، أو النقاب، أو لأنها تخرج من بيتها إلى العمل، أو لأنها تؤلف الكتب وتنشئ الجمعيات النسائية التي تحاول تحرير المرأة.
تصبح كلمة تحرير المرأة ضد الأخلاق والآداب العامة. بل إن مجرد الدفاع عن حق المرأة السعودية في قيادة سيارتها يعتبر انحرافًا أخلاقيًّا جسيمًا، وهكذا تقدم بعض القيادات النسائية في بلادنا كباش فداء.
وأنا أعلم أنني أصبحت كبش فداء في هذه المعركة غير المتكافئة، وأنني الخاسرة في هذه المعركة التي لا أملك فيها إلا قلمي.
لكن ما هي معايير المكسب والخسارة؟! هل إذا خسرت نفسي وكسبت العالم أصبح الرابحة؟! بالطبع لا!
وكم تنقلب الأحكام رأسًا على عقب لمجرد موت الحاكم، خلال حكم السادات كتب أحد كبار النقاد في مصر مقالًا يهاجم أعمالي الأدبية في عام ١٩٧٩م ويقول إنها لا تساوي شيئًا. بعد موت السادات انقلب هذا الناقد على عقبيه وكتب مقالًا في عام ١٩٨٥م يجعلني واحدة من أهم الكاتبات العربيات، بل في العالم أجمع، ولكن بعد حرب الخليج انقلب هذا على نفسه وأعلن في إحدى الصحف عام ١٩٩٢م، أن مصر لن تنجب كاتبة واحدة لها قيمة، وحين واجهه بعض الصحفيين بالسؤال، وماذا عن نوال السعداوي؟ صمت طويلًا ثم قال: إن ما تكتبه لا يدخل ضمن الإبداع النسائي، وقد نالت شهرتها لأنها تكتب عن «الجنس»، ومطَّ شفتيه علامة أن «الجنس» شيءٌ مقزز.
وقد التقيت صدفة بهذا الناقد الكبير، وأنا أمشي في شارع قصر العيني، فسلم عليَّ وقال لي بعض المديح (أو النفاق)، وحين سألته عن الكتب التي قرأها لي، اكتشفت أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا. ظل يجهد ذاكرته ويتطلع نحو السماء ساعيًا إلى تذكر عنوان واحد لكتبي فلا يجد. لم يكن قد قرأ شيئًا على الإطلاق، إلا بعض المقالات عني في الصحف.
إن صورة هذا الناقد الكبير تطالعنا كل صباح في إحدى الصحف المصرية الكبرى، وهو في نظر السلطة الحاكمة وأجهزة الثقافة والإعلام أحد قادة الأدب والفكر وواحد من الذين يشكلون الرأي العام في مصر والعالم العربي.
وقد كان يوسف إدريس زميلًا لي في كلية الطب، وبعد أن اشتهر اسمه في عالم الأدب قال لي: مشكلة نوال السعداوي أنها لا تعرف كيف تتعامل مع مؤسسة الرئاسة؟! ولا يمكن أن تحصلي على لقب «كاتبة كبيرة» دون ضوء أخضر من هذه السلطة العليا!
ولم آخذ أبدًا بنصيحة زميلي يوسف إدريس، وهو أديب قدير، وقد أصبح أديبًا قديرًا دون حاجة إلى مؤسسة الرئاسة، بل إني أعتقد أن إنتاجه الأدبي قد شحَّ إلى حدٍّ كبير منذ بدأ يتبع تلك النصيحة التي أبداها لي.
إن الأديب أو الأديبة ليس في حاجة إلى لقب «كاتب كبير»، وليس في حاجة إلى جوائز من الدولة، أو أي جوائز أخرى وإن كانت هي جائزة نوبل.
ولم أحضر الحفل. وغضب عليَّ بالطبع وزير الثقافة وموظفي الدولة، ولكن الأصدقاء والصديقات اعتبروا غيابي عن الحفل وسامًا فوق صدري.
(٢) الطريق الصعب
الطريق الذي أسير فيه ضد التيار السائد طريق صعب بلا شك، لكني أتبع المثل الذي سمعته من أبي وأنا طفلة: «احترمت نفسي حين خيَّرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب.»
هذا ما جناه أبي عليَّ، وقد جنيت أيضًا على أبنائي وبناتي وكل من قرأ كتبي. لكني أقول لهم: الطريق صعب لكنه ممتع.
هل هناك شيء أكثر إمتاعًا من أن يشعر الإنسان أنه قادر على إلقاء حجر صغير في الماء الراكد؟!
أن يحرك العقول كي تفكر بطريقة جديدة، وأن يحرك القلوب كي تشعر وتحس بما حولها من قيود وظلم؟!
ربما هو حلم من أحلام الطفولة أن يصبح العالم من حولي أكثر جمالًا وأكثر عدالة. إنه أجمل الأحلام وأعزها على نفسي، ولست مستعدة لكي استبدل بهذا الحلم مال الدنيا أو زينتها أو عروشها!
أي حلم خطير! فهو يكشف عن بؤر الفساد في المجتمع، وهو يعرض صاحبته أو صاحبه للمطاردة أو الإدانة أو الاتهام.
وهل أنا وحدي التي تعرضت لهذه المطاردة؟! ألسنا نرى معاول الهدم والإدانة والاتهام والتشكيك تتناول معظم الرموز الفكرية في بلادنا وخاصة المستنيرين منهم والمبدعين؟!
وهذا الكتاب الذي أقدمه الآن ليس إلا نداءً واضحًا وصريحًا للعقول الواعية في بلادنا. أن يقفوا مع أنفسهم وقفة تأمل، أن يتأملوا ما يحدث في بلادنا من قيم معكوسة ومطاردة لكل صاحب فكر أو صاحبة فكر، أن يعيدوا النظر في موقفهم، أهو موقف الصمت؟ وأن يعيدوا النظر في تلك القوانين المتعارضة مع الدستور مثل قانون الجمعيات وقانون الصحافة وغيرها من القوانين المقيدة للحريات.
(٣) إذا لم يكن لنا رأي فماذا يكون؟
إن جمعية تضامن المرأة العربية المشهرة بوزارة الشئون الاجتماعية جمعية أهلية غير حكومية، فلماذا تعاقب الجمعية إذا عبرت عن رأي مخالف للأجهزة الحكومية؟! وما الفرق بين جمعية أهلية غير حكومية ومؤسسة حكومية؟!
وإذا كان الدستور المصري يعطي المصريين والمصريات حق إبداء الرأي الحر المستقل فكيف يأتي قانون الجمعيات رقم ٣٢ لسنة ١٩٦٤م فيسلب من المصريين والمصريات هذا الحق لمجرد أنهم أصبحوا أعضاء في جمعية أهلية؟!
وإذا كان الرأي الذي تعبر عنه الجماعة أو الفرد مجرد رأي، استخدمت فيه الوسائل المشروعة مثل الكتابة مثلًا أو القلم وليس السيف أو الجنازير الحديدية، فماذا يغضب وزارة الشئون الاجتماعية في هذا؟ وكيف يمكن لهذه الوزارة أن تحرم المجادلة في الأمور السياسية والدينية، مجرد المجادلة، لأن هناك بندًا (رقم ٣) من اللائحة الأساسية لقانون الجمعيات يقول هذا؟ وإذا كان هذا البند قد كتب في عام ١٩٦٤م، أي منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، فلماذا يظل هذا البند موجودًا؟
ولماذا تطبق وزارة الشئون هذا البند على جمعية دون الأخرى؟ ومن الذي يحدد ما هو الممنوع؟ وما هو غير الممنوع من الأمور السياسية والدينية؟!
هل إذا قلنا إن تعدد الزوجات يؤدي إلى تفكيك الأسرة وتشريد الأطفال، فإن معنى ذلك أننا ضد الشريعة وأننا وقعنا في المحظور؟!
وهل إذا قلنا إن النظام العالمي الجديد يكيل بمكيالين، لأنه يطبق الشريعة الدولية على العراق وليبيا ولا يطبقها على إسرائيل، فإن معنى ذلك أننا ضد مصالح بلادنا وأننا وقعنا في المحظور؟! وإذا تساءلنا عن المستقبل فهل معنى ذلك أننا ضد الإسلام؟!
إن المستقبل ليس هو الغيب المجهول الذي إذا حاولنا استكشافه أصبحنا كافرين وضد الشريعة. فالدين الإسلامي طلب منا استخدام عقولنا لنصنع لأنفسنا مستقبلًا أفضل أكثر عدالة وحرية ومعرفة.
واستكشاف المستقبل يبدأ بالتساؤل ماذا نفعل في الغد؟ هذا السؤال ليس اجتراء على الدين أو انتهاكًا لحرمة الغيب الذي هو من أمر الله، وإنما هو محاولة للمعرفة والفهم ودراسة الماضي والحاضر من أجل صنع مستقبل أفضل.
إن المستقبل ليس ثمرة تقع وحدها من فوق شجرة، ثم تسقط في أفواهنا، دون أن نفعل شيئًا. بل هو الثمرة التي نصنعها بجهودنا كل يوم وكل خطوة وكل حركة، نقوم بها نحو الأمام أو نحو مزيد من المعرفة، والمعرفة لا تكون بغير الحرية.
وهل إذا نظمنا ندوة حول المرأة والمستقبل وتساءلنا مجرد سؤال: ماذا يكون عليه قانون الأسرة في المستقبل؟ هل نكون بذلك ضد الشريعة وضد الدين وأننا وقعنا في المحظور؟
وماذا يبقى لنا — ونحن جمعية هدفها الأول حسب قانونها الأساسي هو عمل أنشطة علمية ثقافية دينية — إذا لم نناقش ما الذي نفعله لنضع مستقبلًا أفضل للأسرة والمجتمع؟!
وإذا لم يكن لنا رأي مختلف عن رأي وزارة الشئون في هذه الأمور، فلماذا نكون جمعية ثقافية، ولماذا لا ننضم جميعًا إلى زمرة موظفي وزارة الشئون؟
وإذا أرادت وزارة الشئون أن تحرمنا من حقنا في المناقشة وإبداء الرأي الحر، فماذا يبقى لنا من كرامة الإنسان؟
وهل هناك عبودية أكثر من أن يصبح الإنسان المصري بلا رأي مستقل عن وزارة الشئون الاجتماعية؟! وهل يمكن أن تكون هناك أخلاق أو آداب عامة في ظل هذه العبودية؟!
نحن نمر بأزمة طاحنة في جميع المجالات ومنها المجال الثقافي والإعلامي، وعلينا ألا نقف مكتوفي الأيدي، مطبقي الأفواه، ثم بعد ذلك نلوم غيرنا ونتهمهم بالقصور.
لن يغير من أحوالنا إلا ما نفعله بأنفسنا، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
(٤) أليست المعارضة مشروعة؟
ولماذا تحرم وزارة الشئون علينا التعبير عن رأينا المخالف لرأي الحكومة؟ أليست الديمقراطية هي المبدأ الأساسي الذي تسير عليه الدولة المصرية؟ وهل يمكن أن تكون ديمقراطية حقيقية دون أن تمارس الهيئات الشعبية والجمعيات الأهلية حقها في الجدل والنقاش؟
ثم كيف تقف وزارة الشئون الاجتماعية عقبة في وجه أي مبادرة شعبية تهدف إلى وحدة الوطن أو الحرية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان؟!
وقد تقدمنا بطلب لإشهار جمعية الوحدة الوطنية، لكن وزارة الشئون الاجتماعية رفضت إشهار الجمعية المصرية للوحدة الوطنية، ورفعنا قضية في مجلس الدولة.
وقد رفضت وزارة الشئون الاجتماعية أن تشهر الجمعية المصرية لحقوق الإنسان، وفي مايو ١٩٨٧م تقدم أمين عام الجمعية حينئذٍ (د. شريف حتاتة) بالأوراق اللازمة لإشهارها في وزارة الشئون الاجتماعية، وفي يوم ١٩ / ١١ / ١٩٨٧م جاء الرد من مديرية الشئون الاجتماعية بالجيزة برفض إشهار الجمعية المصرية لحقوق الإنسان، ورُفعت قضية في مجلس الدولة.
لا شك أن قانون الجمعيات رقم ٣٢ لعام ١٩٦٤م، والطريقة التي تدير بها وزارة الشئون الاجتماعية أمور الجمعيات في بلادنا، يتعارض مع الدستور المصري ومع مبادئ الديمقراطية والحقوق الأساسية للإنسان المصري، فمن منا الذي يهدد السلام الاجتماعي في البلاد؟! ومن منا الذي يعمل ضد مصالح مصر؟!
(٥) الديمقراطية الشكلية
إن نشوء المعارضة الشرعية في بلادنا قد تم بقرار من السادات، وقد ألزمها أن تلزم حدودًا معينة لا تتجاوزها، وحين تجاوزتها بعد معاهدة كامب ديفيد، ضربها بيد من حديد، وأدخل السجون ما يقرب من ألفين من قيادات المعارضة في مصر — رجالًا ونساءً — خلال الأسبوع الأول من سبتمبر ١٩٨١م.
ويتم كل ذلك تحت اسم الديمقراطية (على غرار الديمقراطية الغربية في الولايات المتحدة التي جعلت من العنصرية قانونًا شرعيًّا للبلاد!) فتصبح أجهزة الأمن وحدها هي الحامية للنظام، أو القوات المسلحة، وتصبح المعارضة الشكلية هي المعارضة الوحيدة الشرعية، فهي تعارض السلطة الحاكمة، لكنها لا تفقدها شرعيتها، بل تتعامل معها من خلال نظامها فتكسبها شرعية أكثر، وتضفي عليها قبولًا محليًّا ودوليًّا، ويصبح دور المعارضة امتصاص الغضب الشعبي، أو خنق الأصوات الأخرى ذات الرأي المخالف.
لكننا نرى أن هذه الديمقراطية الغربية لا يمكن أن تغطي على الأزمات إلى الأبد.
وأحداث لوس أنجلوس الأخيرة خلال هذا العام ١٩٩٢م في الولايات المتحدة الأمريكية تؤكد هذا، إن الزنوج أو السود في لوس أنجلوس (وغيرها من الولايات المتحدة الأمريكية) عاشوا الفقر والظلم والاضطهاد، وتفجرت حركاتهم من حين إلى حين منذ بداية القرن، ثم جاء حكم المحكمة بضرب السائق الزنجي الأسود، ليكون الدليل على أن الظلم أصبح قاعدة شرعية معترفًا بها.
وهكذا وقعت الأحداث في لوس أنجلوس التي قرأنا عنها في الصحف. والتي انتهت إلى لا شيء مجرد صراخ المظلومين، لكن القانون الشرعي الظالم لا يزال موجودًا وسائدًا.
والمشكلة هي الفقر والظلم معًا، أي التفرقة بين إنسان وإنسان على أساس اللون أو الجنس أو العرق، أو العقيدة. إنها القيم العبودية ذاتها التي حاربها المستعبدون على مدى العصور، وتجسدت ثوراتهم اليوم في حركات الزنوج والشباب والنساء والفقراء من شعوب العالم، وخاصة ذلك العالم المسمى بالعالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
وإذا كانت جدتي الريفية التي لم تعرف القراءة قد رفضت العبودية والظلم منذ نصف قرن، فهل تأتي حفيدتها الدكتورة الأديبة والطبيبة في نهاية هذا القرن، وتقبل ما لم تقبله الجدة الأمية؟!