محاولات تشويه السمعة
حين صدر قرار حل الجمعية، وبدأت بعض الأقلام تستنكر القرار في الصحف، قادت وزارة الشئون حملة لتشويه سمعة الجمعية ورئيستها، سواء عن طريق النشر في الصحف، أو عن طريق بعض التصريحات لعدد من كبار المسئولين.
عبر أسلاك التليفون تحدثت وزيرة الشئون الاجتماعية لأحد الزملاء من الشخصيات العامة المعروفة، والذي تصادف أن كنت معه حين كانت الوزيرة تتحدث معه عبر أسلاك التليفون، وحين وجه إليها السؤال عن كيف يمكن أن تحل جمعية مثل تضامن المرأة العربية لأسباب سياسية، فأنكرت تمامًا أن قرار الحل يرجع إلى أسباب سياسية، وبينت أن المخالفات المالية والقانونية الجسيمة هي سبب الحل.
وبعد أيام قليلة من هذه الواقعة خرجت جريدة الأخبار في صباح يوم ٢٩ يوليو ١٩٩١م تحمل بيانًا شغل مساحة كبيرة تحت مانشيت كبير هو: «لماذا حُلت جمعية تضامن المرأة العربية؟» والبيان موقع بالبنط الكبير من نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية، وهو الذي أصدر قرار الحل باسمه (يوم ١٥ / ٦ / ١٩٩٢م).
ويعلن في البيان قائلًا إن شكوى قد جاءته تقول إن للجمعية عدة حسابات بالعملة الحرة في بنوك غير بنك الجمعية الرسمي المعلن بوزارة الشئون الاجتماعية، وإن لجنة شُكِّلت لفحص هذا الموضوع، وأسفر هذا الفحص عن وجود حسابين للجمعية في بنك مصر، فرع مصطفى كامل بالعملة الأجنبية والعملة المصرية، تعمدت رئيسة الجمعية إخفاءهما عن رقابة الشئون الاجتماعية، وإن جميع الأنشطة والحسابات والأموال الخاصة بهذه الجمعية، تم إبعادها عن رقابة الشئون الاجتماعية.
وقد أرسلنا ردًّا إلى جريدة الأخبار على هذا البيان الغريب، ونُشر الرد فعلًا في يوم ٢٩ / ٧ / ١٩٩١م (الصفحة الخامسة)، بعد أن حُذفت منه بعض أجزاء ولم يشغل إلا نصف مساحة البيان الحكومي تقريبًا، واسم رئيسة الجمعية كتب بالبنط الصغير، لا تكاد تراه العين.
كانت حملة تقودها الأجهزة الحكومية، وصحافتها من خلال قنواتها المتعددة التي تملكها، لتصوير الأمر على أنه مخالفات مالية جسيمة، وليست سياسية!
ومع ذلك لم يصدق أحد من أصحاب العقول العادية (ولا أقول الذكية) مثل هذا الكلام، فالعقل العادي يقول: إذا كانت هذه المخالفات المالية جسيمة بهذا الشكل، فلماذا لم تُقدَّم رئيسة الجمعية أو المسئولون في مجلس إدارة الجمعية إلى التحقيق أو المحاكمة العلنية حتى تكون الإدانة صحيحة، وبالدلائل المادية وليس مجرد كلام إنشائي مرسل؟
أما حكم المحكمة الإدارية لمجلس الدولة، والذي نُشر في الصحف صباح يوم ٨ مايو ١٩٩٢م، فقد قضى تمامًا على هذه الشائعات، لأنه أورد ثمانية اتهامات، سبعة منها سياسية، وقد ذكرناها سابقًا.
كيف إذن أعلن السيد نائب محافظ القاهرة في الصحف من قبل، أن أسباب الحل مالية وليست سياسية؟
وكيف صرحت وزيرة الشئون الاجتماعية عبر أسلاك التليفون أن المسألة مخالفات مالية جسيمة، وليست سياسية؟!
لقد جاءت التهمة الثامنة (وهي فتح حساب في بنك مصر دون تصريح) لمجرد عدم إحراج وزارة الشئون الاجتماعية أو تكذيب بياناتها السابقة، وإن كانت التهمة واهية وبلا دليل، وقد جاءت على استحياء تتخفى في ثنايا الاتهامات السبعة الأخرى، ولم يكن ممكنًا للمحكمة الإدارية أن تفعل أكثر من ذلك، وأمامها الأوراق الرسمية المختومة بختم الدولة من وزارة الخارجية، والتي تثبت بالدليل القاطع أن الحساب في بنك مصر قد فُتح بناء على خطاب رسمي من إدارة الهيئات الدولية بوزارة الخارجية، بالإضافة إلى الأوراق الرسمية من بنك مصر، والتي تحمل تأشيرة السيد مدير عام الإدارة القانونية في البنك، والتي تؤكد أن الحساب قد فُتح بمعرفة وزارة الخارجية، ويتبع الجمعية الدولية لتضامن المرأة العربية، وهي جمعية مغايرة للجمعية المشهرة بوزارة الشئون الاجتماعية، وبالتالي لا يسري قرار التحفظ عليه.
وربما لأن محاولات تشويه السمعة قد فشلت تمامًا في هذا المجال، فقد بدءُوا البحث عن اتهامات أخرى تسيء إلى السمعة، ومن هنا ظهرت فجأة تلك التهمة الجديدة التي لم تكن واردة من قبل وهي مخالفة الآداب العامة، مما قد يوحي لمن يسمع التهمة أن الأمر فيه ما يمس الشرف أو الأخلاق!
وهذه التهمة أيضًا لم تعش لحظة واحدة؛ بل إنها ارتدت إلى مصادرها وأساءت لهم.
فمن ذا الذي يصدق أنني بعد أربعين عامًا من الكفاح ضد الازدواجية الأخلاقية والمفهوم المحدود للأخلاق والآداب، وبعد أن قدمت للمكتبة العربية ثلاثين كتابًا أنشد بها الصدق والعدل، كيف يمكن بعد كل ذلك أن يصدق أحد أنني أصدر مجلة ينشر بها مقالات ضد الآداب العامة؟!
كما أن هذه المجلة قد طبعت وقرأها الناس وأعجبوا بها، وهي موجودة بين أيديهم ليحكموا عليها بأنفسهم.
وقد اقترح عليَّ أحد الزملاء من الشخصيات العامة المعروفة أن يحدد لي موعدًا مع وزيرة الشئون الاجتماعية لمقابلتها.
وسألته: ولماذا أقابلها؟
قال: لتشرحي لها الحقيقة.
قلت: أولا تعرف هي الحقيقة؟
قال: ربما لا تعرف، وجاءتها معلومات عن الجمعية كاذبة.
قلت: ولماذا لم تتحقق من ذلك؟ لماذا لم تطلبني وتسألني؟ ولماذا لم تطلب مجلس الإدارة كله وتسأله؟ وكان في إمكانها بعد التحقيق — وإذا ثبتت أية مخالفات — أن تعاقب المسئول، فتعزل رئيسة مجلس الإدارة مثلًا، أو تحل مجلس الإدارة وتعيِّن مجلسًا آخر أو تعين مفوضًا على الجمعية … إلخ، كان يمكن اتخاذ أي إجراء من هذه الإجراءات المتبعة مع الجمعيات. أما أن تصدر قرارًا بحل الجمعية هكذا، بدون كل هذه الإجراءات السابقة؟!
واقتنع زميلي بهذا الكلام. وقال: فعلًا، لك حق، لو كان هناك حرص على بقاء الجمعية واستمرارها لما صدر مثل هذا القرار، بدون تحقيق وبدون اتخاذ الإجراءات المتبعة في هذا الشأن، قلت: إذا كان مجلس الإدارة مخطئًا مثلًا أو رئيسة الجمعية، فكيف يعاقبون جميع عضوات وأعضاء الجمعية — دون أدنى مسئولية عليهم — وكيف يحولون أموالهم إلى جمعية أخرى؟! ولماذا جمعية نساء الإسلام بالذات؟
وقال الزميل: هذا غير جائز قانونًا.
قلت: الأمر معروض على مجلس الدولة، وأرجو أن يصدر حكمًا عادلًا.
قال: هذا غير محتمل.
قلت: لماذا؟
قال: إن القوة هي التي تحكم وليس الحق.
قلت: لا أصدق.
قال: سوف ترين.
وظل صوتها يدوي في أذني طول اليوم، وهي ترفع يدها وتقول: مايت إز رايت.
وفي الحلم رأيت نفسي طفلة تحلق بين الزرع الأخضر مع الفراشات البيضاء، وصوت في أعماقي يردد كالغناء: رايت إز مايت!
وهكذا استطاعت الطفلة في الحلم أن تعكس الآية، وتجعل الحق فوق القوة.