وماذا عن حرب الخليج؟
(١) أول من يدفع وآخر من يأخذ
لا تزال نتائج حرب الخليج غير واضحة المعالم، حيث إنها لم تنتهِ بعد، وآثارها السلبية لا تزال قيد الدراسة والبحث.
إن حرب الخليج عام ١٩٩١م ليست إلا حربًا واحدة في سلسلة من الحروب والأزمات تعرضت لها المنطقة العربية خلال هذا القرن، وزادت حدة بعد احتلال فلسطين ونشوء دولة إسرائيل عام ١٩٤٨م.
وأنا واحدة من النساء العربيات، ولدت في بداية الثلاثينيات، عشت هذه الأزمات التي تعرضت لها المنطقة.
ومن أسرتي الريفية الفقيرة في القرية المطلة على النيل فقدنا عددًا غير قليل من الشباب الذين جُنِّدوا في تلك الحروب المتتالية من حرب ١٩٤٨م حتى حرب الخليج ١٩٩١م، مرورًا بحرب ١٩٥٦م (الاعتداء الثلاثي على مصر)، وحرب يونيو ١٩٦٧م، وحرب ١٩٧٣م، والبقية تأتي.
كلما سافرت إلى قريتي كفر طحلة، والتقيت بنعيمة ابنة عمتي فاطمة تسألني هذا السؤال: يا ترى فيه أخبار عن ابني؟ ابنها هذا مفقود منذ حرب يونيو ١٩٦٧م، ذهب إلى الحرب ولم يعد منذ خمسة وعشرين عامًا، وأصبح في عداد الموتى، لكنها في كل ليلة تحلم أنه يعيش أسيرًا في أحد سجون إسرائيل، وأنه سيعود إلينا يومًا.
وعمتي الأخرى التي فقدت ابنها في العراق، وقريبة لي اسمها «رسمية» فقدت ثلاثة من أبنائها في حرب الخليج، واحد قُتل في العراق، والثاني في الكويت، والثالث في السعودية، وكلما التقت بي تبكي وتقول بلهجتها العامية الريفية: مجنون مين ده اللي يخلي الشقيق يقتل شقيقه؟!
هذه القريبة «رسمية» تحسد عمتي، لأن ابنها الذي مات في العراق جاءت جثته داخل صندوق، ودفن في مدافن القرية بجوار جده وجدته. لكن رسمية لم ترَ جثة واحدة من جثث أبنائها الثلاثة. فالابن الأول كان في بغداد حين سقطت آلاف القنابل في الغارة الجوية. والابن الثاني كان في الكويت، ودفن ضمن الجنود الأحياء الذين دفنوا إبان ما سميت بالمعركة الأرضية، والابن الثالث كان في حفر الباطن بالسعودية ضمن الجنود الذين قتلوا بأحد الصواريخ.
هل يمكن أن أتحدث عن حرب الخليج والنساء العربيات دون أن أذكر وجوه هؤلاء النساء الفقيرات الحزانى والثكالى اللائي فقدن أبناءهن سواء بالموت أو الأسر أو الفقدان وبلا أمل في عودة.
لقد قُتل (حسب الإحصاءات الأخيرة) ما يزيد عن ٣٠٠٠٠٠ جندي عربي في حرب الخليج وحدها. فمن هم هؤلاء الجنود؟ أليسوا هم أبناء النساء الفقيرات في القرى والمدن الصغيرة.
وهل يذهب إلى الحرب أبناء الملوك أو الرؤساء أو الوزراء أو الطبقات الحاكمة أو الطبقات العليا؟!
أليس الدفاع عن الوطن هو مسئولية أبناء الفقراء؟! وغنائم الحرب ومكاسبها إلى أين تذهب؟! هل يأخذ منها الفقراء شيئًا؟!
كلما التقيت بنعيمة ابنة عمتي منذ فقدان ابنها في حرب ١٩٦٧م تقول: والنبي يا دكتورة تساعديني أنا دايخة السبع دوخات.
كانت نعيمة — المرأة الريفية الفقيرة التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة — قد سمعت أن تعويضًا ما يُدفع عن المفقودين في الحرب، وأرادت مني (بصفتي أعيش في القاهرة ودكتورة متعلمة) أن أساعدها في الحصول على التعويض.
ولكني لم أستطع أن أساعدها في شيء. أنا نفسي كنت أدوخ الدوخات السبع رغم كوني متعلمة ودكتورة.
(٢) أسباب الحرب
لقد عبرت عن رأيي بوضوح في الصحف المصرية والعربية، إنني أخالف الرأي القائل بأن حرب الخليج هي الحل الوحيد للصراع العراقي-الكويتي. كنت أرى ضمن الكثيرين من أصحاب الرأي أن الحل السلمي كان يمكن أن يكون لو أرادت الولايات المتحدة الأمريكية ذلك، ولو استطاعت الأمم المتحدة أن تفرض رأيها على الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد نشرت رأيي في عدد من الصحف، وكتبت في نشرة تضامن المرأة العربية (عدد نوفمبر ١٩٩٠م) أقول:
- (أ)
كان معروفًا أن هذه الحرب، هي حرب النفط الثانية بعد حرب ١٩٧٣م، وأن جيش الولايات المتحدة الأمريكية وجيوش ما أطلق عليهم الحلفاء، قد استعدت تمامًا لقتل الآلاف أو الملايين من أجل البترول وتأمين مصالحها في المنطقة العربية.
وبعيدًا عن الشعارات الظاهرية التي رفعت إبان الحرب مثل: تحرير الكويت، حقوق الإنسان، الديمقراطية، الشرعية الدولية، تنفيذ قرارات الأمم المتحدة … إلخ، فقد كان مفهومًا تمامًا أن الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد أوروبا الغربية ليست جادة في هذه الشعارات، وإلا فلماذا تحمي أنظمة غير ديمقراطية لا تحترم حقوق الإنسان مثل السعودية والكويت؟! ولماذا تحمي أنظمة لا تحترم الشرعية الدولية ولا قرارات الأمم المتحدة مثل إسرائيل؟!
هذه القوى العسكرية الصناعية الغربية، وما أطلق عليها «الاستعمار الجديد»، لم تكن تنظر إلى المنطقة العربية إلا باعتبارها مخزنًا للنفط، أو محطة بترول، يجب أن تأخذ منها ما تشاء من كميات في أي وقت، وبالأسعار الرخيصة التي تحددها وليست التي تحددها الدول المصدرة للبترول التي أطلق عليها OPEC. - (ب)
والمعروف أن أغلب الحكام العرب أو الحكومات العربية كانت جزءًا من هذه القوى المتعاونة مع الاستعمار الجديد، رغم الشعارات الظاهرية التي تنشر في الصحف عن الوحدة العربية أو الإسلامية، وتحرير فلسطين ولبنان ومقاومة الاستعمار القديم والجديد والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان … إلخ.
ومن المعروف كذلك أن أغلب الحكومات العربية ترفع شعارات غير حقيقية، وأنها تعلن ما لا تبطن، وأنها أنظمة استبدادية تبطش بمن يخالفها الرأي، مجرد التعبير عن رأي مختلف.
هكذا ندرك أن حرب الخليج كانت لها أسباب خارجية (الاستعمار الجديد) وأسباب داخلية (دكتاتورية الأنظمة العربية، وتعاون أغلب حكامها مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها).
لم تكن حرب الخليج في صالح أية دولة عربية. إنها هزيمة لجميع البلاد بما فيها الكويت والسعودية.
أما هزيمة العراق فهي أشد، وأعتقد أن المسئول الأول عن هزيمة العراق هو حاكم العراق (صدام حسين)، فقد عرَّض الشعب العراقي لأهوال الحرب مع إيران، ثم كارثة حرب الخليج.
ومنذ البداية طالبنا بانسحاب القوات العراقية من الكويت، وانسحاب جميع القوات الأجنبية من الخليج. وهذا واضح من البيان الذي أصدرته النساء العربيات في ندوة الصحافة النسائية خلال سبتمبر ١٩٩٠م، والذي قالت عنه وزارة الشئون الاجتماعية إنه مخالف للموقف الرسمي للحكومة المصرية.
(٣) جهود النساء لمنع الحرب
خلال أزمة الخليج كنت عضوًا في الوفد النسائي العالمي — برئاسة مارجريت باباندرو — الذي زار العراق خلال الأسبوع الأول من يناير ١٩٩١م، قبل وقوع الحرب مباشرة. دفعنا إلى ذلك حلم أشبه بالخيال، أن النساء يمكن أن تمنع وقوع الحرب.
لكن قرار الحرب كان قد صدر قبل ذلك بأعوام، ولم تكن هناك قوة في العالم تمنع هذه الحرب، أو أي حرب سابقة أو لاحقة.
إنها خطة استعمارية منذ بداية هذا القرن تستهدف موارد المنطقة من البترول وغيره من الثروات الطبيعية.
وكم بذلنا من جهود طوال شتاء عام ١٩٩١م لنوقف الحرب التي بدأت خلال يناير. عقدنا في الأسبوع الأول من فبراير مؤتمرًا نسائيًّا دوليًّا كبيرًا في مدينة جينيف، دعا إليه الاتحاد النسائي العالمي للسلام والحرية برئاسة أديث بالانتاي، وتقرر إرسال وفد نسائي إلى نيويورك لمقابلة السكرتير العام للأمم المتحدة، ومطالبته بالاستقالة لخضوعه للولايات المتحدة الأمريكية، وخرقه لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على حل الصراعات الإقليمية بالوسائل السلمية وليس العنف.
وقام الوفد النسائي العالمي بعدة جولات في أوروبا والولايات المتحدة، وعقدت الاجتماعات من أجل إيقاف الحرب. والتقى الوفد النسائي في نيويورك بالسكرتير العام للأمم المتحدة خلال مارس ١٩٩١م برئاسة فرجينا سترومنبرج، وكتبت له رسالة أطلب منه الاستقالة في ١٠ مارس ١٩٩٢م، ولم نكف عن الحركة على مدى بضعة شهور.
وكانت المظاهرات في الولايات المتحدة وأوروبا تنادي بإيقاف الحرب، وخرجت الآلاف من النساء والرجال والشباب والأطفال في مختلف أنحاء العالم يهتفون: «أوقفوا الحرب!» لكن جميع هذه الجهود الشعبية ذهبت هباءً!
ذلك أن القانون العالمي قائم على قانون الغابة: أن الغلبة لمن يملك السلاح العسكري والقوة التكنولوجية، وليس لمن يملك الحق. إننا محكومون عالميًّا بمؤسسة عسكرية صناعية ونظام طبقي أبوي يطلق عليه اليوم اسم «النظام العالمي الجديد»، وهو ليس جديدًا، بل هو قديم قدم الأنظمة الطبقية الأبوية منذ المرحلة العبودية.
وفي الحرب، أكثر الضحايا نساء وأطفال وفقراء، ومن الذي ذهب إلى حرب الخليج من الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا أو فرنسا أو غيرها من الجيوش الثلاثين؟! أليسوا هم أيضًا أبناء الفقراء في تلك البلاد؟ ألم يكن أغلب الجنود الأمريكيين في حرب الخليج من المجندين السود ومن آلاف المجندات من النساء الأمريكيات.
النساء والفقراء هما العملة الرخيصة في الحروب والأزمات، أول من يدفع وآخر من يأخذ. سُنة القانون الاجتماعي السياسي السائد في عصرنا الحديث.
(٤) النساء السعوديات أثناء حرب الخليج
حدث خلال حرب الخليج أن التحق عدد من الرجال السعوديين بالقوات المسلحة بجبهات القتال ضد العراق. وهكذا وجدت بعض النساء السعوديات أنفسهن وحيدات في مواجهة المسئوليات التي كان يقوم بها الرجال، ومن أهم هذه المسئوليات توصيل الأطفال إلى المدرسة بالسيارة. كان الزوج هو الذي يقود السيارة أو سائق رجل بأجر مدفوع، حيث إن القانون السعودي يمنع المرأة من قيادة السيارة، ولا يسمح لها بالحصول على رخصة قيادة.
لكن الزوج ذهب إلى جبهة القتال، والسائق أيضًا جندوه في الحرب ضد العراق. فهل يتخلف الأطفال عن الذهاب إلى المدارس أو تتولى المرأة قيادة السيارة بنفسها؟!
وكانت المرأة السعودية ترى المجندات الأمريكيات، وهن يقدن السيارات ويقاتلن إلى جانب الرجال على حين تقبع هي وراء الحجاب، وتعجز عن قيادة سيارتها لتوصيل أطفالها إلى المدرسة، وتضطر إلى استئجار سائق أجنبي تدفع له راتبًا ضخمًا.
وهكذا وفي ٦ نوفمبر ١٩٩٠م خرجت حوالي خمسين امرأة سعودية في مظاهرة سلمية يقدن سياراتهن، ويكتبن بيانًا للسلطة الحاكمة يطالبن فيه برخصة قيادة سيارة.
وعن مظاهرة المرأة السعودية كتبت: إن مظاهرة النساء السعوديات منطقية تمامًا، وخروجهن إلى السيارات يقدنها بدون رخصة، ويطالبن برخص هو عين العقل والحكمة وعين الإسلام، وقد سمح الإسلام في عهد الرسول للمرأة بقيادة الدابة وركوبها في الحرب، وكم من امرأة مسلمة عظيمة ركبت الدابة وحاربت بالسيف وسقطت جريحة، فهل قيادة الدابة تعتبر من الإسلام وقيادة السيارة ضد الإسلام؟! وما الفرق بين الدابة والسيارة؟ الفرق الوحيد أن الدابة أصبحت تدب بأربع عجلات، فما علاقة الإسلام بهذا ما دامت المركبة تسير وتحمل المرأة بل إن السيارة لها سقف!
وقد قرأت البيان الذي أصدره بعض المسئولين الرجال في السعودية، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد). يا إلهي أي مناصب هامة يشغلها ليوجه الرأي العام في السعودية! يقول: «إن قيادة المرأة للسيارة يتنافى مع السلوك الإسلامي القويم الذي يتمتع به المواطن السعودي الغيور على محارمه» (ص٢٩، نشرة تضامن المرأة العربية، عدد نوفمبر ١٩٩٠م).
هذا هو رأي الشيخ ابن باز ورؤيته للإسلام والسلوك الإسلامي القويم، وهذه هي الشخصية الدينية الكبيرة التي أشار إليها المدير العام بوزارة الشئون الاجتماعية في تقريره ضدي وضد نشرة الجمعية!
(٥) ضحايا الحرب
وقد بلغت المرأة العراقية درجة كبيرة نسبيًّا في التعليم والعمل بأجر، لكنها ظلت هامشية فيما يخص القضايا السياسية الكبرى، ومنها الحرب. وقد عانت نساء العراق من حرب دامت ثماني سنوات ضد إيران فقدن فيها الآلاف من الأبناء والأزواج والآباء والإخوة. أصبح عدد النساء في العراق أكثر من عدد الرجال. وهكذا حدثت انتكاسة في قانون الأسرة العراقي، الذي كان يمنع تعدد الزوجات، فإذا بقانون جديد يبيح تعدد الزوجات بعد الحرب ضد إيران.
أما نتائج حرب الخليج على نساء العراق وأطفالهن فأمر لا يمكن وصفه بكلمات فوق الورق، ولسوف يكشف التاريخ حتمًا عن تلك القوى اللاإنسانية التي تحاصر شعب العراق (تحت اسم الشرعية الدولية والأمم المتحدة)، وتدفعه إلى الموت بسبب نقصان الطعام والماء والدواء.
وفي الكويت عانت النساء من حرب الخليج، وخاصة الفقيرات أو العاملات. أما نساء الطبقة الحاكمة من الأميرات فقد استطعن مع الأمراء أن يركبن الطائرات الخاصة ويهربن من مآسي الحرب، ويعشن حياة النعيم في الفنادق (خمسة نجوم) في باريس ولندن ونيويورك وجينيف والقاهرة وغيرها!
إن حق الانتخاب مكفول في الكويت للرجال فقط فوق ٢١ سنة، القادرين على القراءة والكتابة فقط، وهؤلاء يعتبرون مواطنين من الدرجة الأولى، مقارنة بالآخرين الذين استوطنوا الكويت قبل سنة ١٩٢٠م. وهذا يعني أن ٤٪ فقط من سكان الكويت لهم حق الانتخاب، وكلهم من الرجال فقط.
إلا أن نساء الكويت أحسن حالًا من نساء السعودية اللائي ليس لهن حق قيادة سيارة فما بال حق الانتخاب! لكن نساء الطبقة الحاكمة في السعودية كن أحسن حالًا من مثيلاتهن في الكويت. ذلك أن حرب الخليج لم تدفعهن إلى الهرب بالطائرات خارج بلادهن.
وتمر المنطقة العربية بمحنة كبيرة إثر حرب الخليج. إلى جانب التمزق العربي وانفراط الوحدة العربية، فهناك الأزمة الاقتصادية الطاحنة والديون الخارجية، والتي كانت تعاني منها البلاد العربية الفقيرة — نسبيًّا — مثل السودان ومصر، أما بعد حرب الخليج فقد أصبحت بلاد الخليج الثرية تعاني الديون أيضًا كالسعودية والكويت.
المصريين والعرب ومنهم الأستاذ محمد حسنين هيكل عن بعض المكاسب التي حصلت عليها الولايات المتحدة من هذه الحرب.
جمعت أمريكا أثناء حرب الخليج حوالي ٥٤ مليار دولار، ولم يتجاوز ما تكلفته اﻟ ٣١ مليار دولار، أي إنها حصلت على ربح صافٍ قدره ٢٣ مليار دولار، بالإضافة إلى ما كسبته وما تكسبه من سيطرتها على النفط العربي، وما باعته من سلاح، بل إن الولايات المتحدة — كما جاء في كتاب هيكل — قد حصلت على السبعة مليارات دولار (ديون مصر العسكرية التي أعفتها منها) ضمن تكاليف الحرب التي دفعها لها الخليج، «السعودية والكويت».
لقد دفعت هاتان الدولتان تكاليف التدمير ثم تكاليف البناء بعد التدمير، ثم تكاليف القوات الأمريكية المسلحة التي استقرت في الخليج على نحو دائم بعد الحرب. المليارات من الدولارات دُفعت ولا تزال تدفع.
وهكذا يحدث في التاريخ البشري لأول مرة أن يدفع الناس ثمن احتلالهم بواسطة الآخرين، أو ثمن عبوديتهم.
وقد عوقبت الدولة العربية التي لم تشترك في حرب الخليج، مثل اليمن التي قُطعت عنها المساعدات المالية.
ربما كانت هناك عمليات غير نظيفة في هذا البنك، لكن النظام الدولي للبنوك يحتم على العمليات في أي بنك من بنوك العالم أن تكون غير نظيفة.
إن الأموال في هذا النظام العالمي لها حركتها الخاصة التي لا يهمها إلا الربح السريع، ولا تهم مصادر الأموال إن جاءت من تجارة المخدرات أو السلاح أو البغاء أو المافيا بشتى أشكالها.
وقد كنت إحدى ضحايا بنك الاعتماد والتجارة الدولي، وعلى مدى العشرين عامًا الماضية كانت جميع حقوقي عن كتبي الأدبية والعلمية وترجمات هذه الكتب إلى لغات العالم المختلفة، كلها تحول إلى هذا البنك.
وفي تجارة السلاح العالمية تخسر البلاد العربية دائمًا؛ وخاصة السعودية والكويت وغيرهما من بلاد الخليج، فهي تشتري سلاحًا بمليارات الدولارات، ولا تعرف كيف تستخدمه، فإذا ما وقعت الأزمة أسرعت الجيوش الأمريكية والأوروبية لإنقاذها.
وتعاني البلاد العربية بعد حرب الخليج من تصاعد التيارات السياسية الرجعية تحت شعارات دينية، أو تصاعد هذه الحركات التي تسمى اليوم بالتيارات الدينية الأصولية، وهي حركات نمت وترعرعت في حضن السلطات الحاكمة التي أرادت أن تضرب التيارات السياسية اليسارية أو الاشتراكية أو الناصرية أو الشيوعية أو حتى الليبرالية.
وقد تضخمت هذه التيارات السياسية الدينية، إلى حد أنها أصبحت تمثل تهديدًا للسلطات الحاكمة ذاتها التي شجعتها.
وتتبنى هذه التيارات السياسية الدينية (الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها) أكثر الأفكار تخلفًا بالنسبة للنساء، وباسم الدين يفرضون على المرأة العودة إلى الجدران الأربعة أو الاختفاء وراء الحجاب، أو الخضوع والصمت وعدم المشاركة في الحياة العامة.
وتُقدَّم المرأة اليوم في بلادنا كبش فداء لهذه التيارات السياسية والدينية، ومن أجل أن تحمي السلطات الحاكمة نفسها.
إن إغلاق جمعية تضامن المرأة العربية خلال صيف ١٩٩١م ليس إلا واحدًا من هذه الأمثلة، خاصة بعد حرب الخليج، حيث تصاعدت السيطرة السعودية على المنطقة العربية، وسادت — ما نطلق عليه اليوم — «الثقافة النفطية» التي تعتبر المرأة عورة يجب أن تغطى بالكامل، وأن مكانها البيت لا تغادره إلا في حالات المرض أو الموت، وأنها بلا رأي، بل إن الرجل أيضًا في نظر هذه العقلية الاستبدادية يجب ألا يكون له رأي مستقل عن رأي الأسرة الحاكمة.
أما هذا الإنسان (رجل أو امرأة) الذي يؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع، وأنه لا بد من فصل الدين عن الدولة، فهو في نظر هذه العقلية الاستبدادية شخص كافر يستحق العقاب: الفصل، أو الطرد من البلاد، أو السجن، وأحيانًا التهديد بالموت.
ومن السعودية خرجت قائمة عُرفت باسم القائمة السوداء، تحمل ما يزيد عن خمسين اسمًا من قيادات المفكرين والآدباء والشعراء في بلادنا العربية، ومنهم اسمي بطبيعة الحال، وخرجت أيضًا أشرطة كاسيت من السعودية تحمل تهديدًا لهؤلاء الذين أسمتهم بقادة الحداثة أو العلمانية في الوطن العربي.
إن العلمانية تعني الكفر واللادين؛ لأنها تدعو في نظرهم إلى فصل الدين عن الدولة.
وفي لندن — منذ عامين تقريبًا — وفي لقاء مع الأستاذ رياض الريس صاحب مجلة «الناقد» العربية. قال لي إنه نشر في العدد الأول من هذه المجلة تسجيلًا كاملًا لما جاء في أحد شرائط الكاسيت التي توزع في العالم العربي والتي تدعو إلى إهدار دم ما يزيد عن خمسين كاتبًا عربيًّا منهم: أدونيس وعبد العظيم أنيس ونوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وغادة السمان والجابري ومحمد شكري وغيرهم.
وفي شهر رمضان عام ١٩٩٠م، حكى لي الأستاذ أحمد الرفاعي المحامي أنه كان بإحدى القرى بالنوبارية، فإذا بصوت جهوري يبدد النوم لدى أهل القرية جميعًا، صوت زاعق من ميكروفونات معلقة فوق المسجد، شريط كاسيت يتحدث منه رجل ذو صوت عالٍ يلهث ويقول: «اقتلوهم!» «اقتلوهم!» هؤلاء الكفرة «اقتلوهم!» بهذا الصوت الزاعق حتى السحور قرب الفجر راح يردد كلمة «اقتلوهم»، ويعدد أسماء هؤلاء الذين يجب أن يقتلوا، عشرين اسمًا تقريبًا، منهم: زكي نجيب محمود – نجيب محفوظ – يوسف إدريس – إحسان عبد القدوس، ويدخل اسمي ضمن القائمة.