جريمة نقد الشخصيات الدينية الكبيرة
وضمن ما جاء في التقرير السري لمدير عام وزارة الشئون الاجتماعية موجهًا لي أنني وجهت النقد لبعض الشخصيات الدينية الكبيرة.
فمن خلال التقرير عرفت أن هذه الشخصية الكبيرة هي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية).
ولا أدري هل أصبح بعض المشايخ في السعودية شخصيات مقدسة مثل الرسول عليه الصلاة والسلام وغير قابلة للنقد؟! بل إن الرسول نفسه كان يشجع المسلمين على نقده، وعمر بن الخطاب أُعجب إعجابًا شديدًا بامرأة نقدته، فقال قولته: «أخطأ عمر وأصابت امرأة.»
فما هذه القدسية الجديدة التي أصبحت بعض القوى الإدارية في مصر تخلعها على بعض المشايخ في السعودية؟! ألم نتخلص بعد من الحقبة السعودية والسيطرة النفطية؟! أم أن هذه القوى قد ازدادت عنفوانًا بعد ما سمي بالنصر بعد حرب الخليج؟!
لاحظت أن أكثر الصحف هجومًا عليَّ وعلى جمعية تضامن المرأة العربية تصدر بأموال نفطية من السعودية أو الكويت.
وحين صدر قرار وزارة الشئون الاجتماعية بحل جمعية تضامن المرأة العربية (يونيو ١٩٩١م)، كانت أكثر الصحف تهليلًا وفرحًا، جريدة اسمها «الأمة الإسلامية» تصدر عن السعودية، وفي عددها الصادر يوم ٢ / ٧ / ١٩٩١م، وفي صفحة كاملة تحت مانشيت ضخم يحمل هذا العنوان:
«حل جمعية نوال السعداوي»، حكمت عليَّ بأنني ضد الإسلام، وفوق الصفحة نفسها كان هناك مقال بقلم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
فماذا يا ترى فعلت لأغضب هذه الشخصية الدينية الكبيرة؟! وما الذي فعلت لأغضب الأجهزة الإدارية والصحف الرسمية في السعودية؟!
في نشرة جمعية تضامن المرأة العربية، مايو ١٩٩٠م، كتبتُ دراسة نقدية عن كتاب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، «الحجاب والسفور» كشفت فيها عن التناقض الواضح في هذا الكتاب، والذي يضم ٢٣٠ صفحة، ويؤكد على أن وجه المرأة عورة، ويجب أن يغطى بالنقاب تمامًا، فيما عدا عين واحدة أو نصف عين. لكنه في نهاية الكتاب يطالب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية أن تشتري صفحة أو أكثر بآلاف الدنانير لتصرف سنويًّا لمجلة «بوردا» الألمانية للأزياء، وذلك لعرض موديلات الأزياء الإسلامية المتعددة! ولا أدري لماذا تحتاج المرأة السعودية لهذه الموديلات، إذا كان المفروض أن تختفي وراء نقاب ولا يظهر منها إلا عين أو نصف عين؟! ولماذا عرض موديلات الأزياء والهدف الأساسي هو إخفاء الفتنة والجمال في المرأة؟!
لم يحاول السيد المدير العام بوزارة الشئون الاجتماعية في تقريره (السري جدًّا) أن يناقش كل هذا، لكنه أدان نوال السعداوي لمجرد أنها تجرأت ونقدت كتابًا لمثل هذا الشيخ ذي السطوة الكبيرة في السعودية، وربما في مصر أيضًا، لا أعرف ولكن الأصدقاء والصديقات يقولون لي إن بعض القوى السعودية النفطية أصبحت تسيطر على نحو ما — لا أدري كيف — في بعض الأجهزة الإدارية والإعلامية؟!
وإلا فكيف يمكن لمدير عام في وزارة الشئون الاجتماعية في مصر أن يقف مع شيخ سعودي يرى أن الإسلام لا يسمح للمرأة بقيادة سيارتها، وأن وجهها عورة فيما عدا عين أو نصف عين؟! وكيف يعتبرونه شخصية دينية كبيرة، وأن من ينقده يصبح معاديًا للإسلام والشريعة؟!
ولم أكن أنا وحدي التي تجرأت ونقدت إحدى الشخصيات المقدسة (!) في السعودية، لكن الكثيرين كتبوا ونقلوا، خاصة خلال حرب الخليج التي كشفت عن الكثير من التناقضات، وأعتقد أن الكثيرين قد قرءُوا معي هذه الفقرات التي نشرت في الصحف المصرية.
تسعة بلايين دولار تم تحويلها من بنوك منطقة الخليج إلى بنوك سويسرا في الأيام الثلاثة من ٣ إلى ٦ أغسطس ١٩٩٠م، بعد قرابة ثلاثة أسابيع كان هذا الرقم قد ارتفع إلى ٢٢ بليون دولار … ومن المفارقات التي أحدثتها حركة المال، ليلة انفجار الأمة، أن الشيخ حسن عناني — وهو أحد أثرياء السعودية، والصديق المقرب من دوائر الأسرة الحاكمة — يخسر ١٢ مليون دولار على مائدة القمار في سهرة واحدة في «مونت كارلو»، وكانت المفارقة أن الخبر نشر في الصحف جنبًا إلى جنب مع أنباء الغزو الكويتي، وكذلك كانت الصحف وبينها جريدة «التايمز» تنشر أن طائرة خاصة لا تزال تحمل كل يوم من جزيرة «أوركني» في اسكتلندا إلى السعودية خمسمائة كيلو جرام من المحارات البحرية التي تشتهر بها هذه الجزيرة. وهكذا برغم الأزمة، فإن بعض المترفين لم يكونوا على استعداد لتغيير نمط حياتهم (جريدة الأهالي، القاهرة، ١٥ / ٤ / ١٩٩٢م، ص١٠، عن كتاب «حرب الخليج» ﻟ «محمد حسنين هيكل»).
وقد حاولت بعض القوى السعودية والكويتية، ومعها أيضًا بعض القوى داخل مصر، أن تشوه صورتي لدى الرأي العام، ونشرت مقالات متعددة داخل مصر وخارجها تتهمني بالكفر أو الإلحاد أو الشيوعية، أو على الأقل بأنني أكتب ما يريده الغرب، أو أكتب للغرب.
مع أن العكس هو الصحيح. إنني لم أكتب للغرب أبدًا، وجميع كتاباتي باللغة العربية في أصولها الأولى، وكان موقفي النقدي للغرب وللاستعمار وللصهيونية واضحًا في جميع ما نشرت من كتابات، وفي جميع الأحاديث أو البرامج الإذاعية العربية أو الأجنبية التي أجريت معي.
ولم يكن لي أن أرد على هذا الهجوم، أو حتى أن أتابعه، لأنني لا أقرأ ما يصدر من صحف أو مجلات إلا القليل جدًّا منها، والذي يهمني قراءته فحسب. بالإضافة إلى أنني أومن بأن الذين يهاجمونني إنما يعاقبون أنفسهم بأنفسهم، ووقتي أثمن من أن أضيعه في الرد.
وقد يحدث أحيانًا أن يتطوع أحد القراء، أو القارئات لي بالرد على المهاجمين.
وقد يحدث بالصدفة أن يشاهد أحد الأدباء أو الصحفيين برنامجًا لي في إحدى الإذاعات الأجنبية، فإذا به يتحمس للدفاع عني.
وقد حدث ذلك لحسن حظي إبان حرب الخليج، وفي جريدة الأخبار الصادرة بالقاهرة في ١٧ / ٤ / ١٩٩١م، ص١١، كتب الأستاذ جمال الغيطاني يقول الآتي تحت عنوان «تجليات أدبية»:
«كان ذلك في فبراير الماضي، في أمستردام، عدت إلى الفندق بعد منتصف الليل، فتحت جهاز التليفزيون، كانت حرب الخليج في ذروتها وقتئذٍ. وبرغم عودتي متأخرًا فإنني كنت أتنقل بين ما يقرب من أربع وعشرين مجلة عالمية للبحث عن تطورات وأخبار الحرب. بمجرد إضاءة الجهاز، فوجئت بالدكتورة نوال السعداوي، كانت تتحدث في القناة الأولى البريطانية، وسرعان ما تأهبت لمتابعة الحوار. الدكتورة نوال السعداوي معروفة جدًّا في الغرب، وفي هولندا طُبع لها أكثر من خمسة كتب، وبعضها أعيد طبعه مرارًا.
استنفرت اهتمامي لمتابعة الحوار لسببين، الأول شعور بالألفة إذ وجدت كاتبة مصرية في محطة عالمية، وتضاعف الإحساس بالغربة، في تلك الأيام الصعبة، والثاني هو رغبتي في رؤية وسماع آرائها، كيف تعبر عنها هنا في الغرب، إن كثيرين من المثقفين العرب يعبرون عن أفكارهم بشكل مختلف عن ذلك الذي يبدون به في العالم العربي، خاصة عند حديثهم في الغرب، ومن هنا كان تحفزي لمتابعة الحوار.
كان المحاور مذيعًا مشهورًا، وعلمت فيما بعد أنه كاتب معروف، وكان دمثًا ولكن شرسًا في توجيه أسئلته وعلى مدى ساعة أصغيت إلى الدكتورة نوال وهي تدافع عن الثقافة العربية، وعن وضع المرأة المسلمة وعن قضايا العالم العربي. كانت واضحة جادة ولم تفقد أعصابها لحظة واحدة إنما ظلت محتفظة بابتسامتها طوال الحديث. وكان حديثها بسيطًا مقنعًا لم تكن تقول ما يحب الغرب أن يسمعه، ولكن كانت تقول ما يعبر عن أفكارها وعن وضعها كامرأة عربية ومسلمة تؤمن بالديمقراطية، وتقدم العالم العربي الذي ننتمي إليه، لم تكن تتحدث عن قضايا أمتها باعتبارها فولكلورًا كما يفعل البعض في الغرب، بل كانت متصادمة مع المذيع معظم الوقت. وشعرت بالراحة. وتحولت الألفة إلى رغبة في التعبير عن تقديري لها، وكنت أثق أن هذا هو معظم انطباع المشاهدين في الغرب. فعندما يعبر الإنسان عن نفسه وعما يعتقده وعن قضايا شعبه وأمته بصدق، فإنما يكسب احترام الجميع، حتمًا وإن كانوا مخالفين له في الرأي.»
وقد يحدث أحيانًا أن يكون أحد قرائي أو أحد المعجبين بكتاباتي شخصية عربية لها مكانتها بالأمم المتحدة مثلًا، كالدكتور محمد عبد الله نور، وهو من السودان، ويرأس المكتب الإقليمي للدول العربية بالأمم المتحدة في نيويورك، وقد زارني بمكتبي حين زار مصر خلال إعداده لمؤتمر المرأة العربية الذي انعقد بالقاهرة خلال ديسمبر ١٩٨٩م، تحت إشراف الأمم المتحدة. في تلك الزيارة طلب مني الدكتور محمد عبد الله نور أن أقدم إحدى الكلمات الرئيسية في المؤتمر (كانت الكلمة الأولى للسيدة زوجة رئيس الدولة المضيفة وهي مصر، والكلمة الثانية للأميرة بسمة «الأردن»، والكلمة الثالثة لنوال السعداوي، حسب الترتيب الذي كان في البرنامج الأصلي).
أما الذي حدث بعد ذلك فلا أعلم عنه شيئًا. لكن المؤتمر انعقد بالقاهرة ولم تصلني الدعوة للحديث في المؤتمر.
ولم أكن أهتم بذلك، حيث إنني كنت دائمة الاستغراق في كتاباتي وأعمالي، وكانت تصلني الدعوات تباعًا لحضور المؤتمرات النسائية والأدبية في مختلف أنحاء العالم، والتي كنت أعتذر عن حضور معظمها نظرًا لانشغالي بالكتابة.
وفي يوم ١٨ يونيو ١٩٩٠م، دعاني الدكتور محمد عبد الله إلى ندوة أتحدث فيها عن «المرأة والإبداع» نظمها لي المكتب الإقليمي للدول العربية بالأمم المتحدة بنيويورك، وقد نُشرت محاضرتي في تلك الندوة في نشرة أخبار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عدد يوليو ١٩٩٠م.
وأحيانًا يكون الهجوم عليَّ داخل مصر أكثر من غيرها. وعلى غرار المثل القائل: «لا كرامة لنبي وسط أهله.»
أغلب المهاجمين من الرجال الذين لم يقرءُوا أعمالي، وإنما سمعوا عن واحدة اسمها نوال السعداوي، كتبت عن ذلك الشيء المدنس الذي اسمه الجنس.
ورغم كل ذلك فإني لا أحمل لهؤلاء المهاجمين من الرجال أو النساء أية ضغينة؛ بل على العكس، إنهم يلعبون دورًا كبيرًا في إثارة الكثيرين ضدهم، فالهجوم يرتد دائمًا إلى أصحابه.
ثم إن الرد الوحيد في مثل تلك الحالات هو الاستمرار في العمل والنشاط والإبداع، فلا شيء يدافع عن الانسان سوى عمله.
وكلما زاد الهجوم عليَّ استغرقت في العمل، فليس هناك أكثر من الهجوم دافعًا إلى التحدي، أي الإبداع والإنتاج!
وليس هناك أكثر من العمل المبدع باعثًا على الاحترام وسط العقول المبدعة.
وكم اختلفت في الرأي مع شخصيات مبدعة قديرة مثل يوسف إدريس، إلا أن ذلك الاختلاف لم يغير من تقديري لأعماله الأدبية أو تقديره لأعمالي.