الخطر الجديد، وماذا عن السعودية العربية؟!
وهذه معركة جديدة، ربما بعض نتائج حرب الخليج، أو بعض صفحات من الهزيمة، هزيمة وراء هزيمة، منذ أكثر من نصف قرن، مرة أخرى ندرك كم يمكن أن تغيب القيم والآداب تحت اسم القيم والآداب، وكم يمكن أن يغيب الدين تحت اسم الدين، وأن تغيب الحرية والديمقراطية تحت اسم الحرية والديمقراطية.
وكم يمكن أن يغيب الوعي تحت اسم التوعية والإعلام أو التعليم والإرشاد أو التوجيه.
إنها معركة جديدة ضد تزييف الوعي، وكم يكون الصدق مخيفًا في ظل تراكم الأكاذيب منذ الطفولة إلى الكهولة حتى الموت.
إنها معركة جديدة من أجل المعرفة. ولكن كم يصاحب المعرفة من ألم، ألم المعرفة والذي يمكن من بعد أن يقود إلى التحرير أو الخلاص.
إن الجميع الآن يكتبون في الصحف عن ازدواجية المقاييس في النظام العالمي الجديد، مقاييس للعرب ومقاييس لإسرائيل. هنا ضرب وقتل وعقاب صارم، وهناك مهادنة أو مماطلة أو مجرد عتاب رقيق.
وحين قلنا ذلك إبان حرب الخليج انهالت علينا الاتهامات بالخيانة الوطنية، أو على الأقل الجهل. فكيف يمكن الربط بين أزمة الخليج وأزمات أخرى لا علاقة بها مثل مشكلة إسرائيل؟!
إن الخوف من السلطات الحاكمة يقود إلى الكبت، أو التواء الرأي، أو اعوجاج المنطق والمعايير.
والخوف مزمن في حياتنا، لأنه يولد معنا من رحم الأم المقهورة بزوجها، ويعيش معنا في ظل الأب المقهور من رئيسه، القاهر لأبنائه وبناته، ويترعرع الخوف في المدرسة تحت عصا المدرس والأستاذ.
ويزدهر الخوف في دواوين الحكومة تحت طائل اللوائح والقوانين. ويكتمل نموه داخل الحزب السياسي فيصبح الإنسان مطيعًا مثاليًّا، ممسوح الوجه كالقرش الممسوح، جاهزًا تمامًا لأن يكون أداة بطش لمن يعصي أوامره. يقلد بالضبط من ضربوه وهو صغير.
إن ثمن الخوف باهظ، ويكفي أن ننظر في العيون لنراه قابعًا في قاع الجمجمة، كالطفل المضروب المذعور العاجز عن النطق.
وقد اشتدت حملة الهجوم عليَّ في السنين الأخيرة، بعد أن اتخذت موقفًا ضد الحرب في الخليج، أو بعد أن عبرت عن رأيي بأن الحرب ليست لتحرير الكويت، وإنما هي حرب من أجل النفط ومصالح الاستعمار الجديد. وأن الشرعية الدولية أو القانون الدولي مزدوج، يكيل بمعيارين، واحد للعرب وواحد لإسرائيل.
انقلبت بعض الأقلام الصحفية ضدي. تحاول أن تكسب رضا السلطة أو القوى السياسية الصاعدة. وانعكست الأمور فجأة بعد أن كنت الناقدة للغرب أو الاستعمار الغربي الجديد، قرأت من يدعي أنني أكتب للغرب، وأن كتاباتي المترجمة لم تنجح في الغرب إلا لأنني أكتب لهم ما يريدون، أو أسيء إلى سمعة مصر، ولهذا يقبلون على قراءة كتبي ورواياتي.
ترددت هذه النغمة ضد بعض الأدباء أو الأديبات أو الفنانين أو المخرجين السينمائيين الذين قدموا أعمالًا مبدعة نجحت محليًّا وعالميًّا.
وكم انهالت الأقلام تشوِّه صورة أكثر المبدعين في بلادنا صدقًا وأصالة لمجرد أن أعمالهم نالت بعض الشهرة، أو النجاح في الغرب. أو لأنهم لا ينتمون إلى شلة من الشلل التي تسيطر على الصحافة أو الإعلام، أو لمجرد أن كان لهم رأي سياسي مختلف في حرب يونيو ١٩٦٧م، أو حرب أكتوبر ١٩٧٣م، أو حرب الخليج ١٩٩١م، أو أي حادث سياسي أو عسكري آخر.
بل إن الاختلاف حول رسام فلسطيني مات (ناجي العلي مثلًا) قد يجعل بعض الأقلام تنهال على فنان (مثل نور الشريف) بالقذف والقدح.
وكم تعرض مخرج فنان مثل يوسف شاهين للقذف والقدح لمجرد أنه قدَّم فيلمًا تسجيليًّا ناقدًا لبعض عيوبنا الاجتماعية قيل إنه يسيء إلى سمعة مصر.
وبدلًا من أن نبحث عن الأسباب الحقيقية التي يمكن أن تسيء إلى سمعة بلادنا في الخارج، فإننا نقدم كباش فداء من الأدباء أو الأديبات، أو المخرجين السينمائيين أو المسرحيين، أو أصحاب الدراسات العلمية أو الأدبية الناقدة لمجتمعاتنا العربية.
المعروف في جميع أنحاء العالم أن الأعمال العلمية أو الأدبية ذات القيمة الإنسانية، هي الأعمال النقدية الكاشفة عن الأمراض الاجتماعية لهذا المجتمع، وإلا فلماذا يكتب الأديب أو الأديبة، وعما يبحث الباحث العلمي إذا كان كل شيء على ما يرام، وليس في الإمكان أبدع مما كان؟!
وأعظم الأعمال الباقية في التاريخ الإنساني هي أعمال هؤلاء الأدباء والأديبات الذين أمسكوا القلم وكأنه مشرط الجراح، وكشفوا عن عيوب مجتمعاتهم ومشاكلها من فقر أو ظلم أو استبداد أو استغلال داخلي أو خارجي.
أعظم أعمال طه حسين هي «الأيام» التي كشف فيها عن العبودية للفقر والجهل في القرية التي عاش فيها، وأعظم أعمال «دستويفسكي» هي «الجريمة والعقاب» التي جعلت عيون الشعب الروسي تتفتح على الأسباب الحقيقية للجريمة، وكيف كان الضحية هو الذي يُعاقب. وأعظم أعمال «يوسف إدريس» هي «الحرام»، التي بينت أن الحرام الحقيقي هو الفقر والظلم واستعباد النساء. وأعظم أعمال «فيرجينيا وولف» هي «غرفة خاصة» التي كشفت بها الزيف الاجتماعي الإنجليزي، والقيم الأخلاقية المزدوجة والتي عرفت ﺑ «الأخلاق الفيكتورية البيوريتانية». وأعظم أعمال «يوسف شاهين» هو فيلم «باب الحديد» الذي كشف فيه عن الفساد الاجتماعي المتخفي تحت ستارة شفافة من النفاق والكذب، وأعظم أعمال الشيخ علي عبد الرازق هو كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي كشف فيه عن نفاق المشايخ في زمنه.
إن العلماء والأدباء والأديبات والفنانين الحقيقيين هم الذين يملكون هذه الحاسة النقدية والشجاعة الأدبية، وبالتالي هم أعظم السفراء خارج بلادهم، لأن العالم كله يقدر أعمالهم، والدليل على هذا التقدير هو نجاح أعمالهم، واكتسابهم شهرة عالمية.
إن الشهرة المحلية لأي أديب أو فنان داخل بلاده قد ترجع لأسباب أخرى لا علاقة لها بأعماله الأدبية أو الفنية، خاصة في تلك البلاد التي تملك فيها السلطة الحاكمة جميع وسائل الإعلام والشهرة.
ولهذا فإنه من دواعي الفخر لنا أن نرى بعض أدبائنا أو أديباتنا، أو بعض الفنانين أو المخرجين، أو العلماء المبدعين وقد اكتسبوا شهرة في العالم، ونالت أعمالهم التقدير وتُرجمت إلى العديد من اللغات شرقًا وغربًا.
إلا أن هناك بعض الناس في بلادنا، الذين لا يعملون ويضيرهم أن يعمل الآخرون، أو الذين حاولوا ترويج أعمالهم عالميًّا بمثل ما روجوها محليًّا فكان نصيبهم الفشل. هؤلاء لا يكفون عن تجريح الآخرين الذين نجحوا ونالوا التقدير عالميًّا. فإذا بهم ينهالون عليهم بأقلامهم يشوهون صورتهم في عيون الناس، ويقولون إن أفلامهم أو رواياتهم أو أعمالهم الأدبية أو العلمية لم تحظَ بهذا النجاح العالمي إلا لأنها تسيء إلى سمعة مصر!
وقد آن الأوان لكشف هذا المنطق المعكوس. فإن أعمال دستويفسكي لم تسِءْ إلى سمعة روسيا؛ بل إن جميع الذين أساءوا إلى روسيا قد اندثروا وماتوا، وبقي اسم دستويفسكي في التاريخ يفخر به الشعب الروسي حتى اليوم.
و«فيرجينيا وولف» ماتت منتحرة احتجاجًا على كل من أساء إليها، ومات كل من أساء إليها ونسيهم الشعب الإنجليزي، لكن اسم «فيرجينيا وولف» باقٍ في التاريخ يفخر به الإنجليز. ورغم حملات الإعلام ضد طه حسين ويوسف إدريس وعلي عبد الرازق، فإن أسماءهم باقية ومن أساء إليهم اندثر في التاريخ.
وهكذا الأمر بالنسبة لجميع الأدباء والأديبات والفنانين والعلماء المبدعين في أي بلد في العالم.
إن الذي يسيء إلى سمعة أي بلد في الخارج، إنما هو سلوك أهلها في الخارج. إنهم هؤلاء الرجال الذين يبددون أموال البلد على موائد القمار أو جريًا وراء النساء أو بيوت البغاء.
إن الذي يسيء إلى سمعة أي بلد في الخارج، إنما هو موقف هذا البلد من القضايا الكبرى، مثل قضية الحرية أو العدالة أو الديمقراطية أو التنمية الحقيقية.
إن الذي يسيء إلى سمعة البلد، هو أن يعيش هذا البلد عالة على غيره لا يملك طعامه رغم موارده الطبيعية الثرية.
إن الذي يسيء إلى سمعة البلد، هو أن يتصاعد الدخان من الحرائق والفتن الداخلية، فإذا بالستائر تسدل على الحقائق، والمراهم توضع على الجروح، على حين تستفحل الأمراض الاجتماعية وتتقيح الجروح.
إن الذي يسيء إلى سمعة البلد، هو أن توقع في الخارج على جميع مواثيق العدالة والحرية وحقوق الإنسان، لكنها في الداخل تخرق جميع هذه المواثيق.
أما أكثر ما يسيء إلى العرب فهو هؤلاء الرجال الذين يسيرون في شوارع لندن أو باريس يحملقون في النساء الشقراوات، على حين تمشي نساؤهم داخل خيمة سوداء، لا يظهر منهن إلا عين واحدة أو نصف عين!
ومن الخوف يتوالد العنف والإرهاب. إن الخائفين المذعورين منذ طفولتهم هم الإرهابيون في العالم.
لم يكن هتلر إلا طفلًا مذعورًا مضروبًا. وما من حاكم عشق الحرب والدماء إلا وكان في طفولته مذعورًا مضروبًا من أبيه، أو أمه، أو جده، أو جدته، أو المعلم في المدرسة، أو رئيسه في الحزب.
إننا نبني حول أنفسنا جدرانًا عالية، نحمي بها أنفسنا من ألم الصدق أو ألم المعرفة، لأننا لم نتعلم أبدًا كيف يمكن أن نعيش مع هذا الصدق أو هذه المعرفة.
المعرفة في حياتنا إثم. تمامًا كما حدث في عصور العبودية الأولى، حين مدت حواء يدها إلى شجرة المعرفة فأصبحت آثمة.
وقد آن الأوان أن نحرر أنفسنا من هذه الجدران. أن نطلق سراح أنفسنا. أن نحرر ذلك الطفل المذعور داخلنا، ونعطيه الأمان ليفتح فمه وينطق.
ولن نموت إذا خرجنا من وراء الجدران العالية. لن نموت، بل العكس هو الصحيح. إنا موتى. وسوف تعود إلينا الحياة. سنعرف طعم الصدق وطعم الحرية أو طعم المعرفة.
أجل، المعرفة ثمرة لها طعم، إذا ذاقه العبد تحول إلى إنسان، وهي مكافأة أو هدية لا تسقط وحدها من فوق الشجرة. لكنها تحتاج إلى عرق وجهد وثمن يُدفع.
وأي ثمن يُصبح زهيدًا من أجل أن يصبح العبد إنسانًا.
هكذا سمعت أبي يقول وأنا طفلة، وسمعت أمي تقوله كذلك. وجدتي الريفية كانت تشوح بيدها المشققة المعروقة في وجه العمدة وتقول له: «إحنا مش عبيد.»
لم تكن جدتي الفلاحة تخاف من العمدة، فهي لا تملك شيئًا تخشى أن يأخذه منها، ولا شيء يجعل الإنسان مذعورًا مثل الملكية، أو الرغبة في الملكية.
وفي عالمنا يحتاج الإنسان إلى الملكية ليصبح محترمًا، ومن أجل الاحترام يفقد الإنسان كرامته ورأيه الحر.
ومن أجل الاحترام أيضًا يمشي الإنسان بجوار «الحيط»، لا يقرب المحظورات، لا يمس الثالوث المحرم (الدين، والجنس، والسياسة).
وكم يُحترم الإنسان في بلادنا إذا دافع عن أنف أبي الهول أو حق مومياء مصرية في الكشف عن تاريخها، أما الكشف عن حياة المرأة المصرية الحية وما تعانيه من مشاكل، فهذا أمر لا يستحق الاحترام؛ بل يستوجب العقاب، ويتهم صاحبه أو صاحبته بخدش الحياء أو خرق القانون والآداب العامة، أو مخالفة الإسلام والشريعة.
ومن أجل الاحترام يلجأ الكثيرون في بلادنا إلى الصمت، أو إلى البحث عن مقابر توت عنخ آمون وحفريات الفراعنة.
ولست ضد البحث عن الآثار القديمة، بل العكس صحيح، لقد كشف علم الحفريات الجديد (الأنثروبولوجيا) عن مكانة المرأة المصرية القديمة قبل عصور الفراعنة والعبودية. كانت إلهة الحكمة والعدل والمعرفة. وأثبت بذلك أن وضع المرأة الأدنى ليس قانونًا طبيعيًّا وليس من صنع الله، وإنما هو قانون اجتماعي صنعه البشر.
لست ضد التنقيب في باطن الأرض عن الحفريات القديمة، لكني ضد أن تُصبح قطعة الحجر أهم من الإنسان المصري، لمجرد أن السياح الأجانب يهتمون برؤية الأحجار عن رؤية البشر، أو أن مشاهدة الأحجار تجلب لمصر العملات الصعبة، أما البشر فقد أصبحوا لا يجلبون إلا المشاكل والهموم! وعلينا الحد من نسلهم بشتى الطرق.
لست ضد الحفر في باطن الأرض عن مقابر الفراعنة، ولكني ضد تقديس مقابر الملوك الموتى وإنفاق الأموال لترميم القبور على حساب الآلاف من البشر الذين لا يجدون سقفًا يعيشون تحته وإن كان سقف قبر، يسكنون الأرصفة أو الأكواخ المصنوعة من الخيش أو الصفيح، ويأكل أطفالهم من صناديق القمامة مع الكلاب المشردة.
نعم، سوف أُتَّهم الآن بالشيوعية، لأنني أتحدث عن الفقر، لكن الشيوعية لم تعد خطرًا اليوم بعد زوال الاتحاد السوفييتي، ومن المباح الحديث عن الفقراء.
إن الخطر الجديد هو ما يطلق عليه «مخالفة الإسلام». والإسلام هنا هو الإسلام كما تفهمه العربية السعودية، أو الشيخ ابن باز، وغيره من كبار رجال الدين المسئولين عن الإرشاد وتوجيه الرأي العام داخل السعودية وخارجها في العالم الإسلامي كله، بل في العالم أجمع!