العلم والسياسة
أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معني السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذُكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم، أو يجن أو يعقل في السياسة، ومِن ساس ويسوس وسائس ومسوس.
بهذه الألفاظ عبّر الأستاذ الإمام، الشيخ محمد عبده عن رأيه في السياسة، وهو رأي — كما ترى — واضح صريح بعيد عن كل مواربة أو تلميح، والشيخ محمد عبده عَلم من أعلام الفكر في تاريخنا الحديث، ومُصلِحٌ من أعظم المصلحين، وإمامٌ من أئمة الدين؛ فهو مَن يُعتمد بآرائهم، ويُعتمد على حسن تقديرهم.
ولكن، هل تستحق السياسة حقًّا هذا السخط، فيُستعاذ بالله منها كما يُستعاذ من الشيطان الرجيم، أم أن هذا الذي كتبه الشيخ محمد عبده فيها ينطوي على شيء كثير من المغالاة، وربما ينطوي أيضًا على شيء كثير أو قليل من الدعابة، وخفة الروح، ورشاقة الأسلوب؟
إن لفظ السياسة لا يزال اليوم كما كان أيام الشيخ محمد عبده، يحمل معه طائفة من المعاني التي تبعث الريبة، وتدعو إلى الحذر، فالنفوس لا تطمئن إلى لفظ السياسة، ولا إلى معنى السياسة، والقلوب لا تستسلم إلى ساس ويسوس، وسائس ومسوس، وهذا مؤسف حقًّا، ومحزن حقًّا؛ لأن السياسة في الواقع ونفس الأمر هي أرفع الفنون البشرية منزلة، وأعلاها قدرًا … والسبب في ذلك واضح وبسيط؛ فكل فنٍّ من الفنون إنما يرمي إلى تحقيق فائدة لنفر من الناس، أو جماعة من الجماعات، أمّا فنّ السياسة ففرضه نفع الناس جميعًا، وفي ذلك يقول أرسطو طاليس في أول كتابه المُسمّى «بوليطيقا» أو «السياسة»: إذا كانت كلُّ جماعة من الجماعات، إنما يُقصد بها قسط من الخير، فإن الدولية أو الجماعة السياسية، وهي التي تنتظم فيها كلها … هي أرفعها جميعًا؛ ولذلك كانت الخير الذي يُقصد بها أعظم درجة من أي خير آخر، فهو أعلى مراتب الخير. وقد خص أرسطو طاليس «البوليطيقا» أو «السياسية» بمؤلف كامل من مؤلفاته الخالدة، مقسم إلى ثمانية كتب، شرح فيها طرائف الحُكم، وأغراضه، ووسائله، وبيَّن الأنواع المختلفة للحكومات، وخصائصها، وفاضل بين مزاياها، ووازن بين عيوبها.
فالسياسة التي يتكلم عنها أرسطو طاليس ليست السياسة التي تحمل معها تلك المعاني المؤسفة المحزنة حقًّا، التي أشرتُ إليها، والتي استعاذ منها المرحوم الشيخ محمد عبده، و«البوليطيقا» في نظر أرسطو طاليس ليستْ كما يفهمها العامة نوعًا من الدجل أو الشعوذة، أو الضحك على الدقون، بل إن السياسة أو البوليطيقا عِلم من أرفع العلوم، وفنٌ يسمو على جميع الفنون، يُقصد به الخير الذي ليس بعده خير، والنفع الذي ليس فوقه نفع؛ لأنه خير عميم لجميع البشر، ونفع جزيل يشمل البرية قاطبة، والإنسانية جمعاء، وإلى جانب مؤلف أرسطو طاليس في السياسة نجد مؤلفًا آخر لا يقل عنه أهمية وشهرة، كَتبه حكيم آخر من حُكماء الإغريق، هو الفيلسوف بلاتون أو أفلاطون، تلميذ سقراط العظيم، ويُعرف هذا المؤلف باسم «الجمهورية»، أو «الدولية»، كتبه أفلاطون على شكل حوار بين سقراط وبين نفر من أصحابه، وفي هذا الحوار يناقش أفلاطون على لسان سقراط وأصحابه فكرة العدالة، واتصالها بحياة الفرد وحياة المجتمع، ثم يتطرق من ذلك إلى البحث في نُظُم الحكم، وأنواع الحكومات، ويتكلم عن السياسة، وعن الغرض من السياسة، وعما يشترط في رجال السياسة من صفات، وما ينبغي أن تكون عليه حياتهم الخاصة، وحياتهم العامة، كل هذا في أسلوب ممتع، وتفكير عميق، حتى إن كتابه ليُعد بحق من الكتب الخالدة في تاريخ الفكر البشري، ويستخلص سقراط من صور الحكم المختلفة صورة مثالية، يجعلها خير الصور جميعًا، وأقربها إلى الكمال، بل هي في نظره الصورة الكاملة، يتمثل فيها ما يجب أن تكون عليه الدولة، وما ينبغي أن تكون عليه الدولة، وما ينبغي أن يكون عليه نظامها، فالدولة أو الجماعة السياسية إنما يُقصد بها خير الجماعة في أعلم درجاته، ولذلك فإن الذين يتولَّوْن أمور الدولة ويحكمون المجتمع يجب أن يكونوا أعرف الناس بمعنى الخير، وأقدرهم على إدراك القيم الروحية للحياة البشرية، وهؤلاء هم الحكام أو العلماء، ويُسمي سقراط هذه الدولة المثالية باسم «الأرستقراطية» أو «حكومة العلماء»، فالعلماء يمتازون بأنهم يطلبون الحقيقة، ويحبون الحق، ومَن أحبَّ الحق كان صادقًا متعلِّقًا بالفضيلة، متحلِّيًا بالمروءة والأخلاق الكريمة، ولذلك كانت الأرستقراطية، أو حكومة العلماء خير الحكومات، وأكملها جميعًا. ويُحرِّم سقراط على الحكماء في الدولة المثالية اقتناء الثروة، فهم ينفقون الأرزاق التي تخصصها لهم الدولة في قضاء حاجاتهم المعيشية، والمال في نظرهم يجب أن يكون وسيلة للعيش لا غاية، أمّا التي يعيشون من أجلها فهي خدمة المجتمع، يكرسون لها حياتهم.
ويلاحظ أن أفلاطون يُحل الثراء في جمهوريته لغير الحكام؛ فالثراء في ذاته مباح لأربابه، وإنما يحرم على رجال الحكم ورجال السياسة؛ لأنهم حكماء يقيسون أمور المجتمع بمقياس الخير، ويوجهون شئونه نحو النفع العام، فإذا أفرغ سقراط من وصف دولته المثالية، فإنه يتحدث عن أربعة أنواع أخرى من النظم السياسية، وهذه كلها ناقصة في نظره — وإن كانت تتفاوت فيما بينها؛ فمنها الطيموقراطية، أو حكومة العظماء، والأوليجاركية، أو حكومة الأغنياء، والديموقراطية، أو حكومة الفقراء — ثم إن أسوأ الحكومات جميعًا وأظلمها هي الاستبدادية، أو حكومة الفرد.
وقد ولد أفلاطون عام ٤٢٧ قبل الميلاد، وأسس الأكاديمية أو مجمع العلوم عام ٣٨٦، وتوفي عام ٣٤٧ قبل الميلاد، فيكون قد مضى على وفاته ما يقرب من ثلاثة وعشرين قرنًا … ومع ذلك فإن آراءه وتعاليمه لا تزال أساسًا من أسس الدراسات السياسية، كما أن الألفاظ التي استخدمها في وصف أنواع الحكومات كالأرستقراطية والديمقراطية لا تزال تُستخدم حتى يومنا هذا، وإن كانت معانيها قد تغيرتْ عن الأصل المقصود منها، متأثرة بالتطورات والأحداث التاريخية من ناحية، وبالمباحث السياسية لمن جاء بعده من ناحية أخرى.
ولعل من حكم المقادير أن يكون مؤلف كتاب «الجمهورية» هو نفس مؤسس مجمع العلوم، فالعلم والسياسة متحدان في الأصل والمنبع، مشتركان في سمو الغاية، وكما أن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا إذا سما فكره، واتسع إدراكه، وتفتق ذهنه، فكذلك حياته الاجتماعية، ونُظمه السياسية يجب أن تُبنى على مُثُل عُليا من العدالة الاجتماعية، ورغبة في خير البشرية … فلا يعيش الناس كالأنعام؛ يفترس قويها ضعيفها، ويجور كبيرُها على صغيرها … فينتشر الظلال، وتعم الجهالة.
يقول سقراط في حواره مع جلوكون «اعلم يا جلوكون أنه لا خلاص للدولة، بل ولا للبشرية من الشرور إلا إذا صار العلماء حُكامًا، أو صار الأمراء والحكام علماءً وفلاسفة؛ فتجتمع قوة السياسية بالعلم والحكمة.» وقد بدأ العاَلم يدرك المغزى العميق لهذه العبارة البليغة؛ فخلاص الأمم اليوم، ونجاة البشرية رهينان بهذا الاجتماع بين القوة السياسية، وبين قوة العلم وحُكمه، وليس معنى هذا أن يكون العلماء حكامًا أو الحكام فلاسفة كما تصور سقراط، بل إن اجتماع العلم والسياسة يتخذ شكلًا آخر هو التعاون والتآزر بينهما، خُذ مَثلًا على ذلك: موقف إنجلترا عام ١٩٤٠، لقد كان الموقف رهيبًا؛ فالبلاد مُهددة بالغزو، وفي حاجة إلى السلاح والذخيرة، والأمة مهددة بالمجاعة، فماذا حدث؟ لقد قام رجال السياسة بتنظيم الجهود، وإنهاض الهمم، وتقوية الروح المعنوية، وضربوا المثل العُليا في الشجاعة والصبر، والتضامن المبني على العدالة الاجتماعية، ولكن هل كان هذا يكفي؟ كلا، فقد اعترف رئيس وزرائهم بأن العِلم قد أنقذ إنجلترا من المجاعة؛ ذلك بأن مشكلة التموين لم تُترك للصدف، بل أدرك رجال السياسة أن عليهم أن يتعاونوا مع رجال العلم، فأحصيت المؤن إحصاءً دقيقًا، وحُسبت قيمتها الغذائية، ومحتوياتها من الفيتامينات، وَوُزِّعت بين الصغار والكبار على أساس علمي، روعيت فيه صحة الأجسام، ومقدرتها على العمل؛ فنجت الأمة من الجوع. وشأن مشكلة التموين شأن جميع المشاكل الأخرى، فمنها الزراعية، ومنها الصناعية، ومنها مقاومة الأسلحة السرية، كالألغام المغناطيسية، وكاستخدام الراديو في تحديد أماكن الطائرات المغُيرة … وهو اختراع مهم، ربما كان أعظم اختراع منذ التخاطب اللاسلكي.
إن عصرنا الحديث عصر علمي، من أهم مميزاته استخدام الآلات والمحركات الآلية، ويمكن قياس حضارة الأمم اليوم بقدرة محركاتها؛ لذلك كان استنباط منابع جديدة للقدرة من أهم ما تتسابق فيه الأمم اليوم، فاكتشاف آبار البترول في بلد من البلاد حدث له نتائجه السياسية؛ لذلك كان من الواجب على رجال السياسة أن يعنوا بهذه المسألة، وأن يتصلوا برجال العلم؛ ليكونوا على بينة من أمرهم، ولما كان البترول المدخر في العالم كله لا يكفي، بمعدل الاستهلاك الحالي، لأكثر من ٧٠ سنة، كان من المهم استنباط موارد أخرى للقدرة.
والقدرة المائية الناشئة عن حركات المياه في الأنهار، وهبوطها من الشلالات والمنحدرات هي موضع تفكير رجال السياسة، ورجال العلم في الأمم اليوم، وقد حسب أن مقدار القدرة الممكن استخدامها من المياه المتحركة في قارة أفريقيا هو ١٩٠ مليون حصان ميكانيكي، أو ما يُعادل استهلاك ١٠ مليون طن من الفحم في اليوم، تضيع كلها هباء منثورًا.
ومن مصادر القدرة التي تضيع دون جدوى حرارة الشمس؛ فقد قُدر أن ما يقع منها على الجزء المسكون من الأراضي المصرية، وقدره نحو ٩٠٠٠ ميل مربع يكفي لإدارة جميع المحركات الآلية في العالم، سواء منها ما يُدار بالفحم أو بالبترول أو بمساقط المياه، وليست هذه القوى على عظمتها إلا جزءًا يسيرًا مما يستطيع العلم أن يضمه في يد البشر من القدرة الميكانيكية؛ فقد دلت الأبحاث العلمية على أن المادة تتحول إلى طاقة … فالجرام الواحد من المادة يحتوي على ما يعادل ٢٥ مليون كيلو واط/ساعة، ثمنها اليوم في القاهرة أكثر من نصف مليون جنيه.
أليس من واجب السياسة وهي التي تسعى لخير البشر وإسعادهم أن تتعاون مع العلم على تسخير القوى لخدمة الإنسانية ورفاهيتها؟ وهل ترى أن هذا التعاون بين العلم والسياسة يرفع من شأن السياسة، وينفي عن الأذهان تلك المعاني الغريبة المُريبة المؤسفة حقًّا، المحزنة حقًّا، فلا يستعاذ بالله من السياسة، ولا يُشك في أمرها، بل تصير كما أراد لها أرسطو طاليس، وكما أراد لها سقراط، أرفع الفنون البشرية، وأعلاها قدرًا؛ يقصد بها أعظم النفع، وأعلى مراتب الخير؟