العلم والأمم العربية
تتحرك الأمم العربية، ويزداد نشاطها؛ ففي كل يوم نرى آية جديدة من آيات هذه الحركة، ومظهرًا من مظاهر ذلك النشاط، ألم تر إلى كل أمة وقد عافت السكون، ونفضت عن نفسها غبار الخمول، فرجال السياسة في اضطراب دائم يروحون ويجيئون، يتبادلون الزيارات، ويعقدون المؤتمرات، والمثقفون والمتعلمون في كل أمة يتحدثون ويحاضرون، وينشرون ويذيعون، والنفوس من وراء هذا كله نابضة متحفزة، راغبة مؤملة، يحدوها بريق الرجاء، ويجف بها طموح وثّاب.
ذلك أن الأمم العربية قد أتى عليها حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، غفلت حين تنبه الغرب، وقعت حين قام، ووسنت حين صحا، وونت حين أسرع خطاه، ولعمري لقد طالت غفلتنا حتى ظنها الغرب طبعًا فينا، وديدنًا لنا، فقام يبحث في أسبابها، وينظر في كنهها، وينقب عن سرها، فمن قائل إن مردُّها إلى ديننا، وقد نسي أن الشرق مبعث الأديان جميعًا، ومهبط الوحي طرا، عنه نقل الغرب، ومنه استقى، وكيف يكون الدين سببًا من أسباب التأخر، وهو النور الذي يهدي، والضياء الذي يشع، يضرب الأمثال العليا، ويرسم القيم الروحية، فيرتفع بالبشر عن حضيض البهيمية، ودرك المادية إلى سماء الإنسانية، وسماء الروحانية … ومن قائل إن مرجع تأخرنا إلى مناخ جونا، وطبيعة إقليمنا، فيا ترى هل كان مناخنا غير هذا المناخ، وإقليمنا غير هذا الإقليم يوم كنا نحمل مشعل الحرية، ونبراس المدنية، يوم كانت بغداد مدينة النور، يوم كان المأمون يرعى جهابذة العلم من أمثال محمد بن موسى الخوارزمي واضع علم الجبر؟!
يختلفون إلى خزانة الحكمة فيبحثون ويدونون، ويرقبون حركات الكواكب في أفلاكها، ويضعون الأزياج، ويخترعون الآلات، أو يقيسون محيط الكرة الأرضية بالأجهزة الدقيقة، والعلم المحقق، أو يوم وضع ابن الهيثم مؤلفاته في علم الضوء، أو ابن النفيس رسالته في الدورة الدموية، أو جابر بن حيان ومؤلفاته في علم الكيمياء، وناهيك بدور الصناعة، وما كانت تنتجه من كل مُتقن محكم قد درسه العلم، وصقله الفن، فمن صناعات بحرية، وأخرى حربية يقوم عليها رجال قد حنكتهم التجارب، وصناع مهرة قد ألمَوا بالفن من كل جانب.
ها نحن نرى الزمن يدور دورته، والتاريخ يُعيد سيرته، فتنهض الأمم الغربية، وتسبق بعلمها وصناعاتها الأمم العربية، ثم نتحرك نحن وننشط، وتزداد حركتنا، وتضاعف نشاطنا، إلا أننا إذا أردنا أن نتبوأ مكاننا بين الأمم، ونحتل مقعدنا تحت الشمس، فبالعلم نستطيع أن نرقى؛ فهو الذي يعد لنا عدتنا، ويحي صناعتنا.
هل يعلم القارئ الكريم أن الشعب البريطاني قد سخر له العلم ملايين الخيول الميكانيكية، تسعى في خدمته، وتشتغل لتوفير راحته.
هذه حقيقة فيها عبرة بالغة، وهذه الخيول الميكانيكية بعضها بخاري، وبعضها كهربائي، تسخّر في النقل، وفي الصناعات، وفي الإضاءة، بل وفي التسلية … فكم من الخيول الميكانيكية قد سُخِّرت للشعوب العربية؟ إنها لا تعدل عُشر معشار هذا المِقدار، أفبعد هذا نعجب لتأخرنا، أم نعجب من تعجبنا؟!
إن أول واجب على مفكرينا، وقادة الرأي فينا، أن يوجهوا الرأي العام في البلاد العربية صوب الفكرة العلمية.
يجب أن نفكر بالعقلية العلمية، تلك العقلية التي تواجه الحقائق، وتعنى بالجوهر دون العرض، وتطلب اللب لا القشور، انظر إلى العلم كيف محا المسافات بين البلدان، وقارب بين مشارق الأرض ومغاربها، وقد مضى اليوم الذي كانت مصر فيه طولها شهر وعرضها عشر، لقيت صديقًا مسافرًا فقال: لقد قضيت ليلة أمس في رباط ببلاد المغرب، وأقضي الليلة بالقاهرة، وإذا سافرت غدًا فإنني أقضي الليلة الآتية في البحرين على الخليج الفارسي، ثم أصل إلى كلكتا بعد غد، والمسافة بين رباط وكلكتا تقرب من ربع محيط الكرة الأرضية، هذه حقائق يجمل بنا أن نفهمها، وأن ندرك مغزاها؛ فالسرب — ولا أقول القافلة — سرب الأمم البشرية في حركة مندفعة، كأنهم طير أبابيل، فإما خفقنا معهم، وسارعنا للحاق بهم، وإما تخاذلنا، فقعدنا، فرمونا بحجارة من سجيل، فجُعلنا كعصف مأكول.
وصديقي المسافر عالم هندي عائد من رحلة إلى أميركا وإنجلترا مع نفر من زملائه، هم ثلة من كبار علماء الهند ذهبوا ليدرسوا، ويشاهدوا كيف يُستخدم العلم في خدمة المجتمع، وفي تدعيم الصناعات، وفي تسخير القوى الطبيعية، وفي رفع مستوى المعيشة.
وهم عائدون إلى بلادهم؛ ليديروا دفَّة الإصلاح، والعمران على أساس من العلم والعرفان، وما أجدر الأمم العربية قاطبة بأن تنحو هذا النحو، وتحذو نفس الحذو، تحدث إليها هذا العالم المصلح فقال: «طلبت من رفيق لي في إنجلترا أن يريني قرية من قُراهم، فأراني بيوتًا عليها مسحة النضارة، ومظهر النظافة، والوجاهة، قد نُسقت صفوفها، ورُتبت هندستها، يحيط بكل دار حديقة صغيرة جميلة، وسط أشجار وارفة، وخضرة يانعة، طرقها ممهدة، وسبلها معبدة، قد امتدت إلى كثير من بيوتها أسلاك التليفون، وحباها العلم بنور الكهرباء، بها طبيب، وفيها مدرسة، ودار ومكتبة، مواصلاتها سهلة ميسورة بالسيارات العمومية، والسكة الحديدية»، قال — محدثنا — «فقلت لرفيقي: ما هذه قرية، إنها جنة. قال: «وما تعني بالقرية؟» قلت: أكواخ من الطين، طريقها وعرة، ومياهها عكرة، صغارها في تشريد، وكبارها في بؤس شديد، قد خيم عليها الجهل بأطنابه، وعضهم المرض بنابه»، وهنا سكت محدثنا برهة، وفي النفس منه ومنا حسرة، فأدركنا جميعًا عِظَم المهمة الملقاة على عاتق الشرق والشرقيين، إذا أرادوا أن ينهضوا حقًّا، وأن ينهجوا في إصلاحها صدقًا.
على أني لا أجد في هذا كله غلًّا حافزًا لنا، على مُضاعفة الجهد، وشاحذًا لمضاء العزيمة.
والأمم العربية على وجه الخصوص أمم لها ماض كريم، ومجد تليد، تضمها أواصر الإخاء، وتجمعها روابط الألفة، فيجب أن نتخذ من تراثنا المشترك أساسًا نبني عليه صرح تقدمنا، أذكر أنني كتبت منذ عشر سنوات، أدعو إلى عقد مؤتمرات علمية في الأمم العربية، يحضرها المصري والعراقي والشامي والأردني، وكل ناطق بالضاد، ورأيت أن يكون من أغراض هذه المؤتمرات تمجيد علماء العرب من أمثال الخوارزمي، وابن الهيثم، والبيروني، وغيرهم من الجهابذة الأعلام، وقد سرني وأثلج صدري أن أحد علماء الشام، وهو الأستاذ قدري حافظ طوقان، قد كتب مُحبّذًا هذا الرأي، داعيًا إليه، ومعضدًّا له؛ فلعل الفرصة مواتية لتحقيق هذا الرجاء وتنفيذ هذا الاقتراح؛ إذ لا شك عندي في أنَّ التعاون العلمي والثقافي بين البلاد العربية سيكون له أثر بالغ في حاضرنا ومستقبلنا، انظر إلى مصاعبنا ومسائلنا، ألا تراها متشابهة متقاربة؟ وألا ترى العلم جديرًا بأن يُستعان به على تذليلها وحلها؟ … فالتحرر من المرض، والتحرر من الجهل، كل هذه أعراض نسعى إليها جميعًا … ويسعى إليها العالم معنا، العلم هو السلاح الذي يحاربون هذه الأعداد المشتركة، وأعداء البشرية بأسرها، فلنتخذ منه سلاحًا نقضي به على المرض، وعلى الفقر، وعلى الجهل، ولنتعاون جميعًا على تحقيق هذه الغايات، ولا شك عندي في أنه إذا خلصت النيات، وسمت الهمم، وارتفعت المآرب أدركنا ما نريده، ووصلنا إلى ما ينبغي، وليكن لنا في أجدادنا الأقدمين أسوة حسنة ننسخ على منوالهم، ونقتفي آثارهم؛ فتصلح الأمم العربية، وتصل إلى المجد والعزة والرفاهية.