العلم والشباب
الشباب في مصر اليوم مُتعطش إلى العلم، يتسابق لكي ينهل من مناهله، وليس أدل على ذلك من أن عدد خريجي العلوم من المدارس الثانوية المصرية قد تضاعف في السنوات الأخيرة إذ زاد من ٢٣٨٧ في عام ١٩٣٩ إلى ٣٧٧٢ في عام ١٩٤٤، وينتظر أن يصل على ٤١٠٠ في العام الحالي، وقد برهن الشباب بذلك على صدق إلهامه، وإرهاف حسه؛ إذ ما من شك في أن الأمة المصرية هي أحوج ما تكون إلى العلم، وأن التوجيه الصحيح للشباب في هذا العصر إنما يكون نحو العلم.
وشباب الجامعة على عاتقه مسئولية جسيمة، وأمامه أعمال جليلة، وإذا قلتُ الجامعة، فإنني لا أقصد جامعة القاهرة، ولا أقصد جامعة الإسكندرية، ولا جامعة مدينة أخرى غير هاتين المدينتين، وإنما أقصد الجامعة المصرية بوسع معانيها، تلك الجامعة التي هي أسرة واحدة تجمع أفرادها أواصر العلم، ويرتبطون برباط الحكمة، ويتحدون في الهدف والغرض والمثل الأعلى، فمن آمن برسالة الخير والحق فهو منّا، له ما لنا وعليه ما علينا، ومن كفر فعليه كفره.
وليست الجامعة دُورًا تُشيَّد، ولا أموالًا تُصرف، ولا وظائف تُقلد، ولا درجات تمنح، ولكن الجامعة فكرة سامية تُعتنق، ومثل أعلى، وإيمان بالحق، ورياضة المعلم على منهاج خاص في طلب الحقيقة، ونشر العلم، وخدمة المجتمع. ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ إنشاء الجامعات في أوربا وجدناها تتصل اتصالًا وثيقًا بمعنى الرياضة الروحية، ووجدنا القائمين على الجامعات رجالًا قد عُرفوا بالفعل، وتمسكوا بالفضيلة، فاكتسبوا احترام الملوك والأمراء، وحاذوا عطفهم ورعايتهم، ولا عجب في ذلك، فالجامعة الأوربية وليدة الأثر الظاهر للثقافة العربية، وقد كان ملوك العرب وأمراؤهم حماة للعلم، يُقربون إليهم رجاله، ويصطفونهم، ويكرمونهم، وكان رجال العلم حماة للفضيلة، دعاة للخير، وقد نشأت الأسرة الجامعية في أوربا على نمط لا يختلف كثيرًّا عما نعرفه بيننا في الأزهر الشريف، فالأساتذة طبقات أو درجات، منها الكبير، ومنها الصغير، والعبرة في ذلك بالعلم والفضل، يحترم صغيرها كبيرها، ويعطف كبيرها على صغيرها، ويرشده ويُقوِّم اعوجاجه، ويتميز الكبار على الصغار بملابس خاصة، فالدكاترة أو كبار العلماء في الجامعات الأوربية يرتدون أردية حمراء اللون، تشبه أردية الأساقفة، ويغشون مجالس خاصة لا يغشاها غيرهم، وفي جامعتي «أوكسفورد»، و«كمبردج» بإنجلترا يحل لمن يحمل درجة الماجستير أن تطأ قدمه مروج الجامعة، ويحرم هذا على غيره، والوصول إلى هذه المراتب العالية، مراتب الفضل والعلم، إنما يكون عن طريق التبحر في العلوم، والتخلق بمحاسن الأخلاق.
ومع أن النظُم الجامعية في بلاد الغرب قد تطورت تطورًا كبيرًا منذ أن نشأت الجامعات في العصور الوسطى إلا أن النظام الجامعي لا يزال محتفظًا بخصائصه المُميزة له، فالأرستقراطية لا تزال قائمة في الجامعات، وإذا قلتُ الأرستقراطية فإنما أقصد المعنى الذي أراده لها سقراط، أي حُكم العلماء والحكماء، وليس المعنى الذي يقترن بها اليوم، وهو حكم الأنساب والأحساب.
ومِن سوء الحظ أن الظروف التي أحاطت بإنشاء الجامعة المصرية قد أوحت إلى أذهان الكثيرين معنى هو أبعد ما يكون عن المعنى الجامعي الصحيح، فقد ظن بعضهم أن الحياة الجامعية تتميز بالتحرر من النُّظُم، والابتعاد عن القيود، ولعل منشأ هذا الخطأ هو الخلط بين معنى حرية الفكر، ومعنى التحرر من النظُم، فخُيل إلى البعض أن تحرر الجامعيين في طلبهم للحقيقة نوع من الفوضى، وهذا جهل مركب، فطالب الحقيقة يتحرر من قيود مصطنعة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولكنه مُقيد أشد القيد وأحكمه بقيود الحقيقة ذاتها، والتفكير العلمي إذا وُصف بأنه تفكير حر فليس معنى هذا أنه تفكير مضطرب، بل بالعكس هو تفكير مبنيٌّ على أنماط ثابتة من المنطق الاستقرائي، والمنطق الاستنتاجي يرتبط في كل مرحلة من مراحله بالواقع، ويُبنى على نتائج المشاهدة، وكما أن للتفكير الجامعي أنماطًا ثابتة، وأنهاجًا مرسومة، فكذلك الحالة في الحياة الجامعية لها نظم واضحة، وأسس مرعية.
ويؤلف خريجو الجامعة مجتمعًا له خطره في الجامعة، وله أثره في إدارتها، وتطور نظمها؛ ففي بعض الجامعات كالجامعات الإسكتلندية ينتخب الخريجون مدير الجامعة في اقتراع عام بينهم، وفي جامعة لندن ينتخب الخريجون ممثلين لهم في مجلس الجامعة، وفي كل الجامعات يتمتع الخريجون بحقوق انتخابية لتمثيلهم في المجالس والهيئات الجامعية، وفي النظام البرلماني في إنجلترا يتمتع الخريجون بحق الانتخاب للبرلمان، وذلك فوق حقهم الأصلي كمواطنين، فتعتبر الجامعات دوائر انتخابية ترسل ممثليها إلى البرلمان، بناء على نتيجة الاقتراع العام بين الخريجين، وليس في هذا غرابة، فإن رجال العلم وخريجي الجامعات هم أعرف الناس بالخير، وأقربهم إلى الفضيلة؛ فعليهم واجب من أقدس الواجبات في الأمة.
يقول البيهقي في كتاب «تتمة صوان الحكمة» عند الكلام عن أبي علي الحسن بن الهيثم، وهو عالم من أكبر علماء الطبيعة «إن ابن الهيثم أقام بالشام عند أمير من أمراء الشام، فأدرَّ عليه ذلك الأمير، وأجدى عليه أموالًا كثيرة، فقال له أبو علي يكفيني قوت يوم، وتكفيني جارية وخادم، فما زاد على قوت يومي إن أمسكته كنت خازنك، وإن أنفقته كنت قهرمانك ووكيلك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين، فمن الذي يشتغل بأمري وعلمي. فما قبل بعد ذلك إلا نفقة احتاج إليها، ولباسًا متوسطًا». ولا شك في أن ابن الهيثم قد ضرب بذلك مثلًا عاليًا في تفرُّغ العلماء؛ لعلمهم وانكبابهم عليه، زهدهم في غيره، فالدراسات العلمية في عصر ابن الهيثم لم تكن ترتبط بحياة الأمة ومرافقها، ولم يكن العلم قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم من الأهمية الاجتماعية، فالصناعة مثلًا كانت لا تزال تقوم على الحرف التي يُمارسها الأفراد، والثورة الصناعية لم تكن قد أحدثته في القرن الثامن عشر، وما بعده من انقلاب في حياة الأمم والأفراد، والبخار لم يكن قد استُخدم ولا الكهرباء، وبالجملة فإن ابن الهيثم كان يستطيع أن يعيش في معزل عن المجتمع ناعمًا بتأمله في علم المناظر، وفي فلسفة أرسطو، وحكمة جالينوس، ومع ذلك فإننا نشعر جميعًا بأن المثل الذي ضربه ابن الهيثم ينطوي على معنى من معاني العظمة، ويوحي إلى نفوسنا رسالة عالية خلال القرون. والسؤال الذي أطرحه اليوم هو: ما المقابل في عصرنا الحالي لهذا المثل الذي ضربه ابن الهيثم؟ إننا لا نستطيع أن نطلب من شبابنا الاعتكاف عن العالم والزهد فيه بحجة أنهم محجوبون للعلم، ومقبلون عليه، وإن طلبًا كهذا لهو بمثابة دعوة إلى العودة بالناس إلى القرون الوسطى، وإنما الذي نستطيع أن نطالب الشباب به هو أن يقيس قيم الحياة قياسًا صحيحًا، فالمال يجب أن يكون وسيلة لا غاية، والمال وسيلة إلى العلم، وإلى إنهاض الصناعة، وإلى رفع مستوى المعيشة، وهو لازم للإنتاج الزراعي، ولمحاربة الفقر والمرض والجهالة، فابن الهيثم في القرن العشرين لا يرفض المال، ولكنه يوجهه، ويعمل على حُسن استخدامه، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك فيخلق المال خلقًا، ويُنشئه إنشاء، وإن كشفًا واحدًّا عن معدن من المعادن أو مورد من موارد القوة المحركة ليعدل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، كما أن استنباط طريقة مستحدثة في صناعة من الصناعات ليدر على أهل هذه الصناعة آلاف الملايين من الجنيهات.
وإنه لمن بواعث الأمل أن نرى شباب العلم يضربون بسهم وافر في تدعيم الصناعة المصرية والعمل على ترقيتها، ويتجهون نحو البحث الصناعي، فيزيدون بذلك في ثروتنا الأهلية، ويعملون على رفع مستوى الحياة بين أفراد الشعب. وواجب علينا أن نحسن توجيههم في ذلك، وأن نشجعهم على المضي في سبيلهم بكل ما نملك من وسائل، وليس يكفي أن ندعوهم إلى ما يسمى بالعمل الحر، بل يجب أن ينتظم هذا العمل الحر على أسس قومية، فلا يجب أن تترك الجهود مبعثرة وغير منتجة، بل توضع لها الخطط، ويرسم الطريق، وللشباب علينا حق الإرشاد وحق التوجيه، ولهم أن يطالبونا بالمال الذي يلزم لاستقرار حياتهم الفردية، وتحررهم من خوف الفاقة؛ لكي تطمئن نفوسهم فينصرفوا إلى تحقيق رسالتهم، ويحيوا حياة تتفق مع الكرامة الإنسانية، ولنا على شباب العلم حق مطالبتهم بالإخلاص في عملهم، ووضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، وأن يظلوا متمسكين بمثلهم العُليا، لا يصرفهم عنها زخرف الحياة، ولا بريق المادة، ولا يسيرون مع الهوى، ولا يستسلمون لغير الحق، وليكن طموحهم طموحًا إلى التفوق في عملهم، وإن طلبوا الشهرة فليطلبوها عن طريق العمل، والجد، والإخلاص.
إن من مُميزات العصر الحديث استغلال الثروة المعدنية، واستخدامها في الصناعات، فالبترول والحديد والنحاس والقصدير والنيكل والفضة والمنجنيز والفوسفات والنترات والكبريت والكروم والتنجستن، وغيرها من المعادن هي أساس الصناعات في العالم بأسره، والأمة التي تستطيع أن تستخرج من أرضها هذه المعادن، وأن تستخدمها في صناعاتها، تزداد ثروتها القومية عشرات الأطنان، بل مئاتها، وأن المطَّلع على الخرائط التي وضعَتها مصلحة المساحة عن المعادن الموجودة في صحراء مصر ليدهش لكثرة عدد المناطق التي توجد فيها المعادن وتعددها، إذ لا يكاد يوجد معدن ذو قيمة اقتصادية غير موجود في منطقة، أو أكثر من مناطق هذه الصحراء، وقد قُدِّرت كمية الحديد الخام الموجود في منطقة واحدة بالقرب من أسوان بنحو ثلثمائة مليون طن بها نوع جيد من خام الحديد، تقدر نسبة الحديد الخالص فيه المتوسط بمقدار ٥٠٪ من وزن الخام، وأن ثمن هذا الكنز وحده ليقارن بمقدار الثروة الأهلية للقطر المصري التي قدّر لها عام ١٩٤٣ نحو ١١٠٠ مليون جنيه.
وعلى شباب العلم أن يُفكر في أمر هذه الثروة المعدنية، وأن يعمل على استنباطها، وعليه أن يقود الرأي العام، وأن ينتبه إلى أهمية هذه الثروات الكامنة، وأن يبين للناس أن العلم والشباب إذا اجتمعا وتضافرا فإنهما يستطيعان أن يستخرجا هذه الكنوز، وأن يستخدما هذه القوى لخير الأمة ورفاهيتها ومجدها.
رويت في مقال سابق قول سقراط في حواره مع جلوكون في كتاب الجمهورية لأفلاطون «اعلم يا جلوكون أنه لا خلاص للدولة، بل ولا للبشرية من الشرور إلا إذا صار العلماء حكامًا، أو صار الأمراء والحكام علماء وفلاسفة؛ فتجتمع القوة السياسية بالعلم والحكمة»، وإذا جاز لي أن أضيف إلى القوتين اللتين ذكرهما سقراط قوة ثالثة تؤلِّف معها مثلثًا للقوى، فإنني أضيف قوة الشباب؛ فالقوة السياسية إذا اجتمعت بقوة العلم وقوة الشباب كان لنا أن ننتظر على يديها جميعًا للأسرة البشرية الخير والسعادة.