العلم والدين
من الأوهام الشائعة عند الغربيين أن دراسة العلوم دراسة منظّمة، إنما يرجع الفضل فيها إلى أهل أوربا، فهم يقولون: إن القرون الوسطى كانت عصورًا مظلمة، خيّم عليها الجهل، وحجبت عن نور العرفان، وأن البشر قد ضرب على آذانهم زهاء ألف عام من وقت سقوط الدولة الرومانية الغربية عام ٤٧٦ ميلادية، ثم بُعثوا من مرقدهم في أواخر القرن الخامس عشر، فنُشرت علوم الإغريق بعد موتها، وعادت الحياة إلى فنونهم وآدابهم، فكانت النهضة، وقامت مدنية أوربا الحديثة على أساس مدنيتها القديمة، ولما كان الإغريق القدماء من أهل أوربا، فمدنيتهم مدنيّة أوربية، تحمل الطابع الغربي، وبذلك يكون الغرب قد وصل ماضيه بحاضره، مُختَرِقًا حجب القرون.
ذلك بأنّهم ميّزوا بين منطقتين؛ المنطق الاستقرائي الذي يسلك سبيل الحس والمشاهدة، ويُعنى بالحقيقة الخارجية أو الحقيقة الموضوعية، وهذا هو منطق العلم، والمنطق الاستنتاجي، وأساسه التسليم بالمقدمات، ثم الوصول منها إلى نتائجها عن طريق القياس، وهذا هو منطق الدين، وقالوا إن انحطاط العلوم في القرون الوسطى إنما مرجعه إلى تسلّط رجال الدين على التفكير البشري، فمنطق رجال الدين منطق قياسي أساسه التسليم بمعتقدات ثابتة لا يحيدون عنها، بل ولا يسمحون لغيرهم بالخروج عليها، فهم يؤمنون بهذه المعتقدات، ويجعلونها أساسًا لتفكيرهم، فإذا قام رجل يدافع عن رأي جديد كما قام «غاليلي» في أوائل القرن السابع عشر يدافع عن رأي «كوبرنيك»، ويقول بدوران الأرض حول الشمس، فيخالف رأي بطليموس، ويُفنِّدُ مذهب أرسطو في سقوط الأجسام، إذا حدث ذلك … رأى رجال الدين فيه هدمًا لمعتقداتهم، وخروجًا على تعاليمهم، فاستدعته محكمة التفتيش إلى روما، وسجنته، ونكّلت به، وتوعّدته بالتعذيب، وفرضت عليه الكفّارة ليحظى بالغفران.
ومن المسلَّم به أن رجال الكنيسة في القرون الوسطى كانوا سببًا من أسباب انحطاط العلوم وتأخّرها في أوربا، ولكن هل الدين مسئوول عن هذا؟ هل في تعاليم الدين المسيحي ما يُعزِّزُ رأي بطليموس في مركزيّة الأرض، أو مذهب أرسطو في سقوط الأجسام، أو ما يُخالف نظرية «كوبرنيك»، وآراء «غاليلي» أم أن العيب هو عيب رجال الكنيسة الذين اتخذوا من الدين وسيلةً لفرض نفوذهم، وإخضاع الناس لسلطانهم؟
يقول الأستاذان «ساليفان» و«جريرسون» في مؤلفهما عن تاريخ العقائد الحديثة: إن الذي لا يعرف تاريخ القرون الوسطى ليحق له أن يعجب من انحطاط رجال الكنيسة في تلك العصور، كيف وصل يوحنّا الثاني عشر إلى مركز البابوية، وهو الذي انغمس في السفالات الخلقية، بل وفي الإجرام؟ وكيف تسنّى ﻟ «رودريجوبورجيا» أن يصير البابا إسكندر السادس عام ١٤٩٢، وهو الذي انحطت حياته الخاصة إلى دركات الإثم والفجور؟ وغير هذين كثيرون! فالمسألة إذن ليست مسألة تعارض بين العلم والدين، بل هي مسألة انحطاط عام شمل أهل أوربا في القرون الوسطى، فلمّا تهيّأت الأسباب قامت النهضة الفكريّة، وقامت في نفس الوقت حركة إصلاح، واتجهت النفوس نحو نور العلم، وجمال الفن، ونحو الفضائل والمثل العُليا على السواء.
والغربيون الذين ينسبون منشأ العلم، وتاريخ العلم إلى أوربا واهمون كما ذكرتُ في أول حديثي، فهم يجهلون، أو يتجاهلون حقائق التاريخ، فأوربا إنما هي إحدى القارّات الخمس، وتاريخها إنما هو جزء من تاريخ البشريّة؛ لذلك يجب أن نفعّل بين الجزء والكل، فالقرون الوسطى كانت حقيقة عصورًا مظلمة في أوربا، أمّا في الشرق فقد ازدهرت فيها مدنيّة العرب.
ووصلت إلى أوج عظمتها، ومن الثابت أن علوم العرب قد انتقلت إلى أوربا، ففي مُنتصف القرن الثاني عشر أمر «ريمون» (كبير أساقفة بلد الوليد) بترجمة الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية، وألَّف لهذا الغرض لجنة برياسة القس «دومينيقوس جونديسالفي»، فترجمت كتب ابن سينا، والغزالي، وغيرهم من العلماء والمفكّرين، وفي القرن الثالث عشر رتّب الإمبراطور «فردريك الثاني» أرزاقًا ثابتة على مترجمين مُتخصِّصين انقطعوا لعمل الترجمة، ثم استخدمت هذه الكتب في الجامعات الأوربية، وقد استمرتْ عملية الترجمة من العربية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فترجم «هرمان» أو «علمانوس» كُتب الفارابي، كما تُرجمت كتب الخوارزمي في الجبر والحساب، وكتب الرازي في الطب، وكتب جابر بن حيان في الكيمياء، وكذلك مؤلّفات الفرغاني، والبتاني، والصوفي في علم الفلك، وهذا قليل من كثير مما انتقل إلى أوربا في أواخر القرون الوسطى من علوم العرب ومعارفهم.
أضف إلى ذلك أن العرب قد استفادوا كثيرًا من علم الهنود والفُرس؛ فالأرقام التي نستخدمها اليوم في الحساب تُسمى عندنا الأرقام الهندية؛ لأننا نقلناها عن الهنود، وتُسمى عند الغربيين الأرقام العربية؛ لأنهم نقلوها عنّا، وكانوا قبل ذلك يستعملون الحروف الأبجدية على طريقة حساب الجمل، ثم إن الإغريق الذين نقل العرب عنهم نقلوا هم عن المصريين القدماء؛ فعلم الهندسة وعِلم الكيمياء كلاهما نشأ في أرض مصر، ووصل إلى درجة عالية من التقدُّم، وكذلك حركات الكواكب، وسائر الأجرام السماوية درسها المصريون، واستخدموها في توجيه معابدهم وقبورهم، كما درسها البابليون والفينيقيون، وطبَّقوها في التقاويم، وفي الملاحة البحرية.
فالعلم إذن ليس بضاعة أوربية، صدر عن ألمانيا، أو صنع في برمنجهام، وليس ذا طابع غربي أو شرقي، بل هو مُشاع بين الأمم لا وطن له، يطلب في الصين، كما يطلب في أمريكا، يوجد أينما وجد الفكر البشري، وينمو ويزدهر حيثما ترتفع الحضارة، وتعلو النفوس، وتتحرر العقول.
ومنطق الاستقراء أو منطق العلم الذي شرحه فرنسيس بيكون، وقرب مأخذه ليس منطقًا جديدًا على البشر، وإن كان جديدًا على أهل القرون الوسطى في أوربا، فهو منطق المشاهدة والبرهان الحسّيّ، منطق التفكير المنظّم المبني على الواقع، على الحقيقة الخارجية، هو نفس المنطق الذي هدى المصريين والبابليين القدماء إلى معرفة حركة الشمس السنوية، وتحديد الفصول، وهو الذي هدى أرشميدس إلى قاعدته المشهورة في علم الإيدروستاتيكا، وهو الذي يهدينا اليوم في حل مشكلات العلم والصناعة، فنتقن ما لم نكن نتقن، ونفهم ما لم نكن نفهم ونستخلص كل مفيد.
والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تأمرنا بالنظر في الظواهر الطبيعية المحيطة بنا، وتحضّنا على استخدام الحواس والعقل معًا، وإليك بعض هذه الآيات، لا على سبيل الحصر، بل على سبيل المثال: فمن ذلك قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، وقوله تعالى: َأَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، وفي الآية الأخيرة تفصيل ظاهر للعلماء على غيرهم، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وفي الحديث الشريف أن: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».
فالدين إذا يشجع على طلب العلم، ويأمر باستخدام العقل وسائر الحواس، ويترك الفكر حرًّا في تفسير الظواهر الطبيعية، ومنطق العلم منطق سليم في نظر الدين، أساسه المشاهدة، فالعين يجب أن ترى، والأذن يجب أن تسمع، والعقل يجب أن ينظر وأن يفكر، والطريقة الاستقرائية التي قال بها بيكون إنما مرجعها إلى الحس وإلى التفكير السليم؛ فهي طريقة تتفق وما أمرنا به الدين من أن نسير في الأرض، وأن نرى وأن نسمع وأن ننظر.
ولكن، هل الحياة البشرية، هل النفس البشرية هي مجرد أن نرى وأن نسمع وأن نعلم؟ إن العلم بهذا المعنى لا يخرج عن دائرة معينة؛ وهذه الدائرة هي دائرة الحقائق الموضوعية، دائرة الموجودات التي ترتبط بالحواس، إما ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشر.
فعلماء الكيمياء لهم مُطلق الحرية في أن يبحثوا عن حقيقة العناصر والمركبات، وأن يبنوا النظريات، ويصوغوا الآراء عن تفاعل المواد وتآلفها، وأن يُطبِّقوا ذلك كلَّه في ميدان الصناعة والزراعة، وسائر الفنون البشرية، وكذلك علماء النبات، وعلماء الحيوان، وعلماء الفلك، وغيرهم كل فيما تخصص فيه، فهؤلاء جميعًا لهم أن لا يقطعوا بقول، وأن لا يرتبطوا برأي أو عقيدة ثابتة، بل هم يمحِّصون كل رأي، ويهذِّبون كل فرض طبقًا لنتائج بحوثهم وتجاربهم.
إلا أن هناك أمورًا تخرج عن دائرة الحقائق والنظريات العلميَّة، هذه الأمور هي ما يطلق عليها الفلاسفة اسم القيم البشرية، فحب الفضيلة مثلًا والدفاع عنها، وكذلك حب الخير والتعلق به، وبغض الشر ومحاربته، والإيمان بالعدل والرحمة، كل هذه الأمور لا تجدي فيها تجارب علماء الكيمياء ولا علماء الفلك، ولا مشاهداتهم، ولا تنطبق عليها طريقة بيكون، ولا المنطق الاستقرائي؛ ذلك لأنها ترتبط بما هو أعمق من هذه جميعًا، ترتبط بالحياة الروحية للنفس البشرية، فنحن نؤمن بالخير ونحارب الشرِّ؛ لأن هذا صادر عن عقيدة راسخة أساسها الدين، ونحن لا نتقبل جدلًا في إيماننا هذا، لا من علماء الفلك، ولا من غيرهم، ولا يعنينا في هذا أمر النظريات أو الحقائق العلمية، بل إننا نحيا ونموت مؤمنين متمسّكين بعقيدتنا، ندافع عن الخير، وعن الفضيلة، وعن العدل، ونحارب الشر والرذيلة، والظلم سواء أكانت الأرض هي التي تدور حول الشمس، أو الشمس هي التي تدور حول الأرض، وسواء أكانت الأجسام تتبع في سقوطها آراء أرسطو، أو مذهب «غاليلي».
بقيت نقطة واحدة أرجو أن أوضحها قبل أن أختتم هذا المقال، صحيح أن العلم يُعنى بالحقائق الموضوعية، وأن الدين يعنى بالقيم الروحية، ولكن طلب العلم في ذاته مبني على قيمة روحية هي حب الحق، فطالب العلم طالب حقيقة، ولذلك كان الواجب على رجال العلم ورجال الدين أن يتعاونوا ويتناصروا في خدمة الحق، وفي خدمة الفضيلة، فإن في تعاونهم وتناصرهم رفاهية البشر وسعادتهم.